خلال فترة الـ32 عاماً من عمر معاهدة القوى النووية المتوسطة، وبينما كانت روسيا والولايات المتحدة تلتزمان بشروطها، كانت الصين منهمكة في تطوير ترسانتها الصاروخية الهائلة -ضمن نطاقات إطلاق تحظرها معاهدة القوى النووية المتوسطة (الصواريخ البحرية والتقليدية والصواريخ الباليستية التي تطلق من الأرض ويتراوح مداها ما بين 500-5.500 كم). وبحلول العام 2017، كان ما يقرب من 95% من الصواريخ التي أنتجتها الصين ليشكل انتهاكاً لمعاهدة القوى النووية المتوسطة لو أن الصين كانت قد وقعتها.
لطالما تمتعت الولايات المتحدة بتفوق عسكري واضح وحاسم على الصين على مدار كامل التاريخ الحديث لعلاقاتهما الثنائية التي بدأت في العام 1979. وكانت الولايات المتحدة رائدة في تطوير أنظمة الأسلحة المتفوقة، وما تزال رائدة في هذا الصدد، حيث تمتلك في ترسانتها الهائلة أسلحة مستقبلية مثل الطائرة المقاتلة F-35 Lightning II ونظام المستجيب التشغيلي الميكرويفي عالي القدرة -المصمم لحماية القواعد العسكرية من هجمات أسراب الطائرات من دون طيار. ولكن، يبدو أن العرض العسكري المثير للإعجاب الذي أقامته بكين للأسلحة في الأسبوع الماضي قد غير كل ذلك. الآن، أثبتت بكين أن لديها بعض الأسلحة بالغة التطور الخاصة بها هي أيضاً.
خلال الاستعراض الذي أقيم للاحتفال بالذكرى السبعين لميلاد جمهورية الصين الشعبية، كان عرض بكين لقوتها النارية دليلاً على ظهور “ثالوث استراتيجي” جديد من الأسلحة.
ويبدو أن الثالوث النووي الحالي المكون من القاذفات المتمركزة على الأرض، وصواريخ كروز العابرة للقارات، وغواصات الصواريخ البالستية المغمورة، قد أصبح في طريقه إلى أن يخلي مكانه لتحل محله الطائرات المتسللة من دون طيار، وصواريخ كروز التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وقوات خاصة تستخدم الطائرات العمودية المتطورة والقوارب الصغيرة فائقة السرعة.
ومن الواضح أن بكين قد استثمرت الكثير من الأموال وخصصت الكثير من الموارد، وحققت بعضاً من الإنجازات المثيرة للإعجاب على طريق الانضمام إلى صفوف القادة العالميين في تكنولوجيا الأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.
تستطيع صواريخ كروز الصينية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت أن تطير بسرعة تصل إلى 10 أضعاف سرعة صواريخ كروز التقليدية. ويُعتقد أن صاروخ Dong Feng (DF)-41 الباليستي العابر للقارات هو أقوى صاروخ في العالم، حيث يتمتع بمدى يصل إلى 9.300 ميل (أطول من مدى أي صاروخ آخر)، وهو قادر على حمل 10 أسلحة نووية موجهة بشكل مستقل. وتبلغ القدرة التفجيرية لكل رأس حربي يحمله نحو 150 كيلو طن (ما يعادل 150.000 طن من مادة “تي إن تي”).
وبسرعة تبلغ 25 ضعف سرعة الصوت، سوف يستغرق هذا الصاروخ 30 دقيقة فقط منذ إطلاقه ليصل إلى بر الولايات المتحدة. وتعمل الصين على اختبار المركبات المنزلقة ذات السرعات فوق الصوتية منذ العام 2014، ومن المتوقع أن تنشر أول طراز منها في العام 2020. وتستطيع الطائرة الصينية من دون طيار DR-8 أن تطير بسرعة تصل إلى خمسة أضعاف سرعة الصوت، وأن تقترب من حاملات الطائرات بمسافة تكفي لإرسال معلومات الاستهداف إلى قاذفات الصواريخ.
يتمتع صاروخ “قاتل حاملات الطائرات” DF-21 الصيني المضاد للسفن، والذي تم تطويره على مدار العقد الماضي، بمدى يصل إلى أكثر من 1.000 ميل، وهو ما يفوق بكثير مدى أي طائرة حربية على مدرجات حاملات الطائرات الأميركية الحالية. ويستطيع صاروخ DF-17 المنزلق الذي تفوق سرعته سرعة الصوت أن يغير سرعته أثناء الطيران، فيكون بذلك قادراً على المناورة (وهو مصمم للتهرب من الدفاعات المضادة للصواريخ)، ويمكنه أن يحمل رأساً نووياً.
وتُستخدم مركبة HSU-001 الآلية التي تعمل تحت الماء (وهي مركبة غير مأهولة) لمهمات الاستطلاع ضد الغواصات والسفن من خلال الغوص في الماء من الجو. وسوف تكون هذه المركبة مفيدة أيضاً في استطلاع موانئ العدو من تحت الماء. كما تم تصميم الطائرة من دون طيار Sharp Sword ذات الأجنحة التي على شكل جناح الخفاش، للاستخدام من حاملات الطائرات، وتحتوي هذه الطائرة على قَبوين داخليين لحمل القنابل. وباختصار، أظهرت الصين بوضوح أنها رائدة في مجال الابتكار التكنولوجي العسكري.
كان البناء الهائل لترسانة الأسلحة المتقدمة لبكين سبباً رئيسياً في انسحاب إدارة ترامب من معاهدة القوى النووية المتوسطة للعام 1987 في وقت سابق من هذا العام. ولم تكن الصين في أي وقت طرفاً في تلك المعاهدة، ولذلك مكَّن انسحاب الولايات المتحدة منها واشنطن من اتخاذ تدابير مضادة لبعض أسلحة بكين الجديدة. وخلال فترة الـ32 عاماً من عمر معاهدة القوى النووية المتوسطة، بينما كانت روسيا والولايات المتحدة تلتزمان بشروطها، كانت الصين منهمكة في تطوير ترسانتها الصاروخية الهائلة -ضمن نطاقات إطلاق تحظرها معاهدة القوى النووية المتوسطة (الصواريخ البحرية والتقليدية والصواريخ الباليستية التي تطلق من الأرض ويتراوح مداها ما بين 500-5.500 كم). وبحلول العام 2017، كان ما يقرب من 95 % من الصواريخ التي أنتجتها الصين ليشكل انتهاكاً لمعاهدة القوى النووية المتوسطة لو أن الصين كانت قد وقعتها. ومن المؤكد أن الصين لا تنطوي على أي نيّة للانضمام إلى معاهدة جديدة للقوى النووية المتوسطة، مما يعني أن انطلاق سباق تسلح جديد سيكون النتيجة الحتمية.
بعيداً عن التكنولوجيات السيبرانية الصينية التي تصبح أكثر قدرة على التخريب والتدمير باطراد، قد يكون البناء العسكري الصيني المتمركز حول الصواريخ هو العامل المفرد الأكبر الذي يساهم في تآكل القوة والنفوذ الأميركيين في آسيا. وتقوم بكين، في جوهر الأمر، بإنتاج مثل هذه الأسلحة القوية والمتطورة تكنولوجياً بحيث ينبغي أن لا يكون لدى الولايات المتحدة حافز للانخراط في صراع. وتوفر الصواريخ الباليستية ذات المدى المتفاوت والتي تطير أسرع بعدة مرات من الصوت فرصة ضئيلة لإمكانية اعتراضها -على الأقل، استناداً إلى التقنيات الحالية للإجراءات المضادة.
ولذلك، لا تمتلك الولايات المتحدة الكثير من الخيارات سوى أن تأخذ صفحة من قواعد اللعبة الصيني وتقوم بإنتاج مجموعة مماثلة من الأسلحة التي تتمتع بقدرات مشابهة. وإذا كان ثمة شيء يمكن أن يحفز الصين في أي يوم على الانضمام إلى موسكو وواشنطن على طاولة المفاوضات الخاصة بالسيطرة على هذه الأسلحة، فإن ذلك يمكن أن يحدث فقط لأن روسيا، والولايات المتحدة بشكل خاص، تكونان قد أنتجتا مجموعة من الأسلحة المضادة، والتي تؤدي إلى تآكل ميزة بكين المتزايدة في ساحة المعركة الآسيوية.
لكن حدوث مثل ذلك سيستغرق سنوات عديدة، بينما تواصل الصين مسيرة عنيدة لا هوادة فيها حتى تبقى متقدمة في صنع الأسلحة المتطورة ونشرها. ومن المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ودول العالم الرائدة الأخرى قد أدركت مسبقاً أن قواعد اللعبة أصبحت تتغير أمام أعينها. ومن المفترض أن لا تكون بكين قد كشفت في العرض العسكري عن كل شيء في ترسانتها المثيرة للإعجاب، ولا عن التقنيات الجديدة التي ربما تكون في المراحل المتقدمة من البحث. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد أن يكون لها أي أمل في مواكبة إيقاع الجيش الصيني، فسيكون من الأفضل لها أن تتخلى عن كتاب قواعد اللعبة التقليدي متآكل الصفحات الذي لديها، وأن تفعل ذلك بسرعة.
المصدر: ساوث تشاينا مورننغ بوست