سردية النصرٌ الإلهي أم الهزيمةٌ المُذلة؟ مسرحية اخصاء العقل الجمعي الشيعي تُعيد كتابة التاريخ !؟ عندما يُصنع الوهم من دماء الهزيمة!؟
صباح البغدادي
في عالمٍ أصبحت فيه الحروب تُخاض على شاشات الهواتف قبل أن تُدار على أرض الواقع، يبدو أننا نشهد فصلاً جديدًا من مسرحية “النصر الإلهي”، تلك المهزلة التي تُحوّل الهزائم المُذلة إلى انتصاراتٍ زائفة، تُزيَّن بأكاليل الغار المصنوعة من ورق الصحف المُعاد تدويره. اليوم، وبعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الهشّ بين إسرائيل وإيران، الذي قد ينهار بسبب تغريدةٍ طائشة أو تصريحٍ متعجرف، انتقلت المعركة من سماء الواقع إلى مستنقعات منصات التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا، حيث يتصارع أنصار الطرفين في حربٍ إعلاميةٍ شرسة، لا تقلّ سخافةً عن واقعها العسكري.
إسرائيل، التي أثبتت تفوقها العسكري بضرباتٍ دقيقة أودت بحياة قيادات الحرس الثوري وعلماء نوويين إيرانيين، تحتفل الآن في ميدان “رابين” بتل أبيب، كأنها أعادت اكتشاف أمريكا أو اخترعت عجلة النصر من جديد. وفي المقابل، تُسارع إيران إلى نصب خيام الاحتفال في “ميدان انقلاب” بطهران، معلنةً “نصرًا إلهيًا” لا يراه إلا من أصيب بالعمى السياسي المزمن. يا لها من عبقرية! أن تُحوّل هزيمةً موجعة إلى لوحةٍ وردية تُعلَّق على جدران العقل الجمعي المُخصّى، الذي أُعدَّ على مدى عقود لابتلاع الهزائم كوجباتٍ سريعة، مع صوصٍ إضافي من الدعاية.
لنكن صريحين، إن “النصر الإلهي” ليس سوى مسرحيةٍ هزلية، كتبها مخرجون سياسيون فاشلون، ومثّلها جمهورٌ مُبرمج على التصفيق حتى لو كان المشهد الأخير عبارة عن جثثٍ متناثرة وأحلامٍ محطمة. إيران، التي خسرت عشرات القيادات والعقول النووية، تُصرّ على أنها انتصرت لأنها “صمدت”، وكأن الصمود هو أن تتلقى الضربات شبيه باكياس الرمل أو تبقى واقفًا ككيس ملاكمة مثقوب. وإسرائيل، التي لا تحتاج إلى طبول الدعاية لتثبت تفوقها العسكري، تنزل إلى مستوى خصمها، فتُنظّم احتفالاتٍ صاخبة، كأنها تخشى أن ينسى العالم انتصارها إن لم تُردد اسمه في كل نشرة أخبار.
ما يثير السخرية أكثر هو هذا التزامن الغريب: الطرفان يحتفلان بالنصر في يوم الثلاثاء الساعة السادسة مساءً، كأنهما اتفقا مسبقًا على تقاسم الكعكة الوهمية. التلفزيون الإيراني يبثّ نشراتٍ عاجلة عن “انتصارٍ عظيم”، بينما هيئة البث الإسرائيلية تُعلن عن “نصرٍ ساحق”، وكأن الحرب لم تكن سوى مباراة كرة قدم انتهت بالتعادل، وكل طرف يدّعي أنه سجّل ركلة الجزاء الحاسمة. لكن، دعونا لا ننسى الضحايا الحقيقيين: العشرات من القادة والعلماء الذين لن يعودوا، والشعوب التي تُساق كالقطيع لتصديق هذه الأكاذيب المُتلفزة.
يبدو أن القيادة الإيرانية قد درست جيدًا كتيّب “كيف تحول الهزيمة إلى نصر”، الذي أبدعه العقل السياسي العربي على مدى عقود. من نكسة 1967، التي تم تسويقها كـ”انتكاسة مؤقتة”، إلى حرب 1973 التي أُعلنت كـ”عبورٍ عظيم” رغم أنها لم تُغير موازين القوى، وكان مجرد نصر وهمي سيق الينا كنصر من عند الله لانه كان في شهر رمضان وصولاً إلى “أم المعارك” عام 1991، التي كانت في الحقيقة أم الهزائم، يتكرر المشهد ذاته. الإيرانيون الآن يقلّدون هذا النموذج ببراعةٍ مُخجلة، فهم يُحوّلون هزيمتهم المُذلة إلى “نصرٍ إلهي”، ويطالبون الشعب بالتصفيق بحرارة، وإلا فإن الكاتم الصوتي جاهزٌ لمن يجرؤ على التفكير بحياد.
هذا التكرار المملّ لتاريخ الهزائم يُظهر مدى هشاشة العقل الجمعي، الذي أُعدّ بعناية ليكون أداةً طيعة في يد الدعاية. لا مكان للحياد هنا، فأنت إما مع “النصر الإلهي” أو ضدّه، وإن اخترت أن تكون إنسانًا يتنفس حرية، فستجد نفسك مُلاحقًا بتهمة الخيانة أو التآمر. “جند الله في الأرض”، كما يُسمون أنفسهم، لا يقبلون إلا بالطاعة العمياء، فلا منطقة رمادية، ولا هواء نقي لمن يريد أن يفكر خارج الصندوق.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لا يفوّت فرصة ليضع نفسه في قلب أي حدث، خرج ليهنئ الطرفين على “انتصار السلام”، وكأن الحرب كانت مجرد سوء تفاهم بين جيران، انتهى بمصافحة دافئة. لكن، دعونا لا نُخدع: هذا الهدوء المفاجئ ليس سوى استراحة محارب، تنتظر شرارةً جديدة لتتحول إلى جحيم. الضجيج الإعلامي، بكل تهريجه وصخبه، لن يُعيد الحياة إلى من رحلوا، ولن يُعيد الكرامة إلى شعوبٍ تُساق كالقرابين على مذبح الدعاية.
في النهاية، هذه المسرحية الساخرة ليست سوى دليلٍ آخر على أننا نعيش في زمنٍ أصبحت فيه الحقيقة سلعةً رخيصة، تُباع وتُشترى في سوق السوشيال ميديا. النصر الحقيقي الوحيد هو لمن يملكون الجرأة لرفض هذا العبث، ولمن يختارون أن يروا الهزيمة كما هي: هزيمة، لا نصرًا إلهيًا مزيّفًا يُزيَّن بالأكاذيب. لكن، هل سيجرؤ أحد على كسر هذا القالب؟ أم أننا سنظل نصفق لكل هزيمةٍ جديدة، ونُردد: “مبروك النصر، يا أمة الأوهام!”؟