يستعرض كتاب “صناعة العلوم الاجتماعية من أوغست كونت إلى ميشال فوكو”، من تأليف الفيلسوف الفرنسي المعاصر جوهان ميشال، والصادر عن دار ابن النديم الجزائرية بالشراكة مع روافد الثقافية ببيروت، العلاقة المتوترة بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية؛ وقد كرّس هذا الفيلسوف الجزء الأكبر من نشاطاته العلمية لدراسة العلاقة ما بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية لاسيما وأنه يقدم نفسه كأحد المختصين في التأويلية وفلسفة العلوم الاجتماعية، من منطلق تركيزه في جل أعماله الأكاديمية على الأسس والمنطلقات المعرفية للعلاقة التاريخية التي تربط هذين الاختصاصين المعرفيين الكبيرين.
ويسعى هذا الكتاب، الذي توزعه في الجزائر مكتبات ناجي ميغا بوسكتور، إلى رصد ومتابعة أهم محطات العلاقة الخلافية حيناً والحوارية أحياناً أخرى بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية، من خلال التركيز على نقاط التباعد والاتفاق بينهما من أوغست كونت إلى ميشال فوكو، مع التأكيد في العديد من محطاته على النزعة الاستقلالية للعلوم الاجتماعية تجاه الوصاية التاريخية التي تدعيها الفلسفة نحو مختلف العلوم لاسيما الإنسانية والاجتماعية منها؛ وقد تمثل الرهان الأساسي لهذا الكتاب في توضيح الشروط الإبيستيمولوجية التي ساهمت في انبثاق العلوم الاجتماعية من رحم تيارات فلسفية حديثة مثل الوضعانية والذرائعية والفينومينولوجية، من جهة؛ وفي التأكيد على المطلب المركزي للعلوم الاجتماعية المتعلق بإبراز الاختلافات الجوهرية والعميقة التي تميّز مواضيع ومناهج العلوم الاجتماعية عن السياقات المعرفية والمنهجية للفلسفة، من جهة أخرى.
ويقول مترجم الكتاب الأكاديمي الجزائري الحسين الزاوي إن العلوم الاجتماعية وبصرف النظر عن المواضيع المتعددة التي درستها وحاولت معالجتها، تتأرجح بين تيارين رئيسيين يعودان بها القهقرى إلى النقاشات التي سادت خلال السنوات الأولى من نشأة العلوم الاجتماعية والتي تزامنت مع انفصالها عن المناحي الذاتية والمثالية للدرس الفلسفي؛ حيث سعى التيار الأول إلى الاقتراب بشكل أكبر نحو العلوم الطبيعية والعلوم المعرفية وإلى تبنى توجهها الوضعي الصارم الذي تميز برفض كل صلة ممكنة مع الفلسفة، بينما حاول التيار الثاني أن يحافظ على علاقاته التاريخية والثرية مع الفلسفة ومع الفنون والآداب وهو لا يجد أي حرج في الدخول في نقاش معرفي معها من أجل تطوير مناهجه ومفاهيمه ولإثراء مواضيعه.
هناك في كل الأحوال، وبصرف النظر عن المواقف المتشددة التي نلفيها لدى مختلف أطراف هذه المعادلة المعرفية المتعلقة بالحوار الإشكالي بين الاختصاصات المتعارضة، صلات قرابة قوية ما بين المعارف في عصر صار يتجاوز شيئا فشيئا النزعة الانعزالية للتخصصات وبات يؤمن بشكل أكبر بتعددية العلوم والمعارف وبقابليتها للتخصيب والتطوير المتبادل لمواجهة ما يصفه إدغار موران بالطابع المركب الذي يميز عالمي الأفكار والمعارف البشرية، والذي يستدعي إقامة جسور حوار وتلاقح بين مختلف الفروع المعرفية من أجل مواجهة التحديات الكبرى وغير المسبوقة التي تعرفها البشرية، ولتحقيق فهم أفضل للإنسان والطبيعة.
وعلاوة على التأثير الذي مارسته بعض فروع الفلسفة مثل التأويلية والتداولية والذرائعية والوضعانية على أهم تيارات البحث في العلوم الاجتماعية سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في أوروبا لاسيما في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وذلك فضلا على التأثير الحاسم الذي باتت تمارسه العلوم الاجتماعية بمختلف تخصصاتها على الفلسفة المعاصرة؛ فإنه لا يمكن لأي كان أن يتنكر للثورة التي أحدثتها علوم اللغة بفروعها المختلفة لاسيما اللسانيات وعلم الدلالة وعلم العلامات، على مستوى مناهج البحث في الفلسفة والعلوم الاجتماعية في سياق ما بات يُعرف بالمنعطف اللغوي الذي وسم مجمل فترات القرن الماضي بميسمه، والذي يجعل الحقلين النظري والمفاهيمي للفلسفة والعلوم الاجتماعية المعاصرة والراهنة يوظفان العديد من المقولات الرئيسية التي جرى بلورتها في الأبحاث التي قدمتها العلوم اللغوية، وهي النقطة التي يؤكد عليها فوكو بشكل لافت في سياق حديثه عن التحولات التي شهدتها الفلسفة والعلوم الإنسانية.
وليس هناك أدنى شك في أن الصلات الوثيقة ومعها أيضا الصراعات التي تميّز محطات الالتقاء والحوار بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية، ترتبط بشكل خاص بتاريخ هذه المعارف وبالمحطات المفصلية التي مرت بها خلال تطورها، لأن المفاهيم والنظريات، كما يقول جون فرانسوا دوروتيهDortier في مقدمه الكتاب الذي أشرف على إصداره والموسوم : تاريخ العلوم الإنسانية (2012)، مرتبطة بماضيها وبإعادة تشكيل فكر ما انطلاقا من الروح المؤسِّسة لهذا الفكر، بهدف تحقيق فهم أفضل للمشاريع، ولوجهات النظر، وللأفكار الموجِّهة ولمختلف مشاريع البحث، لأن تاريخ العلوم الإنسانية – ومن باب أولى تاريخ الفلسفة- ليس مقبرة للأفكار الميتة، لأن الكثير منها مازالت قادرة على الحياة داخل وعينا وداخل الاختصاصات التي نفكر بداخلها......
نستطيع القول تأسيسا على ما تقدم أن العلاقة بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية تخترق هذا الكتاب عبر كل فصوله وبقسميه الأول والثاني، وهي علاقة يطمح من خلالها الكاتب إلى ترسيخ “الهدنة” الإبيستيمولوجية التي تسود بينهما الآن، وإلى المحافظة على الحوار القائم ما بين كل الفروع المعرفية المرتبطة بهذين الاختصاصين، من خلال التأكيد على حتمية تجاوز الفلسفة لادعاءاتها المتعلقة بقدرتها على قيادة وتوجيه العلوم والتخصصات وكافة المعارف التي ينتجها الإنسان عن نفسه وعن العالم الذي يحيط به، وعلى أهمية أن تتخلص العلوم الاجتماعية في مقابل ذلك من توجهاتها المتشددة التي تسعى إلى هدم كل الجسور التي تربطها بالفلسفة وإلى التعامل مع تجليات الوعي الإنساني وكأنها عنصر من عناصر المادة الجامدة.