سلسلة من صحابة الرسول صلي الله عليه وسلم

فَضالة بن عمير الليثيّ/د. عثمان قدري مكانسي

فَضالة بن عمير الليثيّ

الدكتور عثمان قدري مكانسي​



دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مكة عام الفتح يقود جيش الإيمان، فاستقبله البيت الحرام وأهله استقبالاً رائعا ًدلّ على أن دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها هو الذي ترضاه العقول السليمة.

دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على ناقته القصواء حانياً ظهره، ساجداً لله عزّ وجلّ، شاكراً له فضله، متواضعاُ لعظمته وطاف حول الكعبة وهدم الأصنام كلها، وكبّها على وجوهها، فعاد الدين كما كان ديناً قيماً ملّة إبراهيم حنيفاً .

وجاء الناس أفواجاً يعلنون الدخول في هذا الدين العظيم، ونبذ الشرك والتبرؤ منه، وعفا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عمّن آذوه، وكادوا له، وأذاقوه العذاب ألواناً، فقال لهم قولته المشهورة: اذهبوا فأنتم الطلقاء العتقاء .

وكان فضالة منهم أعلن لسانه الإسلام، وأضمر قلبه العداء للدين ورسوله، وبحث عن فرصة سانحة يدنو فيها من الرسول الكريم فيقتله ، فلم يجد خيراً من طواف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالكعبة، فدنا منه حذراً متأهّباً، نوى الغدر، وكانت عيناه وحركاته تنبئ عن ذلك، لكنّ الله تعالى عاصمٌ رسولـَه،{ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } وحافظ ٌدينه ، أخبره بما نواه فضالة هذا وما بيّتَ له،
فهل غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من الرجل وأمر أتباعه أن يقتادوه إلى زنزانة تحت الأرض مظلمة، تفوح منها رائحة التعذيب والإرهاب، يقف عليها الزبانية المجرمون ؟!

هل أمر بقتله فوراً، فأطلق حراسُه عليه سهامهم وحرابهم، وقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً ؟!

ماذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؟

وكيف تصرّف وهو ينظر إلى هذا الرجل الذي يدنو منه رويداً رويداً، يتربص به فرصة سانحة، لينقضّ عليه بخنجره المسموم وطعنته القاتلة ؟

لما دنا منه فاجأه الرسول - صلى الله عليه وسلم- قائلاً :
أفضالة ؟

فأجاب بسرعة دلّت على ارتباكه : نعم، فضالة يا رسول الله... ذكر كلمة يا رسول الله موحياً بإيمانه بالله ورسوله، ساتراً ما نابه من خوف كاد يكشف أمره، فينال عقابه.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ( ماذا كنت تحدث به نفسك ؟).

ازدادت نبضات قلبه إذ فوجئ بسؤال يكشف سرّه، ويعرّي نيّته الأثيمة، فقال موارياً: لا شيء .. ثم تذكر أن هذا مقام ذكر ودعاء وعبادة، هكذا يقول محمد، فاستدرك قائلاً: كنت أذكر الله...!! فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم- من حسن تخلص فضالة من هذا الموقف الصعب، وقال له :
( استغفر الله..).

لماذا قال لي استغفر الله يا فضالة، فهو إذن يعرف سبب وجودي هنا.. يا ويلي، كنت القاتل فصرت المقتول.. إن محمداً لا بدّ مقتصّ مني، لقد وقعتُ وَضِعتُ ولمّا أنفـِّذ ما قررته...

لكنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، الرحيم بالمؤمنين، العزيز عليه ما يعنتهم، الراغب بإيمان الناس جميعاً، حريصٌ على أن يدخلوا الجنة، وينجوا من النار جميعاً... مدّ يده الكريمة إلى صدر فضالة ودعا.

ماذا قال يا رب حتى سكن قلبي وهدأ روعي؟! إن لـِيَدِه الشريفة على صدري برداً وسلاماً، ولذة ما تعدلها لذة، إنني أنظر إلى وجهه الشريف الوضاء فأراه يرقبني بمحبة وودّ فأغضّ بصري هيبة وإجلالاً.

أين كراهيته في قلبي؟! لقد انقلبت حباً وشوقاً، حبّاً شديداً له، وشوقاً إلى استمرار لقائه.

أيها المسلمون، يا إخواني ويا أحبائي، والله ما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يده عن صدري حتى ما مِن خلق الله شيء أحبّ إليّ منه.

سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ما هذه القوة الإيمانية الدفاقة التي أشعر بها الآن؟ إنني الآن أسعد الناس فقد هداني الله للإيمان وأذهبَ عني ظلام الشرك والكفر، وتألق نورُ الحق في وجهي، فاطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى أنني الآن إنسان غيرُ الذي كنت، فدعا لي وعاد إلى طوافه، وتبعته أسأل الله العفو والمغفرة وأصلّي على رسوله العظيم ذي القلب الرحيم.

قال فضالة: فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدّث إليها في جاهليتي وأجلس إليها الساعات الطوال فأغرفَ عندها من مستنقع الإثم ورجس الشهوة المحرّمة والضلالة، فنادتني كعادتها: أنْ هلم إليّ يا فضالة، هلمّ إلى من تحبك وتحبّها، وتأنس إليها وتأنس إليك،... إني أنتظرك على أحرّ من الجمر...

إن الشيطان يدعوني على لسانها، ويسعى إلى طمس النور في قلبي وإعادتي إلى الغواية والفساد...فأجبتها بكل ما في النفس من طهارة ونقاء: لا...لا أنا غيرُ الذي كنت تعرفين، أنا فضالة المسلمُ ، فضالة المؤمنُ ، وابتعدت عنها قائلاً:

قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا * يأبـــى عليـــكِ الله والإســـلام
لو ما رأيت محمداً وقبيــــــله * بالفتــــح يوم تكسّـــر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بيّنــــاً * والشرك يغشى وجهه الإظلام​

 
التعديل الأخير:
الشيماء أخت الرسول صلى الله عليه وسلم/د. عثمان قدري مكانسي

الشيماء أخت الرسول صلى الله عليه وسلم

الدكتور عثمان قدري مكانسي​


نصر الله تعالى نبيه في غزوة حنين بعد ما كاد المسلمون يهزمون!.. وكيف يهزمون وفيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بطل الأبطال وسيد الشجعان؟!!.

فقد نصب المشركون كميناً لهم ففاجأوهم فولّوا الأدبار إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ثبت على بغلته ومعه العباس وعدد من المسلمين، فأمر عمّه أن ينادي: يا معشر الأنصار يا معشر المهاجرين:

أنـــــا النبــــــيّ لا كـــــــذب * أنـــــــا ابـــــن عبـــــــد المــــطلب​

وسمع المسلمون الصوت الجهير الذي عرف به العباس رضي الله عنه، فاجتمعوا إليه، وكان النصر حليفهم، وانقلب السحر على الساحر، وقتل من مشركي هوازن رجالٌ كثير، وهرب الباقون لا يلوون على شيء. تركوا نساءهم وأطفالهم، وأنعامهم، فالأرواح أغلى من كل شيء ، فوقع كل هذا في أيدي المسلمين، وساقوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- .

وكان في السبايا الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة - فقد استرضع في بني سعد بن بكر- فعنّفوا عليها في السياق ودفعوها كغيرها من النساء والأطفال، فقالت للمسلمين: تعلمون - والله- إني لأخت صاحبكم من الرضاعة! فلم يصدقوها حتى أتوا بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، فلما رأته قالت واندفعت إليه: يا رسول الله إني أختك من الرضاعة، فهدّأ من روعها، وأجلسها أمامه وسألها يستوثق حقيقة دعواها: ( ما اسمك؟)
قالت: الشيماء.
قال: ( فما علامة ذلك؟).
قالت: عضة عضضتنيها في ظهري حين كنت أحملك على وِركي – وكشفت فأرته أثرها في ظهرها فبسط رسول الله - صلى الله عليه وسلم- رداءه لها، وأجلسها عليه، وباسطها الحديث حتى سرّي عنها، وقال لها : ( يا أختاه إن أحببت أن تعيشي في بيتي معزّزة مكرّمة فلك ذلك، وعلى الرحب والسعة، وإن أحببت أن أعطيك من المال والنّعم ما يرضيك وترجعي إلى قومك فعلت ) .
قالت: بل أرجع إلى قومي يا رسول الله ، وتمتعني بما أفاء الله عليك .
فمتّعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وردّها إلى قومها ثم قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الفيء والسبي بين المسلمين، وكان خيراً كثيراً من الإبل والشاء ما لا يُدرى عدّته وستة آلاف من الذراري والنساء.

ثم أتاه - صلى الله عليه وسلم- وفد هوازن وقد أسلموا معلنين توبتهم إلى الله تعالى مستغفرين ما بدر منهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :
( إن الإسلام يجبّ ما قبله، وإن الله تعالى يفرح بالعبد التائب الثائب إلى رشده الداخل في حظيرة الإيمان فرحاً يليق به وبكرمه سبحانه ) .

ونظر بعضهم إلى بعض، كأنهم يريدون أن يبدأوا حديثاً يمنعهم منه الحياء، وتدفعهم إليه الحاجة، فتقدّم رجل من سعد بن بكر قوم حليمة السعدية أم الشيماء، يقال له زهير، ويكنى أبا صُرَد، فقال:
يا رسول الله إنما في الحظائر التي وضع فيها السبي عماتك وخالاتك، وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك، يزعم بذلك أنه يريد تحريك مشاعر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- ، والرسول - صلى الله عليه وسلم- أشدّ الناس شفقة، وأكثرهم بهم رحمة، وأحناهم عليهم، وأرحمهم بهم .
ثم أردف قائلاً: يا رسول الله ، لو أننا أرضعنا للحارث بن أبي شُمّر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وفضله علينا، وأنت يا رسول الله خير المكفولين .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- :
( لقد وُزّع السبي والمال على المحاربين، ولن آلوَ في مساعدتكم. وأخيّركم بين أبنائكم ونسائكم أو أموالكم، فانظروا أحبّ الأمرين إليكم أعطكموه ).
قالوا: يا رسول الله ، خيّرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل تردّ إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحبّ إلينا.
فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم- :
( أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك ما وعدتكم به، وأسأل لكم المسلمين أن يردّوا عليكم ما طلبتم ...)

لم يكن - صلى الله عليه وسلم- ليأخذ حق المسلمين عنوةً أو ليفرض عليهم ما لا يريدون، وهل ينزع عن الناس حقوقهم إلا الظالم المستبدّ ؟! وحاشاه - صلى الله عليه وسلم- أن يكون كذلك، لكنّ هوازن وقبائلها جاءوا مسلمين، وحُقّ للمسلم أن ترتاح نفسه ليكون جندياً صالحاً، وفرداً نافعاً في المجتمع الإسلامي المتكافل المتراحم، وهذا ما يسعى إليه - صلى الله عليه وسلم- .

فلما صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أمام الجمع الغفير:
أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم .

- وقال المهاجرون رضي الله عنهم وأرضاهم، وهم الذين تركوا أموالهم ودورهم وهاجروا إلى الله ورسوله : وما كان لنا فهو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- .

- وقال الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم وهم الكرام البررة الذي آوَوا رسول الله ، وبذلوا للإسلام دماءهم وأرواحهم وكانوا مثلاً عظيماً في الإيثار: وما كان لنا فهو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- .

أما القبائل الأخرى فقد تمسكت بنصيبها من السبايا فلم تفرّط فيه إلا بني سُليم . فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلا أن قال:
( يا من تمسكتم بحقكم فإني قد وعدت إخوانكم بردّ أبنائهم ونسائهم، فرُدّوا ما عندكم لهم ولكم عليّ بكل إنسان تردّونه ستّ من الإبل، مِن أوّل سبي أصيبه، ولا أراني إلا منصفاً، ومؤدياً ما وعدتكم به، إن شاء الله ).
قالوا: صدقت يا رسول الله .

وردّ الناس إلى سعد بن بكر وإخوانهم من هوازن نساءهم وأبناءهم .

 
زيد بن سعنة:ثم أسلمتُ/د.عثمان قدري مكانسي

زيد بن سعنة:ثم أسلمتُ

الدكتور عثمان قدري مكانسي


قال أحد أحبار اليهود - زيد بن سعنة - الذين أسلموا حين رأوا صفات النبي ـ صلى الله علي وسلم ـ المكتوبة في التوراة واضحةً وضوحاً بيّناً في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لم يبقَ من علامات النبوّة الداعية إلى تصديق الرسول الكريم واتِّباعه علامة إلا وعرفتها إلا صفتين اثنتين لم يتسنَّ لي معرفتهما .
الأولى : يسبق حلمه جهله . . فهو واسع الصدر حليم لا يغضب لنفسه .
الثانية : كلّما جهل عليه أحد زاد حلمه وأضاءت أخلاقه ،
فكنت أزوره وأتطلف له لأستطيع مخالطته والتعرُّف عليه عن كثب ، فلما خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوماً من الأيام من الحجرات ( وهي بيوت أزواجه رضي الله عنهن ) ومعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أتاه رجل بدوي على راحلته ، فقال :
يا رسول الله إن قرية بني فلان قد أسلموا ، وقد أصابهم قحط شديد ، وجوع هدَّ جسومهم ، وأنا رسولهم ، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تعينهم به يكونوا لك شاكرين ، ولأفضالك ذاكرين ،
ولم يكن مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ ذاك شيء يعطيه إياه ، ولا في بيت مال المسلمين ما يكفي ، فقال له : انتظر يا أخا العرب لعلَّ الله تعالى يؤذن بالفرج .
فقلت لنفسي : يا زيد هذه فرصة ذهبيّة فاغتنمها ، لتختبر حلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فدنوت منه فقلت :
يا محمد إن رأيتُ أن تبيعني تمراً معلوماً من بستان بني فلان إلى أجل كذا وكذا ( وكان تمرهم معروفاً بجودته ) فقال :
( لا ، يا أخا يهود ، ولكنْ أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل محدود معروف ولا أسمي بستان بني فلان ) .
فقلت : نعم . فبايعني وأعطيتُه ثمانين ديناراً ، سرعان ما أعطاها لذلك الرجل وقال له :
انطلق إلى قومك راشداً عسى الله تعالى أن يخفف عنهم . .

استدان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخفف عن الناس ، ويقضي حوائجهم ، ويعينهم على نوائب الدهر ، وهكذا القائد يسعى إلى خدمة مرؤوسيه ويسهر على مصالحهم ، ويجهد نفسه ليراهم في موقف مريح ، وحياة طيبة ، أما من يستغل منصبه ليملأ خزائنه ظلماً وعَدْواً ، ويمتص قوت شعبه ، ويفرض عليهم ما يثقل كاهلهم ، ويرهقهم ، ليفوز بالمال ويغنى على حسابهم دون أن يأبه لهم ، لصٌّ لا خير فيه ، ومجرمٌ لا فرق بينه وبين قطّاع الطرق .

قال زيد : فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة ، خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جنازة رجل من الأنصار ، ومعه أبو بكر ، وعمرُ ، وعثمانُ ، في نفر من أصحابه ، فلما صلى على الجنازة أتيتُه ، فأخذت بمجامع ثوبه ونظرتُ إليه متصنِّعاً الغلظة والجفاء ، ثم قلت : ألا تقضي يا محمد حقِّي ، ها قد مرَّ الأجل ولم تلتزم بوعدك فيه ؟ فوالله ما علمتكم ـ يا بني عبدالمطلب ـ لسيّئي القضاء ، مُطـْلاً ، ورأيته وقد أثرت جبذة الرداء في عنقه ، ولم ينبس حتى ذاك الوقت ببنت شفة .

فتحرَّك عمرُ وعيناه تدوران من الغيظ ووجهه محمرٌّ من الغضب واستَلَّ سيفه قائلاً :
أيْ عدوَّ الله أتقول ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ خلِّ عنه ، فوالذي بعثه بالحقِّ لولا العهدُ الذي بيننا وبينكم - معشر يهود - لضربتُ بسيفي رأسك .

ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر إلى عمر بسكون وتبسُّم فقد كان عمر بلسماً لجراحات المسلمين مدافعاً عنهم خادماً لهم ، أفلا يكون كذلك لسيده وسيدهم جميعاً محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ !

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معلماً عمرَ ومعلماً إياي ومَنْ كان حاضراً :
( يا عمر أنا وهو إلى غير هذا منك أحوج ، أن تأمره بحسن الاقتضاء ، وتأمرني بحسن القضاء ، اذهب يا عمر إلى بيت مال المسلمين ، بزيد بن سعنة فاقضه حقه ، وزده عشرين صاعاً مكان ما روّعْتَه وأفزعته ) .

ما هذا الخلق العظيم والحلم الواسع والهدوء الرائع ؟! والله ما يكون هذا إلا لنبي ، وإن محمداً لهو رسول الله حقاً وصدقاً ، وانطلق بي عمر ليعطيني حقي وهو واجد عليَّ ، لكنّه لا يملك إلا التزام أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما وصلنا قال لي : هذا حقك يا رجل ، فخذه ، لا بارك الله لك فيه .
قلت : ( بل إنه سبحانه بارك لي فيه . أتدري يا عمر ؟ ) .
فنظر إليَّ دهشاً وقال : وكيف ذلك يا يهوديَّ ؟
قلت : يا عمر ، كل علامات النبوّة قد عرفتُها في وجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إلا اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهله ، ولا تزيده شدّة الجهل عليه عليه إلا حلماً ، فقد اختبرته بهما ، فاشهد يا عمر أني قد رضيتُ بالله رباً وبالإسلام ديناً ، وبمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبياً ، وإني أشهدك يا عمر أن هذا التمرَ وشطرَ مالي ( نصفه ) إلى فقراء المسلمين .
واعتنق عمر زيد بن سعنة أخاه في الإسلام واعتنق زيدٌ أخاه عمر في الإسلام .
وأسلم أهل بيته إلا شيخاً كبيراً غلبت عليه الشقوة .
اللهم صلّ على حبيبك رسول الله واحشرنا في زمرته المباركة ، وشفـّعْه فينا ... يا أكرم الأكرمين ..

بتصرف بسيط جدا عن رابطة أدباء الشام
 
إن الأرض لا تقدّس أحدا

رقية القضاة​


خرج سلمان الفارسي من المدائن أميرا ،وعاد إليها أميرا،وامتدت رحلته الطويلة المضنية ،مابي العزّ والجاه والنفوذ،ومابين العبودية المرهقة،ومن الشرك والضلال،إلى الهدى والرشاد،واجتمعت له الدنيا حرّا فعافها بحثا عن الحق والنور،وأتته الإمارة راغمة فازدرى بهرجها ومغرياتها ،فأي رجل انت يا سلمان الفارسي؟

[سلمان الفارسي] قرّة عين والده الحاني، أحبه إلى درجة أنّه لم يكن يسمح له بمغادرة المنزل خوفا عليه من كل شيء وأي شيء،ولم يكن ذلك الولد كما لم يكن أبوه يتوقعان ان الأيام المقبلة،ستفرقهما فراق الأبد،ولكن الله يريد لذلك الإبن شيئا ،غير ما اراده أبوه ،في ليلة اضطرّ فيها الأب إلى إرسال ولده في مهمة خارج أسوار ضياعه وقصوره المترامية الاطراف، وتسوق سلمان قدماه إلى كنيسة فيها قوم يصلّون،ويعجب الشاب بصلاتهم ويعود إلى أبيه ويخبره بما رأى، ويخشى الأب أن يفارق ولده دين المجوس ،وعبادة النّار المقدّسة فيقيدة في المنزل،

ويتمكن سلمان من كسر قيده،و ينظر في كل اتجاه من القصر، فيرى المال الوفير، والظل الظليل ،والغنى الفاحش ،والتدليل المتناهي ،ولكنه يسمع في قلبه صوتا اقوى من صوت الرفاهية ،ويحس في نفسه كراهية تامة لهذه القيود الحريرية ،التي يمثلها الجاه والسلطان والذهب ،ويصبو إلى حرّية الروح ،ومعرفة الحق ،والدين الحق، لقد حدثته نفسه كما حدّثه قلبه أن النار لم ولن تكون إلها ،وأي إله هذا الذي إذا لم توقد نوره بيدك فإنّه ينطفيء ويخبو ، وأي ربّ هذا الذي يهدر ويتطاير شرره في كل اتجاه ،وهكذا فرّ سلمان الفارسي الى الكنيسة ،وطلب من الكاهن فيها أن يدله على اصل ديانته، ويدلّه الكاهن على الشام ،ويرشده الى كاهن يقيم فيها ‘ ويلتحق سلمان بأوّل قافلة راحلة باتجاه البلد الذي طارت إليه روحه،وهفا اليه قلبه ،ويصل وجهته التي طالما تمنى الوصول إليها ،ويتعرف على ذلك الراهب الذي ارتحل إليه وهو يظنه ورعا تقيا ندي القلب ،كتلك الترانيم التي سمعها ذات ليلة فجعلته يطوي القفار ،لأجل أن يكون من أهلها ،ولكن قدره يوقعه في يد من ليس بأهل للإتباع ،فالراهب الذي قصده كان مثل سوء لمن إئتمنه اتباعه على صدقاتهم وهباتهم، التي استولى عليها ومنعها ممن قدمت لأجلهم ،وسلمان يرى الظلم ولا يرضاه ،ولكن أنى له الإعتراض على رجل الرب الذي يقدسه أتباعه ويرونه مثالا للزهد والورع ،ويهلك الرجل بعد حين ويدل سلمان الناس على مكان أمواله التي ادّخرها خلسة من قومه ،فيغضبون اشدّ الغضب لتلك السنين التي أمضوها في خديعة من كاهنهم،فيأبون أن يدفنوه ويصلبونه ويرجمونه.ويحلّ محله راهب آخر زاهد صالح عابد ،يحنو على سلمان ويقوم على أمر رعيته ،وتحضره الوفاة فيوصي سلمان باللّحاق براهب صالح في الموصل ،ويظل سلمان يرتحل في أصقاع الارض حتى يصل الى عمورية ،وهناك يوصيه الرّاهب الذي يخدمه بأن يرتحل إلى بلاد العرب ،مبشرا إياه بقرب مبعث نبي من العرب في أرض العرب ،وان يثرب مهاجره،ويرتحل سلمان قاصدا تلك البلاد التي تعطرها نسائم النبوة المنتظرة ،ويعدو عليه قطاع الطريق فيبيعونه لتاجر يهودي ،يحمله إلى يثرب، فيغدو عبدا رقيقا بعد عز وإمارة وحرية ،ولكن روحه تأنس لنخيل يثرب ،وتألف فضاءها الرحيب ،وهو يرى فيها تلك الملامح التي حدّثه بها راهب عمورية الصالح، فيرجو ان يكون من اتباع ذلك النبي المنتظر.

وتشغل قيود العبودية القسريّة سلمان عن متابعة احداث مكة ،ومبعث الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة المنوّرة ،ويسمع سلمان بالنبأ الذي طالما انتظره ،ويتذكر تلك العلامة التي أخبره بها راهب عمورية،[نبي يأكل الهدية ولا ياكل الصدقة] فيأخذ شيئا من طعام كان عنده ويقصد ذلك الرجل الذي تمنى رؤيته سنين طوال،ويدنو سلمان الأمير الأسير المسترقّ ،من النبي الذي بعث برسالة الحق والحرية ،ويقدم له الطعام الذي يحمله قائلا:بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ،وهذا شيء جمعته للصدقة ،ويعطي النبي صلى الله عليه وسلم الطعام لأصحابه ولا يتناول منه شيئا ،ويقول سلمان في نفسه هذه واحدة
وتتجاذبه عاطفته لهذا الرجل وأمانيه في أن يكون هو النبي الذي يرجو ،فيمد له يده بطعام آخر قائلا:إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، وتكون العلامة الثانية للنبي الذي أخبره بها الراهب الصالح ،ويبقى خاتم النبوة بين كتفي الرسول فكيف سيراه سلمان ،ويقدم عليه مرة أخرى ،وقد انصرف صلى الله عليه وسلم من جنازة لاحد أصحابه ويرى سلمان يحاول النظر الى موضع خاتم النبوة،فيلقي الرداء عن ظهره ،وتكون الثالثة وينكب سلمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله ويبكي،ويقص على النبي صلى الله عليه وسلم قصة البحث ،ورحلة الروح الظمأى للحق ،ويشهد ان لاإله الا الله وأن محمدا رسول الله.

ويأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يكاتب سيده اليهودي من أجل حريته ،فيكاتبه على ثلاثمائة نخلة يحييها ،وأربعين اوقية من ذهب، والرسول الحاني المحب لأتباعه فقيرهم وغنيهم ،حرهم وعبدهم ،صغيرهم وكبيرهم ،ذكرهم وأنثاهم،لا تشغله عن سلمان وحالته شاغلة ،يأتيه سلمان بغصون النخل التي أمدها به إخوته مسلمو المدينة ،فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : [إذهب ياسلمان ففقر لها فإذا فرغت أكون أنااضعها بيدي] ويعطيه صلى الله عليه وسلم قطعة من الذهب لكي يدفعها لليهودي الذي يملكه ويبارك الله تعالى في فسائل النخل فتحيا جميعها ،وفي قطعة الذهب الصغيره ،فتزيد على الاربعين اوقية ،فيشتري سلمان بها حريته الغالية تلك التي فقدها بجور الجاهلية ،واستردها بعدل الاسلام
ويحتجّ المسلمون في سلمان الفارسي ،فيرى الانصار انتسابه إليهم ويحب المهاجرون انتسابه اليهم ،ويحسم الرسول صلى الله عليه وسلم الموقف قائلا:{سلمان منّا أهل البيت }في إشراقة نبوية لطيفة ،فسلمان نزع رداء الجاه العريض ،ورمى خلف ظهره أكداس المال ،وواسع الضياع ،في رحلة تضحية قل نظيرها عن المعبود الحق والدين الحق، فاستحق الوسام الرفيع بالانتساب إلى بيت نبي الله صلى الله عليه وسلم.

وسلمان فقيه عالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم،فلقد آخى بينه وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما،فزار سلمان أخاه فقرب لهما الطعام ،فقال ابو الدرداء إني صائم،فقال سلمان ما انا بآكل حتى تأكل فاكل،ولماكان الليل قام ابو الدرداء ليصلي فقال له سلمان نم،فنام،فلما كان من آخر الليل قال له سلمان :قم الآن ،فقاما فصليا،وقال له:إن لنفسك عليك حقا،ولربك عليك حقا،وإن لضيفك عليك حقا،وإن لأهلك عليك حقّا،فأعط لكل ذي حق حقه،وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك فقال:صدق سلمان وفي روايةأن ابا الدرداء كان يصوم يوم الجمعة ويقوم ليلتها،فامر سلمان أبا الدرداء أن يفطر يوم الجمعة،وذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:عويمر! سلمان اعلم منك،عويمر!سلمان اعلم منك،عويمر!سلمان أعلم منك،لا تخصن ليلة الجمعةبقيام من بين الليالي ولا تخصن يوم الجمعة بصيام من بين الايام ]

ويعود سلمان مع جيش الفتوح الاسلامية الى المدائن،وقد عينه الخليفة الفاروق أميرا عليها،ولم يبحث سلمان عن القصورالتي كانتله ذات يوم،ولم يستولي لنفسه على ضياع كانت ذات يوم ملاعب صباه،وملك أبيه،ولم ينتظر من الغمارة الجديدة أن تدر عليه لبنا وعسلا ،بل كلت يداه وهو امير المدائن ،من عمل الخوص ،كي يحصل رزقه ،ولم تبرر له نفسه الزكية ،وقد ارتقى بها الإسلام إلى أعلى درجات النقاء، ان يمد يده غلى مال كان له ذات يوم ،فقد استعلى على الدنيا وهو شاب غرير،يفرح قلبه لزهرتها وتستخفه مباهجها ،وحلّق بعيدا عن قيودها بأجنحة الحريةالكريمة والعقيدة السليمة ،والفهم الدقيق لاحكام الشرع ،فصار ينبوع حكمة ومصدر هدي للامة إلى يوم الدين.

ويشتاق إليه أخوه أبو الدرداء وهو في بلاد الشام وسلمان في العراق،فيرسل الى سلمان قائلا:هلم إلى الارض المقدّسة،فيكتب إليه سلمان قائلا :{إن الأرض لاتقدّس أحدا وإنما يقدّس الانسان عمله }
وتحضره الوفاة وقد عمّر طويلا في طاعة وورع،ويجتمع إليه إخوانه الذين أحبهم في الله ويبكي سلمان ،فيقول له اصحابه ما يبكيك فيقول سلمان الورع كعهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قال :{ليكن بلاغ احدكم كزاد الراكب }وينظر الاصحاب حولهم فلا يرون من حطام الدنيا شيئا الا مايقوّم بعشرين درهما!!!،متاع بعشرين درهم يرعبك أن تلقى الله بها ياسلمان ؟،وأنت أمير المدائن!!،عشرين درهما تبكيك عند موتك مخافة ان تحاسب عنها ؟، ألا فلتفخري أيتها الارض انّ قدما سلمان الورع البارّ الطاهر الخاشع ،قد مرّت يوما فوق ترابك ،ولتبقي أيتها الامّة شامخة عليّة ظاهرة على عدوك ،مادامت فيك سيرة هؤلاء الاطهارقدوة ومنارا.

{اللهمّ صلي وسلم على نبيك وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين }

عن موقع رابطة أدباء الشام
 
عودة
أعلى