عرض كتاب: حروب الموساد السرية

حكم مصارعه

عضو مميز
إنضم
27 نوفمبر 2014
المشاركات
4,272
التفاعل
5,251 0 0
mossad.jpg

عرض ومناقشة: د. محمد مخلوف.

تعاون استخباراتي اسرائيلي فرنسي بدأ مبكراً

جهاز الموساد هو أحد أجهزة استخبارات إسرائيلية ثلاثة، إلى جانب «شين بيت» و«أمان».وما يؤكده مؤلف هذا الكتاب هو أن الدعم الذي قدمته الأجهزة السرية الفرنسية والأميركية كان «حاسما» في مساعدة إسرائيل منذ تأسيسها، وهو يشدد على أن وزارة الداخلية الفرنسية وأجهزتها وفّرت تسهيلات لعمل «منظمة الهاغاناه» السريّة الصهيونية. وزاد التعاون بين الجانبين إلى درجة أن فرنسا غدت منذ أواسط عقد الخمسينات من القرن المنصرم «الحليف الأقرب لإسرائيل في الشرق الأوسط». وكان «شيمون بيريز»، رئيس إسرائيل الحالي، قد لعب دورا أساسيا في تطوير العلاقات الفرنسية- الإسرائيلية.

وقد جرى التعاون بين الأجهزة السرية للجانبين ،خاصة على صعيد تبادل المعلومات حول ثوار جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ثم على صعيد محاولات اغتيال الزعيم العربي جمال عبد الناصر أو الإطاحة بنظامه. أما مع «الأصدقاء الأميركيين» فقد بدأت العلاقات الوثيقة بين جهاز الموساد وأجهزة الاستخبارات الأميركية اعتبارا من عام 1956 على قاعدة تبادل المعلومات حول إفريقيا وحول محاولات الحصول على نماذج من الأسلحة السوفييتية.

files.php



يعد جهاز الموساد الإسرائيلي هو أحد ثلاثة أجهزة إسرائيلية للاستخبارات. الجهازان الآخران هما «شين بيت»، المسمى أيضا «شاباك» المختص بالأمن الداخلي، وتمكن مقارنته مع مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي «اف. بي. آي»، وجهاز «أمان» للاستخبارات العسكرية. العلاقة بين هذه الأجهزة تتراوح بين «أشكال التعاون وأشكال «التنافس»، كما يحدد مؤلف هذا الكتاب، إيفونيك دونويل بوضوح، ثم يؤكد مباشرة أن الكثير من العمليات السرية الإسرائيلية اشتركت فيها هذه الأجهزة الثلاثة، وفي حالة فشل أي منها ،كانت الأجهزة المعنية تتبادل غالبا الاتهامات بتحمل المسؤولية.

ويشير المؤلف إلى أن جهاز الموساد معروف بتجنيده لمصادر معلومات واسعة الاطلاع، في جميع أنحاء العالم. بعض هذه المصادر انكشف أمره ،ولكن الكثير منها لا يزال طي الكتمان. وبكل الحالات يتم التأكيد أن التعاون مع الأجهزة السرية الغربية كان ضروريا بالنسبة للموساد الإسرائيلي، وخاصة التعاون مع الأجهزة السرية الفرنسية والأميركية.

الأصدقاء الفرنسيون

في صدارة ما يؤكده مؤلف هذا الكتاب أن الدعم الذي قدمته الأجهزة السرية الفرنسية لإسرائيل كان «حاسما» ،ومثّل بداية سياسة مستمرّة للجمهورية الفرنسية الرابعة ،التي أنهاها الجنرال شارل ديغول عام 1958 عندما أسس الجمهورية الخامسة ،التي لا تزال قائمة حتى اليوم.

يكتب المؤلف قائلا: «من الاشتراكيين حتى الديغوليين استفادت الدولة اليهودية الوليدة من تعاطف كبير لدى الطبقة السياسية الفرنسية». ويقدّم المؤلف في هذا السياق العديد من الأمثلة، التي تؤكد على هذا التعاطف ابتداء من عام 1946 حيث قدمت وزارة الداخلية الفرنسية لفريق من منظمة «هاغانا» السرية اليهودية إمكانية بثّ «الرسائل الرمزية- المشفّرة».

أثار ذلك التعاون آنذاك غضب البريطانيين حيث، عمل جهاز استخباراتهم المعروف باسم «ام-16» على كبح جماح هجرة اليهود إلى فلسطين ولذلك راقب نشاطات الوكالة اليهودية، فيما يتعلق بشراء السفن أو استئجارها. كذلك راقب الجهاز السري البريطاني نقل الأسلحة الموجهة لـ»الجيش الإسرائيلي المقبل» التي كان الجزء الأكبر منها ينطلق من المرافئ الفرنسية.

وأصبحت «المواجهة» بين جهاز «إم-16» البريطاني وجهاز مراقبة التراب الفرنسي «دي.اس.تي» مفتوحة. وينقل المؤلف عن «روجيه ويبرت» مدير الجهاز الفرنسي آنذاك قوله: «لقد وصل الأمر بي إلى اتخاذ إجراءات قاسية لصدّ النشاطات البريطانية غير المشروعة في فرنسا، وبالوقت نفسه لتأمين حماية شبكات نقل المهاجرين والأعتدة والأسلحة اليهودية إلى فلسطين».

وتحت عنوان فرعي مفاده: «الإسرائيليون والفرنسيون يتآمرون لقتل عبد الناصر». يشير المؤلف إلى أن فرنسا كانت في أواسط عقد الخمسينات الماضي «الحليف الأقرب لإسرائيل في الشرق الأوسط».

وكان المدير العام لوزارة الحرب الإسرائيلية الشاب «شيمون بيريز» المقرّب من بن غوريون يشرف على المفاوضات من أجل شراء أسلحة من فرنسا لإسرائيل ،التي لم تكن تستفيد آنذاك من السخاء الأميركي. وعمل أحد مستشاري بيريز، المدعو «جوزيف نحمياس» كعنصر اتصال مع السلطات الفرنسية.

ويقدّم المؤلف حشدا مثيرا للاهتمام من المعلومات حول التعاون بين الأجهزة السرية الإسرائيلية والفرنسية في نقل اليهود من المغرب إلى إسرائيل بحيث تجاوز عدد هؤلاء 60000 غادروا المغرب خلال عامي 1955 و1956. واعتبارا من اندلاع ثورة التحرير الجزائرية عام 1954 أراد الفرنسيون الاستفادة من جهاز الموساد في توفير المعلومات حول جبهة التحرير الجزائرية وحليفتها مصر.

مسلسل اغتيالات

وبعد فشل محاولات الأجهزة السرية الفرنسية اغتيال قادة الثورة الجزائرية عام 1955، عرضت عليهم الأجهزة السرية الإسرائيلية في العام التالي 1956 تقديم معلومات دقيقة، بواسطة مصدر مطّلع، عن تحركات القادة الجزائريين، بمن في ذلك أحمد بن بيلا.

وكان الإسرائيليون عام 1956 وراء مصادرة السفينة «أتوس» التي كانت تحمل علما سودانيا، وعلى متنها 70 طنا من الأسلحة الموجهة للثوار الجزائريين. وبعد أسبوع من مصادرتها اعترض الفرنسيون طائرة بن بيلا ورفاقه ،عندما كانت تحلق في الجو من المغرب إلى تونس.

ويؤكد مؤلف الكتاب أن التعاون بين الجواسيس الإسرائيليين والفرنسيين تركّز عام 1956 حول مصر. وقبل أزمة السويس قامت عملية «كوماندوز» ببرمجة خطة تستهدف تفجير إذاعة القاهرة. وجرى إرسال «شحنة متفجرات إسرائيلية تزن 15 كيلوغراما» عبر الحقيبة الدبلوماسية إلى السفارة الفرنسية بالقاهرة. وكان قد وصل إلى القاهرة قبلها «عميل إسرائيلي من أصل ألماني» تحت غطاء أنه ممثل لشركة «تلفونكن» الألمانية.

لقد أظهر المهندسون المصريون المشرفون على إذاعة القاهرة اهتمامهم بخدماته ورافقوه بزيارة لمنشآتهم. هكذا حدد مكان وضع القنبلة. لكن أوامر التنفيذ ألغيت مع قرار عبد الناصر تأميم قناة السويس. هكذا مكثت لأشهر عديدة في قبو السفارة الفرنسية بالقاهرة عبوة ناسفة قادرة على تهديم البناية كلها.

اجتمع البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون للبحث في سبل إعادة السيطرة الغربية على قناة السويس والتسريع بسقوط عبد الناصر. وعندما أعلن «الريّس» أنه سيلقي خطابا بعد أيام احتفالا بالانتصار خطط الموساد وجهاز الاستخبارات الفرنسي لتفجير المنصّة عند إلقاء ذلك الخطاب. وذات ليلة اجتاز ثلاثة عملاء للموساد قناة السويس ومعهم شحنة من المتفجرات «تي.ان.تي». واستقبلهم على الشاطئ الآخر للقناة فريق من العملاء الفرنسيين على متن سيارة رباعية الدفع بهدف نقل شحنة المتفجرات.

وصل الجميع إلى الساحة العامة في بور سعيد حيث «لغّموها» بـ300 كيلو من المتفجرات، بحيث يتم تفجيرها بواسطة صاعق فرنسي. لكن عبد الناصر لم يأت. ويؤكد المؤلف أن جهاز الموساد حاول بعد ذلك مرات اغتيال عبد الناصر، لكنه فشل في كل المحاولات التي قام بها أو خطط لتنفيذها. وبقيت الشحنة لسنوات «مدفونة» في الساحة ببور سعيد.

... والأصدقاء الأميركيون

عند نهاية المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي السابق في شهر فبراير 1956، قام الموساد الإسرائيلي بتسليم النص الكامل لخطاب نيكيتا خروشوف ،الذي وجّه فيه نقدا شديدا لـ»جرائم الستالينية» إلى أجهزة المخابرات الأميركية. وقد حصل الموساد على الوثيقة عبر سلسلة من الصدف ونقص حرص قادة الحزب الشيوعي البولندي مما أوصلها إلى يد صحافي بولندي من أصل يهودي ومنه إلى إسرائيل.

ومقابل هذه «الخدمة» الإسرائيلية، قدمت أجهزة الاستخبارات الأميركية لأصدقائها الإسرائيليين تجهيزات تجسس ذات تقنيات متقدمة ودورات تدريب وتبادل المعلومات حول العالم العربي. وكان الوسيط بين الطرفين هو «جيمس انغلتون» الذي قام بالمهمة منذ عام 1951 حتى مطلع سنوات السبعينات.

ومن المعروف أن العدوان الثلاثي الفرنسي- الإسرائيلي- البريطاني على مصر بعد تأميم قناة السويس تمّ إقراره دون موافقة مسبقة من الولايات المتحدة. وبدا أن الموساد «يكذب» على حلفائه الأميركيين. مع ذلك بقيت قناة السي. آي. ايه- الموساد هي أداة التواصل بين الولايات المتحدة وإسرائيل أثناء الأزمة، وخلف ظهر الدبلوماسيين.

ومما يؤكده المؤلف أن الأميركيين كانوا على دراية كاملة بـ»العلاقات المميّزة» بين الأجهزة السرية الإسرائيلية والفرنسية. لكنهم، أي الأميركيين، لم يكونوا «رسميا» على علم باتفاقات التعاون السري حول الملف النووي. لقد كانوا يعرفون في الواقع دقائقه منذ عام 1958. وكان الجزء الأساسي من الأبحاث النووية الإسرائيلية يجري في «معهد وايزمان» بتمويل من حكومة الولايات المتحدة أساسا.

الطيور على أشكالها

لقد أقام الموساد الإسرائيلي علاقات وثيقة مع الأجهزة السرية الإيرانية في عهد الشاه عبر المدعو «ياكوفا غرودي» الذي أصبح فيما بعد صديقا لأرييل شارون. ومع عدد من الدول الإفريقية بالتعاون مع الأميركيين الذين كانوا يريدون كبح التوسع السوفييتي في القارة السمراء.

وقد وتوطدت العلاقات الإسرائيلية مع اثيوبيا وساحل العاج ورواندا واوغندا وزائير. لكن علاقاتهم الأكثر قوة كانت مع نظام جنوب إفريقيا العنصري الذي كان بعض قادته من المتحمسين سابقا للنازية.

بدأ التعاون بين الموساد ونظيره الجنوب إفريقي «بوس» في مطلع عام 1964 حيث جرى تبادل التكنولوجيات والمعلومات حول الحركات الفلسطينية ذات العلاقة مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، حزب نلسون مانديلا، لكن استطاعت الاستخبارات الروسية، «اختراق» الجهاز الجنوب إفريقي عبر عميل هو «ديتر جيرهارت» الضابط الكبير في سلاح البحرية لجنوب إفريقيا والذي كان يتردد «بحكم عمله» على «مركز التجسس الهاتفي» الذي كان يعمل لحساب الحلف الأطلسي ويلتقط الاتصالات البحرية والغوّاصات في عموم القارة.

وزوّد «جيرهارت» السوفييت بكمٍ كبير من الوثائق. بكل الحالات استفاد الأميركيون كثيرا من التعاون «الاستخباراتي» الإسرائيلي- الإفريقي.

«هدية باهرة»

وفي عام 1966، حقق الموساد «ضربة» جديدة استفاد منها كثيرا أصدقاؤه الأميركيون. ذلك عندما استطاع «تجنيد طيار ميغ-21 سوري وإقناعه بالهرب مع طائرته إلى إسرائيل ،حيث استفاد منها سلاح الجو قبل أن يحوّلها كقطع غيار إلى الجيش الأميركي. كان ذلك عاملا أساسيا في حرب عام 1967»، كما نقرأ. ويضيف المؤلف: «أما الأميركيون الذين كانوا يحلمون منذ زمن طويل بدراسة تلك الطائرة فقد بهرتهم الهدية».

دور أشرف مروان في خدمة الموساد لايزال لغزاً

فاجأ الجيشان المصري والسوري إسرائيل بشن حرب عليها في بداية بعد ظهر يوم 6 أكتوبر من عام 1973. ويكشف مؤلف هذا الكتاب أن رئيس الموساد "زافي زامير" وعددا من القيادات الإسرائيلية جرى إخطارهم في الأيام التي سبقت الحرب ويوم نشوبها نفسه بأنها سوف تقع. ولكن لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة لسوء في التقدير أو في التفسير.

وما يؤكده المؤلف هو أن دكتور "أشرف مروان"، مستشار الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لسنوات عدة، كان أحد مصادر تزويد الإسرائيليين بالمعلومات منذ عام 1969. وبالتالي كان على علم بما كان يدور على مستوى أعلى مراكز القرار السياسي المصري.

ويتم أيضا تأكيدا أن المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل كانت "منعطفا" في حرب 1973 لصالح إسرائيل. ولكن ذلك لم يمنع واقع أن "التجسس بين الأصدقاء" لم يتوقف، كما تدل عدة وثائق وقضايا جرى الكشف عنها.

وكان جهاز "لاكام" الإسرائيلي، التابع لوزارة الحرب مباشرة، قد قام بالدور الرئيسي في التجسس الإسرائيلي داخل أميركا. وهو الذي جنّد اليهودي الأميركي جوناثان بولارد للعمل لحساب إسرائيل، ولا يزال سجينا حتى اليوم، بعد أن رفض العديد من الرؤساء الأميركيين الإفراج عنه برغم الضغوط الإسرائيلية المكثفة في هذا الصدد.

الى جانب حرب أكتوبر 1973 بين العرب واسرئيل يشير مؤلف الكتاب الى قضيتين هامتين الاولى توضح بأن التعاون بين المخابرات الأميركية والإسرائيلية لم يمنع «التجسس بين الأصدقاء» في حين الضقية الثانية تتناول لغز أشرف مروان لا يزال يحير عالم المخابرات.

وحسب الكاتب، كانت حرب 5 يونيو 1967 مناسبة لانطلاق مرحلة جديدة من العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، هذه المرة على الصعيد العسكري. وعبر انتصارها في الحرب فرضت إسرائيل نفسها كحليف استراتيجي للولايات المتحدة الأميركية بمواجهة البلدان العربية الحليفة للاتحاد السوفييتي. هكذا أغدق الأميركيون دعمهم العسكري والمالي على تل أبيب، وأخذوا الموقع المتميز الذي كان يمثله التحالف الإسرائيلي- الفرنسي قبل ذلك.

حرب "قليلة الاحتمال"

عند الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة والخمسين من بعد ظهر يوم السبت 6 أكتوبر 1973 فاجأ الجيشان السوري والمصري الجيش الإسرائيلي بشن الحرب. كان ذلك اليوم عطلة يهودية وكانت الأجواء هادئة على الحدود منذ ثلاث سنوات، مع تصوّر أنه ما كان للعرب أن "ينهضوا" بسرعة من هزيمة حرب 1967.

وابتداء من سنوات السبعينات، حوّل الموساد اهتمامه نحو نشاط الحركات الفلسطينية وسلسلة عمليات خطف الطائرات والتفجيرات واستهداف الإسرائيليين. ولكن هل أهمل الموساد وغيره من أجهزة المخابرات الإسرائيلية نشاطات "الجيران" العرب؟ ."ليس تماما"، هكذا يجيب مؤلف الكتاب.

ويؤكد أنه قبل 36 ساعة من بداية حرب أكتوبر، وتحديدا يوم 5 أكتوبر عند الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل جرى إيقاظ "زافي زامير"، رئيس الموساد من نومه لإبلاغه رسالة عاجلة من أحد عملائه الهامين.

وكانت الرسالة عبارة عن كلمة واحدة هي "الحرب". كان ذلك هو "الرمز" للإعلان عن وقوع حرب وشيكة. أخبر "زامير" بعض مستشاريه وكذلك زميله رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية "ايلي زيرا". واتفق الرجلان على عدم إعلام رئيس الوزراء قبل معرفة معلومات أكثر عن مكان وساعة بدء تلك الحرب.

كان لدى الروس بالتأكيد معلومات أكثر عن الحرب "الوشيكة" مما كان يعلمه الإسرائيليون. هكذا وفي اليوم نفسه، تلقّى رئيس جهاز "أمان" الإسرائيلي تقريرا مفاده أن جميع السفن السوفييتية بصدد مغادرة الموانئ المصرية نحو عرض البحر. بالوقت نفسه كانت عائلات الخبراء العسكريين الروس تتدفق إلى المطار لمغادرة البلاد.

مصدر يفعل العجائب

قرر "زامير" سريعا أن يستقل طائرة ويذهب إلى أوروبا بنفسه لمقابلة صاحب الرسالة. وينقل مؤلف الكتاب عن مدير مكتب زامير وصفه لاحقا العميل المعني بـ"أحد أفضل العملاء الذين يمكن لبلاد أن تحصل عليه في زمن الحرب. إنه مصدر يفعل العجائب".

وما بين منتصف الليل والساعة الواحدة صباحا من يوم السبت 6 أكتوبر أعلم "زامير" هاتفيا "فريرا" أن الهجوم سيتم في اليوم ذاته قبل غروب الشمس. نقل الأخير المعلومات عند الساعة الثالثة و45 دقيقة محددا لحظة الهجوم "خطأ" أنها "عند غروب الشمس".

لم يأخذ العسكريون الإسرائيليون المعلومات مأخذ الجد حيث إن المصدر نفسه كان قد أخبرهم عدة مرات في الماضي بهجوم مماثل. وفي الوقت الذي كان يتناقش خلاله العسكريون عما ينبغي عمله بالمعلومات المقدمة خلال فترة الصباح فوجئوا بالهجوم عند بداية فترة ما بعد الظهر، وليس عند غروب الشمس.

فمن كان ذلك "المصدر الذي يفعل العجائب"؟ يسأل مؤلف الكتاب. ويجيب أنه لا يزال حتى اليوم أحد الأسرار التي يحافظ عليها بقوة عالم الاستخبارات الإسرائيلي. ثم يضيف: "إننا مع ذلك نستطيع اليوم كشف النقاب عن هذا المصدر: إن زافي زامير توجه إلى لندن لمقابلته. ولم يكن بريطانياً بل مصريا. إنه أشرف مروان، صهر عبد الناصر، ومستشار الرئيس السادات"، كما نقرأ في صميم الكتاب.

ويضيف المؤلف أن "مروان" واسمه الرمزي هو "الملاك " كان قد "اقترح خدماته على الموساد عام 1969. وقد كان على معرفة بالمعلومات الأكثر حساسية داخل إدارة السادات وكان ينقل النقاشات والحالة العسكرية للجيش المصري والمبادلات الاستراتيجية مع الحليف السوفييتي". وبناء على ذلك يقول المؤلف إن "السادات اتخذ قرار الهجوم منذ عام 1972".

ويشير المؤلف إلى أن هناك إشارات أخرى كان منها أن تكون بمثابة "إنذار" لو أنها وصلت إلى محللي الموساد. ويقصد بذلك أنه في مطلع عام 1973، أبدى محلل يعمل لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية اسمه "فريد فاير" دهشته من إحصائيات تدل على شراء الجيش المصري لكميات كبيرة من الجسور المتحرّكة التي لا يمكن استخدامها سوى على النيل.

واستنتج "فاير" من ذلك أن مصر تحضّر هجوما ضد إسرائيل. هكذا أعدّ تقريرا وصف فيه النقاط الأكثر احتمالا لنصب الجسور وحسب عدد الجنود الذين يمكن أن يعبروا بواسطتها خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى. ذلك التقرير أدرجه رؤساء "فاير" في الأرشيف ولم يولوه بعد ذلك أي أهمية.

كذلك تلقت الولايات المتحدة معلومة أخرى ذات أهمية كبيرة أنذرتها بالحرب المقبلة. ويحدد المؤلف تلك المعلومة بإخطار هنري كيسنجر من قبل أحد القادة العرب ومبعوث من الرئيس السادات بأنه إذا لم تقم الولايات المتحدة بحركة دبلوماسية "قوية جدا" فإن البلدان العربية سوف تشنّ هجوما قريبا على إسرائيل.

وكانت الحرب التي خسرت فيها إسرائيل خلال الـ72 ساعة الأولى 49 طائرة مقاتلة وحوالي 500 دبابة. وبدا أن استخدام السلاح النووي ممكنا خلال الساعات التالية. ولم يتأخر الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في إصدار أوامر مفادها أن يتم "إرسال كل ما يطير" نحو الشرق الأوسط، وهكذا جرى نقل 20 طنا من الأسلحة جوا إلى إسرائيل خلال الثماني وأربعين ساعة اللاحقة. كان ذلك منعطفا في حرب 1973.

تجسس بين الأصدقاء

في شهر نوفمبر من عام 1979 احتل طلبة إيرانيون السفارة الأميركية في طهران. واستولوا على أرشيفها، وكان من بين الوثائق "الحسّاسة" وثيقة تحمل عنوان "إسرائيل: لمحة عن الاستخبارات الخارجية والأجهزة السرية".

هكذا عرف قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعالم العربي "برنامج الموساد وشين بيت" وبنيتهما وأهدافهما ذات الأولوية وفي مقدمتها جمع المعلومات عن الجيوش العربية، ثم جمع المعلومات حول السياسة الأميركية، وخاصة ما يتعلق بإسرائيل. والأولوية الثالثة تمثلت في جمع المعلومات العلمية في الولايات المتحدة وغيرها من البلدان الغربية.

تلك التوجهات في الأولويات الإسرائيلية الاستخباراتية وجدت ترجمتها في عمليتين كبيرتين أظهرتا مدى "التناقض" في العلاقات الأميركية- الإسرائيلية. كان الطرفان يعملان معا، ولكن يتجسس كل منهما على الآخر. العمليتان لم يقم بها الموساد مباشرة، ولكن عبر "مكتب الاتصال العلمي" أو "لاكام" الذي نعتته الصحافة الإسرائيلية نفسها أحيانا "بالموساد مكرر". كان شيمون بيريز هو الذي أنشأ هذا المكتب، الذي حمل أولا اسم "مكتب المهمات الخاصة"، عام 1957 داخل وزارة الحرب الإسرائيلية بقصد تحسين تسليح إسرائيل.

في مطلع سنوات الستينات اكتشفت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية العملية الكبيرة الأولى لمكتب "لاكام". ذلك عندما اكتشف رئيس مركز السي.آي. ايه في تل ابيب وصول كميات من اليورانيوم المخصّب إلى إسرائيل مصدرها شركة أميركية في بنسلفانيا، تعمل في الحقل النووي، ويديرها "زالمان شابيرو" الذي كان قد عمل سابقا في برنامج "مانهاتن" النووي الأميركي، وترتب على ذلك مجرّد "دفع غرامة".

بعد عام 1967 توسّعت مهمات "لاكام"، كما يشير مؤلف الكتاب مؤكدا أن التكنولوجيا لعبت دورا حاسما في الانتصار الإسرائيلي على الجيوش العربية. لكن إسرائيل واجهت صعوبات جديدة، خاصة بسبب الحظر الذي ضربته فرنسا، بأوامر من الجنرال ديغول، على صادرات الأسلحة، مما هدد بتقليص التفوق العسكري الإسرائيلي. ورغم أن الحليف الأميركي قد عوّض بعض النقص، فإن إسرائيل فهمت أنه ينبغي عليها تطوير صناعتها في مجال التسلّح.

تحالف صلب ولكن ..

ومنذ سنوات السبعينات لاحظ مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي "اف.بي.آي" أن هناك تزايدا كبيرا في أعداد الباحثين العلميين ورجال الأعمال الإسرائيليين الذين يقومون بزيارة أميركا. لم تكن "السي.آي.ايه" على علم بأن المكتب الفيدرالي قرر وضع أدوات تجسس في سفارة إسرائيل بواشنطن. وسبب عدم إعلامها بذلك، يحدده المؤلف، بوجود علاقة وثيقة جدا بينها وبين الموساد.

ويتحدث مؤلف هذا الكتاب عن الدور الذي لعبه "رافي ايتان" الذي ترأس جهاز "لاكام" بقرار من ارييل شارون عام 1981. ويشير إلى أن "ايتان" كان أحد الذي تسلّموا كمية من اليورانيوم من شركة أميركية في نهاية سنوات الستينات. وقد أراد على صعيد جمع المعلومات الانتقال إلى جعلها "صناعية" وليست "يدوية".

وقد جنّد من أجل ذلك اليهودي الأميركي "جوناثان بولارد" الذي كان يعمل في سلاح البحرية الأميركية. وقد قابل ضابط في سلاح الجو الإسرائيلي، كان يتبع دورة تدريبية في جامعة نيويورك، وعرض عليه تزويده بمعلومات تهمّ "دفاع" إسرائيل لكن الأجهزة الأميركية تحتفظ بها لنفسها.

هكذا سلّم "بولارد" مئات الصفحات من الملفات السرية الخاصة بالقوى العسكرية في الشرق الأوسط وبسياسة التسلّح الأميركية. وعندما أحسّ "بولارد" أن أمره أصبح مكشوفا طلب اللجوء إلى السفارة الإسرائيلية. لكن الضابط المناوب في ذلك اليوم لم يكن يعرفه، ولم تتوفر له تعليمات دقيقة وواضحة عما ينبغي عمله بخصوصه، فرفض دخوله إلى السفارة. وعندما خرج كانت عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي بانتظاره.

أثارت قضية "بولارد" فضيحة سياسية وإعلامية بحيث إن الحكومة الإسرائيلية أعلنت حلّ جهاز "لاكام" وجرى طرد "رافي ايتان". لكنه لم يجد نفسه مع ذلك في الشارع، بل وجد نفسه رئيسا لشركة إسرائيلية تعمل في مجال الكيماويات. وعلى عكس "التطمينات" الموجهة للأجهزة الأميركية، تابع جهاز "لاكام" نشاطاته، حيث استمر 35 عنصرا منه في العمل بالولايات المتحدة الأميركية موزعين بين نيويورك وواشنطن ولوس انجليس.

وينتهي المؤلف إلى القول إنه رغم "صلابة" التحالف الإسرائيلي- الأميركي على صعيد الاستخبارات، فإن قضية "بولارد" وعددا من القضايا غيرها تدل على أن "الصداقة لا تمنح جميع الحقوق"، و"جوناثان بولارد" لا يزال في السجن حتى الآن.

حملة اغتيالات في باريس رداً على التقارب الفرنسي العربي

زاد اهتمام قادة الغرب والمستثمرين فيه بمنطقة الشرق الأوسط، بعد الصدمتين النفطيتين لسنوات السبعينات. وأخذت فرنسا دورا متميزا في التوجّه نحو تعزيز العلاقات مع العالم العربي، بعد ما عُرف بـ"السياسة العربية" التي انتهجها الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول.

وزاد بالتوازي اهتمام الأجهزة السرية الغربية بالنشاطات العربية في بلدانها. وكان جهاز "الموساد" قد كثّف من نشاطاته في فرنسا، خاصة حيث قام بعدة عمليات اغتيال لممثلين فلسطينيين في أوروبا ولعلماء كانوا يعملون في إطار البرنامج النووي العراقي، وذلك على خلفية حرص إسرائيل على الاحتفاظ باحتكار امتلاك السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط.

ويتم التعرّض في هذا السياق لعمليات تدمير مشروع البرنامج النووي العراقي المعروف باسم "تموز" واغتيال العالم العربي دكتور يحيى المشد بإطلاق النار عليه، وكذلك اغتيال العالم "عبد الرشيد" بواسطة السم في باريس بالحالتين. حيث يؤكد المؤلف على قيادة تسيبي ليفني، الطالبة آنذاك، ورئيسة حزب "كاديما" الإسرائيلي الوسطي حاليا، لعمليات الاغتيال في فرنسا.

غدت العاصمة الفرنسية، باريس، خلال سنوات السبعينات والثمانينات، بمثابة "عاصمة عربية" إلى هذه الدرجة أو تلك. وكان ذلك، كما يرى مؤلف هذا الكتاب، نتيجة لما عُرف بـ"السياسة العربية" التي انتهجها الجنرال شارل ديغول، والتي تابعها الرؤساء الذين خلفوه. وكذلك نتيجة للصعود القوي الذي عرفته البلدان المصدّرة للنفط في الاقتصاد العالمي.

علاقات وثيقة

وكان من المنطقي ، في مثل ذلك السياق، تنامي اهتمام القادة والمستثمرين ورجال الأعمال الأوروبيين ببلدان منطقة الشرق الأوسط، وكما طوّر فيه الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان العلاقات مع شاه إيران، كذلك تقارب الرئيس الفرنسي جاك شيراك مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين ، إلى درجة أن كثر داخل إسرائيل من اعتبروا ذلك بمثابة "خيانة" للشعارات المؤيدة للصهيونية، التي رفعتها الجمهورية الفرنسية الرابعة قبل قيام الجمهورية الخامسة عام 1958.

ويتعرّض المؤلف في هذا السياق إلى علاقات فرنسا ، خلال سنوات السبعينات والثمانينات ، مع عدة أجهزة عربية، مثل الأجهزة السرية الليبية للعقيد القذافي ، التي كان يقودها أحمد قذّاف الدم، والذي توصلت الأجهزة السرية الفرنسية معه إلى استبعاد الأرض الفرنسية من أعمال العنف.

ولكن بالمقابل كان ينبغي فرض رقابة شديدة على الأجهزة السرية السورية، خاصة بعد اغتيال صلاح البيطار في باريس بتاريخ 21 يوليو تموز 1980، الذي وكان رئيس وزراء سابقا ومعارضا للرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد. ويشير المؤلف إلى أن العمليات السرية السورية في أوروبا كانت تجري تحت إشراف رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد.

ويشير المؤلف إلى أن جهاز الموساد كان غاضبا جدا من الصلات الفرنسية مع الأجهزة السرية العربية. ولم يكن الفرنسيون يجهلون نشاطات الموساد في فرنسا ضد بعض ممثلي الفلسطينيين، مثل محمود الهمشري الذي اغتالته قنبلة وضعها رجال الموساد بهاتف منزله، وعبد الرؤوف الكبيسي، ذي الأصل العراقي الذي درس القانون في الولايات المتحدة وكندا قبل أن يقوم بالتدريس في الجامعة الأميركية ببيروت، والذي قتله عناصر من الموساد في باريس أيضا.

ولم يقتصر عمل الموساد، كما يشير مؤلف الكتاب، على عمليات الاغتيال ، بل قاموا بتوجيه رسائل تهديد ورسائل ملغومة إلى عدد من الدبلوماسيين العرب في باريس باسم "المنظمة العالمية لإنقاذ الأفراد".

الجاسوسة ورجل العلم

توجّه اهتمام إسرائيل عند منعطف سنوات الثمانينات إلى ضمان استمرار الوضع القائم في الشرق الأوسط بما يتعلق بميزان القوى النووية في هذه المنطقة من العالم. وبتعبير آخر ضمان احتفاظ إسرائيل باحتكار القنبلة النووية. وكان الفرنسيون الذين ساعدوا قبل 25 سنة الإسرائيليين على امتلاكها قد عززوا علاقاتهم مع البلدان العربية، خاصة بعد الصدمتين النفطيتين لسنوات السبعينات.

كان الملف الأكثر إثارة لقلق إسرائيل هو الخاص بمشروع العراق النووي المعروف باسم "تموز" حيث كانت فرنسا قد سلّمت عام 1973 العراق المفاعل "أوزيريك". وكان اتفاق التعاون الفرنسي العراقي الموقع عام 1975 بعد التقارب بين جاك شيراك، رئيس وزراء فرنسا آنذاك، والرئيس العراقي صدام حسين، ينص على "استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية".

كان أرييل شارون آنذاك وزيرا للزراعة في حكومة مناحيم بيغن، لكنه قام بحملة في جميع الاتجاهات لإقناع الحكومة الإسرائيلية بالقيام بضربة جوية للعراق، وإلا "سوف تنتج قريبا أول قنبلة إسلامية". وكانت الأجهزة السرية الإسرائيلية قد قامت قبل ذلك بليلة 5 إلى 6 أبريل 1979 بتفجير قطع خاصة بتموز 1 وتموز 2 مع 65 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصّب، كانت جاهزة للنقل إلى بغداد في ميناء "سين سورمير" الفرنسي. ولم يكتف الموساد بالتفجير، بل وجه عملاؤه رسائل تهديد للعاملين في ورشة تلك البلدة وللمهندسين الذين كانوا على أهبة الاستعداد للذهاب إلى العراق.

وفي ليلة 13 إلى 14 يونيو 1980 تمّ العثور على جثّة رجل في إحدى غرف فندق الميريديان بباريس. وكان المهندس المصري العامل بحقل الذرة دكتور يحيى المشد، أحد أفضل التقنيين في هذا الميدان في العالم العربي. وكان العنصر الأساسي في البرنامج النووي العراقي. وأفاد الجهاز السري الفرنسي أن فتاة رافقت الفيزيائي النووي مساء يوم اغتياله، وأن رجلاً دخل الغرفة بعد خروجها منها مباشرة.

وسمحت شهادات العاملين والعاملات في الفندق بالتعرف على أن الرجل المعني كان من موظفي السفارة الإسرائيلية. وكذلك التعرف على هوية الفتاة التي جرى استدعاؤها للمثول أمام الشرطة الجنائية، ولكنها قتلت بـ"حادث سير" في شارع "سان جرمان" الباريسي قبل مثولها أمام السلطات الفرنسية المعنية. ووجدت الشرطة في مفكرة بحقيبتها رقم هاتف السفارة الإسرائيلية.

لكن الرئيس الفرنسي آنذاك فاليري جيسكار ديستان ووزير خارجيته جان فرانسوا بونسيه رفضا إثارة "حادث دبلوماسي" بناء على وجود مجرد رقم الهاتف، وطويت القضية.

اغتيال بالسم

بعد عدة أشهر فقط، وضعت الشرطة الفرنسية تحت الرقابة فيزيائي مصري آخر هو دكتور عبد الرشيد، ويوم وصوله ذهب إلى محطة القطار لاستقبال سيدة نزل معها من القطار نفسه رجل "اختار" فندقهما ذاته ، وبدا أنه يراقبهما. خشيت الشرطة الفرنسية السرية أن تتكرر عملية كتلك التي قتلت دكتور يحيى المشد ، فاقتحمت الفندق ، لكن "رجل القطار" اختفى. وجرى التعرف من صورته على أنه كان "دبلوماسيا" إسرائيليا. أما دكتور عبد الرشيد فقد توفي بعد أشهر قليلة بـ"عملية تسمم غريبة".

ويقول المؤلف إن نتيجة التحقيقات التي قامت بها الشرطة الفرنسية السرية أثبتت أن عمليتي اغتيال المشد ودسّ السم لعبد الرشيد قد جرى تنفيذهما بإشراف إسرائيلية شابة كانت تقيم في فرنسا بصفة طالبة، وهي تسيبي ليفني الشخصية السياسية اللامعة لاحقا ورئيسة حزب "كاديما" الوسطي.

وينقل المؤلف عن جان باكلوتي، أحد مديري جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسية قوله: "كان وجود الموساد قويا في السفارة، حيث بلغ عناصره فيها 15 عنصرا (...). والشخص الذي جرى التعرّف عليه من قبل العاملين في فندق الميريديان عندما خرج من الغرفة التي كان يشغلها يحيى المشد لم يكن شخصا مجهولا بالنسبة لي، إذ خدم كحارس شخصي لي أثناء زيارتي الأخيرة إلى إسرائيل. وكان جميع العناصر يقدمون عرضا لما فعلوه لتسيبي ليفني التي كانت رغم صغر سنها هي صاحبة النفوذ الأكبر. وقد قادت العمليات بحنكة معلّم".

وتسيبي ليفني، كما يتم تقديمها في الكتاب، هي ابنة أسرة عملت في منظمة "ارغون" السرية. وينقل المؤلف اعتمادا على مقابلة أجرتها معها عام 1995، لكن لم يتم نشرها سوى في عام 2009 أنها كانت تعمل في إطار جماعة "بايونيت" السرية التي كانت تقوم بالاغتيالات في مختلف أنحاء العالم. ومما قالته عن تلك التجربة: "يعيش الإنسان بحالة قلق دائم. وقد كان سلوكي غريبا في أغلب الأحيان، إذ ينبغي التركيز والقيام بحسابات طيلة الوقت".

تجارة الأسلحة

بتاريخ 22 سبتمبر 1980 تغلغلت القوات العراقية في الأراضي الإيرانية. واستمرت الحرب العراقية -الإيرانية ، التي أطلقها صدام حسين ثماني سنوات وزاد عدد ضحاياها على مليون شخص. واجه الإيرانيون سريعا عدة تحديات ليس أقلها نقص الأسلحة والذخائر في وجه التفوّق التكنولوجي العراقي. وكان الإغراء كبيرا لدى الصناعيين الغربيين لدخول ذلك السوق "الواعد". لم تتأخر فرق "الموساد" عن مراقبة نشاطاتهم، لكن الإسرائيليين لم يكونوا يعارضون جميعهم بيع العتاد العسكري للإيرانيين ، وفي مقدمة المتحمسين لذلك كان هناك موشي ديان وزير الحرب، خاصة أن ذلك كان يعني إطالة زمن الحرب وإضعاف البلدين.

ويشير مؤلف الكتاب إلى أن المدهش أكثر كان موافقة مسؤولين أميركيين كبار على بيع الأسلحة لإيران بواسطة وسطاء تستخدمهم الأجهزة الإسرائيلية. ومما يؤكده هو أنه "منذ الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 1980 جرت اجتماعات في باريس بين ممثلين إيرانيين وإسرائيليين ووفد من الفريق الانتخابي لحملة رونالد ريغان. وكان الأميركيون في الوفد وبينهم وليام كينري، مدير حملة ريغان والذي أصبح رئيسا للسي.آي.ايه لاحقا يريدون الحصول على تحرير رهائن السفارة الأميركية بطهران، ولكن بعد الانتخابات لضمان هزيمة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر".

وبعد جولات من المفاوضات ساهم فيها بنشاط آري بن ميناش، الإسرائيلي ذي الأصول الإيرانية، حصلت إيران على أطنان من العتاد العسكري، حيث كانت النتيجة هي قيام إيران منذ شهر اكتوبر 1981 بهجوم مضاد على العراقيين. وبعد أن جرى "ترميم" موازين القوى بين الطرفين المتحاربين، استمر النزاع ليصبح أحد أكثر الصراعات دموية في تاريخ المنطقة.

شامير يقلب المائدة

وفي عام 1985 توصلت مجموعة "بكتل" الأميركية إلى إقناع صدام حسين ببناء خط أنابيب لنقل النفط العراقي إلى البحر مرورا بالأردن. كانت قيمة الصفقة بالنسبة لـ"بكتل" أكثر من مليار دولار. لكن الرئيس العراقي الراحل طلب، قبل التوقيع النهائي، ضمانا قطعيا بأن إسرائيل لن تفجر الأنبوب.

هنا برز دور المدعو بروس رابابورت الذي كان قد عمل مع منظمة "هاغاناه"، الجهاز السري الصهيوني الذي خلفه فيما بعد "الموساد". وكان "رابابورت" قد أسس إمبراطورية صغيرة يديرها من جنيف بسويسرا، ومن بين أصدقائه المقرّبين شيمون بيريز الرئيس الإسرائيلي الحالي، وكان الملياردير قد ساهم "بسخاء" في الحملات الانتخابية لصديقه.

سلّم رابابورت رسالة من بيريز للمجموعة الأميركية "بكتل" وعد فيها بعدم المساس بخط الأنابيب المقترح. ولم يكن ذلك كافيا بالنسبة للعراقيين الذين طالبوا ضمانا بتعويض نفقاتهم إذا نكص بيريز، أو غيره، عن وعوده. تمّ عندها اقتراح آلية لـ"التأمين" تتضمن دفع مبلغ 65 مليون دولار سنويا لحزب العمل الإسرائيلي لضمان عدم الهجوم على خط الأنابيب، وبحيث يتم استقطاع المبلغ من تشغيل المشروع، وقبل بيريز بالمقابل "تجميد" مبلغ 400 مليون دولار من المساعدات الأميركية لإسرائيل كضمان، إذا لم تحترم إسرائيل التزاماتها. كان بيريز يعتمد على دعم مدير السي.آي.ايه وليام كنري.

لكن إسحق شامير وحزبه في الحكومة نعت بيريز بـ"الخائن" وهدد بترك التحالف الحكومي ليسقط مشروع خط الأنابيب العراقي. وتمتد سلسلة طويلة من الأحداث يقدمها مؤلف الكتاب لتبيين آليات صياغة السياسات الإسرائيلية ودور الأجهزة السرية وخاصة الموساد فيها.

الموساد يحشو طائرة القذافي الخاصة بأجهزة التنصت

يطلق إيفونيل دونويل مؤلف الكتاب تسمية "رجال أعمال الموساد" على عدد من رجال الأعمال الذين لم يكونوا جواسيس سابقين لدى الأجهزة السرية الإسرائيلية، أو أنهم "ليسوا فقط" كذلك. ولكن امتيازهم الأكثر بروزا هو أنهم يمتلكون حريّة حركة تسمح لهم بالذهاب إلى حيث لا يستطيع أن يمضي الجواسيس.

عدد من رجال الأعمال هؤلاء مارسوا نشاطاتهم في بلدان إفريقية بالتنسيق مع المكتب الإفريقي للموساد. وهناك أمثلة كثيرة يقدمها المؤلف على غرار شابتاي كالمانوفيتش الذي أسس شركة للبناء في جنوب إفريقيا. لكن رغم الخدمات الكبيرة التي قدمها لإسرائيل واجه تهمة "التجسس" في إسرائيل على خلفية صراع بين شيمون بيريز وإسحق شامير.

وهناك طراز آخر من رجال الأعمال- الجواسيس يجده المؤلف في شخصية ارنون ميلشان، الذي مارس التجسس وتجارة الأسلحة لصالح برنامج إسرائيل النووي. وأسس عددا كبيرا من الشركات، التي لم يكن لبعضها أية علاقة ظاهرة بإسرائيل، بما في ذلك شركة للإنتاج السينمائي في هوليوود. لكنه بقي بكل الحالات جاسوسا لها.

اشترى الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، في سنوات السبعينات، طائرة خاصة من طراز "غرومان غولفستريم-2" التي كانت تعد الأفضل آنذاك من شركة "زيمكس" السويسرية. وكانت أعمال الشركة المزدهرة مصدر إحساس بالرضا لدى رئيسها ومديرها العام "هانس زغلر". ولكن أيضا لجهاز الموساد، حيث كان "زغلر" أحد عملائه. والطائرة التي سُلّمت للقذافي كانت "محشوّة" بأجهزة التجسس.

بقيت تلك العملية سرية لفترة طويلة من الزمن، كما يشير مؤلف الكتاب، والتي كانت، كما يضيف حسب اعتراف أحد مصادر معلوماته "إحدى أفضل العمليات التي قام بها الموساد"، وذلك من حيث أهمية المعلومات التي جمعها واستفاد منها كثيرا في بعض المناسبات.

ويشير المؤلف إلى وجود شركة طيران أخرى (إسرائيلية هذه المرة) عملت بالطريقة نفسها وهي شركة "اتاسكو" التي باعت لأوغندا في عهد امين دادا أسطولا من طائرات بوينغ 707، كما باعت عدة طائرات لأحد فروع السي.آي.ايه. وذلك يعني أنه لم يكن هناك شيء يخفى على أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية. وكانت "اتاسكو" مملوكة من قبل الملياردير "شارل ازنبرغ"، المعروف بنشاطه آنذاك في أسواق بيع الأسلحة.

ويطلق المؤلف تسمية "رجال أعمال الموساد" على رجال أعمال حقيقيين، كما يصفهم، وليسوا أو ليسوا فقط، جواسيس سابقين تحوّلوا إلى عالم الصفقات، ولكن أصحاب شركات أثبتوا نجاحهم "ووضعوا كفاءاتهم ومفكرة العناوين التي يمتلكونها في خدمة الموساد". وهم لا يتقاضون أموالا مقابل ذلك، بل قد يكلفهم ذلك مبالغ طائلة. وامتيازهم هو أنهم يستطيعون الذهاب حيث لا يستطيع الجواسيس العاديون. وبالمقابل يستطيعون الاعتماد على إسرائيل "عندما يواجهون متاعب".

صفقات إفريقية

وجد في إفريقيا أعداد كبيرة من اللبنانيين من مختلف الطوائف، وأصبح بعضهم من ذوي النفوذ في بلدان إفريقية، مثل ساحل العاج وسيراليون. وقد ساهم بعضهم في تمويل منظمات لبنانية يذكر منها المؤلف "حركة أمل"، حيث أن رئيسها نبيه برّي من مواليد سيراليون، وله فيها صداقات متينة مع رجال أعمال كبار مثل جميل سعيد محمد.

وفي الفترة نفسها حاولت إسرائيل أن "تعيد الحرارة" لعلاقاتها مع البلدان الإفريقية بعد فترة "البرود" خلال سنوات السبعينات. هكذا أظهر "المكتب الإفريقي للموساد" اهتماما كبيرا بالقارة الإفريقية، وذلك خاصة عبر رجال أعمال مثل "شابتاي كالمانوفيتش" الذي هاجر من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل في مطلع عقد السبعينات الماضي.

وبدأ مساره فيها في إطار الدعم الانتخابي لحزب العمال قبل أن يتحوّل نحو حزب "الليكود" اليميني. وأصبح "كالمانوفيتش " مساعدا برلمانيا لـ"صمويل فلاتو- شارون" الذي اشتهر في فرنسا بفضيحة عقارات خلال سنوات السبعينات. وفي تلك الفترة بدأ "كالمانوفيتش" عمله لحساب جهاز الموساد، ونقل نشاطاته إلى جنوب إفريقيا في مطلع الثمانينات، حيث أسس شركة للبناء عرفت نجاحا كبيرا وسريعا بمساعدة السلطات المحلية هناك.

ما يؤكده المؤلف في هذا الصدد هو أن رجال أعمال لبنانيين واجهوا صعوبات مع السلطات المحلية مثلما حصل عام 1987 حيث قامت الكاميرون وجمهورية إفريقيا الوسطى وسيراليون بطرد عائلات لبنانية بحجج مختلفة. وفي الوقت نفسه قامت أجهزة الأمن في البلدان المعنية بتعزيز علاقاتها مع الأجهزة الإسرائيلية.

ويذكر المؤلف أن "كالمانوفيتش" وجد نفسه فيما بعد "متورطا" بصراع مرير بين "شيمون بيريز" و"إسحاق شامير" حيث كان هذا الأخير قد كلفه بنقل وثائق في غاية السريّة إلى موسكو، كان مصدرها هو الجاسوس الإسرائيلي "جوناتان بولارد"، اليهودي الأميركي. كان شامير يريد التقارب مع الاتحاد السوفييتي. لكن "بيريز" لم يتردد فيما بعد بتوجيه تهمة التجسس لـ"كالمانوفيتش" رغم الخدمات الكبيرة التي قدّمها لإسرائيل.

جاسوس ومنتج للأفلام

في تاريخ 18 سبتمبر عام 2008 عقد عدد غفير من نجوم ،هوليوود اجتماعا في القاعة الكبيرة التابعة لشركة إنتاج "بارامونت". كان الجميع يرتدون أزياء السهرة الأنيقة. أما المناسبة فكانت منح جائزة للمخرج "ارنون ميلشان" على "مجمل أعماله" والتي كانت من بينها أفلام حققت نجاحا كبيرا مثل "حرب الزهور" و"السيد والسيدة سميث"

تناوب عدد من المشاهير على المسرح، مثل الممثل روبرت دينيرو والمخرج مارتن سكورسيزي، وكالوا المديح الكبير لـ"ميلشان" وشخصيته القوية وبصيرته وقدرته على المصالحة بين المتناقضات. ولكن لم يذكر أحد منهم ما كان يعرّفه بصورة أدق، ويحدده المؤلف بالقول: "إن الرجل الذي كانت تحتفي به هوليوود ذلك المساء كان أحد أسياد الجاسوسية في إسرائيل، التي قدّم لها خلال العقود الأخيرة كمية هائلة من التقنيات الأميركية، أغلبها بوسائل غير مشروعة".

عندما كان عمر "ارنون ميلشان" 21 سنة تولّى إدارة شركة بيع الأسمدة وتوزيع المحروقات التي تركها والده المتوفي. واكتشف عند قيامه بـ"جرد" ملفات الأب أن الشركة لم تكن تمارس نشاطها في المجال المعلن عنه ولكن في "تصدير واستيراد الأسلحة".

تعلّم الابن "المهنة" بسرعة وعرض على جميع شركات تصنيع السلاح أن يكون ممثلها في إسرائيل. وتعرّف آنذاك على موشي دايان وزير الحرب الإسرائيلي، وعلى "شيمون بيريز"، الأقل شهرة في ذلك الوقت.

وبعد فترة من تعارفهما أطلع شيمون بيريز "صديقه ميلشان" على ما أسماه "سر إسرائيل" المتمثل في برنامجها النووي الذي يساعدها الفرنسيون في إنجازه.

وقدّم له المسؤول عن "سرية البرنامج" المدعو "بنيامين بلومبيرغ" المكلف بالحصول على التجهيزات والمواد المطلوبة للبرنامج، والتي لا يمكن شراؤها من الأسواق العادية. كان "بلومبيرغ"، المسؤول السابق عن الأمن في وزارة الحرب الإسرائيلية، بصدد إنشاء وكالة سرية للحصول على المطلوب للبرنامج النووي وجرى منحها مقرّا في مبنى تلك الوزارة الإسرائيلية.

الخداع والسرقة والقوة

وقد كانت الوكالة سرية إلى درجة أن "الموساد" نفسه لم يكن يتم إبلاغه بنشاطاتها. لقد أطلقوا عليها بداية تسمية "مكتب الارتباط العلمي المعروف اختصارا باسم " لاكام- وجرى تحديد مهمتها الأساسية بالحصول على كل ما هو ضروري للبرنامج النووي بشتى الوسائل بما في ذلك "الخداع والسرقة والقوة".

جرى في الوقت نفسه تشكيل لجنة سرية من الباحثين لتحديد الاحتياجات ذات الأولوية وأمكنة الحصول عليها. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قد علمت أن الإسرائيليين يبحثون عن سبل الوصول إلى التقنيات النووية، ولكنها وجّهت انتباهها على مراقبة فرق الموساد، حيث أنها لم تكن تعرف بوجود وكالة خاصة مكلّفة بتلك المهمة. هكذا تابع عناصر "لاكام" العمل بحريّة، خاصة أن البعض منهم، مثل "ارنون ميلشان" كانوا يمارسون نشاطات اقتصادية حقيقية ومشروعة في الولايات المتحدة.

قام "بنيامين بلومبيرغ" بتدريب "ميلشان" على جميع التقنيات التي قد يحتاجها لتنفيذ مهامه، مثل كيفية تأسس شركات "وهمية" والتلاعب بالحسابات المصرفية وإعداد الوثائق المزوّرة عن مصادر الأسلحة، الخ.

كما قام بتدريبه على كيفية تجنيد "المخبرين". وبعد نجاحه بعدة "اختبارات" وإيجاد "حلول" للحصول على عتاد مطلوب قام بمبادرة اقترح فيها على صديقه شيمون بيريز وموشي دايان اقتراحا ما كان يمكن أن يرفضاه.

كان الاقتراح هو أن تقوم وزارة الحرب الإسرائيلية بصورة "شبه رسمية" بإفهام مصنّعي الأسلحة أنه أي "ميلسان" هو "الممر" المعتمد، وفي المقابل يلتزم من جانبه بتحويل عمولاته على العقود إلى الحسابات السرية لوزارة الحرب. وبهذا المعنى أصبح بمثابة "المموّل الخفي" للعمليات السرية الكبيرة للاستخبارات الإسرائيلية في الخارج، أي عمليات "لاكام" وأحيانا "الموساد"، ذلك الدور أعطاه سلطة كبيرة، لكن طموحاته لم تكتف بذلك بل ذهبت إلى أبعد من ذلك.

لقد اقترح على "أصدقائه" فتح فروع لمجموعته في الولايات المتحدة، بحيث تكون غطاء لنشاطاته. هكذا كان هو الذي "استورد" طائرات "سوبر فريلون" العمودية التي لعبت دورا كبيرا في حرب يونيو 1967. وأنشأ كذلك عدة شركات بعضها لا علاقة ظاهرة لها مع إسرائيل، بحيث يمكنه شراء تجهيزات محظور بيعها إلى إسرائيل، خشية العقاب باسم المقاطعة المفروضة من البلدان العربية.

لعبة القط والفأر

وعندما كشفت البلدان العربية "المناورة"، جرى منع شركات صناعة الطيران التعامل مع أية شركة لها أي نشاط كان مع إسرائيل. ردّ "ميلشان" على ذلك بتأسيس "سلسلة" من الشركات تعيد بيع التجهيزات والعتاد فيما بينها وصولا إلى الهدف النهائي. لكن "لعبة القط والفأر" انتهت عندما قرر الكونغرس الأميركي عام 1977 إعفاء الشركات الأميركية من الانصياع لإجراءات المقاطعة التي فرضتها البلدان العربية.

وفي عام 1981 قام وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد، ارييل شارون، باستبدال "بنيامين بلومبيرغ" المقرّب من بيريز، بصديقه "رافي ايتان" الذي كان قد عمل في إطار جهازي "شين بيت" و"الموساد"، وكان يمتلك بالتالي "أرشيفا" من عمله السابق لعملاء "الموساد" في أميركا ممن قد يكونون مفيدين له في عمله كرئيس لجهاز "لاكام". ومن بينهم "جوناثان بولارد"، مصدر المعلومات عن السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط.

وكما تعلّم "ميلشان" عقد صفقات الأسلحة، قرر أن يدخل ميدانا جديدا، هو الإنتاج السينمائي. وبعد عدة "أفلام" متواضعة النجاح أسس "ستوديو" للإنتاج السينمائي باسم "نيو ريجنس" كي يكون بمثابة "الآلة" الخاصة به، وقد شاركه فيه "سيلفيو برلسكوني"، رئيس الوزراء الإيطالي السابق. وفي عام 2011 وقّعت هذه الشركة عقدا مع شركة "فولكس" للتعاون حتى عام 2022.

الربيع العربي فاجأ جهاز الموساد فأثار قلقه وسبب له حرجاً كبيراً

أنتجت التغييرات الكبرى التي عرفها العالم العربي، منذ بداية عام 2011، معطيات جديدة على المستوى الإقليمي. وأثار ذلك قلقاً لدى إسرائيل وأجهزتها السرية، خاصة أن بعض «محاوريها» المتميزين اختفوا من المشهد السياسي.

أحدثت الثورة في تونس إحساساً بالخيبة لدى جهاز الموساد الإسرائيلي، الذي لم يرتقب أبداً «رياح التغيير» المقبلة، رغم وجوده القوي في البلاد، بسبب الحضور الكبير لليهود في المنطقة، وتركيزه على الساحة التونسية منذ أن أصبحت مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بعد خروجها من لبنان. وهناك عدة مؤشرات على وجود «مصادر رفيعة» للمعلومات في ظل حكم بن علي سهّلت مهام الموساد، كما يوضح مؤلف الكتاب.

كان الوضع مختلفاً في مصر، فـرئيس جهاز المخابرات المصري عمر سليمان لم يكن عميلاً لإسرائيل، بل كان «محاوراً يحظى بالاحترام». والخدمات مع الموساد ومع السي.آي.إيه كانت متبادلة. لكن منذ نشوب الثورة، أدرك الرئيس المصري السابق حسني مبارك نهاية حكمه، وركّز بالتالي اهتمامه على البحث عن سبل الاحتفاظ بثروة أسرته.

وفي ليبيا، لعب رجال من أمثال موسى كوسا وعبد الله السنوسي، دوراً مركزياً في عالم الاستخبارات، وتنوعت علاقاتهما وارتباطاتهما مع الأجهزة الغربية، وربما مع الموساد. لكن بعد الثورة تغيرت المعطيات.

رأت الأجهزة السرية الإسرائيلية في الثورات التي شهدتها عدة بلدان عربية «مصدر قلق»، كما ينقل مؤلف الكتاب عن أحد عناصر الموساد السابقين. يضاف إلى هذا «الحرج» الذي تواجهه هذا العام، حيث إنها لم تر التحركات المقبلة، ثم أدركت أن العديد من «محاوريها» اختفوا من «المشهد السياسي»، واحداً بعد الآخر.

وفي الوقت الذي كانت فيه الأمور «مقروءة» في عهد القادة السابقين، يبدو القادة الجدد «مجهولين»، ولا يمتلكون ثقافة الحكم، ومبتدئين في عالم الاستخبارات، كما يراهم الإسرائيليون. هذا فضلاً عن «جهلهم» بآلية العمل «الشرقية جداً» الكامنة في شتيمة إسرائيل علناً، ولكن التفاوض مع الموساد سراً على بعض التسويات.

ما يؤكده المؤلف إيفانويك دونويل، هو أن الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بذلا، خلال عقود، جهوداً كبيرة لنسج علاقات مع مسؤولين في أجهزة الاستخبارات العربية الذين، دون أن يصبحوا عملاء إسرائيليين، قد يقبلون تبادلاً محدوداً للمعلومات لمصلحة الطرفين. ويضيف المؤلف أنه «إذا حالف الحظ» يمكن لتلك القناة «شبه الرسمية» أن تؤدي في النتيجة إلى تجنيد جاسوس، أو عدة جواسيس، داخل الجهاز العسكري للبلد المعني.

تونس ورياح التغيير

كانت الثورة في تونس أحد مصادر خيبة الأمل بالنسبة للموساد، الذي كان يتمتع بوجود مهم في البلاد. والإشارة هنا هي إلى أنه كان يمتلك ثلاثة مراكز فيها، بسبب الوجود المهم للطائفة اليهودية في المنطقة. والإشارة أيضاً إلى أن هذا ما وصف «بالتفصيل» تقريراً للمخابرات المصرية جرى تسريبه إلى مجلة «المصوّر». وجاء في التقرير أن مركز تونس العاصمة يعطي الأولوية للشؤون الجزائرية، ومركز جربا للشؤون الليبية، ويتركز اهتمام المركز الثالث «سوسة» للشؤون التونسية.

ويحدد المؤلف بالقول: «من المحتمل أنه كان للموساد عملاء في حاشية الرئيس بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي». ويؤكد أنه لولا وجود «داعمين على مستوى رفيع» ما كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على الموساد أن يغتال عدداً من القادة الفلسطينيين، مثل أبو جهاد ثم أبو اياد. وينقل المؤلف عن الصحافة الإسرائيلية تأكيدها آنذاك أن القتلة كانوا «يتمتعون بتواطؤ واضح على أعلى مستوى».

وينقل المؤلف أنه في شهر إبريل 2011 اتهم عبد الرحمن سوبير، الحارس الشخصي للرئيس السابق بن علي، ليلى الطرابلسي أنها «عميلة إسرائيلية جرى تجنيدها عام 1990». وبعد أن يتساءل المؤلف عن مدى صحة مثل هذه المعلومة، ينقل عن الوزير التونسي السابق «طاهر بلخوجة»، الذي كان مسؤول الأمن الرئاسي خلال 10 سنوات، قوله في مقابلة صحافية إن رجاله اتبعوا دورة تأهيل نظّمها جهاز الموساد، وأشرف عليها اللواء علي السرياتي. ويشير المؤلف إلى أن مثل هذه الدورات ربما سمحت، مثلما حصل في إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، بتجنيد «مصادر» للمعلومات بين مسؤولي الشرطة التونسيين، وأن بعضهم «لا يزالون يمارسون مهامهم ويحاولون إخفاء كل أثر لأشكال تعاونهم السابق».

وينقل المؤلف عن ضابط الشرطة التونسي السابق «سمير فرياني»، قوله إنه بعد أسبوع من سقوط بن علي، توجهت عربات من وزارة الداخلية إلى مقر الأرشيف لنقل ملفات وأشرطة تسجيل يحتوي بعضها على أرشيف منظمة التحرير الفلسطينية، جرى جلبها عندما غادرت تونس عام 1994، والتي كانت تحتوي، حسب قول فرياني، على معلومات خاصة بتعاون جهاز الأمن التونسي مع الموساد.

جرى إيداع فرياني السجن في يونيو 2011 لوشايته بإتلاف الأرشيف. وحُكم عليه بتاريخ 26 مارس 2012 بغرامة قيمها 200 دينار تونسي، لتوجيهه اتهامات دون سند ضد موظف في الدولة، وبـ «سنتيم رمزي» لمصلحة وزارة الداخلية.

وضع مختلف في مصر

كان الوضع مختلفاً جداً في مصر عما كان عليه في تونس، كما يشير المؤلف بداية، ذلك أن عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية، لم يكن «عميلاً»، ولكنه كان «محاوراً» محترماً ومقدّراً من قبل الموساد. وعندما واجهت مصر أعمال عنف من قبل المتطرفين في سنوات التسعينيات، عبأت السي.آي.إيه والموساد كل ما لديهما من معطيات لتفكيك شبكات «أيمن الظواهري».

بالمقابل، ودون خيانة المصالح المصرية، حاول عمر سليمان «ردّ الجميل» للأميركيين مثلما للإسرائيليين، إذ لعب دوراً مركزياً في المفاوضات الطويلة من أجل إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي «جلعاد شاليط». لكن المظاهرات الهائلة التي شهدها ميدان التحرير بالقاهرة في شهر يناير 2011 فاجأت الجميع، بمن في ذلك عمر سليمان نفسه.

أدرك الرئيس المصري السابق حسني مبارك سريعاً، حسبما ينقل المؤلف عن مصادر الموساد، أن ساعة نهاية حكمه قد دقت، ورسائل الأميركيين كانت واضحة حول ذلك. وإذا كان مبارك قد تمسّك بالسلطة، فإن ذلك لم يكن من باب العناد، ولكن لأسباب مالية. إذ منذ بداية الثورة قام جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «أمان» بتسجيل محادثات بين أفراد عائلة مبارك حول أفضل طريقة لحماية ثروتهم.

كان المطلوب هو تحويل الأموال إلى الخارج، لكن إلى أين؟ درس بن علي في تونس أثبت أن سويسرا قد تقبل تجميد أرصدة الرئيس المخلوع في بنوكها إذا طلبت السلطات الجديدة ذلك. كان الرهان كبيراً، فتقديرات السي.آي.إيه والموساد أجمعت على أن أسرة مبارك جمعت 7 مليارات دولار خلال عقود حكمه.

كان الابن جمال مبارك هو الذي يدير تلك الثروة «بطريقته». ولم يكن يتردد في أن يقترح على صاحب أية شركة «تعجبه» امتلاك ما بين 20 إلى 50 % من أسهمها «مجاناً». لكن مقابل ألا يعيق أحد نشاطاتها. هكذا امتلك جملة من الشراكات التي كان عليه التخلي عنها، بعد سقوط حكم والده، وكذلك التخلي عن شراكات الأسرة في مجال العقارات، حيث إن أسرة مبارك كانت أحد أكبر مالكي الفنادق الفخمة في شرم الشيخ، حسب المعلومات المقدّمة.

وعندما قبل مبارك التنحّي عن السلطة، أسقط معه رئيس مخابراته عمر سليمان، الذي ينقل عنه المؤلف قوله: «في عالم الاستخبارات، يقوم جزء كبير من عمل الارتباط على نوعية العلاقات الشخصية. وفي السابق كان يتم العمل مع أناس عملوا في الاستخبارات لعدة عقود، ولديهم صورة عن مجمل الشرق الأوسط والحركات الإرهابية. أما الآن، فهناك أناس يتعلّمون أحياناً مهنتهم عبر ممارستها، ويركّزون على مسألة عدم الاستقرار الداخلي، وهدفهم الأول هو الاحتفاظ بمنصبهم. وكُثر منهم يقولون لأنفسهم أنه من الأفضل تجنب أن يراهم أحد وهم يتحدّثون مع السي.آي.إيه، وأكثر منها مع الموساد. إنهم لم يتمثّلوا بعد السياسة الواقعية لعالم الاستخبارات».

ماذا عن ليبيا؟

الوضع في ليبيا كان أكثر تشوشاً. فالأجهزة السرية البريطانية والأميركية هي التي أقامت العلاقات الوثيقة مع أحد سادة الجاسوسية لدى العقيد القذافي، والمقصود هو موسى كوسا. وما يؤكده المؤلف اليوم هو أن موسى كوسا لم يكن يكتفي بمجرد الدفاع عن مصالح رئيسه، إذ كان يتقاضى أموالاً من «أصدقائه الغربيين»، وحتى لو كان يصرّ على تكذيب ذلك، كما يشير المؤلف بين قوسين.

ويؤكد مؤلف الكتاب أن الموساد استفاد بطريقة غير مباشرة، وخاصّة عن طريق السي.آي.إيه وجهاز الاستخبارات «إم-16» البريطاني، من معلومات المسؤول الليبي. لكن سقوط القذافي وحكمه غيّر المعطيات كلها، وموسى كوسا يعيش اليوم منفياً «مرفّهاً» في لندن.

وهناك رجل آخر لعب دوراً مركزياً في أجهزة الاستخبارات الليبية، هو عبد الله السنوسي الموصوف بـ «جزّار طرابلس»، والذي كان في «قلب النظام»، عبر زواجه بأخت القذافي، وكان مديراً لأجهزة الأمن الخارجي، ومستشاراً لسيف الإسلام القذافي. حاول السنوسي الهرب بعد سقوط رئيسه، ولكنه وجد نفسه في أحد سجون نواكشوط، العاصمة الموريتانية.

هناك جهات عديدة تطلب تسليمها السنوسي، من بينها فرنسا. ويشير المؤلف إلى أن لكل جهة «أسبابها»، فالرجل هو بمثابة «الصندوق الأسود» لنظام القذافي، إذ يمتلك الذاكرة، هذا إذا لم يكن الأرشيف، حول جميع المؤامرات وعمليات التمويل السرية، واستثمارات القذافي خلال الأربعين سنة التي أمضاها في السلطة.

وبعد إشارة المؤلف إلى الاتهامات التي نشرت على شبكة الإنترنت بأن السنوسي لجأ إلى خدمات شركة «غلوبال سي.إس.تي» الإسرائيلية لتجنيد مرتزقة أثناء الثورة الليبية، وقوله، أي المؤلف، إنه: «إذا كانت هذه الشركة قد قامت فعلاً بمهمات لحساب ليبيا قبل الثورة، فلا يمكن رؤية منطق دعمها لدكتاتور أثناء الثورة، ومحكوم عليه من قبل الأصدقاء الأميركيين وتعاديه أجهزة العديد من البلدان الأوروبية، ولم يكن يجد هو نفسه صعوبة في إيجاد المرتزقة».

السيناريو الأسوأ

وفي بعض الأسطر التي يكرسها المؤلف لسوريا في الصفحات الأخيرة لكتابه، يؤكد أن: «الانتظار هو السائد لدى الموساد خلال سنة 2011 كلها ومطلع 2012». ويرى أن إسرائيل تكتفي، حتى إنجاز الكتاب، بـ «حساب النقاط». لكن جيشها «يتدرّب على مواجهة السيناريو الأسوأ. إذ في حال وقوع سوريا في براثن الفوضى، يخشى جهاز الموساد وجهاز أمان تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين إلى هضبة الجولان، بحيث سيكون من الصعب السيطرة عليهم».

وينقل المؤلف عن مصدر بالموساد قوله: «حتى لو كان النظام البعثي عدوّاً لإسرائيل، فإنه لدينا تقريباً صورة عنه وعن كيفية التعامل معه. لكننا لا نعرف شيئاً عما سيكون عليه سلوك نظام إسلامي سنّي قد يحل محلّه».

وعن «الملف النووي الإيراني»، نقرأ في الصفحة الأخيرة ما مفاده: «في مطلع عام 2012، توافقت آراء الموساد والسي.آي.إيه حول أن الإيرانيين لم يبدؤوا بتجميع قنبلة نووية، إذ قد يتوقف ذلك على أمر من أعلى المستويات، وذلك الأمر هو ما ينبغي ترصّده، فبعد تسعة شهور منه، ستكون لدى إيران القنبلة. ويرى الموساد والسي.آي.إيه أنهما قادران على الحصول على تلك المعلومة الأمر- وقت صدورها. والتزامهما في التشخيص ربما سيكون حاسماً، والتشخيص سيحدد، بدرجة ما، مستقبل الشرق الأوسط».

* المؤلف في سطور

إيفونيك دونويل، مؤلف هذا الكتاب، هو مؤرخ فرنسي اختصاصي بعالم الاستخبارات والأجهزة السرية الكبرى والشهيرة في العالم. وفي مقدمها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي. آي. إيه» التي كان قد قدّم عنها، بالاشتراك مع المؤرخ الأميركي الشهير أيضاً، كأحد أهم الاختصاصيين العالميين في عالم الأجهزة السرية «غوردون توماس»، كتاباً تحت عنوان: «الكتاب الأسود لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية»، والذي تمّ التعرّض فيه للاغتيالات السياسية التي استهدفت العديد من القادة الأجانب، وللانقلابات العسكرية التي ساهمت فيها الوكالة الاستخباراتية الأميركية، وجرت ترجمة الكتاب إلى العديد من اللغات الأجنبية.

و«إيفونيك دونيول» معروف أوروبياً وعالمياً كأحد المرجعيات في عالم الظل والأجهزة السرية. ذلك بعد صدور عدة مؤلفات له، في عدادها: «التاريخ السري للقرن العشرين: مذكرات جواسيس خلال سنوات 1945 وحتى 1989»، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط سور برلين. ومن كتبه أيضاً: «عام 1979: الحروب السرية في الشرق الأوسط« و«كيف تصبح جاسوساً؟»، إلخ.

 
عودة
أعلى