مع نهاية العقد الثاني من القرن الحالي، بدأت الدول الكبرى تتطلع لامتلاك أفضل المقاتلات الحربية بعدما أثبتت الحروب الحديثة قدرة أسلحة الجو، بشكل كبير، على حسم الحروب عن طريق فرض سيادتها فوق أرض المعركة. ومن بين أشهر هذه المقاتلات، ما يطلق عليه اليوم مقاتلات “الجيل الخامس” بقدراتها الشبحية والإلكترونية المتطورة. لكن ظهور تهديدات مضادة لهذا الجيل من المقاتلات، مثل منظومات الدفاع الجوي “إس 400″ و”إس 500” الروسية المتطورة، دفع عدداً من الدول إلى إطلاق مشروعات جديدة لتصنيع مقاتلات من “الجيل السادس” المحسنة، ذات القدرات الأفضل والأقوى.
ولأن تطوير مقاتلات جيل جديد يتطلب قدرات بحثية علمية وصناعية هائلتين، لجهة التصميم والابتكار والاختبار وما يستغرقه كل ذلك من سنوات طويلة، فقد اختارت بعض الدول إطلاق مشروعاتها العسكرية الخاصة بتصميم مقاتلات “الجيل السادس” مبكرا. وتنقسم الدول التي تسعى لتطوير مقاتلات “الجيل السادس” إلى فئتين؛ تضم الأولى الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، بينما تضم الفئة الثانية دولا قررت التخلي عن سعيها للحاق بركب مقاتلات “الجيل الخامس” والقفز إلى مرحلة تصميم مقاتلات “الجيل السادس” مباشرة، بهدف توفير الوقت والجهد بدلاً من محاولة اللحاق بتكنولوجيا الطائرات الحالية التي ستصبح متقادمة في العقد المقبل. ومن أبرز هذه الدول: فرنسا وبريطانيا وألمانيا، فيما تطور كل من الهند والصين مقاتلات من الجيلين الرابع المتقدم والخامس.
الولايات المتحدة
في المُحصلة تأتي الولايات المتحدة الأميركية في طليعة مطوري مقاتلات “الجيل السادس” بمشروعين: أولهما المقاتلة F-X التي ستخلفُ سابقاتها من طرازي F-15 وF-22 العاملتين حالياً لدى سلاح الجو الأميركي. وتقوم فلسفة تصميم F-X على ضمان الهيمنة الأميركية على سماوات المناطق الملتهبة، بعدما بدأت التصميمات الروسية والصينية في الآونة الأخيرة تقترب، بشكل متزايد، من مستوى قدرات مقاتلة F-22، والتي يعود تصميمها إلى تسعينيات القرن الماضي. ومن المنتظر أن تتولى المقاتلة الجديدة مهمة الاشتباك المباشر مع المقاتلات العدوة وتحييدها، مثل الصينية J-20 التي تسلحت مؤخراً بصواريخ بعيدة المدى من طراز PL-15 والروسية Su-35.
ومن الأسباب الرئيسة والملحة للتعجيل ببرنامج F-X، الإقفال المبكر لخطوط إنتاج مقاتلة F-22، وانعدام إمكانية دمج الترقيات الحديثة على منصتها. وستزود المقاتلة العتيدة الجديدة بصواريخ جو-جو من طراز AIM-260، من إنتاج شركة “لوكهيد مارتن” والتي سيتم إجراء أول الاختبارات الميدانية عليها بعد عامين من الآن. وستكون هذه الصواريخ بديلاً عن نظيرتها AIM-120 المستخدمة حالياً على مقاتلات F-15 وF-22 والبالغ مداها حوالى 160 كيلومترا. ورغم السرية المحيطة ببرنامج صواريخ AIM-260 إلا أن ثمة معلومات تسربت عن أن مداها يبلغ ضعف نظيرتها القديمة، ما يجعلها بالفعل سلاحاً هجومياً خارج نطاق الأفق. وستستفيد المقاتلة الجديدة كذلك من حزمة جديدة كليا من محركات الدفع الموجه، وأجهزة استشعار وإلكترونيات طيران تعتمد تقنيات الذكاء الصناعي.
ومن بين التقنيات الأخرى التي سيتم دمجها داخل الطائرة: مدافع ليزر، ورادار ذو بصمة منعدمة، وقدرات كشف وتتبع هائلتين، وطلاء قادر على امتصاص النبضات الرادارية.
الولايات المتحدة الأميركية في طليعة مطوري مقاتلات “الجيل السادس” بمشروعين: أولهما المقاتلة F-X التي ستخلفُ سابقاتها من طرازي F-15 وF-22 والثانية تدعى “مقاتلة الهيمنة الجوية” وهي ستشكل بديلا لمقاتلات F-18
منصة “الجيل السادس” الثانية التي تعمل الولايات المتحدة على تطويرها لصالح قواتها البحرية تدعى “مقاتلة الهيمنة الجوية”، وهي ستشكل بديلا طال انتظاره لمقاتلات F-18؛ العمود الفقري للقوات البحرية والمخصصة لتأمين الغطاء الجوي لمجموعات حاملات الطائرات الضاربة. وسيتم نشر “مقاتلة الهيمنة الجوية” إلى جانب مقاتلات F-35 الأخف وزناً لتحل محل طائرة F-18. ومن المتوقع أن تُدمج في الطائرة الجديدة العديد من التقنيات الحديثة التي ستزود بها مقاتلة F-X. كما ستزود بـ”خوذة متطورة” مهمتها مساعدة قائد المقاتلة على رؤية كل ما حوله وكأن بصره ينفذ من خلال الهيكل، للحصول على نظرة عامة شاملة للأوضاع والبيئة المحيطة بالطائرة، وستعرض الخوذة بيانات لوحة التحكم الرئيسة على زجاجها الأمامي. ومن مهام هذه الخوذة أيضاً توجيه وإطلاق الصواريخ، كما يتوقع أن تجهز بتطبيقات لتنفيذ الأوامر منشطة صوتيا لتسهيل المهام المعقدة التي ستلقى على كاهل الطيارين.
تكنولوجيا جديدة تضاعف فعالية طائرات “الجيل السادس”
روسيا
رغم تأخرها سنوات عن جهود واشنطن، إلا أن موسكو استطاعت في السنوات الأخيرة ردم جانب كبير من الهوة التقنية مع واشنطن، وإعادة تنظيم جهودها في ميدان سباق التسلح. ففي شهر يوليو الماضي بدأت روسيا الانتاج المتسلسل لمقاتلة “الجيل الخامس” من طراز سوخوي Su-57 بعد طول انتظار. وستخضع هذه المقاتلة، التي أجمع خبراء عسكريون على أنها جاءت أقل من التوقعات خصوصاً لجهة مقارعتها المقاتلة الأميركية F-35، لسلسلة من التحسينات وعمليات التطوير؛ في هيكلها الذي ستزداد فيه القطع المصنوعة من مواد مركبة أكثر خفة وأقوى متانة، مدافعها الليزرية، وذكاءها الصناعي ومحركاتها الحديثة من طراز Saturn 30، إلى جانب فئات جديدة متنوعة من الصواريخ المخصصة للقتال الجوي تفوق سرعتها أضعاف سرعة الصوت.
وستمثل هذه التحسينات، التي سيتم اختبارها على منصة Su-57، العمود الفقري لخصائص مقاتلة “الجيل السادس” التي بدأ الإعداد لها في أروقة شركة سوخوي والتي قد تحمل تسمية Su-60، وهو أسلوب يركز على الاقتصاد في الموارد، ما فتئت هذه الشركة تتبعه كما حدث مع نماذجها السابقة من طرازات Su-27 وSu-30 وsu-35. ومن ضمن التطبيقات المزمع دمجها في مقاتلة Su-60، قدرتها على التحكم -بواسطة خوارزميات ذكاء صناعي- بسرب يرافقها من الطائرات المسيرة (درون).
تعمل موسكو بشكل سري على تطوير مقاتلة اعتراضية من الجيل السادس تحت مسمى “المشروع 701” أو ما بات يعرف بالمقاتلة MiG-41
ومن مميزات الطائرات المسيرة هذه، قدرتها على نقل حمولة ثقيلة من مختلف أنواع الذخائر لمسافة آلاف الكيلومترات ما يتيح توسيع الإمكانيات الهجومية للمقاتلة Su-60 المتحكمة بالسرب، والتي سيكون بمقدورها تعيين الأهداف المراد قصفها للدرونات من دون تعريض الطيار لمخاطر السقوط في شراك نظم الدفاع الجوي المعادية. واستنادا إلى ذلك، يمكن تقليص حمولة Su-60 واقتصارها على صواريخ القتال الجوي، ما يمنحها القدرة على حماية نفسها والدرونات المرافقة. وبذا يمكن لمجموعة درونات أن تسيطر على مساحة واسعة براً أؤ بحراً تحت قيادة مقاتلة واحدة من طراز Su-60.
وبالتوازي مع برنامج Su-60، تعمل موسكو بشكل سري على تطوير مقاتلة اعتراضية من الجيل السادس تحت مسمى “المشروع 701” أو ما بات يعرف بالمقاتلة MiG-41، والتي من المقرر أن تُسند إليها مهمة حماية أجواء روسيا، وهي مهمة تضطلع بها اليوم مقاتلات السيادة الجوية من طراز MiG-31.
المعلومات الشحيحة جداً حول هذه المقاتلة تدور حول قدرتها على الطيران بسرعة تفوق أربع مرات سرعة الصوت (4.3 ماخ حسب بعض التقديرات أي زهاء 5270 كيلومترا في الساعة). ولهذا الغرض يفترض أن يكون مهندسو شركة ميغ قد أوجدوا حلا لمشكلة “الانفجار الحراري” الذي يصاحب بدن الطائرة التي تطير بهذه السرعة الفائقة. أما الهدف الكامن من وراء هذه السرعة العالية فهو منح المقاتلة دوراً دفاعياً خاصاً يتمثل في اسقاط صواريخ كروز المجنحة العدوة قبل ضربها أهدافها. إضافة إلى سرعتها القياسية ستمتلك MiG-41 قدرة التحليق نحو ارتفاعات شاهقة قصوى لتلامس حدود الفضاء القريب، ما يمنحها قدرة اصطياد الأقمار الصناعية العدوة بواسطة صواريخها المضادة بعيدة المدى أو بواسطة مدفع الليزر الذي تعمل مراكز الأبحاث الروسية على تطويره خصيصاً لهذا الغرض. كما يتم تطوير بذلات خاصة مقاومة للجاذبية لطياري MiG-41 ما يسمح لهم بتحمل قوى الجاذبية الأكثر تطرفا، وبالتالي أداء مناورات أكثر صعوبة لدى تنفيذ أدوار اعتراضية أو هجومية.
الصين
تواصل صناعة الدفاع الصينية إدخال التحسينات على مقاتلة التفوق الجوي من الجيل الخامس طراز J-20 منذ دخولها الخدمة في صفوف القوات الجوية الصينية عام 2017. إذ أدمجت مؤخرا أنظمة طرفية ذات فتحات في بدن المقاتلة بهدف تحسين ظروف الاستشعار بالأوضاع العدائية المحيطة. كما تجتهد مختبرات المحركات الصينية لاستبدال المحرك الروسي AL-31FM1، بنظيره الصيني من طراز WS-10 الذي دخل حيز الانتاج التسلسلي، فيما تعمل فرق هندسية أخرى على نسخة WS-15 الأحدث والأكثر تطوراً وذات قدرات الدفع والمناورة والفعالية الأقوى، حيث يرجح الخبراء انتهاء اختباراته الأولية واقتراب دمجه ببدن الطائرة.
أكبر التحسينات الصينية على الإطلاق فهو رادار AESA الجديد المخصص للتحكم بالنيران والذي فشلت الولايات المتحدة حتى الآن في معرفة مداه الأقصى أو حتى حزمة تردداته
كما يعمل الخبراء الصينيون على إعادة تقييم خصائص الأشعة تحت الحمراء المنبعثة من محركات J-20 والتي استغلتها الولايات المتحدة من أجل تحسين قدرات مقاتلاتها F-22 في رصد مقاتلات J-20. وتشمل التحسينات الأخرى على J-20 طلاء جديد للهيكل الشبحي عالج ثغرات الطلاء القديم في ضوء بيانات الاختبار، وصواريخ جو-جو طراز PL-15 فوق الصوتية بمداها البعيد القادرة على ضرب الأهداف الجوية المعادية على بعد 200 كيلومتر.
أما أكبر التحسينات على الإطلاق فهو رادار AESA الجديد المخصص للتحكم بالنيران والذي فشلت الولايات المتحدة حتى الآن في معرفة مداه الأقصى أو حتى حزمة تردداته، إلى جانب مستشعر بصري كهربائي مثبت تحت أنف الطائرة، وست فتحات كهربائية بصرية مثبتة حول بدن الطائرة تشكل نظاما للكشف السلبي. ومن المنتظر أن تجهز الطائرة بجيل جديد من إجراءات دعم قواعد البيانات الإلكترونية ومجموعة حرب إلكترونية قياسية.
كانت المقاتلة “هاريير” ذات الإقلاع العمودي التي صُنّعت في ستينيات القرن الماضي، آخر طائرة تصممها وتنتجها بريطانيا بالكامل. لذا، شكل إعلان الحكومة البريطانية عام 2018 إطلاق مشروع مقاتلة الجيل السادس تحت اسم “تيمبست”، مفاجأة مدوّية للأوساط العسكرية. فبريطانيا تعد اليوم دولة ذات خبرة محدودة في تطوير المقاتلات من الجيلين الرابع والخامس، ولم يسبق لها النهوض بهكذا مشروع بمفردها، واقتصر الأمر على دخولها شريكاً مع منتجين أوروبيين آخرين لإنتاج مقاتلات، كما حصل مع طائرة “تايفون”.
ستنفق لندن ملياري جنيه استرليني لتطوير “تيمبست” خلال الأعوام الخمسة المقبلة، ومن المحتمل أن تتحلى الطائرة بميزة التحليق من دون طيار. وسيتم تزويدها بأسلحة الطاقة الموجهة التي تستخدم رشقات مركزة من الليزر أو الميكروويف أو الحزم الجسيمية لإلحاق الضرر بالأهداف المعادية. أما قُمرة قيادتها فستكون افتراضية؛ إذ لن تضم لوحة عدادات وبيانات تقليدية بل مجرد شاشة سوداء وعندما يرتدي الطيار خوذته تظهر البيانات أمامه باستخدام تقنيات الواقع المعزز. ستستخدم “تيمبست” إمكانية الاشتباك المشترك، وهي تقنية تمكنها من التعاون مع منصات حربية أخرى بواسطة مشاركة بيانات المستشعرات بهدف تنسيق وتنفيذ الهجمات.
على الضفة الأخرى للقارة الأوروبية، أطلقت فرنسا وألمانيا وإسبانيا مشروعا طموحا يهدف إلى توحيد الجهود الأوروبية وإيجاد بديل للمقاتلات الأميركية. وتحت هذا العنوان يندرج مشروع “نظام القتال الجوي المستقبلي” أو ما يعرف اختصاراً بـ FCAS، لبناء مقاتلة جيل سادس. ويقول مطورو FCAS إنه ليس مجرد طائرة مقاتلة بل “نظام للأنظمة”؛ فبالإضافة إلى المقاتلة الرئيسة المأهولة ثمة نظم أخرى غير مأهولة مكملة ستشكل سرباً من الطائرات المسيّرة، والصواريخ بعيدة المدى، و”ناقلات تموين جوية” قادرة على شحن الذخائر والتشويش على شبكات الاتصالات وتشتيت انتباه دفاعات العدو، وصواريخ كروز، ومجموعة واسعة من طائرات الرصد والإنذار المبكر والأقمار الصناعية وأنظمة القتال الميداني والبحري.
ستتولى شركة “إيرباص” ومجموعة “داسو” الفرنسية، إنتاج المقاتلة -ونظمها- والتي يفترض أن تحل محل مقاتلات “رافال” و”تايفون” العاملة حاليا لدى الدول الثلاث. وستتولى شركة “سافران” الفرنسية بناء محرّك جديد ذو تكنولوجيا كهربائية هجينة تحد من الضجيج وتقلّص الأثر الحراري ما يصعّب رصد المقاتلة التي ستزود بمحركين من هذا الطراز يوفر كل منهما ما يصل إلى 30،000 رطل من قوة الدفع. وتتشابه مآخذ هواء البدن الرئيس لهذه المقاتلة مع تلك الموجودة لدى مقاتلة F-35، ما يضمن تدفق هواء جيدا للمحركات ويقلل خطر انعكاس إشارات الرادار.
كوريا الجنوبية
تعكف كوريا الجنوبية منذ سنوات على تطوير مقاتلة KF-X من الجيل الخامس في أعقاب نجاح برنامجها لتصنيع المقاتلة F-50 من الجيل الرابع والعاملة حاليا في صفوف قواتها الجوية. وقد عانى البرنامج الكوري الجنوبي من مصاعب مالية كبيرة أدت إلى تأخير مدته الزمنية، ما أبقى النسخة الاختبارية الأولى للطائرة “على الورق”، وإن كان ثمة وعود بتجهيزها خلال هذا العام. ومن مميزات المقاتلة KF-X، تكاليف تشغيلها المنخفضة ومتطلبات صيانتها قليلة التكلفة. ومن المقرر في حال نجاح برنامج إنتاجها أن تحل محل مقاتلات الجيل الأقدم من الطائرات مثل F-4 وF-5، وحتى محل الأسطول المتقادم لطائرات F-16.
ختاماً، ومع استمرار سباق الأمم على احتلال موقع لها في سماوات عالم الغد، يجادل بعض الخبراء العسكريين بأن هياكل طائرات الجيلين الخامس والسادس الشبحية ستصبح يوماً ما صيحة قديمة في عالم السلاح جراء التطورات المتلاحقة لتكنولوجيات النظم الرادارية المضادة، خصوصاً وأنه لا يمكن ترقية هياكل المقاتلات الشبحية بسهولة. لكن خبراء تسلح على المقلب الآخر يردون بأن تطوير تقنيات التشويش والحرب الإلكترونية والنظم الحاجبة للأشعة تحت الحمراء كفيلة بمعالجة هذه الثغرات… إلى حين حلول أوان مقاتلات الجيل السابع.