جاءت طبيعة الهجمات على منشآت شركة أرامكو النفطية قبل أسبوع متسقة مع ما سبقها من هجمات اتجهت فيها أصابع الاتهام إلى إيران.
ففي يونيو/حزيران الماضي تم الهجوم على حاملات نفط إماراتية ونرويجية قرب مضيف هرمز، وأعقب ذلك إسقاط إيران طائرة مسيرة أميركية متطورة فوق مياه الخليج.
من هنا وضع أنتوني كوردسمان، خبير الشؤون العسكرية بمركز السياسات السياسية والإستراتيجية بواشنطن تصورا لتغير طبيعة مواجهات المستقبل العسكرية، وذلك في دراسة صدرت منذ شهرين .
ويرى كوردسمان أن هناك سمات مشتركة واضحة جمعت بين هذه الهجمات، حيث لم يتم سقوط أي ضحايا، ولم تستهدف منشآت أو أهداف عسكرية تقليدية، أو التأكد من هوية الجهة التي قامت بها، سواء كانت إيران نفسها أو أي من حلفائها في المنطقة.
وترغب إيران في وضع قواعد جديدة تستطيع من خلالها التحكم في طبيعة أي مواجهة عسكرية مستقبلية، حيث تتجنب معها المواجهة التقليدية المباشرة للقوة العسكرية الأميركية، وتدرك إيران أنها لا تستطيع مواجهة قوة الآلة العسكرية الأميركية الضخمة إلا بطرق غير تقليدية.
ويعتقد كوردسمان أن الهجوم الأخير على منشآت أرامكو يمكن تصنيفه تحت مفهوم عسكري جديد؛ هو “حرب مهجنة”. وترى الدراسة أن تاريخ المواجهات العسكرية السابقة في المنطقة خلال العقود الأربعة الأخيرة تُظهر أنه كان يمكن توقع حدوثها، مع إمكانية تصور طبيعة تطور المعارك، خاصة مع المعرفة الكبيرة بطبيعة الأسلحة التي تمتلكها الأطراف المختلفة، سواء كانت الولايات المتحدة نفسها أو إيران أو العراق، وبقية دول الخليج.
وطبقا لكوردسمان، تمثل هجمات أرامكو ثورة في تطور التكنولوجيا والتكتيكات العسكرية وطبيعة القتال. ويرى الخبير الأميركي أن حجم التهديدات الإستراتيجية من أسلحة تقليدية رخيصة ومتوافرة زاد بشدة، خاصة مع ضخامة حجم الدمار الذي يمكن أن تسببه.
وجاء كشف السعودية عن حجم الدمار الذي لحق بمنشآت شركة أرامكو ليثبت رؤية كوردسمان في دقة ضرب الأهداف المنتقاة، ونجاح الصواريخ المستخدمة والطائرات المسيرة في تفادي أجهزة الرادار وأنظمة الدفاع الجوي عن طريق الطيران على مستويات منخفضة.
الدروس المستفادة
يعتقد كوردسمان أن أحد الدروس الأولية المستفادة من الهجمات يتمثل في ضرورة تواجد أنظمة دفاع جوي تتعامل مع الطائرات المسيرة الصغيرة وصواريخ أرض-أرض التي تطير على مستويات منخفضة. كذلك تُظهر دراسة كوردسمان أن توقيت الهجمات مثّل مفاجأة كبيرة، حيث لا يرتبط بتحقيق أي أهداف محددة واضحة أو ردع أي تهديدات جديدة.
من المؤكد أن إيران استطاعت تحقيق تقدم كبير في مجال صناعة وتطوير الصواريخ والطائرات المسيرة، ويعتقد على نطاق كبير أن ذلك تم بمساعدة الصين وكوريا الشمالية طبقا لما أشارت إليه الدراسة.
ويعتقد كوردسمان أن نظام وتكنولوجيا “جي بي إس” وإتاحته للكل حول العالم، قد سمح بسهولة تحديد مواقع المنشآت المستهدفة وإحداثياتها على الخرائط بدقة، ومن ثم سهولة استهدافها.
ولم تمثل الأهداف في حالة منشآت شركة أرامكو أي طبيعة ذات أبعاد عسكرية، ولم تعد المواقع المستهدفة حكرا على أهداف عسكرية، بل استهدفت في هذه الحالة منشآت نفطية يعمل بها مدنيون.
ويمكن أن تستهدف أي هجمات في المستقبل البنية الأساسية لشبكات الاتصال، أو محطات مياه أو شبكات المواصلات أو جسورا مهمة كما ترى الدراسة، التي أشارت أيضا إلى سهولة تحديد أي جهة قائمة من الأهداف غير العسكرية بسهولة، وذلك بأدوات تكنولوجية رخيصة ومتاحة.
وأشار كوردسمان إلى أن من السهل كذلك نقل أو تكليف إحدى الجهات التابعة لإيران -مثل حزب الله أو جماعة الحوثي أو مليشيات الحشد العراقية- بالقيام ببعض الهجمات نيابة عن طهران، على أن تكون بمثابة تدريب على عمليات أكبر تقوم بها إيران لاحقا.
عدم اليقين وبطء رد الفعل
أظهر عدم اليقين والبطء في الرد من قبل الولايات المتحدة والسعودية على هجمات أرامكو ما يشير إلى جدوى استخدام سلاح الطائرات المسيرة وصواريخ كروز في الحرب غير التقليدية، حيث لا يمكن إلقاء المسؤولية بصورة مؤكدة على الجهة الفاعلة.
كما يمثل نفي المسؤولية عن القيام بالهجمات -كما ذكرت إيران- ما يعقد سرعة اتخاذ قرار قد يدفع للتصعيد ولحرب شاملة لا تعرف حدودا، وفق الدراسة.
ويعتقد كوردسمان أنه ومع التهديد الإيراني بأن أي هجوم عليها سيواجه برد فعل شامل لن يقتصر على مصدر الهجمات؛ أدركت واشنطن وحلفاؤها الخليجيون أن أي هجمات على إيران تحمل في طياتها إمكانية الانتقام الشامل والتدمير المتبادل.
غموض القدرات الدفاعية
من غير الواضح حجم وقدرات الأسلحة المتوافرة لمواجهة الطائرات المسيرة وصواريخ كروز، ومن غير الواضح مقدار فعالية الأنظمة التي تمتلكها السعودية والقوات الأميركية، مثل نظام أواكس الراداري أو المقاتلات ذات الطبيعة الدفاعية مثل طائرات “أف 15 أي” أو “أف 22” لكشف واعتراض طائرات مسيرة تطير على ارتفاعات منخفضة أو صواريخ كروز.
وينطبق الوضع نفسه على أنظمة الدفاع الصاروخي باتريوت، وحتى الأنظمة الروسية من نوع “أس 400″ و”أس 300”. وتقل المساحة التي تغطيها تلك الأنظمة إذا كانت تواجه طائرات مسيرة تطير على ارتفاعات منخفضة أو صواريخ كروز، كما تشير الدراسة.
من ناحية أخرى، ومع توفر القدرة لدى الولايات المتحدة على شن هجمات إلكترونية مدمرة على إيران، يبقى هناك خطر الرد الانتقامي في صور غير متوقعة من جانب طهران وعملائها في المنطقة.
وتشير الدراسة إلى يقين إيران من أن صواريخ كروز والطائرات المسيرة يمكن أن يستخدما لمواجهة ما يفرض عليها من حرب وعقوبات اقتصادية مشددة. وأكدت عملية مهاجمة منشآت أرامكو القدرة على التصعيد ليس فقط في ما يتعلق بوضع حدود جديدة لطبيعة الردع وصولا لمبدأ التدمير المتبادل، بل في إظهار بعض تكامل عناصر الحرب السياسية والدبلوماسية والاقتصادية.
لكن الجديد في الحرب الأخيرة التي قد تقع في مرحلة ما بعد هجمات أرامكو هو عدم وجود قواعد في أي مواجهات عسكرية مستقبلية بالصورة التي كان يمكن معها في الماضي توقع توقيت وطبيعة مسار المواجهات العسكرية.