عبد الحفيظ بوالصوف.. أسطورة المخابرات الجزائرية الذي مات غريبا

JUGURTHA

عضو
إنضم
26 أغسطس 2009
المشاركات
3,441
التفاعل
4,784 1 0
عبقري الثورة وعاشق العمل السري


ph_1_n2_boussouf_415800921.jpg


خُلق لسياسة الأمة وقيادة الرجال، عاش لبلاده ونسي نفسه، عبقري فذ، صبور كتوم، لا يعرف معنى للراحة، الذائد عن حوزة قومه، والمناضل من ورائهم، الباسل البطل، صانع الرجال، أسطورة المخابرات الجزائرية، صانع سلاح الإشارة، وزير التسليح في الحكومة المؤقتة، تلكم مهام وصفات لم تجتمع إلا في رجل واحد خاض عباب أعظم ثورة في العصر الحديث ورسم لها طريقا إلى بر الأمان، ويعتبر بحق أب المخابرات الجزائرية.. إنه باختصار عبد الحفيظ بوالصوف عضو مجموعة الاثنين والعشرين.

بمجرد ذكر اسم المجاهد البطل المعروف بـ«سي مبروك” تعود الذاكرة إلى تلك الحقبة الاستعمارية، وإلى البطولات التي دوّت أرجاء المعمورة برجع صداها القوي المدوي ومفعولها السحري في ما عداها من الثورات ضد الامبريالية والاستعمار.
لقد ارتبط اسم عبد الحفيظ بوالصوف بالثورة إلى حد أن أصبح أحد مرادفاتها، وتحوّل إلى رمز من رموز الثورة ورمز للتضحية والبطولة والجهاد والنضال، وأصبح مثلا يحتذى به في الكفاح والجهاد والنضال والسياسة والتخطيط والاستخبارات.
البحث في تاريخ مجاهد ومناضل سياسي، عشق العمل السري والمخابراتي، تلفّه الكثير من المصاعب، بحكم التكتم الشديد الذي يلازم أي رجل مخابرات، فما بالك بـ«أب المخابرات الجزائرية” عبد الحفيظ بوالصوف، فلم يكن أمامنا سوى أقرب الناس إليه، ابن عمه وأخوه في الرضاعة عبد المالك بوالصوف، المولود بتاريخ 1930، الذي أبى إلا أن يسرد شهادته على هذا ”الطفل” البطل، ويحكي تفاصيل قصة بطولة وقّعها عبد الحفيظ بوالصوف بألوان الراية الجزائرية، وكذا باحثين متخصصين.
استقبلنا عمي عبد المالك بحفاوة وصدر رحب، ليكشف من خلال ”الخبر” عن أهم بطولات الرجل السر، حيث قال لنا إن عبد الحفيظ لم يكن ليصبح أحد أبطال أكبر ثورة في التاريخ الحديث لولا أنه جمع بين عدة خصال وفضائل قلما اجتمعت في غيره من القادة، مكّنته من قيادة دولة وسياسة قادة.
لقد أعطى الثورة كل ما أمكنه أن يعطيها فأعطته بدورها الخلود والكبرياء والمكانة والسمو، كانت الجزائر شغله الشاغل، فهي أمه وهي أبوه وهي الزوجة وهي الأبناء، لقد وهب حياته للجزائر ولا شيء غير الجزائر، حيث قال ذات يوم بعد أن اعتزل العمل السياسي بعيد الاستقلال: ”لا سياسة بعد اليوم، قمنا بالواجب ولا نبتغي بعد ذلك شيئا”. هي كلمات لا يقولها إلا العظماء من أمثال عبد الحفيظ، الذين خُلقوا لسياسة الأمم وقيادة الرجال، لقد اختير لما حباه اللّه من ذكاء ثاقب وبعد نظر، وقوة تمييز فطرية وقوة تحمل عالية ورزانة، وكتمان منقطع النظير، فأهّلته تلك الصفات ليكون أحد أعظم قادة نوفمبر المبارك.
عبد الحفيظ بوالصوف الذكي العبقري كان يعرف الرجال ويختارهم لمهامهم المناسبة بقوة التمييز الفطرية التي كان يشهد له بها كل من عرفه، فقد كان لا يخطئ في اختيار الرجال وفي المهمات التي يكلفهم بها، وكان يتمتع بقوة إقناع غريبة يخضع أمامها كل من يكلمه، فعاد كل ذلك بالخير على الثورة النوفمبرية الخالدة.

files.php


عبد الحفيظ.. الطفل الذي طُرد من المدرسة بسبب مواقفه الوطنية
واستطرد محدثنا في الحديث عن طفولة عبد الحفيظ، حين قال إنه لم يتمتع كبقية أقرانه من الأطفال بطفولته ولم يعرف ذوقا لتلك الطفولة الحالمة، لأن عبد الحفيظ خلق لمهمة تحمّل أعباءها في سن مبكرة، وأدرك منذ سن السادسة أنه صاحب مهمة وطنية منذ أول وهلة، هكذا هو عبد الحفيظ.
يقول الحاج عبد المالك إن عبد الحفيظ كان منذ صغره متميزا، يختلف عن غيره من الأطفال وأشقائه، لقد كان قليل الكلام، حاد النظر، هادئا، لا يخالط، منضبطا في حياته، ”حتى إننا كنا ننزعج من كثرة سكوته، لسانه لا ينطق بشيء ولكن عقله وملامحه توحي بما يدور في سريرته”، يضيف الحاج عبد المالك، قائلا ”كانت كثيرا ما تدور بيننا مناوشات بسبب غلظته وقلة كلامه”.
حكاية عبد المالك مع عبد الحفيظ تنحصر في هذه المرحلة الهامة من حياة هذا العبقري، لقد عاش معه في منزل واحد وتحت سقف واحد يقول عبد المالك: ”حين توفي والدي وتركني وعمري لم يتجاوز سن الثالثة تكفل بي أبو عبد الحفيظ المدعو خليل، وتكفلت أمه برضاعتي، ولذلك فأنا أخوه من الرضاعة. لقد برقت غيرته على الوطن وحبه لبلاده منذ سن مبكرة، فنبغ في السياسة وبدأ يسأل عن أمور لم نكن نحن نفهمها”. وهنا قصّ عمي عبد المالك قصت عبد الحفيظ الأولى في المدرسة، والتي كانت وراء متاعبه بعد ذلك: ”كان يدرس في السنة الثالثة ابتدائي، سنة 1936، وذات يوم كتب لهم المعلم الفرنسي الجنسية عبارة مفادها أن الجزائر فرنسية، فقهقه عبد الحفيظ مستهزئا من كلامه، فسأل المعلم من هذا الذي يقهقه ويضحك؟ فردّ عبد الحفيظ بالقول بعد أن أخفى رأسه تحت الطاولة ”الأنديجان”، فثارت ثائرة المعلم وبدأ يراقبه ويتابع حركاته داخل القسم”. وأضاف ”اكتشف المعلم ذات يوم علم الجزائر مرسوما على الغلاف الخارجي لكراس عبد الحفيظ، فراح يبحث له عن حجج لإبعاده وطرده من المدرسة، وكان عبد الحفيظ، حسب رواية أخيه من الرضاعة عبد المالك، ضعيف البصر، فطلب منه نظارات وبعد مدة قصيرة طُرد من المدرسة بزعم قلة بصره وعدم توفره على نظارات طبية مناسبة، وكان ذلك عذرا أقبح من ذنب.
انخرط في حزب الشعب وعمره لم يتعد سن السادسة عشر، وأتذكر جيدا يقول محدثنا ”أنه وثلاثة معه، منهم علي زغدود، كانوا كثيرا ما يجتمعون داخل محل صغير للمواد الغذائية وسط ميلة القديمة، وتدور بينهم أحاديث في سرية تامة ولا يدخل معهم أي شخص آخر. ولأن ذكاءه ثاقب وحساباته دقيقة أدرك أنه طفل غير مرغوب فيه، وأنه سيواجه متاعب كبيرة من قِبل الأعداء ففهم الرسالة وانتقل إلى مدينة قسنطينة، بعيدا عن أنظار الاستعمار وعيونه.

رحلة الكفاح والنضال السري تنطلق من قسنطينة
في قسنطينة، يقول عبد المالك، اشتغل في مغسلة ملابس تابعة لأحد الفرنسيين، وقد نال إعجابه ورضاه لجدّيته وانضباطه وسرعة بديهته، وقضى مدة سنتين، وفي تلك الفترة يواصل الشيخ عبد المالك، اتخذ عبد الحفيظ من مقهى تقع بباب القنطرة مقرا لسكناه، ولم يعد إلى بيت العائلة بميلة طيلة تلك المدة خوفا من مكائد الاستعمار.
يضيف الحاج عبد المالك، ”وذات يوم من سنة 1949 قررت زيارته وفاجأته وهو في تلك المقهى وكانت بين يديه مجموعة من بطاقات التعريف الوطنية، قد تكون لأشخاص انخرطوا في حزب الشعب، فلما رآني رمى كل البطاقات أرضا حتى لا أرى ما يفعل ولا أفهم ما يقوم به، لأنه لا يحب أن يطّلع أحد على أعماله، ثم تحدث إلي بشدة ونهرني، قائلا ”ما الذي جاء بك إلى قسنطينة وأنت صغير، وقسنطينة كلها مشاكل ومخاطر؟”، فقلت له جئت لزيارتك فردّ علي بالقول بلّغ تحياتي وسلامي الحار لوالدي وإخوتي، ثم أعطاني مبلغا من المال وطلب مني العودة إلى ميلة. وكانت تلك اللحظة الأخيرة التي يلتقي فيها عبد المالك بعبد الحفيظ ولم يعاود زيارته.

زيارته السرية لميلة رفقة زيغود يوسف ورابح بيطاط
يأخذ الحاج عبد المالك نفسا ثم يواصل اعتصار ذاكرته ليستقطر منها ما جادت به بعد السنوات الثلاث، وأتذكر جيدا يقول محدثنا ”كنت وبعض أصدقائي جالسين أمام مسجد ”أبو المهاجر دينار” أو كما يعرف بمسجد ”الكازيرنا”، وكان معي شخص اسمه مغلاوي وقد لمح شخصا فقال لي: انظر ذلك الشخص يشبه عبد الحفيظ، فرحت أتبعه خفية وأقتفي آثاره، وحين تأكدت أنه هو شخصيا توجهت إليه وسلّمت عليه وكان يرتدي ”قشابية” مطلية بالزيت وبالية للتمويه، بحيث توحي بأنه متسوّل، وكان رفقته شخصان في الهيئة نفسها، هما رابح بيطاط وزيغود يوسف. فقلت له: ”إن أمك مريضة ويا ليتك زرتها”، فاقترب مني وقال لي ”لا أستطيع بلغ لها تحياتي فإنني مراقب ومبحوث عني”. ثم طلب مني أن أحضر له خبزتين من ”الكسرة” من عند أمه، وأوصاني بأن أضع تلك ”الكسرة” على حجرة تم الاتفاق بيننا عليها، وألحّ علي بألا انتظره، يقول عبد المالك، ففعلت، لكني لم أستطع أن ابتعد عنه وبقيت أراقبه من بعيد فذهب إلى مكان يدعى ”رحى الرومي” حيث كانت تتواجد عين مياهها باردة عذبة المذاق، وهناك تناولوا تلك الكسرة وشربوا من مياه تلك العين.


حرقة الأم وتعاسة العائلة
وعن عائلة القائد عبد الحفيظ بوالصوف، قال أخوه في الرضاعة: ”لم تنعم أم عبد الحفيظ بحياة كما كانت ترتضيها لنفسها، فقد نغّص عليها عبد الحفيظ أيامها ولحظات حياتها، لقد غادرها وهو في سن لا يزال فيها بعض أقرانه يجلسون في حجور أمهاتهم. لقد دفن مشاعر المحبة والأمومة مبكرا”.
لم تكن الأم تعرف لذة للنوم وابنها عبد الحفيظ بعيد عن أعينها لا تدري مصيره ولا تعرف مبيته ولا ملبسه ولا مأكله ولا تسمع شيئا عنه، لقد تعبت كثيرا ولم تعد الدموع تجف عن مقلتيها، وأما الوالد فلم يكن بأحسن حال منها فقد كان هو الآخر يتعذب يوميا، كانوا جميعا محرومين من حديثه وجلسته، واكتووا بنار غيابه وحرقة بعده.
وزاد من معاناة أفراد العائلة المداهمات الليلية والقمع الذي سلطه الاستعمار عليهم، فدارهم لا تكاد تخلو من الجنود الفرنسيين الذين يقتحمون حرمة المنزل في أي لحظة وحين، بحثا عن الطفل الثائر. لكن عبد الحفيظ الذي سبّب لوالديه ولجميع الأهل متاعب لا تطاق كان لا يثق في أحد ولا يزور أحدا ولا يتنقل إلى ميلة بتاتا، رغم أنه وضع عيونا له بالمدينة لاقتفاء كل كبيرة وصغيرة تجري. وحين أدرك أن الأوضاع لم تعد آمنة بميلة وحتى بقسنطينة، وأنه أصبح مطلوبا بشدة غادر قسنطينة نحو سكيكدة رفقة زيغود يوسف، يقول عبد المالك بوالصوف.


عاش غريبا عن العائلة ومات غريبا عنها وكره السياسة
عاش عبد الحفيظ بعيدا عن عائلته، ولم يسمح له نشاطه السياسي وانخراطه في العمل الثوري مبكرا بأن يتمتع بالبقاء مع عائلته، فكانت صلته بالعائلة والإخوة منقطعة تماما إلى غاية الاستقلال، فقد مات أبوه ولم يحضر جنازته، وماتت أمه ولم يحضر أيضا جنازتها، وحتى بعد الاستقلال حين عاد عبد الحفيظ بوالصوف إلى ميلة لم تكن عودة عادية، ولكن بأي طريقة، حين مات ابنه مراد حضر من تونس في سرية تامة وأقام دار العزاء ببيت أخته وغادر مسرعا ولم يبت حتى في المنزل، ومات أخواه عبد العزيز والرشيد ولم يحضر جنازتهما أيضا. ليردف محدثنا لقد تعذب كثيرا وتألم أيما ألم، وتأثر وحزن لموت كل هؤلاء وقد حرم من حياتهم وحرم من الحضور في تشييعهم، ولم يبق من عائلة عبد الحفيظ بوالصوف حاليا سوى الزوجة التي تقيم في العاصمة وقد تقدّمت في السن والابن الوحيد زهير المتواجد بكندا.
ولم يدخل الجزائر إلا بعد تنحية بن بلة من الحكم وحين رجع قال: ”لقد قمت بواجبي والآن سأتفرغ لعائلتي”، ردا على من عرضوا عليه مناصب في المسؤولية. ويحكي الحاج عبد المالك أنه عرّى عن ذراعيه وقال ”بهذه الأيدي أحضر قوت أبنائي”، ملمحا إلى عدم عودته للعمل السياسي.
كان بوالصوف يتردد على مسقط رأسه بمعدل أربع مرات في الأسبوع، يلتقي خلالها ببعض أصدقائه والمقربين من عائلته وأصحاب والده ولا يخالط غيرهم. وكان لا يحكي أبدا في السياسة ولا يسمح بذلك، ولا تكاد تراه إلا مازحا ضاحكا ومداعبا، لأنه كان يحب التنكيت. كان أيضا يحب الأكل التقليدي والخضروات الطبيعية، ونصح ابن عمه عبد المالك ذات مرة قائلا ”أنصحك بأن تشتغل في كل شيء ولو كناسا للشوارع إلا السياسة”.
وأضاف محدثنا: ”هكذا قضى بوالصوف طفولته القصيرة في مسقط رأسه بميلة التي لم يطل بها البقاء، فقد غادرها في سن السادسة عشر ليقطع حبل وصاله بها إلى أن حقق مبتغاه واستقلت الجزائر، حينها اعتزل العمل السياسي وعاد إلى مسقط رأسه مواطنا بسيطا زائرا، وهو يحنّ إلى تلك الأرض التي أنجبته وتلك الربوع التي احتضنته وأولئك الخلان الذين تركهم في عهد الطفولة”.

منزل العائلة صار خرابا.. وتمثاله الشاهد الوحيد على بطولته
لم يعد المنزل العائلي لـ«أب المخابرات الجزائرية”، الكائن بمدينة ميلة القديمة الأثرية، سوى أطلال بفعل الإهمال الذي طاله وتجاهله من الجميع، وقد تهدّم ولم يبق منه سوى بعض الجدران الهشة. ويسعى البعض لتحويله لمتحف بعد ترميمه. وبالمقابل صُمّم لوزير التسليح في الحكومة المؤقتة تمثال تخليدا لكفاحه وبطولته، وهو التمثال الوحيد الذي يحفظ لهذا البطل مناقبه ومآثره للأجيال. والغريب، وحسب بعض الروايات، أن الكثير من أبناء ميلة لا يعيرون اهتماما كبيرا لهذه الشخصية التي خرجت من بطن ميلة القديمة. وتبيّن الأسباب أن عبد الحفيظ الوطني الوفي لبلاده، لا يعتبر نفسه ابن مدينة معينة ولكن ابن الجزائر. فلم يفضّل ميلة على غيرها من المدن الجزائرية، وهو على ما يبدو ما لم يرق أهل دياره، ولكن ذلك لا يقدّم ولا يؤخّر في مكانة الرجل الذي عاش للجزائر ولم يعش لمدينة، شأنه في ذلك شأن رفيق دربه ابن ميلة الآخر لخضر بن طبال.

الأستاذ بوعروج نور الدين لـ”الخبر”
”بوالصوف سابق لعصره ووحيد زمانه”

files.php

يروي الأستاذ والباحث نور الدين بوعروج بعض تفاصيل نشأة البطل ”سي مبروك” وعبقريته في الكفاح والنضال، موضحا أن عبد الحفيظ نشأ في عائلة متواضعة، فأبوه خليل كان فلاحا، ودرس عبد الحفيظ القرآن الكريم في سيدي عزوز بميلة، قبل أن يلتحق بالمدرسة الابتدائية ويحصل على الشهادة الابتدائية، وكشف عن ذكاء ثاقب وفطنة عالية ونباهة فائقة، لكن وضعه الاجتماعي وظروف الاحتلال حالت دون أن يواصل دراسته.

يشير نور الدين بوعروج إلى أن بوالصوف اشتغل في الحقول والمزارع والأعمال الفلاحية إلى غاية الحرب العالمية الثانية حين كان عمره 19 سنة، وكان يجهر بمواقفه الجريئة المعادية للاستعمار وهو شاب، ما جلب له متاعب جمة مع السلطات الاستعمارية التي كانت تقوم بتوقيفه في كل مرة.



بداية العمل السياسي
وبعد المضايقات المتكررة له غادر ميلة نحو قسنطينة سنة 1942، وانخرط في حزب الشعب الجزائري وعمره لم يتعد السادسة عشر بعد، وهناك التقى بأربع شخصيات، هم محمد بوضياف والعربي بن مهيدي ولخضر بن طوبال ورابح بيطاط الذي تربى في ميلة.
في سنة 1948، بعد سنة من تأسيس المنظمة الخاصة، أصبح أحد المسؤولين الرئيسيين في المنظمة، وعمل على خلق ونشر الخلايا في الشمال القسنطيني، وأبان عن قدرة فائقة على التنظيم.
في سنة 1950 ولما اكتشف سر المنظمة وأصبح أعضاؤها مطاردين من قِبل الاحتلال اضطر للرجوع إلى ميلة، واتخذها مخبأ مؤقتا له، ولم يكن يبيت فيها بل يتنقل بين البساتين والضواحي تخفيا من عيون الأعداء.
في سنة 1951 عيّنته حركة انتصار الحريات الديمقراطية رئيس دائرة الحزب في وهران، ومارس مسؤوليته وهو باق في اتصال مع الأعضاء الخمسة غير المعتقلين، ومنهم العربي بن مهيدي وعبد المالك رمضان والحاج بن علي وأحمد زبانة.
في سنة 1952، يقول الأستاذ بوعروج، عاد إلى سكيكدة لترتيب وتنظيم الحركة هناك، ولما نشأت اللجنة الثورية للوحدة والعمل سنة 1954 انضم إليها، ثم عمل على نشر خلايا لها في القطاع الوهراني.
كان بوالصوف أول من ترأّس الاجتماع التحضيري للجنة 22، يؤكد الباحث بوعروج، بتحضيره للأجواء في منزل صاحب المنزل دريش إلياس، العضو الثاني والعشرين. وهو الاجتماع الذي مهّد للاجتماع الرسمي الذي ترأّسه محمد بوضياف في أول نوفمبر من سنة 1954.
عُيّن بوالصوف نائبا لقائد المنطقة الخامسة العربي بن مهيدي، وفي سنة 1956 شارك في مؤتمر الصومام، ليصبح عضوا في المجلس الوطني للثورة، ويقلّد في شهر سبتمبر من السنة نفسها رتبة عقيد على رأس الولاية الخامسة، خلفا لبن مهيدي الذي عُيّن في العاصمة.

بروز بوالصوف كقائد مخابرات فذّ
وهنا تظهر الصفات الكاريزماتية للرجل، حسب محدثنا الأستاذ بوعروج، فقد اتسم بوالصوف بقوة الشخصية والذكاء الثاقب وقوة الكتمان والصرامة والجرأة والبساطة والانفتاح، إلى جانب خفة الروح فهو محب للتنكيت والروية وضبط النفس. كل ذلك أهّله ليكون بارعا في تنظيم الولاية الخامسة تنظيما محكما، وإنشائه لمكاتب الاستقبال والاتصال، واضعا بذلك قاعدة للنواة الأولى للمخابرات الجزائرية.
ونجح في تسليح الثورة الجزائرية وكان صاحب فلسفة، إذ هو القائل ”لا يمكن لثورة أن تنجح إذا لم تتوفر على أسلحة قوية، وليست هناك ثورة مسلحة لا تصنع سلاحها بنفسها”. وأشرف سنتي 1960 و1961 على تكوين طيّارين مختصين في المروحيات بالمغرب، بعد أن اقتنى مروحيات من روسيا والصين وتكفل بإدخال السلاح للجزائر، بعد أن أنجزت فرنسا خطي شال وموريس.

أسقط عملاء عرب عملوا لصالح ”سي.أي.أي”
يكشف الأستاذ والباحث بوعروج عن مهارة وبراعة بوالصوف في الاستثمار في العمل الاستخباراتي، بالقول بأن ”بوالصوف استطاع أن يجمع 8 مليارات فرنك فرنسي قديم من تجارة الاستعلامات الدولية لفائدة خزينة الثورة، وقيل إنه باع للولايات المتحدة الأمريكية وللصين ولليابان معلومات استخباراتية تخص شؤون دولية. كما كشف أمر عميل أمريكي استنطقه وحصل منه على معلومات تخص وزراء عرب عملاء للمخابرات الأمريكية، وأخبر حكوماتهم بذلك.
كما استطاع أن يجنّد النساء في العمل المخابراتي، ومنها سكرتيرة في ”الناتو” تعمل لجنرال كبير بهدف الحصول على أجهزة الإشارة للتجسس على الاتصالات الفرنسية.

اخترق الحكومة الفرنسية ويجنّد وزرائها لصالح الجزائر
وقام بتجنيد بعض وزراء فرنسا كعملاء للثورة، منهم ”ميشال دوبري” رئيس وزراء حكومة ديغول، ووزير الاقتصاد ”فوركاد”، ووزير الفلاحة ”إدغار بيزاتي”، تجنيد رجال أعمال عالميين، كما قام بتشكيل فرقة الضفادع المائية العسكري وتجنيد المليونير اليوناني ”أوناسيس”، الذي تزوج بامرأة الرئيس الأمريكي الراحل جون كينيدي.

تقلّد عدة مناصب حساسة
وقد تقلّد بوالصوف عدة مناصب، منها تكليفه بلجنة التنسيق والتنفيذ، وبالمخابرات والمواصلات، ثم عُيّن وزيرا في الحكومة المؤقتة وزيرا للاتصالات العامة والمواصلات، ثم وزيرا للتسليح والاتصالات العامة، بناء على توصية من المجلس الوطني للثورة، كما لعب دورا هاما في السنوات الأخيرة للثورة في إطار اللجنة الثلاثية لحماية الثورة وحفظ التوازن، إثر اختلال في التوازنات.

بوالصوف استسلم واعتزل بعد وصول بن بلة إلى القيادة
واستنادا إلى مصادر موثوقة، يقول الأستاذ الباحث نورالدين بوعروج، ومن المجاهد أمين سر بوالصوف عبد الكريم حساني رحمه اللّه، فإنه ”في لقاء بينه وبين عبد الحفيظ بوالصوف اعترف هذا الأخير، في أواخر سنة 1960، بأنه فقد وزنه داخل مؤسسة الثورة لصالح بن بلة، وتمنى له التوفيق”، واستطرد قائلا: ”كنت أنتظر أن يصدر منه أمر بالوقوف إلى جنبه، ولكن بدا عليه بعض الاستسلام للأمر الواقع”. وأدرك ذلك بعد التحاق بومدين قائدا للأركان، وفهم أن تلميذه قد خرج من تحت جبّته.
وعليه اعتزل العمل في الدولة بعد الاستقلال مباشرة، وقال كلمته المشهورة ”بالرغم من ذلك فإنني في خدمة الدولة الجزائرية”، وتفرّغ لأعماله الخاصة إلى أن وافته المنية في باريس ذات أربعاء 31 ديسمبر 1980، وذلك إثر آخر ضحكة ضحكها في مكالمة هاتفية مع أحد أحبابه من الجزائر، وهي الضحكة التي أوقفت نبضات قلبه في سن يناهز 54 سنة.

من طرائف بوالصوف
جمع ”سي مبروك” بين صفات متناقضة فقد عرف بالصرامة والانضباط في مقابل النكتة والانبساط، ومن تلك النوادر التي رواها الأستاذ بوعروج أنه ”عندما زار بن بلة القاهرة في وفد لمقابلة جمال عبد الناصر، من بينه بوالصوف حاول هذا الأخير التجسس على فتح الذيب رئيس مخابرات مصر بطريقة ذكية، فيها نوع من الطرافة أزعجت فتح الذيب، الذي قال عنه ”إنه ذكي خبيث متلون الميول”، حيث كان يطّلع على وثائق فتح الذيب التي كانت على مكتبه ويتعرّف على بعض أسراره، ولما عاد إلى مكتبه في تونس طلب مكتبا أعلى على جالسيه حتى لا يطّلع غيره على أسراره، وقد أكد ذلك المجاهد محمد لمقامي”.
كما قال لضابط ألماني اشترط للانضمام للثورة خمسة شروط، منها الجنسية الجزائرية والإبقاء على رتبته بعد الاستقلال وأجر عال وزوجة جزائرية، فقال له بوالصوف ”لم يبق لك سوى أن تشترط شخصا يحمل لك شمعة عند الدخلة”، ثم وجد حيلة لصرف نظر الألماني عن الزواج بقوله ”لست مختّنا، ولا يجوز زواجك من جزائرية”.

شهادات رفقاء الدرب

علي مجدوب الأمين العام لجمعية ”المالغ”
قال علي مجدوب لـ«الخبر”: إن بوالصوف كان رجلا استثنائيا في الثورة الجزائرية، كان قاسيا لكن في إطار العمل الثوري الذي يقتضي مثل تلك القساوة، لكنه كان متواضعا جدا، لقد كان العقل المدبّر ومحاورا محنّكا للاستعمار، خاصة في مفاوضات إيفيان التي كانت محفوفة بالفخاخ، لكن بوالصوف كان أول من يفكّ عُقد المفاوضات. كان يتميز بذكاء خارق للعادة، ونجح في وضع أسس العمل المخابراتي في الجزائر، وبتشديده على رقابة كل هيئة وجهاز. لقد فضّل بوالصوف الانسحاب من العمل السياسي وإدارة الدولة، تجنّبا للصراعات وخدمة للمصلحة العليا للبلاد.
وعن قضية عبان رمضان، قال مجدوب هي مأساة وطنية، ولا تخلو أي حرب من مآس، وسيكشف التاريخ عن حقيقة نهاية عبان رمضان. إن ما حزّ في نفس بوالصوف، يقول محدثنا، هو اختفاء أرشيف الثورة بعد العودة من طرابلس ولم يظهر له أثر إلى اليوم.

عبد السلام عبد الحفيظ عباد عضو مكتب ”المالغ”
بوالصوف رجل ثورة ورجل دولة وسياسي محنّك، عُرف بعدة خصال، كان متواضعا وصارما وله مهابة، كان يقيم معي بعد الاستقلال في نزل ”السفير”، وكان دوما يوصي باستقرار الجزائر، حيث كان يقول: دعوا الجزائر تنعم بالحرية والاستقلال ولا تتدخلوا في شؤون الدولة، واتركوا العنف والصراعات جانبا، لأن الشعب الجزائري عانى كثيرا وآن له أن ينعم بالاستقرار.

الحاج السعيد حملاوي أحد رفاق الطفولة لبوالصوف
قال عمي السعيد حملاوي، أحد رفاق طفولة بوالصوف، إن العقيد الراحل المجاهد عبد الحفيظ بوالصوف كشف له قبل وفاته بأيام قليلة بأنه تمكّن من زرع جواسيس حتى داخل مفاصل مؤسسة الرئاسة الفرنسية. وعن خلافه مع بومدين قال حملاوي إن ”الخلاف تبدّد بعد الاستقلال، وصار بينهما احترام متبادل، حتى إن بومدين كان ينادي بوالصوف بـ«المعلم”، وقد حضر محدثنا جنازة بوالصوف بالعاصمة، حيث طلب من الرئيس الشاذلي آنذاك أن يحظ المرحوم بجنازة رسمية وأن يدفن في ميلة مسقط رأسه، لكن الشاذلي أمر بدفنه في مربع الشهداء بمقبرة العالية، تقديرا لبطولته وجهاده ووطنيته.
تجدر الإشارة إلى أن ندوة فكرية تاريخية نُظّمت، مؤخرا، تخليدا للذكرى الثالثة والثلاثين لوفاة البطل بوالصوف، والتي نشّطها بعض رفقاء درب المرحوم من جمعية ”المالغ”، كما عُرض الفيلم الوثائقي الذي يحمل عنوان ”عبد الحفيظ بوالصوف أسطورة المخابرات الجزائرية” للمخرج عبد الباقي صلاي.

أزمة عبان رمضان التاريخية
من أسرار أرشيف الثورة الذي سُلّم لقيادة أركان الجيش بقيادة هواري بومدين الذي جاء فيه تفاصيل محاكمة عبان رمضان التي أقيمت لجنة لأجلها تتكون من كريم بلقاسم والشريف بلقاسم وفرحات عباس ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بوالصوف، وجاء في المحضر غياب فرحات عباس وبن طوبال. وخلال المحاكمة طُرح سؤالان: هل عبان رمضان خطر على الثورة؟ وهل يستحق الإعدام؟ وبعد المداولة في الموضوع حكمت اللجنة بخطورة عبان رمضان على الثورة، واستحق بذلك الإعدام وكُلّف بوالصوف بتنفيذ حكم الإعدام. وقد طُلب من عبان التوجه للمغرب لمقابلة الملك محمد الخامس للحديث عن شؤون الثورة، وكان شخص يدعى إيدير، أمين عام وزارة التسليح، قد نبّه عبان إلى أن في الأمر مؤامرة، وربما سيُقتل، فردّ عليه عبان ”الموت واحد وأنا لا أخافه”، وعندما وصل إلى المغرب وجد في انتظاره مجموعة وعلى رأسها بوالصوف، فركب في سيارة هذا الأخير ولم يُر له أي أثر بعد ذلك.

أنقذ مدينة ميلة القديمة من القتل الجماعي والتهديم الكلي في 8 ماي 45
يروي شهود من ميلة، ومن بينهم الأستاذ بن زرافة محمد الصالح، محام ومجاهد من ميلة، أن عبد الحفيظ بوالصوف كان مفعما بالوطنية منذ صغر سنه، حيث أنقذ مدينة ميلة القديمة من دمار شامل وهدم كلي، بعد أن جاءت وحدة من الجيش الفرنسي في الثامن ماي 1945، وحطّت ترسانتها الحربية من مدافع بأعالي ميلة، ووجهت فوهات مدافعها نحوها، وكان على رأس وحدات الجيش الفرنسي مغربي يسمى إدريس، فعلم بوالصوف بأن القائد يدعى إدريس، وكان من بين سكان ميلة مغاربة من عائلة إدريس، فسارع وبعث بالعيد إدريس وأخيه بوعزة للضابط الفرنسي- المغربي، وطلبوا منه عدم تدمير المدينة فاستجاب لنداء أبناء عمه، وبذلك أنقذ بوالصوف المدينة من دمار حقيقي، وهذا ينم عن فراسة البطل بوالصوف ونباهته منذ صغره.


 
حقا هو بطل من أبطال الجزائر و الأب الروحي لجهاز المخابرات الجزائري M-A-L-G آن ذاك
 
حقا هو بطل من أبطال الجزائر و الأب الروحي لجهاز المخابرات الجزائري M-A-L-G آن ذاك

تصحيح لمعلوماتك كلمة m.a.l.g تعني وزارة التسليح والتنسيق العام وهي هيئة تابعة للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خلال حرب التحرير سليفة الامن العسكري s.m " المخابرات الجزائرية".
 
عودة
أعلى