فتوحات العراق وفارس

رد: فتوحات العراق وفارس

فتح الأهواز


تحدثنا في الدرس السابق عن الجبهات الثلاث التي حشدت جموعها لقتال المسلمين وأتم الله فتح الجبهة الأولى جلولاء على يد بن أبي وقاص وتم فتح حلوان على يد ، والجبهة الثانية تكريت تم فتحها على يد عبد الله بن المعتم ثم فتح نينوى والموصل على يدي ربعي بن الأفكل، والجبهة الثالثة التي لم نتحدث عنها في الدرس السابقة هي جبهة الأبلة.
فتح الأبلة :

وقبل أن نتكلم عن فتح الأبلة نذكر أحداثها منذ أيام القادسية، فبعد انتصار المسلمين في معركة القادسية عزم سيدنا على إرسال جيش إلى الأبلة ليشغل الفرس عن مساعدة إخوانهم في المدائن، وذلك تيسيرًا لفتح مدينة المدائن على الجيش الإسلامي المتوجه من القادسية، فيرسل سيدنا عمر بن الخطاب جيشًا إلى الأبلة على رأسه عتبة بن غزوان من صحابة النبيولم يكن جيشًا كبيرًا فقد وصل عدده إلى خمسمائة مجاهد كان غرضهم شغل الهرمزان عن هذه المنطقة.

ويرسل سيدنا عمر بن الخطاب برسالة إلى سيدنا ، قال له فيها: "يا عتبة، إن الله قد فتح على إخوانكم الحيرة وما حولها (يقصد منطقة القادسية)، وقتل عظيم من الفرس (يقصد رستم)، ووطئت خيل المسلمين أرض بابل (وذلك بعد انتصار المسلمين في موقعة بابل في اتجاه المسلمين من القادسية إلى المدائن)، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس فإني أريد أن أوجهك إلى الأبلة لتمنع أهل تلك الجيزة (المنطقة) من الأهواز وميسان عن إمداد إخوانهم على إخوانكم, وقاتلهم حتى يفتح الله عليكم, فسر على بركة الله واتق الله ما استطعت واحكم بالعدل وصلِّ الصلاة لوقتها وأكثر ذكر الله"، وهذه وصايا لجيش يذهب ليفتح مدينة من مدن الفرس وإن كانت الوصية في بدايتها وصية عسكرية، لكن الأهم في هذه الوصية هو مفتاح النصر الذي يكرره سيدنا عمر بن الخطاب في وصاياه لكل الأمراء.​

وكانت هذه من الأهمية بمكان عند المسلمين أن تقام الصلاة على وقتها، فلم يترك المسلمون الصلاة حتى في أشد لحظات القتال، ويقول الرواة: إن المسلمين كانوا يصلُّون إيماءً في معركة جلولاء حتى لا يضيع وقت الصلاة ولأن القتال كان مستمرًا بالليل والنهار, "وإياك أن تنازعك نفسك إلى كِبْرٍ مما يفسد عليك إخوتك، وقد صحبت رسول الله، فعززت به بعد الذلة، وقويت به بعد الضعف، حتى صرت أميرًا مسلطًا وملكًا مطاعًا، تقول فيسمع منك، وتأمر فيطاع أمرك، فيا لها من نعمة إن لم ترفعك فوق قدرك وتبطرك على من دونك، واحتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية، ولهي أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك فتسقط سقطة تصير بها إلى نار جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك. إن الناس أسرعوا إلى الله حتى رفعت لهم الدنيا فأرادوها، فأرد الله ولا ترد الدنيا، واتق مصارع الظالمين".

وكانت أول وصية وصاها سيدنا عمر بن الخطاب t للجيش الإسلامي وهو متحرك من المدينة إلى القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص كانت تقوم على أمرين أساسين: هما تقوى الله والخوف من المعاصي، فكان سيدنا عمر بن الخطاب يخاف على المسلمين من المعاصي أكثر مما يخاف عليهم من جيش فارس رغم رهبة المسلمين لجيش الفرس.

وبعد هذه الفتوحات التي امتن الله بها على المسلمين وبعد أن دانت أرض فارس للمسلمين وبعد السبي والغنائم والذهب والفضة والأموال أصبح سيدنا عمر يخاف على المسلمين من النعمة أكثر من خوفه عليهم من المعصية، فأعداء الجيش الإسلامي كما يراها سيدنا عمر ثلاثة أعداء: فأخطر عدو النعمة ثم المعصية ثم جيش فارس.

وهذه الوصية وجهها سيدنا عمر بن الخطاب لرجل من صحابة النبي، كان من أتقى الصحابة وأورعهم، وكان بعيدًا كل البعد عن الإمارة، وكان سيدنا عمر بن الخطاب t لا يمتنع عن وصية أحدًا حتى ولو كان من صحابة النبيوكان يقول لسيدنا سعد بن أبي وقاص: "يا سعد لا يغُرَّنَّك أن قِيل: خال رسول اللَّهوصاحبه، فإنه ليس بين أحد وبين الله نسب إلا الطاعة".

وكان لا يخشى أن يقول لسيدنا سعد: اتق الله في جندك رغم ما عليه سعد من تقوى وورع.

ويتوجه إلى الأبلة الجيش الإسلامي بقيادة سيدنا عتبة بن غزوان ويعسكر الجيش الإسلامي قرب الأبلة، وكانت الأبلة قد فتحت في العام الثاني عشر من الهجرة على يد سيدنا وظلت مع المسلمين لمدة عام واحد إلى أن تجهز المسلمون لموقعة القادسية فانسحبت كل الجيوش الإسلامية من كل المناطق الفارسية إلى القادسية وترك الجيش الإسلامي منطقة الأبلة، فكان هذا إذن هو الفتح الثاني للأبلة: فعسكر سيدنا عتبة بن غزوان وانتظر أن يهاجمه الفرس وكان هدفه هو شغل الجيش الفارسي الموجود في الأبلة عن الذهاب إلى المدائن، وذلك قبل فتح المدائن وبعد موقعة القادسية مباشرة، وبعد شهر عسكره سيدنا عتبة من غزوان قُرْبَ الأبلة يخرج إليه حاكم الأبلة في أربعة آلاف مقاتل من الفرس وكان حاكمها قبل ذلك هرمز وقتله سيدنا خالد بن الوليد.

وانتقص قائد الجيش الفارسي بالجيش الإسلامي لقلة عدده وقال: "ما هم إلا ما أرى", وقال لجنده: اجعلوا الحبال في أعناقهم, وَأْتُوا بهم إليَّ، وقبل المعركة أوصى عتبة أصحابه بشدة الحملة على صفوف الفرس, ورغَّبَهم في الجنة وأنها تحت ظلال السيوف، وقاتلهم عتبة بعد الزوال، وكان في خمسمائة، فقتلهم أجمعين ولم يبق إلا صاحب الأبلة فأخذه أسيرًا.

وبعد الانتصار الذي حققه سيدنا عتبة بن غزوان على جيش الأبلة أقام الجيش الإسلامي على حدود الأبلة ولم يدخلها فغرضه شَغْلُ الفرس عن إمداد إخوانهم في المدائن ضد المسلمين.

وعرف سيدنا عتبة بعد الاستطلاع الذي قامت به عيون الجيش الإسلامي أن الأبلة لا يوجد بها سوى خمسمائة مقاتل فارسي, وجيش الفرس موجود في منطقة الأهواز شرقي منطقة الأبلة، فقرر سيدنا عتبة بن غزوان دخول الأبلة، وتوجه إليها وفتحها بعد قتال بسيط وقتل من بها من المقاتلين.

والانتصار الذي حققه الجيش الإسلامي وفتحه لمدينة الأبلة كان انتصارًا عظيمًا رغم قلة عدده وعُدَّته وحصانة مدينة الأبلة وقوة منعتها إلا أن الفرس لم يعيروها انتباهًا شديدًا وذلك لتقدم المسلمين نحو المدائن.

ويقوم بعد ذلك سيدنا عتبة بن غزوان ليلقي كلمات على أسماع المسلمين ويتوارثها أجيال المسلمين من بعده وتوضع في كتب الجهاد وتكون نبراسًا للمجاهدين، يقول سيدنا عتبة بن غزوان: "إن الدنيا قد تَصَرَّمَتْ ووَلَّتْ حذاء, ولم يبق منها إلا صَبَابة كصبابة الإناء، ألا وإنكم منتقلون منها إلى دار قرار، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، وقد ذُكر لي: لو أن صخرة أُلقيت من شفير جهنم لهوت سبعين خريفًا ولتملأنه؛ أوعجبتم! ولقد ذكر لي: أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عامًا وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظ، ولقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع النبي(وكان ذلك في الحصار الاقتصادي الذي أقامته قريش على المسلمين في شعب أبي طالب) ما لنا طعام إلا ورق السمر حتى تقرحت أشداقنا، والتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد، فما منا -أولئك السبعة- من أحد إلا وهو أمير مِصْرٍ من الأمصار"، فبعد ما أصابهم من قحط وجوع ونقص من الأموال والثمرات وبعد ضيق العيش وقلة النفقة وقصر ذات اليد، فتحت الدنيا على هؤلاء السبعة وعلى المسلمين حتى صاروا أمراء على البلاد وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

وكان عتبة قد وصَّى جيشه بالوصية التي وصاه بها عمر بن الخطاب، فكان نعم الرجل الذي اختاره عمر بن الخطاب وكان نعم الرجل عمر بن الخطاب الذي اختار سيدنا عتبة بن غزوان.

وسيطر سيدنا عتبة على المنطقة وبدأت قوات سيدنا عتبة بن غزوان بفتح المنطقة شمالاً وجنوبًا.
فتح الأهواز :

في ذلك الوقت تثور (دست ميسان) فبعث إليهم عتبة بن غزوان فرقة من جيش المسلمين على رأسها مجاشع بن مسعود، وتقع دست ميسان على نهر دجلة أو في شرق شط العرب، وانتصر مجاشع بن مسعود بفرقته على أهل دست ميسان وظفر بهم.

وبدأت القوات القابعة داخل الأهواز وعلى رأسها الهرمزان ترسل بعض الفرق لحرب المسلمين في هذه المنطقة، فكتب سيدنا عتبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب يُعْلِمُه بخبر أهل الأهواز وإرسالهم الفرق لقتال المسلمين في الأبلة، فأمر سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا سعد بن أبي وقاص بأن يرسل مددًا إلى سيدنا عتبة بن غزوان، وأخذ سيدنا عتبة بن غزوان يبحث عن مكان ليكون مقرًا له بدلا من الأبلة فإن أرضها طينية وكثيفة الأشجار ولم يتعود العرب على المعيشة في مثل هذا الأرض فانتقل بالجيش تدريجيًا إلى أربعة أماكن في الشمال حتى وصل إلى منطقة عسكرية فيها وبعد ذلك أصبحت منطقة البصرة.

وأرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص مددًا إلى المسلمين في الأبلة فأرسل جيشين على رأس الجيش الأول سيدنا نعيم بن مقرن وأرضاه أحد الأخوة العشرة، وعلى الجيش الآخر سيدنا وأرضاه وهو من صحابة النبيوألقى الله في قلبه الإسلام في وجاء إلى النبيوشهد شهادة الحق وقبل منه النبي، ثم قال للنبي: دُلَّني على عمل أعمله فقال له النبي: "إن استطعت أن تُخَذِّل عنا فاخذل", فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديمًا في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم وُدِّى إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم.

قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنًا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدًا حتى تناجزوه.

قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم خرج حتى أتى قريشًا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدًا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقًّا أن أبلغكموه نصحًا لكم فاكتموا عني.

قالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان، رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى تستأصلهم؟ فأرسل إليهم: أن نعم.

فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحدًا. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس من الهجرة، وكان من صنيع الله تعالى لرسولهأن أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بني قريظة في نفر من قريش وغطفان فقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، هلك الخُفُّ والحافر فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدًا، ونفرغ مما بيننا وبينه.

فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثًا، فأصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدًا حتى تعطونا رهنًا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتى نناجز محمدًا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا، والرَّجُلُ في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك منه.

فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة؛ قالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لَحَقٌّ. فأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحدًا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقٌّ، ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.

فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله الريح في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم. هذا هو سيدنا نعيم بن مسعود t.

توجه سيدنا نعيم بن مقرن وسيدنا نعيم بن مسعود بجيشيهما من المدائن إلى منطقة تسمى (هويز)، وهي المدينة التي تقدم إليها جيش الهرمزان من داخل مدينة الأهواز إلى منطقة هويز.

ويرسل سيدنا عتبة بن غزوان من البصرة جيشين على رأس أحدهما سيدنا سلمى بن القين وعلى الجيش الآخر سيدنا حرملة بن مريط وكانا من المهاجرين مع رسول الله،، وهما أول من التحق بجيش سيدنا خالد بن الوليد في فتوحات الفرس، ومن قبيلة تميم وكذلك نعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود وكلهم من صحابة النبيفنِعْمَ القادة ونِعْمَ الجيش، وتقدمت هذه القوات الأربعة إلى المنطقة التي يعسكر فيها الهرمزان في مدينة الأهواز وقبل وصولهم راسل نعيم بن مسعود ونعيم بن مقرن أبناء العم: غالب الوائلي وكليب بن وائل وهما من قبيلة بني تميم وقد هاجرا إلى منطقة الأهواز وعاشا مع الفرس في الأهواز، فأرسلا إليهما وقالا لهما: إن المسلمين أتوكم بجيوش لا قبل لكم بها؛ فأسلموا تسلموا وخذلوا عنا من استطعتم من الفرس.

وفي هذا الوقت كان الحصار مضروبًا على مدينة جلولاء من جيش المسلمين وقد فرض الجيش الإسلامي الحصار على مدينة تكريت أيضًا، وفي الأهواز الجيش الإسلامي قادم إلى الهرمزان.

وتفكرت القبيلتان في الأمر فوجدتا أنه من الصعب مواجهة القوات الإسلامية في هذه المناطق المتعددة؛ فقبلتا بالإسلام وعملتا على مساعدة المسلمين ضد الفرس.

لما أقرت القبيلتان بالإسلام ووافقتا على نصرة المسلمين ضد الفرس قال لهما سيدنا نعيم بن مسعود: انتظرا حتى نناهد الهرمزان، فيثور غالب الوائلي في مدينة تيري وهي مدينة كبيرة من مدن الأهواز، ويثور كليب بن وائل في مدينة مناذر، وأمرهما سيدنا نعيم ألا يعلنوا إسلامهما إلا بعد عبور الهرمزان إلى هويز فتكون القبيلتان خلف الجيش الفارسي، وبالفعل عبر الهرمزان إلى هويز وتلتقي الجيوش الأربعة من أربع جهات مختلفة مع جيش الهرمزان في معركة من أشد المعارك الإسلامية في هذه المنطقة ودارت المعركة من الصباح إلى قبل الغروب، وعند الظهيرة ثار غالب بن وائل وكليب الوائلي في مدينتي تيري والمناذر فسقطتا وأتى الهرمزان الخبر بأن مناذر ونهر تيرى قد أُخِذا، فكسر ذلك قلب الهرمزان ومن معه وهزمه الله وإياهم، وانسحب إلى شرق نهر كارون عابرًا جسرًا عائمًا ثم قطع الجسر بعد عبوره، وعسكر في المنطقة الشرقية لنهر كارون.

وتوجهت الجيوش الستة: جيش سلمى وحرملة ونعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود وغالب وكليب إلى غرب نهر كارون، على الناحية الأخرى من جيش الهرمزان، وكان عددها كبيرًا، فشعر الهرمزان بالهيبة تجاه جيوش المسلمين فرضي بالصلح والجزية يعطيها للمسلمين عن يد وهو صاغر على ما هو عليه من العظمة.

وكان الهرمزان أعطى للنبيعهدًا ألا يحارب المسلمين ثم خان العهد والتقى مع المسلمين في معركة القادسية وكان على ميمنة الجيش الفارسي وكان معه من الأهواز عشرون ألف مقاتل، ولما رأى الهرمزان قوة بأس المسلمين وكثرة عددهم ألقى اللهالرعب في قلبه وخاف من لقاء المسلمين فطلب الصلح للمرة الثانية من المسلمين بعد نقضه للعهد الذي أخذه عليه النبي، فيرسل نعيم بن مسعود إلى عتبة بن غزوان الذي عاد إلى البصرة يستشيره في أمر الصلح مع الهرمزان الذي يطلبه بعد نقضه للصلح الأول؛ فقبل سيدنا عتبة بن غزوان على أن يعقد المسلمون الصلح مع الهرمزان ووافق الهرمزان أن يعطي الجزية للمسلمين عن كل منطقة الأهواز بما فيها مناذر وتيري فرفض نعيم بن مسعود طلب الهرمزان للصلح على شرط الهرمزان وقال له نعيم: أصالحك على الأهواز ما عدا مناذر وتيري فقد سقطتا بحرب إسلامية..

فقبل الهرمزان وصالحه نعيم بن مسعود على شرق نهر كارون، ودفع الهرمزان الجزية عن هذه المناطق وكانت له حاميات في شرق منطقة تيري وفي شرق منطقة مناذر على حدود منطقته وأقام المسلمون حاميات لهم في مدينتي تيري ومناذر،وكان من بنود المعاهدة ألا يدخل المسلمون أرض الأهواز على أن يجمع لهم الهرمزان الجزية عن كل منطقة الأهواز وبقي الوضع على ذلك فترة من الزمن.

في ذلك الوقت كانت جلولاء تحت الحصار ولم تُفتَحْ بَعْدُ وكما ذكرنا من قبل أن حصار جلولاء استمر سبعة أشهر.
معركة سوق الأهواز :

أَلِفَ الهرمزان الخيانة وسوَّلت له نفسه خيانة المسلمين للمرة الثانية فأغار بقواته على الحاميات المسلمة في تيري ومناذر، ثم أرسل إلى نعيم بن مسعود مُدَّعيًا أن المسلمين غلبوه على أرضه، فخرج سيدنا نعيم بن مسعود بنفسه وكان أميرًا على هذه المنطقة من قِبَل سيدنا عتبة بن غزوان ليحقق بنفسه في الواقعة، وعندما حقق في الأمر علم أن الحق في صف المسلمين، وأن الهرمزان هو الذي اعتدى على حامية المسلمين، فلما قضى سيدنا نعيم بن مسعود للمسلمين غضب الهرمزان ونقض العهد والصلح، واستعان بطائفة من الأكراد، وغرَّته نفسه، وحسَّن له الشيطان عمله ذلك.

واجتمع بقواته شرقي نهر كارون لحرب المسلمين، فأرسل سيدنا عتبة بن غزوان رسالة إلى سيدنا عمر بن الخطاب t يخبره بنقض الهرمزان للعقد، فأمده سيدنا عمر بن الخطاب بحرقوص بن زهير السعدي t وأرضاه أحد صحابة النبيعلى رأس قوة إسلامية من المدينة وقال لسيدنا عتبة: إذا جاءك حرقوص فأَمِّرْه على القتال وعلى الجيوش.

وجمع سيدنا حرقوص بن زهير السعدي الجيوش الإسلامية الموجود في المنطقة وعسكر بها غربي نهر كارون، فراسله سيدنا حرقوص بن زهير فقال له: إما أن تعبر إلينا أو نعبر إليكم. فقال: اعبروا إلينا. فعبروا فوق الجسر، وقد استفاد سيدنا حرقوص من معركة الجسر ودرس خطة العبور إلى الهرمزان ولما تحقق أن العبور لن يضر المسلمين قرر العبور إليه؛ والتقى مع الهرمزان في موقعة (سوق الأهواز) واقتتل المسلمون قتالاً شديدًا يشبه قتال المسلمين في هويز، وأتمَّ الله النصر على المسلمين في آخر ذلك اليوم, وانهزمت القوات الفارسية وفرَّت من أمام المسلمين وعلى رأسها الهرمزان يجُرُّون وراءهم الهزيمة والخذلان.

وكان سيدنا عمر بن الخطاب قد وضع الخطة من المدينة في منتهى الدقة والتفصيل فقد أمر سيدنا حرقوص إن انتصر في المعركة مع الهرمزان بأن يرسل جَزْءَ بنَ مُعَاوية t وأرضاه وهو من صحابة النبيفي تتبع فلول الجيش الفارسي ويبقى هو في سوق الأهواز، فيتتبع سيدنا جزء بن معاوية فلول الجيش الفارسي ويفتح كل المدن التي في طريقه حتى مدينة (سُرَّق) وهي في عمق منطقة الأهواز، وانسحب الهرمزان بجيشه ليعسكر في منطقة (رامهرمز)، فأصبح للفرس جيشان: أحدهما في مدينة سرق وعلى رأسه أحد قواد الهرمزان، والآخر في مدينة رامهرمز وعليه الهرمزان نفسه.

ويبدأ سيدنا جزء بن معاوية بمحاصرة مدينة (سُرَّق) فاستعصت عليه لشدة حصانتها وقوة منعتها فيتركها متوجهًا إلى (رامهرمز) محاصرًا لها بعد وضع حامية على مدينة سرق، ولم يخرج إليه أحد الجيشين ليقاتلوه.

وفي نفس الوقت الذي يحاصر فيه سيدنا جزء بن معاوية رامهرمز ومدينة سرق يأتيهم نبأ سقوط جلولاء في الشمال والتي بها قوة الفرس العظمى وذلك في بداية شهر ذي القعدة وتصل أنباء سقوط جلولاء إلى الهرمزان فيعلن الهرمزان استسلامه وقبوله للصلح مرة أخرى، وهذه المرة الثالثة التي يطلب فيها من المسلمين العهد والصلح فقد صالح النبيعلى ألا يقاتل المسلمين ثم نقض عهده وحارب المسلمين في القادسية، ثم عاهد سيدنا عتبة بن غزوان للمرة الثانية وغرته نفسه فنكث عهده وحارب المسلمين للمرة الثانية في سوق الأهواز، ثم هو في رامهرمز وبعد سقوط جلولاء في الشمال وسقوط سوق الأهواز ثم حصاره في رامهرمز يطلب الصلح من المسلمين للمرة الثالثة على ما بقي له من البلاد، وكان أمرًا في غاية الصعوبة على قواد المسلمين أن يتخذوا فيه قرارًا..

فأرسل سيدنا جزء بن معاوية إلى حرقوص يخبره بطلب الهرمزان للصلح فأرسل حرقوص إلى عتبة بن غزوان فلم يستطع سيدنا عتبة أن يتخذ قرارًا بالصلح مع الهرمزان فبعث إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة يخبره بطلب الهرمزان للصلح للمرة الثالثة فيقبل سيدنا عمر بن الخطاب t الصلح من الهرمزان ويرسل إلى حرقوص بقبول الأمر فيرسل إلى جزء بن معاوية ليصالح الهرمزان؛ فيصالحه جزء على كل منطقة شرق رامهرمز وشرق سُرَّق فيدفع الهرمزان عنها الجزية , ويبقى في يد المسلمين كل ما فتحوه لا يأخذون منه الجزية , وبذلك بقي في يد الهرمزان: رامهرمز وتستر وجنديسابور والسُّوس (وكانت عاصمة الأهواز كلها) , يدفع الهرمزان الجزية للمسلمين عن هذه المدن، أي كل ما هو في شرق نهر تيري وشرق مدينة رامهرمز وسرق.
دفاع المسلمين عن الهُرْمُزَان :

كما نعلم فإن الجزية التي أخذها المسلمون من الفرس كانت تساوي نصف ما كان يُفرَض عليهم من ضرائب ليزدجرد، وتُدفَع الجزية عن كل نفس من الفُرْس تستطيع القتال على أن يمنع المسلمون الفرس من أي عدو يهجم عليهم ويدافعوا عنهم في مقابل أخذهم الجزية، وفي المقابل لا يشترك الفُرسُ في القتال في حالة دفعهم الجزية.

وبعد صلح الهرمزان وقبوله بدفع الجزية يحدث حادث غريب مع الفرس، فقد انقضَّ الأكراد على الهرمزان ومن معه، وكانوا قد شجَّعوه من قبل على قتال المسلمين وكانوا معه في معركة سوق الأهواز، وبعد ثورة الأكراد على الهرمزان ومن معه وقتالهم للفرس يُخرج سيدنا عتبة بن غزوان جيشًا من المسلمين للدفاع عن الهرمزان وقتال الأكراد، وينتصر الجيش الإسلامي على الأكراد دفاعًا عن الهرمزان داخل أرضه التي لم يحكمها المسلمون ولم يبسطوا عليها أيديهم.

ورغم صعوبة المعركة وخطورتها على المسلمين إلا أن المسلمين دافعوا عن الهرمزان وعن الجيش الفارسي وذلك لعهدهم مع الفرس, وأخذ الجزية منهم في مقابل الدفاع عنهم.

في هذا الوقت تسقط كل هذه المنطقة من الأهواز وسقطت جلولاء وسقطت تكريت والموصل ونينوى.

فتح قُرْقُسْيَاء وهيت :

ثارت مدينة قُرْقُسْيَاء الواقعة في شمال المدائن في أقصى الشمال على نهر الفرات ومدينة هيت الواقعة في شمال الفرات، وثار بثورتهم أهل الجزيرة وهم ما بين دجلة والفرات، وكان ذلك في الوقت الذي خرجت فيه الجيوش الإسلامية لفتح جلولاء وتكريت والأبلة، فيرسل سيدنا سعد بن أبي وقاص من المدائن جيشا على رأسه سيدنا عمر بن مالك لفتح هيت وقُرْقُسْيَاء، فيحاصر هيت وتستعصي عليه فيحيط هيت بجيش على رأسه الحارث بن يزيد ويتوجه هو إلى قرقيساء مارًّا بمنطقة الفرات التي فتحها خالد بن الوليد من قبل ويحاصر قُرْقُسْيَاء واستسلم أهلها بسرعة فقد هاجمهم سيدنا عمر بن مالك فجاء وأخذهم على حين غِرَّة، وبعد استسلام قرقسياء توجه سيدنا عمر بن مالك إلى هيت يطلب تسليمهم فرفض أهل هيت التسليم فعرض عليهم أن يتركوا هيت إلى داخل بلادهم ويتركوا هيت للمسلمين على أن يؤمِّنَهُم المسلمون على دمائهم، فوافق أهل هيت على ذلك وكانت هي المنطقة الوحيدة التي حدث فيها الخيار بين المسلمين والفرس على أن يترك الفرس هيت إلى داخل الأراضي الفارسية في مقابل عدم دفعهم للجزية، وعلى أن يؤمنهم المسلمون على دمائهم، وبذلك فتحت مدينة هيت.

وكانت الجيوش الإسلامية في ذلك الوقت مسيطرة على جلولاء وتكريت ونينوى والموصل وقُرْقُسْيَاء وهيت ومنطقة الأبلة في الجنوب في هذا الوقت وبعد فتح كل هذه المنطقة، وبعد كثرة الغنائم التي جُلِبَتْ من الفتوحات خشي سيدنا عمر بن الخطاب على المسلمين من فتنة المال ومن فتنة الدنيا التي فتحت على المسلمين في ذلك الوقت وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب لسيدنا عتبة بن غزوان: "وددتُ لو أن بيني وبين فارس سدًّا من نار لا أغزوهم ولا يغزونني بعد الآن. أَوْقِفوا الانسياح في بلاد فارس".

رغم الانتصارات العظيمة التي حققها المسلمون فهم من نصر إلى نصر ومن فتح إلى فتح آخر، وكان سبب وقف الانسياح أن الدنيا قد فتحت على المسلمين أكثر مما توقع سيدنا عمر بن الخطاب ولم يكن يعرف ردَّ فعل المسلمين تجاه هذه النعمة التي فتحت عليهم فخاف عليهم من فتنة المال التي حذر منها الرسولفي قوله: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"؛ فلهذا أوقف سيدنا عمر بن الخطاب الانسياح في بلاد فارس ليعرف حال المسلمين بعد تقلبهم في الأموال، وبهذا يمكن الرد على المستشرقين ومن سار على دربهم فيما ادعوا من أن غرض المسلمين من الفتح هو الغنائم، وكان سيدنا عمر بن الخطاب يوصي الجيوش الإسلامية بقوله: "أَرِدِ اللهَ ولا تُرِدِ الدنيا واتَّقِ مصارع الظالمين".

وهذا القرار يوضح أن سيدنا عمر بن الخطاب هو والمسلمين لم يبغوا الدنيا أو الغنائم، وكان بإمكان الجيش الإسلامي التوغل في الأراضي الفارسية وبسهولة بعد فتح جلولاء فقد كُسِرَت شوكة الجيش الفارسي في القادسية ثم في المدائن ثم في جلولاء، وانهزم الجيش الفارسي في الأهواز وفي تكريت، وكانت فرصة بالنسبة للمسلمين, لكن سيدنا عمر بن الخطاب أوقف الفتوحات لخوفه على المسلمين من الغنائم ومن الدنيا.

فكان يخاف عليهم من النعمة أكثر من خوفه عليهم من المعصية, وكان يخاف عليهم من المعصية أكثر من خوفه عليهم من الجيش الفارسي.

وكان وقف الفتوحات في ذي القعدة من العام السادس عشر الهجري.

وأَمَّرَ سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا سعد بن أبي وقاص على كل ما فتحه المسلمون، ويضع -وهو في المدينة- خمس حاميات رئيسية على حدود الجيش الإسلامي وعلى حدود المنطقة المسَيْطَر عليها من قِبَلِ المسلمين, ويحدد رؤساء الحاميات من قِبَلِه أيضًا.
الحامية الأولى :

وكانت الحامية الأولى في قرقسياء وعلى رأسها: سيدنا عمر بن مالك فاتح المدينة.
الحامية الثانية :

وكانت في الموصل وعلى رأسها: سيدنا عبد الله بن المعتم.
الحامية الثالثة :

وكانت في حلوان وعلى رأسها: القعقاع بن عمرو التميمي.
الحامية الرابعة :

وكانت في (ماسبذان) وعلى رأسها: سيدنا ضرار بن الخطاب، وهو فاتح (ماسبذان), وكان سيدنا سعد بن أبي وقاص قد وجهه إليها إثر ثورة قامت فيها, فما إن وصلها سيدنا ضرار حتى تطاير أهل ماسبذان في الجبال كما يقول الرواة، وسيطر المسلمون عليها, ودعوا أهلها إلى العودة إلى بلادهم على أن يدفعوا الجزية؛ فقبل أهل ماسبذان ذلك وعادوا إلى بلادهم.
الحامية الخامسة :

وكانت في البصرة, وعلى رأسها سيدنا عتبة بن غزوان وأرضاه.

ووقفت الحروب الإسلامية في هذه الفترة.

وعاد المسلمون إلى سيدنا عمر بن الخطاب من بلاد الفرس بوجه آخر فيه من النعمة ما فيه، فقد خرجوا من الجزيرة العربية في حالة تقشف إلى المدائن حيث الأشجار الوارفة والظِّلِّ العظيم.




وأرسل سيدنا -وكان من قواد جيش سيدنا سعد بن أبي وقاص في المدائن- إلى سيدنا عمر بن الخطاب برسالة يقول له فيها: إن المسلمين قد أُتْرِفَتْ بطونُهُم, وخفَّت أعضادهم, وتغيرت ألوانهم؛ فانظر ماذا ترى.

فتح الجزيرة في شمال العراق



يبدو أن الغنائم غيرت في طباع بعض المسلمين، فقد لاحظ سيدنا عمر بن الخطاب تغيرًا في حال الرسل القادمين إليه من المدائن وبلاد الفرس بعد التقشف الذي عهده عليهم، إلى أن أرسل إليه سيدنا حذيفة رسالة يقول له فيها: إن المسلمين قد أترفت بطونهم، وخفت أعضادهم، وتغيرت ألوانهم؛ فانظر ماذا ترى.

فاتخذ سيدنا عمر بن الخطاب قرارًا يأمر فيه سيدنا سعدًا بالتخلي عن المدائن عاصمةً، وأمره بالبحث عن أرض أخرى صلبة ليست كأرض المدائن، وقال: إن العرب لا يوافقهم إلا ما وافق إبِلَها.

وأمرهم بالبحث عن أرض برية وبحرية (أي تكون على نهرٍ ويكون النهر غربها لكي لا يفصلها عن المدينة)، ولا يفصل بينهم وبين سيدنا عمر جسر ولا بحر.

فبعث سيدنا سعد سيدنا حذيفة وسيدنا سلمان الفارسي يرتادان للمسلمين منزلاً مناسبًا يصلح لإقامتهم، فمرَّا على أرض حصباء في رملة حمراء، وكان العرب يطلقون على الأرض التي صفتها هكذا الكوفة.

وفي أوائل العام السابع عشر الهجري بدأ المسلمون تأسيس المدينة الجديدة، فكان أول ما بنوا المنازل بالقصب، فاحترقت في أثناء السنة، فبنوها باللَّبِن بإذن عمر، بشرط أن لا يُسرفوا ولا يجاوزوا الحد، وأن لا يزيد على ثلاث حجرات، وألاّ يتطاولوا في البنيان، وأن يتذكروا الله تعالى، ويتذكروا الجنة والنار, واتخذ المسلمون الكوفة عاصمة لهم، وتحركت القوات الإسلامية الرئيسية من المدائن إلى الكوفة.

وأقام سيدنا سعد بن أبي وقاص اجتماعًا مع قواد الحاميات ليضع الأسس التي تقوم عليها المدينة الجديدة؛ فأتى سيدنا القعقاع بن عمرو من حلوان إلى الكوفة وترك عليها سيدنا قباذ بن عبد الله الفارسي، وهو أول فارسي يستخلفه سيدنا القعقاع على حامية حلوان، وأول من يُولَّى إمارة في بلاد فارس.

واستخلف سيدنا ضرار بن الخطاب على "ماسَبذان" رافع بن عبد الله الفارسي، واستخلف سيدنا عبد الله بن المعتم على "الموصل" سيدنا مسلم بن عبد الله الفارسي، واستخلف سيدنا عمر بن مالك على "قَرْقِيسياء" الفارسي عشنق بن عبد الله الفارسي.

أربع حاميات رئيسية عليها أربعة أمراء من الفرس، وفي ذلك بيان أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى, واستقر الوضع في هذه المنطقة على هذا الحال.



فتح الجزيرة

في هذا الوقت وعلى الجبهة الأخرى في بلاد الشام نجد بعض القوات الموجودة في هذه المنطقة شمالي نفوذ المسلمين في منطقة تسمى منطقة الجزيرة (وهي محصورة بين نهري دجلة والفرات في شمال العراق وجنوب تركيا وشرق سوريا)، وهذه المنطقة بها كثير من العرب النصارى اتحدوا مع قيصر الروم في حربه مع القوات الإسلامية في الشام.

وكانت المعركة شديدة جدًّا حتى إن سيدنا أبا عبيدة بن الجراح أرسل إلى سيدنا عمر بن الحطاب يطلب منه المدد، فأرسل سيدنا عمر بن الخطاب رسالة إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص يأمره بإرسال جيش إلى سيدنا أبي عبيدة بن الجراح في الشام، (وقبل ذلك بعام قد حدث عكس ذلك في موقعة القادسية، فقد أتى القعقاع بن عمرو التميمي على رأس جيش كبير لنجدة المسلمين في فارس، وقد فتح الله على المسلمين في ذلك الوقت فتحًا عظيمًا في فارس حتى تملكوا أرض فارس، وأصبحوا من القوة بأن يمدوا الجيش الإسلامي الموجود في الشام).

ويبعث سيدنا سعد بن أبي وقاص في اليوم نفسه الذي وصلت فيه الرسالة بجيش قوامه أربعة آلاف فارس إلى سيدنا أبي عبيدة بن الجراح في الشام، وعلى رأس ذلك الجيش سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي نجدةً لإخوانه، وقد صدق سيدنا أبو بكر لما قال: لا يُهزَمُ جيشٌ فيه القعقاعُ. ويقول: لَصَوْتُ القعقاع في جيش خيرٌ من ألف رجل.

ويخطط سيدنا عمر لانتصار المسلمين في الشام، فيرسل إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص أن يجهز جيوشًا لقتال عرب الجزيرة ليلهيهم عن نُصْرَة هرقل ملك الروم في حربه مع المسلمين، ويحدد سيدنا عمر بن الخطاب قادة القوات الإسلامية الذاهبة إلى حرب عرب الجزيرة من داخل الكوفة، ولما نفَّذ سيدنا سعد أمر أمير المؤمنين وعرف عرب الجزيرة بذلك تركوا حربهم مع جيش هرقل؛ ليعودوا إلى بلادهم ليحموها من هجوم المسلمين المرابطين في فارس، وبتخلي عرب الجزيرة عن هرقل تضعف كفة الروم وينتصر سيدنا أبو عبيدة بن الجراح على الجيش الرومي بعد انسحاب قوات عرب الجزيرة مباشرة، وتم هذا الانتصار قبل وصول سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي إلى الشام.

لكن سيدنا عمر بن الخطاب t يرسل إلى أبي عبيدة t بأن يشرك القعقاع وجيشه في الغنيمة؛ لأنه قادم للقتال مع الجيش الموجود في الشام.

وبعد الانتصار الإسلامي الذي أتمه الله للمسلمين في الشام لم تتوقف القوات الإسلامية القادمة من الكوفة إلى عرب الجزيرة لفتحها، بل إن سيدنا عمر بن الخطاب t أمر سيدنا عياض بن غنم أن يكون على رءوس الجيوش المتقدمة إلى عرب الجزيرة.

وسيدنا عياض بن غنم من أوائل من ذُكِرُوا في حرب فارس، فكان على رأس أحد الجيشين المتوجهين إلى فتح فارس في عهد سيدنا أبي بكر أجمعين؛ فقد وجَّهَ سيدنا خالد بن الوليد لفتح فارس من ناحية الجنوب، ومن ناحية الشمال وجَّه سيدنا عياض بن غنم وهو من صحابة النبي.

يتوجه الجيش الكبير القادم من الكوفة وعلى رأسه سيدنا عياض بن غنم إلى منطقة قَرْقِيسياء في شمال النفوذ الإسلامي، ويمتد النفوذ الإسلامي في ذلك الوقت من قَرْقِيسياء إلى الموصل ونِينوَى فقط، فلم تكن المنطقة التي في الشمال في صف المسلمين في هذه الفترة.

وما إن وصل سيدنا عياض بن غنم إلى قَرْقِيسياء حتى بعث سيدنا سهيل بن عدي إلى مدينة "الرقة" في سوريا، وسيدنا سهيل بن عدي من صحابة النبي وهو من الخزرج من الأنصار، وله من الإخوة اثنان، وقد شاركا في حروب فارس: أحدهما الحارث بن عدي وقد استشهد في معركة الجسر، والأخ الآخر سهل بن عدي وهو من الصحابة، وسيأتي ذكره بعد قليل قي قيادة جيش آخر.

وفي الوقت الذي يتوجه فيه سيدنا سهيل بن عدي لفتح الرقة يتوجه سيدنا عياض بن غنم بقوته الأساسية إلى "حَرَّان" ليفتحها، وكانت من أشد المناطق حصانة في منطقة الجزيرة.

ويتوجه جيش من مدينة الكوفة رأسًا إلى مدينة "نَصِيبين"، وعلى رأس الجيش سيدنا عبد الله بن عتبان من صحابة النبي، ولكن بمجرد وصوله إلى الموصل يدخل تحت إمرة سيدنا عياض بن غنم أيضًا، وتتوجه الجيوش الثلاثة إلى منطقة الجزيرة، فيتوجه سيدنا سهيل بن عدي بجيشه إلى الرقة ويحاصرها، ودام هذا الحصار أيامًا، ثم ينزل أهل الرقة مباشرة على الجزية، ويقبل أهل الرقة دفع الجزية مقابل أن يدافع عنهم المسلمون ويؤمِّنوهم على دمائهم، وسقطت مدينة الرقة بسرعة.

وفي الوقت نفسه توجه سيدنا عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، وكانت من أجمل مدن الجزيرة فهي وافرة الظلال والأشجار والمياه العذبة والأنهار، وكان بها حامية قوية، وما إن علمت هذه الحامية بسقوط الرقة حتى استسلمت دون قتال، وقبل أن يحاصرهم سيدنا عبد الله بن عتبان طلبوا منه أن يدفعوا الجزية.

وبعد انتصار المسلمين في الرقة ونصيبين ودفع أهلها الجزية، توجه سيدنا عياض بن غنم إلى حران بقواته الأساسية، وتتوجه قوات سيدنا سهيل بن عدي من الرقة، وقوات سيدنا عبد الله بن عتبان من نصيبين مع سيدنا عياض بن غنم ليدخل حران بقوة كبيرة، وتصل القوات الإسلامية بقيادة سيدنا عياض بن غنم إلى حران، وتبدأ القوات الإسلامية في حصارها ويستمر الحصار شهرًا أو أكثر لتسقط بعد ذلك مدينة حران بعد حصار طويل وبدون قتال، وتقبل حران بدفع الجزية أيضًا.

ثم بعد ذلك توجهت القوات الإسلامية إلى مدينة "الرها" لفتحها، ومن الرها توجهت قوات سيدنا عياض بن غنم إلى مدينة "سُمَيْساط" وتقع في تركيا الآن، وبسقوط سُمَيْساط تسقط كل مدن الجزيرة وصارت تتبع المسلمين في هذه الفترة، ورغم هذه الفتوحات لم يأمر سيدنا عمر بن الخطاب بالانسياح في بلاد فارس فهذه الفتوحات في شمال الجزيرة، وقد منع سيدنا عمر بن الخطاب t التوغل في شرق أرض فارس؛ لأنه يخشى على المسلمين الإكثار من الغنائم والأموال.

وكان فتح الجزيرة من أسهل الفتوح في بلاد فارس، فقد سقطت الجزيرة بدون قتال يُذكر، ويرجع ذلك إلى سقوط شرقي الجزيرة في أيدي المسلمين في حروبهم مع فارس، وسقوط منطقة غرب الجزيرة في حروب المسلمين في الشام مع الجيش الرومي، وأصبحت منطقة الجزيرة محصورة بين القوات الإسلامية الموجودة في فارس والقوات الإسلامية الموجودة في الشام؛ مما كان له الأثر البين والواضح في عزيمة أهل الجزيرة، الذين باتوا يرون أن لا قِبَلَ لأحد بحرب المسلمين، فرضوا بدفع الجزية، كما علموا أيضًا بعهد المسلمين في الدفاع عنهم وتأمينهم على دمائهم إذا دفعوا الجزية، وأن ما يأخذه المسلمون من جزية أقل مما كانت تفرض عليهم من كسرى فارس.​

طاعون عمواس:

استسلمت الجزيرة للمسلمين بدون قتال يذكر، وقبل أهلها بدفع الجزية للمسلمين في مقابل الدفاع عنهم، وتم ذلك السقوط في العام السابع عشر الهجري، وفي هذا العام انتشر الطاعون والوباء بين المسلمين، والعرب تطلق كلمة الطاعون على أي وباء أو مرض، وكان منبع الوباء في الشام في قرية تسمى "عِمْوَاس" وهلك في هذا الطاعون الكثير من المسلمين، ومنهم سيدنا أبو عبيدة بن الجراح أمير المسلمين في الشام ، كما مات سيدنا معاذ بن جبل ، ومات كثير من أبناء سيدنا خالد بن الوليد، وكثير من أشراف الصحابة والناس حتى تخوفت قلوب المسلمين من طمع أعدائهم فيهم؛ من كثرة من مات من المسلمين في العام السابع عشر من الهجرة من طاعون عِمْوَاس.


 
رد: فتوحات العراق وفارس

موضوع الله يبارك وممتاز
لكن راغب السرجاني هذا لا اتفق معه في كثير من كتاباته

ومن الذي أتفق معه الجميع او نال أعجاب الجميع ؟
كتابات الجميع عرضة للنقد والتصحيح
وانا لا اعتمد فقط على صفحات الانترنت وانما عندي مصادر
أخرى ولكن مقالات الدكتور السرجاني هي من أفضل ما قرأت
فيما يتعلق بفتوحات العراق وفارس
 
رد: فتوحات العراق وفارس

معركة طاوس


لم يكد ينتهي المسلمون من طاعون عمواس حتى وافاهم أمر آخر؛ فإن العلاء بن الحضرمي -كما نعلم- كان قائد الجيش السابع من الجيوش التي وجهها سيدنا أبو بكر الصديق t لقتال المرتدين وفتح البحرين، وقد قام بفتح البحرين وأصبح أميرًا لها من قِبَل سيدنا أبي يكر الصديق، ثم أقره سيدنا عمر بن الخطاب على عمله بعد خلافته .

وقد كان لسيدنا العلاء بن الحضرمي نفسٌ توّاقة إلى الجهاد، ورأى سيدنا العلاء بن الحضرمي ما حققه المسلمون من انتصارات كبيرة على أرض فارس، فأراد أن يشارك في الجهاد ضد الدولة الفارسية كما يجاهد إخوانه، رغم القرار الذي أصدره سيدنا عمر بن الخطاب بوقف التوغل في الأراضي الفارسية، فقرر اجتهادًا منه إرسال بعض الفرق للجهاد شرقي خليج فارس، عبر الخليج العربي (الفارسي في ذلك الوقت)، في الوقت الذي كانت منطقة نفوذ المسلمين حتى رَامَهُرمُز، وهذه المنطقة كلها تقع شمال هذه المنطقة تمامًا، وهذه المنطقة تسمى جنوب الأهواز وبعيدة عن نفوذ المسلمين ولا تقع تحت إمرة الهرمزان، فهي بعيدة -إذن- عن المسلمين، ولم يدخلها المسلمون من قبل، فأراد سيدنا العلاء أن يفتح هذه المنطقة، فجهز جيشًا من البحرين، وقسم الجيش إلى ثلاث فرق رئيسية؛ على رأس الفرقة الأولى سيدنا الجارود بن المُعَلَّى، وكان لسيدنا الجارود بن المُعَلَّى الثواب الجزيل من الله ؛ وذلك لما ارتدت الجزيرة العربية كلها إلا قرية "جَوَاثا" قرية الجارود بن المُعَلَّى؛ فقد قام فيهم خطيبًا ليثبتهم على الإسلام، وأعلن أنه على دين الإسلام، وأنه سيقاتل كل من ارتدَّ عن دين الله، فثبت قومه على الإسلام بعد مقالته، فكان الجارود بن المُعَلَّى على رأس فرقة من الجيش الذي أرسله سيدنا العلاء بن الحضرمي إلى شرق فارس.

وعلى رأس الفرقة الأخرى أحد القادة وهو سوار بن همام، والفرقة الثالثة على رأسها خُلَيْد بن المنذر بن ساوي، والمنذر بن ساوي هو الذي أعطى العهد للنبي بإسلامه وبإسلام البحرين كلها، وكان رجل حسن السيرة وكان من الصالحين، وبموته ارتدت البحرين، فرضي الله عنه وأرضاه، وخُلَيْد هذا ابنه.

فنزل الجيش بفرقه الثلاثة في الجهة الشرقية من خليج فارس، وأمَّر على الفرق الثلاثة خليد بن المنذر بن ساوي، ونزل الجيش في منطقة تسمى منطقة "طاوس".

وكان سيدنا عمر بن الخطاب قد أصدر أمرًا بعدم غزو المسلمين للبحر إلا بعد إذنه؛ وبذلك يكون سيدنا العلاء بن الحضرمي قد خالف سيدنا عمر بن الخطاب في أمرين، وهما: نهي سيدنا عمر بن الخطاب عن التوغل في بلاد فارس. والأمر الثاني: مخالفة سيدنا عمر بن الخطاب في غزوه لبلاد فارس عبر البحر بالسفن من البحرين إلى الشاطئ الشرقي من خليج فارس.

وعسكر المسلمون في طاوس، وبمجرد نزولهم في طاوس يخرج لهم جيش فارس على رأسه قائد من قواد الفرس يدعى "هربذ"، وتدور بين الجيوش الثلاثة وهربذ معركة شديدة على المسلمين، ويفلح هربذ هذا في الالتفاف حول الجيش الإسلامي ويغرق السفن في المياه، ولم يكن أمام المسلمين إلا القتال أمام الفرس، ولم يكن أمامهم خط رجعة للبحرين، وكانت هذه المعركة شديدة على المسلمين وعلى الفرس، وأحدث المسلمون خسائر فادحة في صفوف الفرس لكن على حساب شهداء كثير من المسلمين، وكان ذلك تكرارًا لمشكلة الجسر بمعصية القائد المباشر للقائد الأعلى، فتتكرر المشكلة للمرة الثانية، ويخسر المسلمون كثيرًا من الشهداء منهم الجارود بن المُعَلَّى وسوار بن همام رضي الله عنهما، وهما من قادة الجيش، ويبقى خليد بن المنذر بن ساوي على رأس الجيوش يحفزهم على القتال، ويذكرهم أنه لم يبقَ أمامهم إلا قتال الفرس، وانتصر المسلمون على جيش الفرس انتصارًا عظيمًا، لكن بعد انتصار الجيش على الفرس لم يجد المسلمون السفن التي تحملهم إلى البحرين، ولم يجد أمامه إلا اللجوء إلى أرض البصرة ليستنجد بجيش المسلمين الذي يعسكر في البصرة، وفي طريقه إلى البصرة يعترضه جيش آخر من "إِصْطَخْر" على رأسه قائد يدعى "شَهْرَك"، ويحاصر الجيش الإسلامي في مكان قريب من مدينة طاوس، في ذلك الوقت تصل الأنباء إلى سيدنا عمر بن الخطاب t في المدينة أن العلاء أرسل جيشًا لحرب الفرس، وأن الجيش قد انتصر في المعركة ودخل في معركة أخرى، وحُوصِرَ الجيش الإسلامي ولم يجد أمامه حلاًّ، وبمجرد وصول هذا الخبر إليه يقرر عزل العلاء بن الحضرمي من الإمارة، وأرسله إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص تحت إمرته جنديًّا من جنوده في الكوفة..

فكان هذا أول عقاب عاقبه سيدنا عمر بن الخطاب له على معصيته الشديدة التي ألحقت الأذى بالمسلمين في معركة طاوس، ثم أرسل رسالة إلى سيدنا عتبة بن غزوان t بأن يُخرِج جيشًا كثيفًا من المسلمين لنجدة الجيش الإسلامي الموجود في هذه المنطقة على خطورتها، فهي منطقة جبال والمسلمون لم يتعودوا على هذه الأرض، وعلى إِثْرِ هذه الرسالة يجهز سيدنا عتبة بن غزوان في أقل من يومين جيشًا تعداده اثنا عشر ألف مقاتل، ومع المسلمين في الجيش سيدنا عاصم بن عمرو التميمي، وسيدنا حذيفة بن محصن قائد الجيش الثامن من جيوش الردة، وسيدنا عرفجة بن هرثمة قائد الجيش التاسع من جيوش الردة، وكان على رأس الجيوش سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم, ويبدو أن سيدنا أبا سبرة من الكفاءات الحربية النادرة لدرجة أن يضع سيدنا عتبة بن غزوان القادة العظام تحت إمرته، ويوافقه على ذلك عمر بن الخطاب في المدينة.

فخرج الجيش وسار بجوار شط العرب، ثم بجوار شاطئ خليج فارس على الجبال يُجَنِّبون الخيل ويركبون البغال سِراعًا؛ لأن البغال الفارسية التي غنموها من فارس تستطيع السير على الجبال بخلاف الخيول العربية، وفي ذلك مرونة شديدة للجيش الإسلامي واستغلالاً للمواقف.

ويصل الجيش الإسلامي إلى الجيش المحاصَر في منطقة فارس، ويدخل المسلمون مع جيش "شهرك" في معركة شديدة، وكانت النتيجة أن انهزمت القوات الفارسية هزيمة منكرة واجتاحهم المسلمون، واستطاع الجيش الإسلامي أن يفك الحصار عن الجيش المحاصَر ورجع به إلى البصرة، فلم يكن مطلوبًا منهم فتح هذه البلاد.

وكانت عودة الجيش الإسلامي في أواخر ذي القعدة وبداية ذي الحجة، فاستأذن سيدنا عتبة بن غزوان من سيدنا عمر بن الخطاب في أواخر العام السابع عشر الهجري أن يذهب للحج هذا العام، فوافق سيدنا عمر على طلبه؛ فيستخلف سيدنا عتبة على البصرة المغيرة بن شعبة وهو من صحابة النبي وكان الحارس الخاص لرسول الله، وكان في الوفد الذي ذهب إلى يزدجرد (كانوا أربعة عشر رجلاً، وكانوا يعدون الرجل في هذا الوفد بألف رجل)، وكان يتكلم الفارسية.

وبعد انتهاء سيدنا عتبة بن غزوان من الحج يأمره سيدنا عمر بن الخطاب بالرجوع إلى البصرة أميرًا كما كان؛ فيرفض سيدنا عتبة بن غزوان ويسأل سيدنا عمر بن الخطاب أن يُقِيلَه فلم يفعل، فلما وجد سيدنا عمر بن الخطاب إصراره على رفض الإمارة قال: "تُوَلُّوني فيها ثم تتركوني وحدي".

وفي ذلك الوقت كان سيدنا عمر يعرض الإمارة على أكثر من مسلم، وكلهم يرفضها على عكس أزمانٍ أخرى يتقاتل الناس فيها عليها، ولما أصر سيدنا عتبة بن غزوان على رفضه أقسم عليه سيدنا عمر ليرجعَنَّ إلى عمله.

وفي الطريق إلى البصرة يدعو سيدنا عتبة بصوت يسمعه أصحابه ويقول: اللهم إن كان لي عندك خيرٌ فخُذْني ولا تبلِّغْني البصرة, فاستجاب الله دعاءه، فيسقط من فوق ناقته ويموت في طريقه إلى البصرة.

وبعد موت سيدنا عتبة بن غزوان t يُقِرُّ سيدنا عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة على البصرة، ثم يستخلف بعده بقليل سيدنا أبا موسى الأشعري .

وبتتبع الأحداث في العام السابع الهجري نجد أن المنطقة التي أضيفت إلى نفوذ المسلمين هي منطقة الجزيرة بالكامل، لكن نفوذ المسلمين في شرق فارس لم يتغير عن العام السادس عشر الهجري، وبناءً على قرار سيدنا عمر بن الخطاب لم يتوغل المسلمون في منطقة فارس، وحتى الجيش الذي خرج من البصرة لينقذ المسلمين في موقعة طاوس رجع ولم يتوغل في الأراضي الفارسية، ولم يسيطر على هذه المنطقة.
أحداث العام السابع عشر الهجري :

نستطيع أن نوجز الأحداث الرئيسية في العام السابع عشر الهجري:

أولاً: تأسيس مدينة "الكوفة" التي أصبحت عاصمة المسلمين.

ثانيًا: انتقال سيدنا القعقاع بن عمرو التميمي من الساحة الفارسية إلى الشام لنجدة الجيوش الإسلامية، وحتى بعد انتصار سيدنا أبي عبيدة بقي سيدنا القعقاع في الشام.

ثالثًا: استطاع المسلمون فتح الجزيرة بسهولة كما ذكرنا.

رابعًا: الطاعون الذي انتشر بين المسلمين واشتهر باسم طاعون "عِمْوَاس"، ومات فيه كثير من المسلمين، منهم -كما ذكرنا- سيدنا أبو عبيدة بن الجراح وسيدنا معاذ بن جبل.

خامسًا: من الأحداث المهمة في هذا العام موقعة "طاوس" التي استُشهِدَ فيها كثير من المسلمين، وتمَّ النصر للمسلمين في النهاية.

سادسًا: مات سيدنا عتبة بن غزوان بعد قفوله من الحج إلى البصرة أميرًا، واستخلف مكانه سيدنا عمر بن الخطاب المغيرة بن شعبة، ثم سيدنا أبا موسى الأشعري.

هذا موجز لأحداث العام السابع عشر من الهجرة.

لم يكتفِ يزدجرد بوقف سيدنا عمر بن الخطاب للقتال والتوغل في الأراضي الفارسية، فظل يحفز الجيوش الفارسية للإغارة على القوات الإسلامية المسيطرة على هذه المنطقة؛ فيطلب من القواد الفارسيين الذين ما زالوا في أماكنهم محاربة المسلمين، ومن ضمن رسائله أرسل رسالة إلى الهرمزان وكان قد عاهد المسلمين للمرة الثالثة على دفع الجزية وعدم قتال المسلمين، وما إن وصلت رسالة يزدجرد إلى الهرمزان حتى تذكر الأمجاد السابقة، وتذكر الملك والانتصارات وجرت الخيانة في دمه كما عهده المسلمون؛ فثار على المسلمين معلنًا نقض العهد مع المسلمين للمرة الرابعة، وما إن وصلت تلك الأنباء إلى سيدنا عمر بن الخطاب وعلم بنقض الهرمزان للعهد، حتى استشاط غضبًا وقرر أن يدكَّ قوات الهرمزان، فيرسل سيدنا عمر أكثر من رسالة، ويُدبِّر أكثر من أمر لتدور معركة من أعنف المعارك الإسلامية مع الفرس.

أما عن أحداث تلك المعركة، فهذا ما نعرفه في المقال القادم إن شاء الله.


فتح تستر


بعد القرار الذي اتخذه سيدنا عمر بن الخطاب بعدم تَوَغُّلِ المسلمين داخل الأراضي الفارسية أصبح للمسلمين حامية في منطقة "رَامَهُرمُز" شرقي منطقة الأهواز، وحامية في مَناذر، وحامية في تِيرَى.

أما المنطقة التي تقع شرقي نهر تِيرَى والمنطقة التي تقع شرقي رامَهُرمز، فهي تحت سيطرة الفرس بقيادة الهرمزان لكنها تدفع الجزية للمسلمين على ألاّ يقاتلوا المسلمين، وعلى أن يمنعهم المسلمون إذا حدثت حرب على أهل فارس، وذكرنا أن يزدجرد كسرى فارس بعد هروبه الثالث من المدائن إلى مدينة "مرو" في أقصى شرقي المملكة الفارسية، ظل يحفز الجيوش الفارسية لقتال المسلمين الذين سيطروا على أرضهم، حتى بدأت الجيوش الفارسية تتجمع وتتجه نحو مدينة تسمى تُسْتَر، وتقع هذه المدينة على نهر كارون الموجود في منطقة الأهواز..

وكان الهرمزان قد أعطى عهدًا ثالثًا للمسلمين، وكان العهد الأول قد أعطاه النبيَّ ثم نقض العهد ودخل القادسية في حرب ضد المسلمين، ثم عاهد المسلمين ألا يقاتلهم على أن يدفع الجزية، ثم نقض العهد مرة أخرى ودخل مع المسلمين في معركة في "سوق الأهواز" وانتصر عليه سيدنا حُرْقُوص بن زهير السعدي من صحابة النبي، ثم طلب العهد الثالث فقبل منه سيدنا على ألا يقاتل المسلمين ويبقى في مكانه، وبعد أن استنصر يزدجرد كل الفرس نقض الهرمزان العهد للمرة الثالثة وغدر بالمسلمين، وجهَّز جيشه وبدأ بإعداد العُدَّة لقتال المسلمين مرة ثالثة، ولم يتعلم الهرمزان من الدروس السابقة؛ فكل مرة يغدر بالمسلمين ويدخل في معركة معهم ويُهْزَم، فجهز جيشه وبدأت الجيوش في شرقي المملكة تتجمع حتى تقاتل المسلمين في معركة فاصلة كبيرة، واختارت مدينة تستر أحصن المناطق الفارسية على الإطلاق؛ فهي أكثر حصانة من المدائن ومن جَلُولاء التي كانت من أشد المعارك مع المسلمين في هذه الفترة.

ولما وصلت سيدنا عمر الأنباء التي تؤكد نقض الهرمزان للعهد مع المسلمين، وأن يزدجرد يشجع الفرس لقتال المسلمين في معركة فاصلة، يصدر سيدنا عمر بن الخطاب أوامره، ويضع خطة الجيش الإسلامي في فارس من المدينة، فيأمر سيدنا عمر بخروج جيش كثيف من الكوفة عاصمة المسلمين في أرض فارس على رأسه النعمان بن مُقَرِّن أحد صحابة النبي، ويتوجه من الكوفة رأسًا إلى الأهواز ليقاتل الهرمزان وفرقته، ثم يُتْبِع جيشَ النعمان بن مُقَرِّن بجيشين: على أحدهما ، وعلى الآخر وهو من الصحابة أيضًا، وهو الذي جمع قبيلة "بجيلة" بعد تفرقها، وكانت أول معركة تخوضها قبيلة بجيلة هي معركة القادسية.
وما زال على جيش الأهواز سيدنا حُرْقُوص بن زهير من صحابة النبي، وتحت إمرته أربع فرق: سلمى بن القين وحرملة بن مُرَيْطة وهما من صحابة النبي، وغالب الوائلي وكليب بن وائل (وهما الداخلان في عهد المسلمين من سنة ماضية)، ومدينة البصرة القريبة من الأهواز تخرج جيشًا كثيفًا على رأسه سهل بن عدي أخو سهيل بن عدي فاتح الجزيرة كما ذكرنا في المقال السابق، ويوصي سيدنا عمر بن الخطاب t سهل بن عدي بأن يصطحب معه خمسة من فرسان المسلمين في جيشه وهم: ، ومَجْزَأَة بن ثور وهما من صحابة النبي، وكعب بن ثور وهو من كبار التابعين، وسيدنا حذيفة بن محصن قائد الجيش الثامن من جيوش الردة لحرب عُمان، وسيدنا قائد الجيش التاسع من جيوش الردة لحرب مهرة، وهما في اليمن، ويوصيه ألا يولِّي البراء بن مالك إمارة الجيوش؛ فقد كان سيدنا البراء بن مالك من الشجاعة الفائقة بما يجعله يلقي نفسه في أمور قد يصعب على المسلمين أن يتحملوها، فينهى سيدنا عمر بن الخطاب عن توليه قيادة الجيش رغم كفاءته خشية هلاك المسلمين، ومن الكُمَاة المهرة سيدنا مَجْزَأَة بن ثور، وكان من أتقى الصحابة.

ومن المقربين إلى سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا كعب بن ثور هذا التابعي الجليل، ومن مواقفه مع سيدنا عمر بن الخطاب أن امرأة قالت لسيدنا عمر بن الخطاب: إن زوجي يصوم النهار ولا يفطر، ويقوم الليل ولا ينام, فقال لها سيدنا عمر بن الخطاب: نِعْمَ الزوجُ. فاستحيت السيدة وانصرفت، فقال كعب بن ثور لسيدنا عمر بن الخطاب: لماذا لم تُجِبْ لها مسألتها؟ فقال سيدنا عمر بن الخطاب: وأي مسألة في صيام زوجها وقيامه؟! فقال سيدنا كعب: ما أرى إلا أنه يهجرها في الفراش. فقال سيدنا عمر بن الخطاب: أوَ ترى ذلك؟ فأرسل إلى السيدة مرة أخرى، فعرض عليها ما قاله سيدنا كعب بن ثور، فصدّقت المرأة ما قاله كعب، وقالت: والله إنَّ لي لرغبة كما للنساء.

فتعجب سيدنا عمر بن الخطاب من سيدنا كعب بن ثور وفَهْمه للمسألة بسهولة وببساطة، فقال له سيدنا عمر: اقضِ في الأمر. فقال: أنت أمير المؤمنين، فَلْتَقْضِ أنت. فقال: إذا كنت عرفت الأولى فلك أن تعرف الثانية. فقال سيدنا كعب بن ثور: لو كان هذا الرجل من حقه أن يتزوج بأربع نساء فلكل واحدة منهنَّ ليلة، فيكون القضاء بأن يقضي هذا الرجل ثلاث ليالٍ مع ربه يقوم ويصوم كما يريد، وليلة مع زوجته. فقال له سيدنا عمر: ما رأيك الأول بأعجب من رأيك الأخير؛ اذهب فأنت قاضي البصرة.
فكان سيدنا كعب قاضي القضاة في البصرة، ومع ذلك كان من المجاهدين المقاتلين في صفوف المسلمين. وهذا يدلِّل على أن العابد أو العالم ليس دوره أن يمكث في المسجد فقط منصرفًا عن الجهاد، بل نذكر قصة لما بعث برسالة إلى عابد الحرمين الفُضَيْلِ بنِ عِيَاض يبين له فيها أن العبادة التي يقوم بها في مقابل الجهاد لعب، وكان الجهاد وقتها فرض كفاية، فكيف وهو فرض عين!!

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك في العبادة تلعب

تحركت هذه الجيوش العظيمة؛ جيش الكوفة والأهواز والبصرة في اتجاه واحد نحو مدينة تُسْتَر لحرب الفرس، على رأس كل الجيوش سيدنا ، الذي استطاع أن ينقذ المسلمين في موقعة طاوس، فأرسل سيدنا عمر بن الخطاب بتولية أبي سَبْرَة بن أبي رُهْم الإمارة على كل الجيوش، وكل هؤلاء القادة من الصحابة: النعمان بن مُقَرِّن، وسويد بن مقرن، وسهل بن عدي، والبراء بن مالك، ومَجْزَأَة بن ثور، وحرقوص، وحرملة، وسلمى؛ وذلك لما له من مهارة في القيادة، أَدَّتْ إلى أن يتبوَّأ هذه المكانة العظيمة عند المسلمين، وبدأت الجيوش الإسلامية بالتحرك في الاتجاه الذي ذكرناه.
تحركات الجيوش الإسلامية :

من الكوفة يخرج جيش النعمان ويخترق سواد الجزيرة ويعبر نهر دجلة، ويتجه جنوبًا ويعبر نهر "كارون" ناحية الأهواز، ومن البصرة يخرج سيدنا سهل بن عدي بجيشه، وكان جيش سيدنا النعمان بن مقرن أسرع من جيش سيدنا سهل بن عدي؛ فاخترق السواد في سرعة رهيبة جدًّا حتى وَصَل إلى منطقة سوق الأهواز، فعبرها حتى وصل إلى مدينة "رَامَهُرمُز" وعليها الهرمزان، فحاصرها وخرج له الهرمزان فالتقى معه في موقعة سريعة انتصر فيها على الهرمزان. ويرجع الانتصار الذي حققه النعمان على الهرمزان لعدة أمور من أهمها: سرعة النعمان بن مقرن، ومباغتته لعدوه قبل أن يجهّز الهرمزان جيشه، وقبل أن تصل القوات الإسلامية من البصرة.

ولما انهزم الهرمزان جمع فلول جيشه وانسحب به متجهًا نحو مدينة "تُسْتَر" حيث الحصون العظيمة للفرس، وعلم سيدنا سهل بن عدي وهو في طريقه إلى رامهرمز أن سيدنا النعمان بن مقرن انتصر على الهرمزان في رامهرمز، واتجه نحو تُسْتَر فغيَّر سيدنا سهل بن عدي اتجاهه من منطقة الأهواز رأسًا إلى تُسْتَر ليحاصرها مع سيدنا النعمان بن مقرن ، وتوجهت جيوش الأهواز إلى مدينة تُسْتَر وكان على رأس هذه الجيوش سيدنا ، وسلمى، وحرملة، وغالب، وكليب تحت إمرة سيدنا حرقوص بن زهير، ولا يكتفي سيدنا عمر بن الخطاب بذلك، بل يأمر سيدنا أبا موسى الأشعري أن يخرج بنفسه على رأس جيش من البصرة مددًا للمسلمين، فيخرج سيدنا أبو موسى الأشعري على رأس جيش من البصرة، ويتوجه بهذا الجيش إلى تُسْتَر أيضًا، وبوصول سيدنا أبي موسى الأشعري إلى تُسْتَر يكون سيدنا أبو موسى على رأس الجيوش التي خرجت من البصرة، ويبقى النعمان على رأس جيوش الكوفة، ويظل أبو سبرة بن أبي رهم على كل الجيوش حتى على سيدنا أبي موسى الأشعري.

وتصل الجيوش الإسلامية إلى مدينة تُسْتَر، بينما تختبئ الجيوش الفارسية داخل الحصون، وكما ذكرنا أن مدينة تُسْتَر من أعظم الحصون الفارسية على الإطلاق، ويقال: إنها أقدم مدينة في بلاد فارس، وبها أول سور بُنِيَ على وجه الأرض، وبُنِيَتِ المدينةُ في منطقة عالية وحولها سور ضخم عالٍ، وعلى السور أبراج عالية، وهذه الأبراج لم تكن متوفرة في حصون فارس، وهذه ميزة للفرس فباستطاعتهم رمي المسلمين بالسهام من فوق الأبراج ولا تصل سهام المسلمين إلى أعلى البرج، فكانت هذه في صف الفرس؛ بالإضافة إلى خندق حول المدينة كعادة الفرس، لكن الفارق بينه وبين الخنادق الأخرى أن هذا الخندق مملوءٌ بالماء مما يُصَعِّبُ على المسلمين اجتياز المدينة، وكان سور المدينة من طبقتين وبينهما فراغ والماء حول المدينة من معظم الجهات، وهناك منطقة واحدة لم يكن بها ماء ولكن على رأسها جيش كبير من الفرس، والأسهم تُلْقَى من فوق الأبراج على من يُحَاوِل اجتيازَ هذه المنطقة، فكانت المنطقة في شدة الحصانة، ولها سور ضخم عالٍ يحيط بالمدينة كلها، وبداخل المدينة الزروع والطعام وخارجها نهر بجوارها؛ فأقاموا الشواديف والروافع لرفع الماء من النهر إلى داخل المدينة، وبذلك كانت لديهم قدرة كبيرة على الصبر على حصار المسلمين.

وبدأ المسلمون في حصار الفرس، وكان هذا الحصار من أشد أربعة حصارات حاصرها المسلمون، وكعادة الفرس الخروج من داخل الحصن لقتال المسلمين من وقت لآخر كما فعلوا في جَلُولاء وفي تكريت وفي المدائن، فتخرج فرقة لقتال المسلمين وسرعان ما تعود إلى داخل الحصن، وتكررت هذه الزحوف ثمانين مرة، ودام الحصار لمدينة تُسْتَر قرابةَ ثمانية عشر شهرًا (ما يقرب من عام ونصف)، وكانت هذه أطول مدة تُحَاصَر فيها مدينة في التاريخ، ورغم طول المدة لم يستسلم الجيش الفارسي المحاصَر ولم ييأس الجيش الإسلامي من الحصار، وكان أمرًا شاقًّا على المسلمين فَهُم مُعَرَّضون لسهام الفرس، وبداخل الحصن أعداد كبيرة من الجنود وعلى رأسهم الهرمزان، وكان من أشد قادة الفرس قوة في ذلك الوقت بعد مقتل رستم في موقعة القادسية؛ فيصبر المسلمون على الحصار الشديد، وكان النصر في كل ما قام به الفرس من مهاجمة المسلمين حليفَ المسلمين، لكن كان الفرس يلجئون إلى الحصون في كل زحف قبل تحقيق النصر الكامل، فَشَقَّ الأمر على المسلمين، وشق الأمر أيضًا على الفرس، ثم تذكر المسلمون أن معهم رجلاً قال عنه النبي: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ[1] لاَ يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ"[2].

والبراء هو الذي أوصى به سيدنا عمر بن الخطاب أن يكون في جيش المسلمين، فذهب المسلمون إلى البراء بن مالك قائلين له: يا براء، ألا ترى ما نحن فيه؟! أَقْسِمْ على ربك. فيقول: أقسمت عليك يا رب أن تمنحنا أكتافهم، وتملكنا رقابهم، وتلحقني بنبيك.
مغامرة في نفق الماء :

بعد ثمانية عشر شهرًا قطعها المسلمون في حصارهم للفرس في تُسْتَر، وبعد أن طلبوا الدعاء من رجل بشَّره النبي باستجابة الدعاء، وبعد أن فرغ من دعائه سقط سهم بجوار سيدنا أبي موسى الأشعري، وفي هذا السهم رسالة، فقرأ سيدنا أبو موسى الأشعري الرسالة فوجدها من أحد الفُرْسِ داخل الحصن، يطلب الأمان من المسلمين لنفسه ولأمواله على أن يصف للمسلمين طريقًا للدخول إلى تُسْتَر، فذهب سيدنا أبو موسى الأشعري من وقته بالرسالة إلى قائد جيش المسلمين أبي سبرة بن أبي رهم، وتناقش معه في أمر الرسالة؛ فوافق سيدنا أبو سبرة على تأمين هذا الرجل، فكتب له أمانًا في ورقة ووضعها في سهم، ورمى بالسهم في المكان نفسِه الذي جاء منه السهم الفارسي، فسقط السهم بداخل حصن تُسْتَر، ثم يَقْدُم أحد الفرس خفية في الليل يحمل معه ورقة الأمان على نفسه ودمه وأمواله، وقال للأمير: فإني أريد منك رجلاً واحدًا أدلّه على الطريق، وبعد ذلك يعود ليأخذ الجيش.

فاستدعى سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم سيدنا مَجْزَأَة بن ثور من صحابة النبي ليستشيره، وكان من الذين أوصى بهم سيدنا عمر بن الخطاب ليكونوا في جيش المسلمين، وقال له: يا مجزأة، من ترى يكون هذا الرجل الذي يتبع هذا الفارسي؟ فقال سيدنا مجزأة: اجعلني ذلك الرجل. فيقول الفارسي: إن الأمر شديد، وإني أريد رجلاً يجيد السباحة. فيقول سيدنا مجزأة: أنا ذلك الرجل. ويضحي سيدنا مجزأة بنفسه ويخوض المجهول مع هذا الفارسي، فيقول له سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم: أوصيك أن تعرف الطريق جيدًا وتعود إلينا دون أن تُحْدِث أمرًا. وهذا أمر من سيدنا أبي سبرة بن أبي رُهْم قائد المسلمين إلى سيدنا مجزأة الجندي في جيش المسلمين، وكان هذا الأمر قد وُجِّهَ من قبل إلى سيدنا من قبل النبي في ، فقد أوصاه النبي ألا يُحدِث أمرًا وهو يأتي بخبر القوم.

فيذهب حذيفة إلى داخل معسكر الأحزاب، ويكون على مقربة منه، فهَمَّ بقتله لولا أن تذكر وصية النبي ألا يحدث أمرًا، فيُعْرِضَ عن قتل أبي سفيان مع أنه قائد جيوش الأحزاب لوصية النبي، فيحفظ سيدنا مجزأة الوصية جيدًا، ويذهب مع الفارسي في منطقة من الخندق ثم يتجه الفارسي إلى المنطقة التي بها مياه، ويسبح في الماء فيسبح وراءه سيدنا ، ثم يغطس تحت الماء فيغطس وراءه، فيجد نفسه قد دخل في نفق داخل السور الكبير الذي يحيط بمدينة تُسْتَر فيدخل في هذا النفق، وكان نفقًا شديد الصعوبة، فتارة يضيق فيعبره سيدنا مجزأة بمنتهى الصعوبة، وتارة يتسع ويتشعب، وتارة يكون سقف النفق منخفضًا فإذا أراد العبور لا بد من الغطس تحت الماء، ويختفي تمامًا حتى يعبر المنطقة التي بعدها فيرتفع مرة أخرى فوق سطح الماء، وكان هذا النفق شديد الصعوبة شديد الظلمة، ووصل سيدنا مَجْزَأَة إلى باب النفق الذي يؤدي إلى مدينة تُسْتَر بعد مغامرة قضاها مع الفارسي وسط نفق من الماء شديد الظلام وشديد الصعوبة، فيذهب الفارسي ويحضر لباسًا فارسيًّا، ويلبسه سيدَنا مجزأة بن ثور ويدخل به إلى المدينة، وبمجرد دخول سيدنا مجزأة بن ثور المدينة بدأ يتفقدها، فتفقَّد باب الحصن الرئيسي، وتفقد الحصن الكبير أو القصر الكبير بداخل تُسْتَر الذي فيه الهرمزان، وتفقد المناطق الرئيسية المؤدية إلى مداخل المدينة، وفي أثناء هذا التفقد يرى رجلاً نازلاً من القصر ليلاً بخُيَلاء وعظمة عليه تاجه ويلبس ذهبه، وعرف سيدنا مجزأة أنه الهرمزان، فيقول سيدنا مجزأة: واللهِ إني أعلم أني لو أطلقتُ عليه سهمًا ما أخطأته، ولكني أذكر وصية أبي سبرة بن أبي رهم "لا تحدث أمرًا"؛ فأعيد سهمي في جَعبتي طاعةً لأمير الجيش.

ولقد رأينا أن معصية الأمير أو القائد لا تأتي إلا بالخسارة الفادحة على المسلمين، وكما رأينا ذلك في موقعة الجسر وقد استشهد فيها أربعة آلاف مسلم، وأيضًا في معركة طاوس التي استشهد فيها عددٌ غير قليل من المسلمين، وعلى العكس من ذلك تمامًا نجد نتيجة الطاعة، طاعة الجندي لأميره حتى وإن كان يرى في رأيه صوابًا إلا أنه بعد أن يشرح للأمير عليه أن يطيعه، فيطيع سيدنا مجزأة أميره ويعرف طريقه جيدًا، ولا يحدث أمرًا ثم يعود أدراجه مرة أخرى إلى النفق، ويترك الفارسي داخل المدينة، ويعود إلى سيدنا أبي سبرة بن أبي رهم ويخبره بإتمام أمره، قائلاً له: انتخب لي بعض المسلمين حتى أفتح لك الأبواب. ولم يرضَ سيدنا أبو سبرة أن يكلف الناس بهذا الأمر الشاقِّ؛ ففتح للناس باب التطوع لعبور النفق بشرط أن يكونوا ممن يجيدون السباحة، فتطوع المسلمون من جيش الكوفة ومن جيش البصرة ومن جيش الأهواز (كما حدث من قبل في موقعة المدائن، لما أراد سيدنا سعد بن أبي وقاص عبور نهر دجلة بالخيول، فكانت أول فرقة تعبر النهر ستكون أول فرقة في مواجهة الفرس، فجعلها سيدنا سعد تطوعًا، وكان على رأسها سيدنا عاصم بن عمرو التميمي)، وتطوع من المسلمين -لما أعلن فيهم سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم- ثلاثمائة من المسلمين ليعبروا هذا النفق الخطير، وكان هذا أكبر عائق مَرَّ بالمسلمين في حروب فارس، وكان من بين المتطوعين سيدنا عاصم بن عمرو التميمي وسيدنا أبو سبرة بن أبي رهم، وهما من قواد المسلمين في معارك فارس، لكن سيدنا أبا سبرة بن أبي رهم جعل سيدنا مجزأة بن ثور أميرًا على الثلاثمائة؛ لأنه دليل المسلمين في الطريق، وهو أول من تطوع للذهاب إلى داخل مدينة "تُسْتَر".

وتتقدم هذه الفرقة لتدخل مدينة تُسْتَر، ويوصيهم سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم: "إذا التقيتم مع عدوكم فتذكروا الله، وافتحوا لنا الأبواب، وعلامتنا التكبير". فيدخل الثلاثمائة إلى النهر بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين، وقبل الفجر بثلاث ساعات، وتقدم سيدنا مجزأة المسلمين وكان النفق شديد الصعوبة على المسلمين؛ فكان يرشد الناس إلى الطريق بصوت خافت لظلمة النفق ولئلا يسمعه الفرس، وتحرر المسلمون من كل شيء إلا جلبابًا خفيفًا والسيف مربوط على صدورهم، ويجتاز المسلمون النفق ويصل سيدنا مجزأة بن ثور إلى باب النفق وقد فقد في النفق مائتين وعشرين جنديًّا، ولم يتبقَّ معه سوى ثمانين رجلاً فقط، أي أنه في خلال ساعتين فقط ابتلع النفق الرهيب هذا العدد الضخم.

قد نمرُّ على فتوحات المسلمين في فارس وفي غيرها دون الوقوف عندها، لكن هذه الفتوحات قد دُفِعَ فيها أرواح ومجهود، فلم يكن الأمر سهلاً وميسورًا بالنسبة للمسلمين، وأقرب مثال على ذلك فتح تستر.

دخل سيدنا مجزأة بن ثور مع المسلمين خُفْيَة وتحسَّسَ الطريق حتى وصلوا إلى باب الحصن، فتقاتلوا مع قادة حرس الباب في معركة شديدة، وكان الجيش الفارسي في سُبَاتٍ عميق، ولم تبقَ إلا الحامية التي دخل معها المسلمون في قتال عنيف وسريع، وأثناء القتال تتوجه مجموعة من المسلمين ناحية الباب لتفتحه للجيوش الإسلامية، ثم بدأ المسلمون من داخل الحصن في التكبير، وكانت هذه التكبيرات إشارة للقوات الإسلامية خارج الحصن إلى السيطرة على الموقف، وأَنَّ عليهم أنْ يكونوا على أُهْبَةِ الاستعداد، فوقف المسلمون على باب الحصن قبل أن يُفتحَ الباب، وما إن فُتِحَ باب الحصن حتى انهمر المسلمون داخل حصن "تُسْتَر" كالسيل، والتقى المسلمون مع الفرس في معركة من أعنف المعارك في الفتوحات الفارسية حتى هذه اللحظة يُقَدَّر عنفها بعنف ليلة "الهرير" في القادسية، وبعنف ليلة جَلُولاء؛ وكانت الميزة بالنسبة للمسلمين عنصر المفاجأة والمباغتة التي داهموا بها القوات الفارسية، ولم يَدُرْ بخَلَدِ الفُرْسِ أبدًا أن يقتحم المسلمون الحصن في ذلك الوقت من الليل، فاستيقظ الجنود الفرس وقد باغتهم وجود المسلمين ولم يأخذوا أهبتهم بعدُ، وألقى الله الرعب في قلوبهم، وأعزَّ الله جنده، وبدأت سيوف المسلمين تُعمل في رقاب الفرس.
شجاعة نادرة:

وممن كتب الله لهم الشهادة في ذلك اليوم سيدنا البراء بن مالك، وقد لمحت عينه الهرمزان من بُعد، فأراد الوصول إليه، وكانت أمامه أمواج من البشر تتقاتل، لكنه كان يقتل رجلاً رجلاً ليصل إلى الهرمزان ليفتك به، وتجاوز عدد قتلى البراء بن مالك في معركة تُسْتَر إلى مائة قتيل من الفرس مبارزة، ويلتقي بعد ذلك بالهرمزان ويتقاتلان معًا، فيسدد البراء ضربة ويسدد الهرمزان ضربة، فيخطئ البراء ويصيب الهرمزان؛ لينال البراءُ بنُ مالكٍ الدرجات العُلا من الجنة بالشهادة في سبيل الله كما دعا اللهَ ، فاستجاب له الله دعوته بفتح تُسْتَر وهزيمة الفرس واستشهاده، وراقب سيدنا مجزأة بن ثور الموقف عن بُعْدٍ، وحتى هذه اللحظة كان قد قتل مائة من الفُرْسِ وأراد الوصول إلى الهرمزان لقتله؛ فقاتل أمواجًا من البشر حتى وصل إلى الهرمزان، وما إن وصل مجزأة إلى الهرمزان حتى تقاتلا، فضرب مجزأة ضربة أخطأها، وضرب الهرمزان ضربة فأصابت سيدنا مجزأة لينام قرير العين بعد جَهْدٍ أمضاه في خدمة الإسلام، ليلحق بركب المجاهدين ويكون ممن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقًا.
ونزل نصر الله :

ما زالت السيوف المسلمة تعمل عملها في رقاب الفرس، ولم يجد الفرس خيارًا سوى الفرار، ولم يجد الهرمزان حيلة إلا الاختفاء داخل قصره الكبير، وأغلق عليه بابه الكبير؛ فقد كان قصرًا أقرب إلى الحصن، أما القوات الفارسية فما بين قتيل أو جريح أو أسير أو هارب.

وبعد أن صعد الهرمزان إلى قصره وأغلق بابه نادى على المسلمين: إن معي في جعبتي مائة سهم، لو أطلقتُها لقتلتُ مائة منكم؛ فسهمي لا يخطئ، فأي نصر تحققونه إذا أخذتموني وقتلت منكم مائة؟! فقالوا له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أنزل على رأي عمر. وبعد أن تناقش المسلمون قَبِلَ أبو سبرة بن أبي رهم عَرْضَ الهرمزان؛ فألقى الهرمزان بالسهام وسلَّم نفسه للمسلمين وتم القبض على الهرمزان، ووفاءً للعهد مع الهرمزان قرر المسلمون إرساله إلى سيدنا عمر بن الخطاب ليرى فيه رأيه وليحكم فيه، ووصلت الأنباء إلى سيدنا عمر بن الخطاب بتمام النعمة على المسلمين بفتح تستر بعد عام ونصف العام من حصارها، وأَسْرِ الهرمزان الذي طالما نقض عهده مع المسلمين، وقد ذكرنا من قبل أن مدينة السُّوس في منطقة الأهواز هي عاصمة الأهواز، وتُسْتَر تعدّ العاصمة التجارية.

أرسل سيدنا عمر بن الخطاب برسالة إلى سيدنا أبي سبرة بن أبي رهم يأمره أن يتوجه النعمان بن مقرن على رأس الجيوش الإسلامية إلى مدينة السوس، ويرجع أبو موسى الأشعري بجيشه إلى البصرة، وعلى الجيش سيدنا المقترب بن ربيعة وهو من صحابة النبي، وكان اسمه الأسود بن ربيعة، وقال للنبي لما سأله: "مَا أَقْدَمَكَ؟" فقال: جئت لأقترب إلى الله تعالى بصحبتك؛ فسماه المقترب.

فكان المقترب على قيادة الجيوش مكان سيدنا أبي موسى الأشعري على الجيش، وعلى الجيشين سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم.

وتوجه سيدنا زيد بن كليب وهو من صحابة النبي إلى "جنديسابور"، وأمر سيدنا عمر بن الخطاب أن يأتي إليه الهرمزان ومعه فرقة لحراسته، وعلى رأس هذه الفرقة سيدنا t أخو البراء بن مالك ، وسيدنا t، وسيدنا وعرف سيدنا عمر بن الخطاب أن الهرمزان ذو مكرٍ ودهاء وحيلة؛ فأرسل معه هذه الحامية التي على رأسها هؤلاء الثلاثة من المقاتلين المسلمين المهرة، وبدأ المسلمون بتوجيه القوات الإسلامية في الاتجاهات التي أمر سيدنا عمر بفتحها، ووجه المسلمون الهرمزان إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة ليرى رأيه في هذا الرجل الذي نقض عهده أكثر من مرة مع المسلمين.​
 
رد: فتوحات العراق وفارس

لقاء عمر بن الخطاب مع الهرمزان


تقدم الوفد الإسلامي بأسيرهم الهرمزان إلى المدينة المنورة ليرى فيه سيدنا t رأيه، وكما ذكرنا أن الوفد كان على رأسه سيدنا أنس بن مالك و و ، وتوجه الجميع من "تُسْتَر" إلى المدينة، وكانت المسافة كبيرة جدًّا تُقدَّر بألف كيلو متر، وكان الهرمزان تحت حراسة مشددة، فلما اقتربوا من المدينة ألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه، وكان مكللاً بالياقوت، وأساوره وأعقاده الذهبية ومنطقته وسيفه الذهبي، ألبسوه هذا اللباس ليدخل المدينة في هذه الهيئة، فيرى المسلمون هذا العزّ وهذه العظمة كيف سقطت في أيدي المسلمين؟ وكيف أعز الله المسلمين وأذل هؤلاء بالإسلام؟ فألبسوه لباسه ودخلوا به إلى المدينة، فطلبوا عمر فلم يجدوه في بيته، فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة.

وسيدنا عمر بن الخطاب هو رئيس الدولة التي أسقطت عروش أعظم دولتين في الأرض: الفرس والروم، وما زالت هذه الدولة في بداية نشأتها، فرآهم بعض الصبية وهم يلعبون في طرقات المدينة؛ فقالوا لهم: ما تلددكم؟ تريدون أمير المؤمنين؟ والله إنه لنائم في المسجد. فذهب الوفد إلى المسجد ومعهم الهرمزان، وتجمع الناس في المسجد لما رأوا الهرمزان في هذه الهيئة؛ ليحضروا هذا اللقاء التاريخي بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وبين الهرمزان أحد قواد الفرس، وعندما دخل الوفد المسجد بحثوا عن سيدنا عمر بن الخطاب في المسجد يمينًا ويسارًا فوجدوه متوسدًا بُرْنسًا له كان قد لبسه للوفد، فلما انصرفوا عنه توسّد البرنس ونام، وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره، والدِّرَّة في يده معلقة، فكان نائمًا بدون حرّاس أو حجّاب.


لقاء عمر مع الهرمزان :

دخل الهرمزان المسجد، وتأهب لمقابلة رئيس الدولة التي أسقطت عروش كسرى وقيصر، والذي أرسل جيوشًا مخرت "فارس" من الجنوب إلى الشمال، ومن الغرب إلى الشرق، رئيس الدولة التي زلزلت "الروم" و"فارس"، كان منتظرًا لمقابلة رئيس الدولة الذي تطيعه كل هذه الجيوش فتتحرك بكلمة منه في بلاد الروم وفارس، كان منتظرًا لأن يقابل الرجل الذي يضع خططًا وهو في المدينة لا يستطيع أمراء وقادة فارس وضعها وهم في أرض المعركة وفي بلادهم، وكما ذكرنا من قبل أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يضع الخطط من المدينة لتحركات الجيوش داخل مدينة فارس، وكأنه يعيش في أرض فارس وما دخل فارس من قبل، كل ما في الأمر أن فارس كانت توصف له كأنه يراها رأي العين وعلى إثر ذلك يضع الخطة، وتعجز القيادة الفارسية في ذلك الوقت -وهم أهل البلد وأعرف بها من غيرهم- أن يضعوا خطة تجابه الخطة التي وضعها سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة؛ فقد كان متشوقًا لرؤية هذا الرجل ذي العبقرية العظيمة الجبارة وصاحب التفكير العملاق، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا. فوجده في وضع غريب جدًّا، وجده نائمًا في ركن من أركان المسجد، لباسه متواضع، ليس له حرّاس أو حُجَّاب، ومن المؤكد أن تحضر صورة يزدجرد ملك الدولة الفارسية في ذهن الهرمزان، فقد كان الداخل على يزدجرد يقف على مسافة منه، وكان أقرب من يقف مع يزدجر يقف على بعد خمسة أمتار وكانوا كبار الأساورة والأمراء، وعلى بعد عشرة أمتار يقف كبار قواد الجيش والعلماء، ثم على بعد خمسة عشر مترًا يقف المهرجون والمطربون وأصحاب اللهو، وإذا أراد أحد مقابلته فليس له أن يتجاوز هذه المسافة، وكان الداخل على يزدجرد يرتمي على الأرض، ولا يتكلم حتى يأذن له كسرى بالكلام، وإذا تكلم أحد مع يزدجرد لا يذكر اسم يزدجرد أبدًا تعظيمًا لهذا الاسم، وإذا دخل رجل على يزدجرد وضع على فمه غلالة من القماش الأبيض حتى لا تُلوِّثَ أنفاسُه الحضرة الملكية ليزدجرد، ولك أن تنظر إلى العظمة التي كان يعيش فيها كسرى فارس وأمير الأهواز الهرمزان وغيره من أمراء الدولة الفارسية، وكيف يستطيع هذا الرجل المتواضع الذي ينام في ركن من أركان المسجد أن يسقط كل هذه العروش، ويهز هذه الأبنية التي ملأها الكبر والعظمة، فيتعجب الهرمزان متسائلاً عن عمر بن الخطاب، فقالوا: ها هو نائم.
وجعل الناس يخفضون أصواتهم لئلا ينبهوه، وجعل الهرمزان يقول: وأين حجّابه؟ أين حَرَسه؟ فقالوا: ليس له حجاب ولا حرس، ولا كاتب ولا ديوان. ينام في المسجد في منتهى الأمن، وقد قال له رسول قيصر: حكمت فعدلت فأمنت، فنمت يا عمر.

فقال الهرمزان: ليس له حاجب ولا حارس! ينبغي أن يكون نبيًّا.

فقالوا: لا، بل يعمل عمل الأنبياء.

فالرسل هم القدوة التي يقتدي بها الخلق، وقد وصل سيدنا عمر بن الخطاب إلى أن يعمل بعمل الأنبياء، وهذه ليست أول مرة تُقال فيها هذه الكلمة في حق سيدنا عمر بن الخطاب، فقد قالها أشرف الخلق محمد؛ ففي مسند عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: "لَوْ كَانَ مِنْ بَعْدِي نَبِيٌّ لَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ".

وكثيرًا ما نزل القرآن موافقًا لسيدنا عمر بن الخطاب، هذا هو الرجل الذي يخاف منه الشيطان لا لقوة في جسده بل لقوة إيمانه وتقواه.​

هذا الرجل العظيم شديد المنعة الذي يهتز كسرى على كرسيه فَرَقًا عند سماع اسمه، والذي تخشاه ملوك الروم يسمع آية من كتاب الله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7]، فيسقط مغشيًّا عليه خوفًا من هذه الآية من خشيته لله عز وجل، ويَعُوده أصحابه في منزله أيامًا.

فتعجب الهرمزان؛ رجل على مثل هذا وليس بنبيٍّ.

وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالسًا (ومن هذه اللحظة يبدأ اللقاء التاريخي المهم في أطهر بقعة من بقاع الأرض في بيت من بيوت الله عز وجل، وفي مسجد الرسول على ما كان عليه من البساطة، فيتم اللقاء في هذا المكان بين سيدنا عمر بن الخطاب أمير الدولة الإسلامية الناشئة التي أسقطت عروش فارس والروم وبين الهرمزان أمير الأهواز وأحد أمراء الدولة الفارسية) نظر عمر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم.

فتأمله وتأمل ما عليه، ثم قال: أعوذ بالله من النار وأستعين بالله.

ثم قال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين، واهتدوا بهدي نبيكم، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غدارة.

فقال له الوفد: هذا ملك الأهواز فكَلِّمْهُ.

فقال: لا، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء.
ففعلوا ذلك وألبسوه ثوبًا صفيقًا، فقال عمر: يا هرمزان، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلَّى بيننا وبينكم فغلبناكم، إذ لم يكن الله معنا ولا معكم، فلما كان الله معكم غلبتمونا. ولك أن تتأمل في كلام الهرمزان وبُعد نظره، فهو يشعر بل يؤكد أن الله ينصر هذا الجيش.

فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا.

ثم قال: ما عذرك وما حجتك في انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك.

قال: لا تخف ذلك.

فاستسقى الهرمزان ماء فأُتي به في قدح غليظ، فقال: لو مِتُّ عطشًا لم أستطع أن أشرب في هذا. فأتي به في قدح آخر يرضاه.

ليس لهذا اللقاء أهمية عسكرية كبيرة، بل تُظهِر هذه المقابلة بوضوح أخلاق المسلمين في هذا اللقاء، فنحن نرى سيدنا عمر بن الخطاب يصبر على الهرمزان ويأمر له بالماء، وكان بإمكان سيدنا عمر بن الخطاب قتله أو الغدر به، ولكن في مثل هذه المواقف تظهر الرحمة التي تربى عليها المسلمون حتى مع من غدر بهم وقتل منهم، ويظهر ذلك جليًّا في تعامل سيدنا عمر بن الخطاب مع الهرمزان.

فلما أخذه جعلت يده ترعد، وقال: إني أخاف أن أُقْتَلَ وأنا أشرب.

فقال عمر: لا بأس عليك حتى تشربه فَأَكفأه.

فقال عمر: أعيدوه عليه ولا تجمعوا عليه القتل والعطش.

فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به.

فقال له عمر: إني قاتلك. فقال: إنك أمَّنتني.
قال: كذبت. فقال أنس: صدق يا أمير المؤمنين. فقال عمر: وَيْحَكَ يا أنس! أنا أُؤَمِّنُ من قتل مجزأة والبراء؟! والله لتأتينَّ بمخرج أو لأعاقبنك. قال: قلت له: لا بأس عليك حتى تخبرني.

وقلت: لا بأس عليك حتى تشربه. وقال له من حوله مثل ذلك.

فأقبل على الهرمزان فقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا لمسلم.

فأسلم، ففرض له على ألفين، وأنزله المدينة.

ولا أحد يعلم إن كان إسلام الهرمزان تقية وخوفًا من القتل (وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب مقولة تذكرها بعض الروايات، يقول سيدنا عمر: إن للمخدوع في الحرب حُكمَه؛ ولهذا يقول النبي: "الْحَرْبُ خُدْعَةٌ"، فيعرض سيدنا عمر بسلاح لم يستغله وبفتوى، وكما نعلم فإن سيدنا عمر بن الخطاب من كبار علماء المسلمين، فبعد مقالة سيدنا عمر أيقن أنه إما الإسلام أو القتل فأسلم الهرمزان)، أم أن إسلامه عن قناعة فهو لم يرتد بعد إسلامه، ولكن كثيرًا من الروايات تشكك في إسلام الهرمزان، ووصل بعض من يشككون في إسلام الهرمزان إلى أنه هو الذي أعان أبا لؤلؤة المجوسي على قتل سيدنا عمر بن الخطاب بعد ذلك، وكانوا يقولون: كان سيدنا عمر بن الخطاب يستشير الهرمزان ولا يأخذ بمشورته. المهم أسلم الهرمزان وأعتق نفسه من القتل، وأحضر له المسلمون لباسًا يرضاه، وعلَّموه الإسلام واغتسل، وأصبح مسلمًا بعد هذا اللقاء التاريخي.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135].

إن الناظر في اللقاء الكائن بين أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب والهرمزان أمير الأهواز ليلمس معاني كبيرة تُسَطَّر بأحرفٍ من نور للمسلمين، ولا بد أن نخرج من هذا اللقاء بفائدة عملية نتعلم منها، وتكون منهجًا في تعاملاتنا، وأهم ما يجب تعلمه من هذا اللقاء: العدل في الحكم وإن كان المحكوم عليه عدوك، فلم يكن أحد يبغض الهرمزان قبل إسلامه أكثر من سيدنا أنس بن مالك؛ فهو قاتل أخيه الذي لم يجف دمه بعدُ، ولكنه يعطيه الأمان عدلاً، ولا بُدَّ أن يُوَفَّى له بهذا العهد.

كانت هذه هي صورة الإسلام في ذلك الوقت.​
فتح السوس :

بعد إسلام الهرمزان، أرسل سيدنا عمر بن الخطاب إلى أبي سَبْرَة بن أبي رُهْم أن يعيد أبا موسى الأشعري إلى البصرة مرة أخرى، ويؤمِّر على الجيش المقترب بن ربيعة، فيُؤمّر المقترب على جيش البصرة، ويظل النعمان كما هو على جيش تُسْتَر، وعلى الجيشين سيدنا ، ويتوجه هذا الجيش العظيم من تُسْتَر إلى مدينة السُّوس، ومن تُسْتَر -أيضًا- يتجه جيش على رأسه ذرّ بن كليب إلى جُنْدَيْسابُور في شمال تُسْتَر.

ويتوجه الجيشان إلى مدينة السُّوس، وكما ذكرنا من قبل أن السوس عاصمة الأهواز، ولكنها لم تكن على نفس درجة حصانة تُسْتَر، وكان على رأس مدينة السوس شهريار أخو الهرمزان.

وتتفاعل في نفس شهريار عدة عوامل تزيده ضراوة في حربه ضد المسلمين:

أولها: أوامر يزدجرد للقادة الفرس بمحاربة المسلمين.

ثانيها: ملكه هو فهو أمير السوس وهي عاصمة الأهواز، فلو هزم لضاع ملكه وضاعت إمرته.

ثالثها: العامل الانتقامي؛ فهو يريد أن ينتقم لأخيه من المسلمين بسبب أسرهم لأخيه، ومن المؤكد عنده قتل الهرمزان.

وفي هذا الوقت جمع شهريار قواته وعسكر في السُّوس، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى المسلمين يقول فيها: "إنما أنتم كلاب، وإنما أنتم كذا وكذا". وكانت هذه محاولات لإهانة المسلمين حتى يشعرهم أنه غير مهتم بالقوات الإسلامية، وكأنه يريد محاربة المسلمين حربًا نفسيَّة، لكن المسلمون لم يشتغلوا بمثل هذه الأمور؛ فقد توجّهت الجيوش الإسلامية من تُسْتَر مباشرة إلى السُّوس لفتحها، وكان حصار مدينة السوس أقل من حصار مدينة تُسْتَر، وبدأ المسلمون بقذف حصون السوس بالمقلاع (والمقلاع آلة كالمنجنيق)، ورمي السهام داخل الحصون، وكان أهل الحصن يخرجون لمحاربة المسلمين المرة بعد المرة، ولم يحصدوا إلا الهزيمة في كل مرة كعادة الفرس، وتقهقروا مرة أخرى إلى الوراء داخل حصنهم خوفًا من فتك المسلمين بهم..

ودام الحصار شهرًا أو يزيد لم يستسلم فيه الفرس، ولم يتهاون المسلمون في حصارهم، وعلى المسلمين -كما ذكرنا- سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم، وأثناء محاصرة المسلمين للسوس أشرف عليهم الرهبان، فقالوا: يا معشر العرب، إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم معهم الدجال. حاول النصارى الموجودون في السوس إرهاب المسلمين نفسيًّا، فالدجال -كما نعلم- شخصٌ منكر وبغيض، ولن يرضى المسلمون أن يكون بينهم الدجال، وقد حذرهم النبي منه، ولم يؤثر مثل هذا الكلام في المسلمين، فلديهم مرجع لا يختلف عليه اثنان: القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة، فإذا وجد تعارض بين هؤلاء القوم وبين ما جاء في القرآن فهو هباء منثور، فقد رأى النبي سيدنا عمر بن الخطاب مرةً يقرأ في صحيفة من التوراة، ولم يكن يمنعه هذا عن قراءة القرآن، فيغضب غضبًا شديدًا قائلاً له: "أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي". ولم يشغل بال المسلمين مثل هذه التهديدات، فأصروا على الحرب وشددوا في حصارهم وقذفهم للسوس، وكسر المسلمون الأبواب ودخلوا مدينة السوس عنوة واستسلم كل أهلها، وكان فتحها يسيرًا على المسلمين بخلاف مدينة تُسْتَر.
فتح مدينة جنديسابور :

بعد خروج الجيوش الإسلامية من تُسْتَر، وفي الوقت الذي توجه فيه أبو سبرة بن أبي رهم من مدينة تُسْتَر إلى مدينة السوس كان ذرّ بن كليب متوجهًا على رأس جيش إلى مدينة جُنْدَيْسابُور، وبمجرد وصوله إلى جُنْدَيْسابُور ضرب عليها حصارًا شديدًا وخرج إليه أهلها لمحاربة المسلمين، وفي كل خروج يهزمون ويتقهقرون حتى يلجئوا إلى الحصن، ولم يستطع سيدنا ذرّ بن كليب تحقيق النصر الكامل على جيش جُنْدَيْسابُور، فأرسل إليه سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم من السوس سيدنا المقترب بن ربيعة على جيش البصرة مددًا له، فيذهب المقترب ويحاصرها معه، واشتد الحصار على هذه المدينة من الجيشين، ولم يتمكنا من تحقيق النصر على أهلها، فخرج إليهم سيدنا أبو سبرة بن أبي رهم بعد أن ترك حامية من جيش المسلمين في مدينة السوس، وحاصر المدينة حصارًا شديدًا، واشتد في ضربهم حتى خارت المدينة وأوشكت على الانهيار، وشعر المسلمون بالنصر، وقد عرض عليهم المسلمون من قبل الإسلام أو الجزية أو القتال، ورفضوا الإسلام والجزية وأبوا إلا القتال، ولو انتصر المسلمون في هذه المعركة ودخلوا البلد عَنْوَةً كان حكم أهلها كحكم المأسور في الحرب وليس كحكم الذمي المعاهد على جزية، وبعد أن لاحت في السماء تباشير النصر وقبل وقوع النصر بلحظات وفتح الأبواب لم ينتبه المسلمون إلا وقد فتحت أبواب المدينة، وأخرجوا أسواقهم وخرج أهلها رافعين الرايات البيضاء، وقالوا: قبلنا أمانكم. فسألهم المسلمون: وما أماننا؟ فقالوا: رميتم بالأمان فقبلناه، وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا. فقالوا: ما فعلنا! فقالوا: ما كذبنا. فقرأ المسلمون الأمان، فإذا فيه: هذا أمن من مكنف بن عبد الله إلى أهل جُنْدَيْسابُور، أن افتحوا الأبواب وأنتم آمنون على دمائكم ونسائكم وأموالكم وذراريكم. ولم يعرف أحد من قادة الجيش الإسلامي مصدر هذه الورقة، فقالوا: ما ألقينا هذا الأمان، إنما فعل هذا مكنف بن عبد الله، وهو عبد من عبيد المسلمين، قد أُسِرَ وأسلمَ وكان مع الجيش في هذه الموقعة، وألقى هذه الورقة بداخل المدينة؛ فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية وما بدلنا، فإن شئتم فاغدروا. فكتبوا إلى عمر فأجاز أمانهم، فأمّنوهم وانصرفوا عنهم.

فكتب إليهم عمر بن الخطاب رسالة قصيرة يقول لهم فيها: إن الله عظم الوفاء، فإن كنتم في شك فأمِّنوهم، وأوفوا لهم عهدهم، وإنما ذلك العبد من المسلمين. فأعطى المسلمون الأمان لهذه المدينة بكاملها بأمان عبد من عبيد المسلمين، ويكتشف المسلمون بعد ذلك أن أصل هذا العبد كان من مدينة جُنْدَيْسابُور، وألقى إليهم هذا الأمان الذي وافق عليه عمر، وأعطى قائد الجيش الأمان للمدينة على أمان عبد من عبيد المسلمين، ووفَّى لهم وأعطوا الجزية. وبفتح جُنْدَيْسابُور أتم الله النعمة على المسلمين بفتح الأهواز.

وفي ذلك الوقت كان يزدجرد قد هرب إلى "مَرْو" في أقصى الدولة الفارسية، وبعد أن وصلت إليه أنباء الهزيمة وسقوط منطقة الأهواز بدأ يجرِّئ الجيوش الفارسية مرة ثانية على قتال المسلمين، وكان سيدنا عمر بن الخطاب قد أمر المسلمين بعدم الانسياح في بلاد فارس، والوقوف على حدود آخر مدينة فتحوها، وقال: "وددت لو أن بيني وبين فارس جبلاً من نار، لا أغزوهم ولا يغزونني". فقد كان t يخشى أن تفتح الدنيا على المسلمين، ولا يريد أن يلتقي بالفرس إلا بعد أن يتأكد من وضع المسلمين.

فعلم قباذ بن عبد الله (وهو فارسي وكان على رأس حلوان) أن الفرس جمعوا مائة وخمسين ألفًا في نهاوند (وتقع نهاوند في شمال جُنْدَيْسابُور في وسط بلاد فارس)، وتصل الأخبار إلى سيدنا عمر بن الخطاب t في المدينة بأن يزدجرد يجهز الجيوش في نهاوند لقتال المسلمين، وفي الوقت نفسه يقدم وفد من الكوفة إلى سيدنا عمر بن الخطاب شاكيًا أمير منطقة فارس سيدنا سعد بن أبي وقاص، وقال الوفد لسيدنا عمر بن الخطاب: إن سعدًا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. يتهمون سيدنا سعد بن أبي وقاص سادس من أسلم، وخال الرسول ، والوحيد الذي قال له النبي: "يَا سَعْدُ ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"، والذي دعا له النبي بأن تُستجاب دعوتُه وتُسدد رميتُه، يتهمون هذا الرجل بأنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. وما إن سمع سيدنا عمر بن الخطاب هذه الكلمات حتى قرر التحقيق في أمر هذه القضية، ولم يشغله أن سعدًا من السابقين الأولين في الإسلام، أو خال النبي، وأرسل من المدينة من يحقق في أمر سيدنا سعد بن أبي وقاص، أرسل الرجل الذي كان يبعثه النبي في مهامه الصعبة.

أما عن نتيجة التحقيق التي بسببها عزل سيدنا سعد بن أبي وقاص, وسبب عزله، ومَن هذا الجليل الذي حقّق في الأمر، ومَن كان قائد الجيوش في معركة نهاوند، هذا القائد الذي قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب: "والله لأُوَلِّيَنَّ هذا الأمر رجلاً أسبق من الأسِنَّة".
 
رد: فتوحات العراق وفارس

عزل سعد بن أبي وقاص




وصل إلى نبأَيْنِ؛ النبأ الأول: هو تجمع أعداد كبيرة من الفرس وصل تعدادهم إلى مائة وخمسين ألف جندي لقتال المسلمين في نَهاوَنْد، وهي من المدن المهمة في عمق الدولة الفارسية، وأرسل هذا الخبر قُباذ بن عبد الله أمير حُلوان.

والنبأ الثاني: شكاية أهل الكوفة بأن أميرهم سيدنا سعد بن أبي وقاص لا يقسم بالسويَّة، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية؛ فقرر سيدنا عمر بن الخطاب التحقيق في الأمر.
التحقيق في الشكوى ضد سعد :

كان سيدنا سعد بن أبي وقاص سادس من أسلم، وخال الرسول، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ورغم فضله ومنزلته إلا أن سيدنا عمر بن الخطاب لا يتكل على هذه الأمور، بل يحقق في الأمر لأنه يؤمن بأن الله محاسبه عن كل هؤلاء الولاة، فأرسل من يحقق في الأمر، وكان هذا الرجل كما يقول عنه علماء التاريخ: إنه رجل المهام الصعبة، هذا الرجل الذي كان النبييبعثه في مهامه الصعبة، وهو سيدنا محمد بن مسلمة، وأشهر ما قام به في حياة النبيأنه كان في السرية التي قتلت زعيم اليهود وهو الذي قتله، وكانت له من السرايا بعد ذلك الكثير، ولكن كانت هذه أشهر سرية في حياته
فما كان من سيدنا عمر بن الخطاب إلا أن أرسل سيدنا محمد بن مسلمة ليحقق في الأمر، ولينظر أتلك الخلال في سيدنا سعد بن أبي وقاص أم أن القوم عليه مفترون؟

فلما قدم محمد بن مسلمة الكوفة طاف على القبائل والعشائر والمساجد بالكوفة، فوجد الكل يثني على سعد خيرًا، حتى انتهى إلى سوق فقابل رجلاً يقال له: أبو سعدة أسامة بن قتادة، فقال: أنشدك بالله ما فعل سعد فيكم؟ فقال الرجل: أما إذ ناشدتنا فإن سعدًا لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. وما إن تجرأ هذا الرجل على ما قاله حتى تبعه خلق كثير في مقالته، وقالوا: إنه يلهيه الصيد عن القتال في سبيل الله، وأنه لا يحسن يصلي.
فأرسل سيدنا محمد بن مسلمة بما سمعه من أهل الكوفة إلى سيدنا عمر بن الخطاب ، فبعث إليه عمر بن الخطاب بالقدوم عليه إلى المدينة ومعه سعد بن أبي وقاص وأسامة بن قتادة، فيأتي سيدنا سعد بن أبي وقاص ويشهده سيدنا محمد بن مسلمة على مقولة أسامة بن قتادة، ويقر أسامة بن قتادة أمام عمر بن الخطاب ما قاله من قبل.

فيدعو عليه سعد ويقول: "اللهم إن كان قالها كذبًا ورياء وسمعة فأعمِ بصره، وكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن؛ إنه ظلمني".

وسأل سيدنا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة عن هذه المقالة، فقال: إن كثيرًا من أهل السوق يقولونها. فقال سيدنا عمر: يا سعد، كيف تصلي؟ فأخبره أنه يطول في الركعتين الأوليين، ويخفف في الأخريين، وما آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله.

فقال له عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق، والله أعلم أن ما يقولونه عليك ما هو بحق، ولكني أخشى الفتنة. فآثر السلامة وعيَّن مكانه من استخلفه، ثم قال عمر لسعد: من استخلفت على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان. فأقرَّه عمر على نيابته الكوفة، ثم بكى سيدنا سعد بن أبي وقاص، وقال: يزعمون أني أشتغل بالصيد عن قتالي في سبيل الله، وأنا أول من أراق دمًا في الإسلام، ولقد جمع لي رسول اللهأبويه، وما جمعهما لأحدٍ قبلي؛ ففي غزوة أحد قال له النبي: "ارْمِ سَعْدُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي"[1], "اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمَيْتَهُ، وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ"[2].

ويدرَأُ سيدنا عمر بن الخطاب الفتنة بعزله، وهو يعلم أنه بريء من هذه التهم الباطلة، وتمر الأيام ويطول الزمن بأسامة بن قتادة حتى كبر في السن وعمي بصره، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فلا يزال حتى يأتيها فيتعرض لها وهو شيخ كبير فانٍ، فإذا عثر عليه قال: مفتون أصابته دعوة الرجل المبارك سعد بن أبي وقاص, وقال له: "وكل من تكلم في حق سيدنا سعد بن أبي وقاص أصابته قارعة في جسده، ومصيبة في ماله بعد ذلك، وقال بعض العلماء: إنهم قُتِلُوا في ، ومُثِّلَ بهم".

نهاوند :

عُزِل سيدنا سعد بن أبي وقاص عن الكوفة، وأُقِرَّ سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان في وقت كانت المنطقة تحتاج فيه إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص؛ فبعد انتصار المسلمين في تُسْتَر والسُّوس تجهز لهم مائة وخمسون ألفًا من الفرس في مدينة نهاوند، وهذه هي أكبر قوة من الفرس تقاتل المسلمين، مع أن الفرس في موقعة القادسية كان عددهم مائتين وأربعين ألفًا إلا أنهم انقسموا إلى فرقتين: مائة وعشرين ألفًا في حرب المسلمين، ومائة وعشرين ألفًا قوة احتياطية لا تدخل المعركة وتعسكر خلف نهر العتيق، فكان المشتركون في القتال مائةً وعشرين ألفًا، أما هذه المعركة فكان تعدادهم مائة وخمسين ألفًا؛ فكان الأمر شديدًا على المسلمين، وفي الوقت نفسه يُعزَل سيدنا سعد بن أبي وقاص وفي الوقت نفسه تتجمع قوات فارسية أخرى في أذربيجان.

تقع مدينة نهاوند في عمق الدولة الفارسية، وتقع أذربيجان في جنوب هذه المنطقة، ويتجمع فيها تجمعات أخرى للفرس غير تجمع نهاوند.

ووصلت رسالة إلى سيدنا عمر بن الخطاب t من أمير الكوفة سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان الذي أصبح أمير منطقة فارس وأمير كل الجيوش الإسلامية في هذه المنطقة، يقول لسيدنا عمر بن الخطاب: "لقد تجمع للفرس مائة وخمسون ألفًا في نهاوند؛ فَأْذَن لنا بقتالهم، فإن جاءوا علينا ازدادوا جرأة وقوة، وإن أتيناهم غلبناهم". وكان سيدنا عمر بن الخطاب قد منع المسلمين الانسياح في بلاد فارس في أواخر العام السادس عشر من الهجرة اكتفاءً بما أخذه المسلمون من غنائم، وخوفًا من بسط الدنيا على المسلمين، ولم يقاتل المسلمون إلا في تستر والسوس، وكان قتالهم بعد نقض عهد الهرمزان، ولم يبدءوا القتال في المعركتين، فبعث له سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليأذن له في ملاقاة الفرس.

وتحيَّر سيدنا عمر بن الخطاب في الأمر؛ فاستشار الصحابة ومن لهم خبرة في الحرب حتى قابل ، فقال له: "ما اجتمع ملكان قطُّ في بلد إلا أخرج أحدهما الآخر، فسيرسل لك يزدجرد الجيوش ما دام حيًّا، فأَرْسِلْ إليه جيشًا يستأصله تهُن لك فارس، ويهُن لك جيش فارس".

فهذه نصيحة سيدنا الأحنف بن قيس لسيدنا عمر بن الخطاب وأعداد فارس لا تنتهي، فقال سيدنا عمر بن الخطاب للأحنف: "لقد شرحت الأمر عن حقه، والله لأغزوَنَّ فارس". ولم يصرّ أو يستكبر على رأيه الذي قرره منذ ثلاث سنوات، واستشار سيدنا عمر بن الخطاب الهرمزان في غزو أذربيجان أولاً أو غزو نهاوند، فقال الهرمزان: إن فارس الآن طائر له رأس وجناحان: رأسه في نهاوند مع الفيرزان، والجناحان في أذربيجان. فقال له سيدنا عمر: ما العمل؟ فقال: اقطع الجناحين يضعف الرأس. فقال سيدنا عمر بن الخطاب : كذبت يا عدو الله، بل أقطع الرأس يهون الجناحان.

وعلى إثر ذلك يقرر سيدنا عمر بن الخطاب غزو نهاوند، واستشار سيدنا عمر بن الخطاب t من لهم رأي في الحرب، وكان له مجلس يستشيره في مثل تلك الأمور، وكان هذا المجلس مكونًا من سيدنا طلحة بن عبيد الله، وسيدنا عثمان بن عفان، وسيدنا علي بن أبي طالب، وسيدنا العباس بن عبد المطلب، وسيدنا الزبير بن العوام، وسيدنا عبد الرحمن بن عوف، وسيدنا سعد بن أبي وقاص؛ وهذا يُعَدُّ دليلاً أن سيدنا عمر لم يعزل سيدنا سعدًا عن عجز أو خيانة، وما كان ليضعه في مجلس يستشيره في الحرب وهو يلهو بالصيد عن القتال في سبيل الله، ولا يغزو في السرية.

ومن المفارقات أن كل من في مجلس الحرب من العشرة المبشرين بالجنة باستثناء العباس بن عبد المطلب، وبدأ سيدنا عمر بن الخطاب قوله: بأن هذا اليوم له ما بعده من الأيام، ألا إني قد هممت بأمر، وإني عارضه عليكم فاسمعوه ثم أخبروني، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، أفمن الرأي أن أسير بمن قِبَلِي حتى أنزل منزلاً وسطًا بين المِصْرَين "البصرة والكوفة" فأستنفر الناس، ثم أكون لهم ردءًا حتى يفتح الله علينا ويقضي ما أحب؟

فقام سيدنا طلحة بن عبيد الله مشيرًا: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد أحكمتك الأمور، واحتنكتك التجارب، وأنت ورأيك إليك هذا الأمر، فمُرْنا نطعْ، وادعنا نجبْ، وقدنا ننقدْ؛ فإنك ولي هذا الأمر وقد بلوتَ وجربت.

ومن خلال كلام سيدنا طلحة يتبين موافقته لسيدنا عمر بن الخطاب في الخروج للقتال، فيسمع منه سيدنا عمر بن الخطاب ويقول: إن هذا اليوم له ما بعده من أيام فزيدوني رأيًا. فيقوم سيدنا عثمان بن عفان -وكان رأي سيدنا عثمان موافقًا لرأي سيدنا أبي عبيد بن الجراح في خروج أمير المؤمنين، وموافقًا لأمير المؤمنين في خروج عدد كبير من المسلمين- ثم يقول: يا أمير المؤمنين، فلتكتبْ إلى أهل الشام فيَقدِمُوا من شامهم، وتكتب إلى أهل اليمن فيأتوا من يمنهم، وتخرج أنت بجيشك من المدينة، واذهب بكل ذلك؛ فإنك إن سرت بمن معك وعندك، هان في نفسك ما تكاثر من عدد الفرس. ثم يقول سيدنا عثمان: يا أمير المؤمنين، إن هذا اليوم له ما بعده من أيام، فاشهده برأيك ولا تَغِبْ عنه.

ويعترض سيدنا الزبير بن العوام على الرأيين قائلاً: فبإزائهم أعلام العرب ووجوههم وفرسانهم ورؤساؤهم ومَنْ فَضَّ جموعَ الفرس، ومن قتل ملوكهم، ومن ملك أرضهم، ومن غنم أموالهم ونساءهم وذراريهم، وقد استأذنوك ولم يستصرخوك، فأرى أن تبقى في مكانك هنا؛ فإنك إن قتلت لم يعد للمسلمين نظام، ولكن ابعث الجنود وادْعُ لهم.

ووافق سيدنا عبد الرحمن بن عوف سيدنا الزبير بن العوام رضي الله عنهما، فقام العباس بن عبد المطلب وعضَّد رأي الزبير بن العوام.

وقال سيدنا علي بن أبي طالب: لقد أصاب القوم الرأي يا أمير المؤمنين، فمكانك مكان النظام من الخرز يجمعه ويمسكه، فإذا انحلَّ تفرَّق ما فيه وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبدًا، وإنك إنْ أشخصتَ أهلَ الشام رجعت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصتَ أهلَ اليمن ذهبت الحبش إلى ذراريهم، وإن شخصت بنفسك من المدينة انقلبت عليك الأرض، وما تدعه وراءك في المدينة أهم إليك مما بين يديك، فأَقِمْ وأَقْرِن هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل الكوفة فهم أعلام العرب ورؤساؤهم، فليذهب منهم الثلثان إلى نهاوند، ويقيم الثلث مع النساء والذراري، واكتب إلى أهل البصرة واجعلهم ثلاث فرق، ففرقة في الحرم والذراري، وفرقة منهم في الأهواز تمنع نقض عهد فارس، والفرقة الأخيرة تكون مددًا لأهل الكوفة في نهاوند.

وأما ما ذكرت من مسير القوم (يقصد تجمع الفرس)، فإن الله أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإن هذا الأمر لم يكن نصره أو خذلانه لكثرة أو قلة، هو دينه الذي أظهر، وجنده الذي أعز وأيده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ، فنحن على موعود الله وتأييد الملائكة.

وما إن أتم سيدنا عليٌّ مقالته حتى شرح الله لها قلب سيدنا عمر بن الخطاب، ثم قال: وما أمرك يا سعد؟ وكان رأي سيدنا سعد بن أبي وقاص في غاية الأهمية؛ فقد عاصر الحروب بين المسلمين والفرس وعاش معهم فترة من الزمان، فيقول سيدنا سعد بن أبي وقاص: "أرى أن تبقى يا أمير المؤمنين، وهَوِّنْ عليكَ فما جُمِعُوا إلا لنقمة" (أي جمعهم الله تعالى لنقمته عليهم ليقضي عليهم المسلمون).

ونأمل جمع اليهود في فلسطين لنقمة، فقد يكون جمع اليهود كما يذكر بعض المفسرين في سورة الإسراء {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، وكان هناك وعد الأولى وهو دخول الفرس على اليهود وجاسوا خلال الديار، وقتلوا من اليهود من قتلوا، ووعد الآخرة يذكر فيه بعض المفسرين أن الله سيجمع اليهود الموجودين في العالم في مكان واحد، ثم يحدث نصر لأهل الحق على هؤلاء القوم في بلد واحد، حيث يُقضى عليهم مرة واحدة؛ فكانت نظرة سيدنا سعد مطمئنة للمسلمين، فهم قد جمعوا لنقمة.

فقرر سيدنا عمر بن الخطاب ألاّ يخرج على رأس الجيوش، وألاّ يستدعي أهل الشام أو أهل اليمن، ولكن سيكتب إلى الشام طالبًا منهم مددًا قليلاً لنجدة المسلمين في فارس، وكانت فرقة صغيرة وعلى رأسها ، وهذا ما أضافه سيدنا عمر بن الخطاب t، ثم قال عمر: أشيروا عليَّ بمن أولِّيه أمر الحرب، وليكن عراقيًّا (أي من الجيش الموجود بالعراق).

فقالوا: أنت أبصر بجندك يا أمير المؤمنين.

فقال: "أما والله لأُوَلِّينَّ رجلاً يكون أَوَّلَ الأسِنَّة إذا لقيها غدًا".

قالوا: من يا أمير المؤمنين؟ قال: النعمان بن مُقَرِّن.

فقالوا: هو له. ونذكر مقالة سيدنا عبد الله بن عباس: إن للإيمان بيوتًا وللنفاق بيوتًا، وإن بيت بني مُقَرِّن من بيوت الإيمان. وسيدنا النعمان بن مقرن أحد إخوة كلهم يقاتلون في سبيل الله وهم أحد عشر رجلاً، وقد نزل فيهم قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:99].

وكان سيدنا النعمان مشاركًا في الحروب الفارسية، وبعد معركة تُسْتَر عينه سيدنا سعد بن أبي وقاص جابيًا على "كَسْكَر" يعيش في أمان بعيدًا عن أرض المعركة ولا تتعرض نفسه للخطر، ولكن كانت نفس سيدنا النعمان بن مقرن تواقة إلى الجهاد، فكتب إلى عمر -وهو على كَسْكَر- وسأله أن يعزله عنها ويوليه قتال أهل نهاوند؛ فلهذا أجابه إلى ذلك وعينه له.

وفي الوقت نفسه تصل رسالة من سيدنا سويد بن مقرن إلى سيدنا عمر بن الخطاب، وكان -أيضًا- جابيًا من قبل سيدنا سعد بن أبي وقاص على منطقة أخرى، وكان في الرسالة نفس ما قاله سيدنا النعمان بن مقرن، فيرسل سيدنا عمر بن الخطاب رسالة إلى النعمان يقول فيها:

"بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى النعمان بن مقرن سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد.. فإنه قد بلغني أن جموعًا من الأعاجم كثيرة قد جمعوا لكم بمدينة نهاوند، فإذا أتاك كتابي هذا فَسِرْ بأمر الله وبعون الله وبنصر الله بمن معك من المسلمين، ولا توطئهم وعرًا فتؤذِيَهم، ولا تمنعهم حقًّا فتكفِّرَهم، ولا تدخلهم غيضة، فإن رجلاً من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار, وقد كان المسلم أيضًا أغلى وأَحَبُّ عند النبي؛ فقال: "لحرمة دم المسلم أغلى عند الله من الكعبة"[3].

فَسِرْ في وجهك ذلك حتى تأتي "مَاه" (على بُعد مائة وثلاثين كيلو مترًا غربي نهاوند) فإني قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها، فإذا اجتمع إليك جنودك فَسِرْ إلى الفيرزان ومن جمع معه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم، واستنصروا بالله، وأَكْثِروا من لا حول ولا قوة إلا بالله، والسلام عليك".

ثم كتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان في الكوفة بأن يرسل ثلثي الجيش إلى النعمان بن مُقَرِّن ويقابله في "ماه"، وليكن الأمير عليهم حذيفة بن اليمان -كاتم سر النبي- حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، فإن قُتِل النعمان فحذيفة، فإن قتل فنعيم بن مقرن, وهو أخو النعمان بن مقرن

وكتب إلى أبي موسى بتقسيم جيشه إلى ثلاث فرق إحداها في الحريم والذراري، والفرقة الثانية إلى الأهواز، وفرقة تخرج إلى "ماه" وأنت على رأسها ليقابل سيدنا النعمان بن مقرن في "ماه" ويكون تحت إمرته.

وكتب سيدنا عمر بن الخطاب إلى المسلمين في منطقة الأهواز منهم: سيدنا حرقوص بن زهير، وسلمى بن القين، وحرملة بن مريطة يأمرهم في رسالته بشغل الفرس عن إخوانهم في أرض نهاوند، ومع أن هذه المنطقة تحت حكم الدولة الإسلامية إلا أن بها عددًا من الفرس، وقد أعطى بعضُهم عهدًا للمسلمين، وبعضهم هُزِمَ من المسلمين.

وما إن وصلت الرسائل حتى تحركت الجيوش إلى مدينة "ماه"، وبعد أن وصلت رسالة تولية سيدنا النعمان بن مقرن يقوم بإرسال مجاشع بن مسعود من صحابة النبيبجيش إلى مكان يسمى "غُضَيّ شجر"، وهذه المنطقة تقع بين نهاوند وبين جنوب فارس، والغرض من إرسال هذه الفرق أمران:

الأمر الأول: أن تحمي مجنبة الجيش المتحرك من السوس إلى ماه؛ لأن الطريق من السوس إلى ماه في منتهى الصعوبة، فهو طريق جبلي وعر جدًّا، فأراد أن يؤمِّن الطريق خوفًا من أن تأتي فرقة من فرق الفرس من الجبال فتهجم على المسلمين من خلف الجيش، فقد تعلّم من مدرسة سيدنا خالد بن الوليد، فكان أول من دخل منطقة فارس وأول من أَمَّن الجيوش.

والغرض الثاني لجيش سيدنا مجاشع بن مسعود: قطع إمدادات أهل فارس في الجنوب عن أهل نهاوند في الشمال، فكان لهذا الجيش غرض تأميني، وغرض قطع الإمدادات عن الجيش الفارسي في نهاوند.

وبعد أن تجمعت الجيوش في منطقة "ماه" بدأ سيدنا النعمان بن مقرن بتجهيز الجيوش ليضع خطة حربه في نهاوند؛ فبدأ بإرسال فرق استكشافية تستكشف له الطريق وتستكشف أرض الفرس، فأرسل ثلاثة أشخاص هم: عمرو بن أبي سلمى، وعمرو بن معديكرب، وطليحة بن خويلد الأسدي، ولهذين الاثنين تاريخ طويل في العمليات الاستكشافية، وقد كان لسيدنا طليحة بن خويلد الأسدي باع طويل في الاستكشافات داخل الأراضي الفارسية، فأرسل الثلاثة ليأتوا بخبر القوم، فسارت الطليعة يومًا وليلة، فرجع عمرو بن أبي سلمى فقيل له: ما رجعك؟ فقال: كنت في أرض العجم، وقتلت أرضٌ جاهلها، وقتل أرضًا عالِمُها.

ثم رجع بعده عمرو بن معديكرب وقال: لم نَرَ أحدًا؛ وخفت أن يُؤْخَذَ علينا الطريق. ومضى طليحة ولم يحفل بهما حتى انتهى إلى نهاوند. وبين موضع المسلمين الذي هم فيه ونهاوند بضعة وعشرون فرسخًا، ودخل في العجم وعلم من أخبارهم ما أحَبَّ، ثم رجع إلى النعمان بعد ستة أيام من خروجه حتى قال الناس: ارتد طليحةُ الثانية. فعلم كلام القوم ورجع، فلما رأوه كبروا. فقال: ما شأنكم؟ فأعلموه بالذي خافوا عليه. فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربي ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأعلم النعمان أنه ليس بينهم وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد.

وقد خشي بعض المسلمين أن يكون سيدنا طليحة بن خويلد قد ارتدَّ ولجأ إلى معسكر الفرس، وقد ادَّعى سيدنا طلحة بن خويلد النبوة في عهد النبي{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93]، وتاب الله عليه بعد ذلك وحسن إسلامه، وكانت له جهود عظيمة في حروب المسلمين مع الفرس حتى نال الشهادة في سبيل الله.

وعاد سيدنا طليحة إلى سيدنا النعمان ليخبره بخبر الفرس، وأن تجمعهم خارج نهاوند وعلى رأسه الفيرزان، وعلى الميمنة الزردق، وعلى الميسرة رجل اختلف فيه المؤرخون وقالوا: هو بهمن جاذويه؛ ولكن الواقع أن بهمن جاذويه قُتِلَ في القادسية، وهذا القائد شخص آخر بالتأكيد، وأخبره أن الطريق من هنا إلى نهاوند ليس فيه فارسي واحد.

فقرر سيدنا النعمان بن مقرن التحرك إلى الفرس، وعبَّأ جيشه قبل أن يتحرك إلى الفرس في نهاوند ليأخذ بكل أنواع الحذر، فلو حدث أن قابل الفرس في الطريق يكون قد أخذ أهبته واستعداده، فيجعل على المقدمة نعيمَ بن مقرن، والقعقاع بن عمرو التميمي على فرقة من الخيول وتسير هذه الفرقة مع المقدمة، والنعمان بن مقرن نفسه على وسط الجيش، وعلى الميمنة حذيفة بن اليمان، وعلى الميسرة سويد بن مقرن، وعلى المؤخرة مجاشع بن مسعود، ويتوجه الجيش إلى نهاوند.

ومما يذكر أيضًا في ذلك التحرك أن جيش نعيم بن مقرن والقعقاع كان على مسافة أبعد من مرمى البصر من جيش النعمان بن مقرن، حتى إذا لاقى الفرس مقدمة المسلمين ظنوا أنه جيش المسلمين كله وليس وراءه جيوش أخرى، ويتقدم سيدنا النعمان حتى يصل إلى نهاوند.

أما عن تفاصيل هذه المعركة التي سُمِّيت في كتب التاريخ بـ"فتح الفتوح"، والخُطَّة التي وضعها أحد المسلمين في هذه المعركة، ومن أول شهيد في هذه المعركة؛ فهذا ما نعرفه في المقال القادم إن شاء الله.
 
رد: فتوحات العراق وفارس

موقعة نهاوند





نبدأ في هذا المقال الحديث عن موقعة نهاوند، وكما ذكرنا من قبل كان النعمان بن مُقَرِّن على رأس الجيوش الإسلامية متوجهًا إلى نَهاوَنْد بعد أن تجمعت الجيوش الفارسية في مدينة "ماه" على بُعد مائة وثلاثين كيلو مترًا منها، وعندما وصلت الجيوش وجد المسلمون أن الجيش الفارسي عسكر خارج مدينة نَهاوَنْد وعلى رأسه الفيرزان؛ فحَفَّز سيدنا النعمان الجيش وبدأ في التكبيرات، وكان التكبير شعار المسلمين في الحروب الفارسية، ولما كبر المسلمون تزلزلت الأعاجم وخُلِعَت قلوبهم، وكان تعداد الجيش الفارسي كما ذكرنا من قبل مائة وخمسين ألف فارسي، وتعداد الجيش الإسلامي ثلاثون ألف مسلم، ونشب القتال وكان قتالاً عنيفًا وشديدًا، يشبهه المؤرخون بقتال القادسية وجَلُولاء وكانا من أشد قتال مرَّ بالمسلمين، ويمضي يوم على القتال بين المسلمين والفرس وما زالت الحرب سجالاً بين الطرفين، ولم يحقق أيُّ الفريقين انتصارًا، وبقدوم الليل توقف القتال لتعاد الكَرَّة في الصباح، وانتهى اليوم الثاني وما زالت المعركة سجالاً بين الجيشين، على الرغم من كثرة تعداد الفرس وأنهم خمسة أضعاف الجيش الإسلامي، فكان جهدًا عظيمًا بُذِلَ من قبل المسلمين، وأدرك الفرس أن المعركة إن استمرت على تلك الحالة ستكون الغلبة للمسلمين.
انسحاب الفرس :

بعد أن انتهى اليوم الثاني، أدرك الفرس أنه لا مناص من الهزيمة التي حتمًا ستلحق بهم، فانسحب الجيش الفارسي ليتحصن بداخل مدينة نَهاوَنْد، وصبحهم المسلمون في اليوم الثالث فلم يجدوا جيش الفرس كما عهدوا في أول يومين في المعركة، فقد انسحب بداخل نَهاوَنْد وأغلق على نفسه الحصون العالية، ومنطقة نَهاوَنْد كما ذكرنا منطقة جبلية، وحصن نَهاوَنْد فوق جبل عالٍ، ومكان الحصن كان يعطي قوة كبيرة للفرس، فبينما هم بالداخل كان المسلمون أسفل الحصن، وبإمكان الفرس أن يصلوا إلى المسلمين بسهامهم، ومن الصعوبة أن يصل المسلمون إلى الفرس بسهامهم، فكان الحصار فيه مشقة كبيرة على المسلمين، لكن صَبَرَ المسلمون -كعادتهم- في القتال واستمروا في حصار الحصن فترة تقترب من الشهر، وكانت من أشد الفترات على المسلمين، وكان الحصار أصعب من حصار "تُسْتَر" بالرغم من أن حصار تستر استمر عامًا ونصفًا، إلا أن هذا الشهر كان في غاية الصعوبة فقد تزامن مع فصل الشتاء، وكان الجو شديد البرودة خاصة في المرتفعات، ولم يتعود المسلمون من قبل على مثل هذا الجو من البرد، فقد نشأ غالبيتهم في مكة والمدينة حيث شدة الحر، ولم يكن مع المسلمين سوى الخيام القليلة وقليل من الملابس تحميهم من البرد، ورابط المسلمون وتحملوا المشقة والمجهود منتظرين نصر الله تعالى القريب.
حركة القعقاع بن عمرو التميمي :

لما طال على المسلمين هذا الحال واستمر، جمع النعمان بن مقرن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك، وكيف يكون من أمرهم حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيد واحد، فتكلم النعمان فقال: "قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم، وأنهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاءوا، ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق، فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل؟".

فتكلم عمرو بن ثُبَيٍّ أولاً -وهو أَسَنُّ من كان هناك- فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم، فدعهم ولا تحرجهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم.

فرد الجميع عليه وقالوا: إنا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا.

وتكلم عمرو بن معديكرب فقال: ناهدهم وكاثرهم ولا تخفهم.

فردوا جميعًا عليه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدران أعوان لهم علينا. فكان من الحكمة عدم التسرع حتى لا نلقي بأنفسنا إلى التهلكة، بل لا بد من الأخذ بالأسباب، بوضع خطة ناجحة لا تؤدي إلى هلكة المسلمين ويكون بها النصر.

وقام طليحة الأسدي -ومنذ دخوله في حروب فارس كان له الأثر الواضح البين في المعركة، وكأنه يريد أن يكفر عن الذنب العظيم القديم- فقال: إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن ينسحب الجيش الإسلامي من أمامهم بكامله، ثم تبعث سرية فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم، فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابًا، فإذا استطردوا وراءهم وأرّزوا –تجمعوا- إلينا عزمنا أيضًا على الفرار كلنا، فإنهم حينئذ لا يشكُّون في الهزيمة، فيخرجون من حصونهم على بكرة أبيهم، فإذا تكامل خروجهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضي الله بيننا.

واستجاد الناس هذا الرأي، وفكر سيدنا النعمان في القيام بهذه المهمة الصعبة، ومن يختار لها، ووقع اختياره على فارس من فرسان المسلمين قال عنه الصديق: إنه بألف رجل. فأمر النعمان القعقاع بن عمرو، وكان على المجردة، فتحرك في الظلام ناحية مدينة نَهاوَنْد، وفي الوقت نفسه ينسحب الجيش الإسلامي ويختفي وراء جبل من الجبال البعيدة، ولم يظهر أمام نَهاوَنْد إلا القوات التي مع القعقاع بن عمرو التميمي.

وفي بداية الصباح يبدأ المسلمون برشق السهام الكثيرة، وكانوا فرقة من الرماة المهرة استطاعت أن تصل سهامهم إلى داخل حصون نَهاوَنْد، ووجد الفرس أن هذه الفرقة تسبب لهم الأذى رغم أنها قليلة العدد؛ فَغَرَّهم ذلك وخرجوا للقتال، ونشب القتال وكانت معركة من أشد المعارك حتى على القعقاع نفسه كما يقول هو، وكان الجيش يقاتل ولا يريد النصر، فبعقليته العسكرية لا يريد أن يحقق نصرًا صغيرًا بل أراد أن يظهر أمامهم الهزيمة حتى يخرجهم من حصونهم، وبدأ القعقاع في تنفيذ الخطة التي اتفق عليها المسلمون، فأظهر الهزيمة حتى أخرجهم من خنادقهم كأنهم جبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا، وقد قرن بعضهم بعضًا كل سبعة في قِرَان، وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا.

فلما خرجوا نكص ثم نكص، واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما ظن طليحة، وقالوا: هي هي. فلم يبقَ أحدٌ إلا من يقوم على الأبواب، ولحق القعقاع بالناس، وانقطع الفرس عن حصنهم بعض الانقطاع، والمسلمون على تعبيتهم في يوم جمعة في صدر النهار، وكان الجيش الإسلامي يقف خلف جبل يراقب الموقف من بعيد، وأصبح القتال من الشدة بمكان على الفرقة الإسلامية التي يقودها سيدنا القعقاع بن عمرو؛ فقد أنشب القتال بينه وبين الفرس من الفجر إلى قبل الظهر بقليل، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، لئلا ينسحب الفرس، فما زالت بقية الجيوش الفارسية داخل حصونهم، ففعل المسلمون واستتروا بالحجف من الرمي، وأقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح.

وشكا بعض الناس وقالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه، فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم. فقال: رويدًا رويدًا. فكان النعمان رابط الجأش حليمًا على شدته وضراوته في القتال؛ فقد قال فيه سيدنا t: لأولين عليهم رجلاً أسبقَ من الأسنة. فهو يقاتل بحكمة وغير متسرع في القتال، وظل على موقفه حتى جاءه وقال: إن القتال قد اشتد على القعقاع ومن معه، ولا أرى ذلك رأيًا، ولو كنت مكانك لناهدتهم. فقال سيدنا النعمان: رويدًا رويدًا ترى أمرك، نحن نرجو في المكث ما ترجو أنت في الخروج. فيتألم المغيرة لما يحدث بالمسلمين، وانتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال، وصلَّى الجيش صلاة الظهر، ووقف النعمان يخطب في المسلمين، وكانت هذه الخطبة من الخطب التاريخية المشهورة (ومنها خطبة سيدنا في القادسية، وخطبة سيدنا في فتح الأبلة، ومنها خطبة سيدنا النعمان بن مُقَرِّن في فتح نَهاوَنْد)، فقام النعمان فيهم خطيبًا وقال: "قد علمت ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور، وقد أنجز لكم أوله وسيلحق بكم آخره، واذكروا ما مضى إذ كنتم أذلة، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم أعزة، فأنتم اليوم عباد الله حقًّا وأولياؤه، وقد ترون ما أنتم بإزائه من عدوكم، وما اخترتم وما اختاروا لكم، فأما ما اختاروا لكم فهذه الرثَّة وما ترون من هذا السواد، وأما ما اخترتم لهم فدينكم، ولا سواء ما اخترتم وما اختاروا، فلا يكونُنَّ على دنياهم أحمى منكم على دينكم، وأتقى عبادِ الله رجلٌ صَدَقَ الله، وأبلى بنفسه فأحسن البلاء، وإنكم تنتظرون إحدى الحسنيين: من بين شهيد حيٍّ مرزوقٍ أو فتح قريب، فليكفِ كل رجل ما يليه، ولا يكلْ أحدكم قرنه إلى أخيه، وقد يقاتل الكلب عن صاحبه، فعلى المسلم أن يكفي نفسه ويحاول أن يكفي غيره، فكل رجل منكم مُسلَّط على ما يليه".

فلما كان قريبًا من تلك الساعة التي كان يقاتل فيها النبي ركب فرسَه وسار في الناس، ووقف على كل راية يذكرهم ويحرِّضهم ويمنِّيهم الظفر، وقال: إذا قضيت أمري فإني مكبرٌ ثلاثًا، فإذا كبرت الأولى شد الرجل شعثه، وأصلح من شأنه، وليتهيأ من لم يكن تهيأ، فإذا كبرت الثانية شدَّ الرجل إزاره، وليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض وليتهيأ لوجه حملته، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل فاحملوا. وقال: اللهم إني أسألك أن تُقِرَّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عِزُّ الإسلام، واقبضني شهيدًا، واجعلني أول شهيد؛ أَمِّنوا يرحمكم الله. فأَمَّن المسلمون، وبكى الناس جميعًا.

وبدأ القعقاع بالتراجع مُظهِرًا الهزيمة أمام الفرس، متجلدًا لقتالهم حتى وصل إلى مقدمة الجيوش الإسلامية المختبئة خلف الجبال.

وقد اختار الجيش الإسلامي مكانًا فسيحًا للقتال، ويقع بين الجبل الذي يختبئ وراءه المسلمون والناحية الأخرى هاوية سحيقة، وأراد المسلمون حصار الفرس في هذه المنطقة، فكان ظهر المسلمين الجبل وكانت هذه الهاوية السحيقة في ظهر الفرس، فإذا ضغط المسلمون على الفرس ضغطًا شديدًا، فسيكون السقوط في الهاوية أحد عوامل الهزيمة غير سيوف المسلمين، فكان اختيار الأرض موفقًا.

ويكبر سيدنا النعمان التكبيرات الثلاث التي اتفق عليها المسلمون، ويحمل راية المسلمين النعمان بن مقرن، ورأى المسلمون الراية تتجه نحو الفُرْسِ بسرعة الصقر، فقد كان سيدنا النعمان من أسرع المقاتلين في الحرب كما وصفه سيدنا عمر بن الخطاب؛ ولما رأى المسلمون الراية تتجه ناحية الفرس هجموا هجومًا عنيفًا على الفرس، وتلتقي السيوف في لقاء شديد؛ يقول سيدنا جبير: والله ما علمت من المسلمين أحدًا يريد أن يرجع إلى أهله حتى يُقتلَ أو يَظفَر. والله تعالى يقول في سورة النساء: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74]. فليس هناك خيار ثالث بالنسبة للمسلم، فهو أمام خيارين: إما النصر وإما الشهادة؛ يقول جبير: فحملنا حملة واحدة وثبتوا لنا، فما كنا نسمع إلا صوت الحديد على الحديد حتى أصيب المسلمون بمصائب عظيمة من شدة ثبات الفرس للقتال. ويقول جبير: فلما رأوا صبرنا وأنا لا نبرح القتال انهزموا. وتذكرنا هذه المقالة بمقالة سيدنا خالد بن الوليد في الرسالة التي بعثها إلى ملوك فارس قائلاً لهم: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.

ويبدأ القتال الشديد العنيف، ويروي من حضر هذه المعركة من المسلمين أنهم لم يروا مثل شدته قطُّ، فكل معركة مع الفرس كانت أشد من سابقتها، فكانت القادسية من أشد المعارك على المسلمين، ثم كانت جلولاء أشد من القادسية، ثم كانت تُسْتَر، ثم نَهاوَنْد فكانت أشدها.

ولما اشتد القتال وحمي وطيس الحرب، وفي وسط المعركة يأتي سهم من الفرس ليستقر في قلب سيدنا النعمان بن مقرن قائد المسلمين، وقد استجاب الله دعاءه واتخذه الله شهيدًا كما قال تعالى في كتابه: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140]، فسقط شهيدًا في ميدان القتال، وكان أول شهيد من شهداء المسلمين في معركة نَهاوَنْد، وقبل أن يلفظ النعمان أنفاسه الأخيرة اقترب منه مَعْقِل بن يسار مطمئنًّا على حاله؛ فيقول له النعمان: ماذا فعل المسلمون؟ فقال معقل: أبشر بنصر من الله. فيقول سيدنا النعمان بن مقرن: "بشروا عُمر؛ فيحمد الله تعالى على ما أجزله الله من نصر المسلمين"، ويتلفظ بالشهادة لتكون آخر كلماته في الدنيا ويلفظ أنفاسه الأخيرة، ليخلد في النعيم المقيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأول من أتاه بعد سقوطه أخوه سيدنا نعيم بن مقرن قائد المقدمة، فيعتصر قلبه من الألم لما رأى من حال أخيه وسقوطه في بداية المعركة، وخشي على المسلمين من المصيبة فسجاه بثوبه، وأخذ الراية قبل أن تسقط، وذهب بها إلى سيدنا وأخبره باستشهاد سيدنا النعمان بن مقرن، فقال له سيدنا حذيفة: اكتم مصاب أميرنا عن المسلمين. فيحمل سيدنا حذيفة بن اليمان الراية ويستمر القتال إلى الظلام، ولم يكن القتال في الظلام دَيْدنًا في حروب المسلمين بل كان في أوقات معدودة، كما كان في ليلة الهرير في القادسية، وفي ليلة جلولاء، وهذه هي الليلة الثالثة في ، واستمر القتال في الظلام حتى أصبحت الهلكة شديدة في الفرس وكثرت الدماء، حتى انزلقت الأقدام في الدماء من كثرتها، وكثر انزلاق الخيول في هذه المعركة، حتى إن بعض المؤرخين لهذه المعركة يذكرون أن استشهاد النعمان بن مقرن كان إثر انزلاق جواده في الدماء، والأقرب للصحة أن استشهاده كان على إثر سهم من سهام الفرس استقر في قلبه ليستقر في جنات الخلد.​

وما يعلم جنود ربك إلا هو :

بعد قتال استمر من الزوال إلى الظلام كتب الله النصر لجنده المؤمنين ولعباده المخلصين، وقُتِلَ عددٌ كبير من الفرس يحصى بمائة وعشرة آلاف فارس من مجموع مائة وخمسين ألفًا، منهم ثمانون ألفًا لم يقتلوا بسيوف المسلمين، وإنما قتلوا سقوطًا في الهاوية السحيقة، وذلك يرجع إلى توفيق الله ثم حُسْنِ اختيار المسلمين لأرض المعركة، وهذا من أكبر الأدلة على أن الأخذ بالأسباب له أهمية قصوى في القتال، وقُتل بأيدي المسلمين ثلاثون ألفًا، وفَرَّ أربعون ألفًا من أمام المسلمين شمالاً إلى مدينة همذان التي تبعد عن نَهاوَنْد مائة كيلو مترٍ تقريبًا شمالاً، وممن فرَّ إلى الشمال الفيرزان قائد الجيوش الفارسية، وأراد أن يلحق بهمذان لوجود فرقة فارسية متحصنة فيها، وكعادة المسلمين أرسلوا فرقة تطارد فلول الهاربين على رأسها القعقاع بن عمرو التميمي، وكان الطريق صعب السير فيه فقد كانت منطقة جبلية، وليس للفرس هروب يمين أو يسار فكان الأمر معتمدًا على السرعة، ولاح للمسلمين جيش الفرس الفارّ من أرض المعركة، ويتنزل النصر من عند الله بجند من جنوده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]، وكان الأمر غير متوقع في ذلك الوقت، يقابل جيش الفيرزان بغالاً وحميرًا تحمل عسلاً، قطعت الطريق على جيش الفيرزان، والبغال والحمير تسير ببطء، فنزل الفيرزان من على فرسه وكذلك فعل بقية الجيش الفارسي، وفروا في الجبال على أقدامهم، فينزل المسلمون عن خيولهم ويتتبعون الجيش الفارسي، ويلمح سيدنا القعقاع الفيرزان من على بُعْدٍ فيعرفه من هيئته فيتتبعه القعقاع بن عمرو فيقاتله ويقتله القعقاع، وكانت هذه المنطقة ثنية في الجبل وهو الطريق الواسع في الجبل، فسميت هذه المنطقة بثنية العسل، وظلت معروفة بهذا الاسم إلى زمان الإمام ، وكان المسلمون يتفكهون ويقولون: إن لله جنودًا من عسل. وبعد تتبع الفارين وقتل الفيرزان، عادت الفرقة التي كان على رأسها القعقاع بن عمرو إلى نَهاوَنْد.

كان سيدنا عمر بن الخطاب قد ولَّى وهو من صحابة النبي على جمع الغنائم، فرغم قلة عدد المسلمين وكثرة عدد الفرس إلا أن سيدنا عمر بن الخطاب كان واثقًا في النصر، فولَّى من يجمع الغنائم ويقسمه.

بعد انتهاء المعركة دخل سيدنا السائب بن الأقرع إلى مدينة نَهاوَنْد التي خَلَتْ من المقاتلين الفرس ليجمع الغنائم، ولما دخل المسلمون المدينة أتاهم "الهربذ" صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤمنني ومن شئتُ على دمي وعيالي، على أن أخرج لك ذخيرةً لكسرى تركت عندي لنوائب الزمان؟ فأمَّنه السائب بن الأقرع، فأحضر جوهرًا نفيسًا في سفطين –وعاءين- من جواهر يزدجرد كسرى فارس، قسَّم السائب بن الأقرع الغنائم على المسلمين بعد جمعها، وقسم كل الغنائم ما عدا السفطين، فكان نصيب الفارس ستة آلاف درهم، ونصيب الراجل ألفا درهم، فالفارس يأخذ من الغنائم ثلاثة أضعاف الراجل لإنفاقه على فرسه، وبقي السفطان، فقال سيدنا حذيفة: ماذا نفعل بهم؟ فقال السائب: والله لا أرى إلا أن نرسلهما إلى عمر في المدينة. فوافقه المسلمون على ذلك، فحمل السائب بن الأقرع السفطين مع خُمس الغنائم إلى سيدنا عمر بن الخطاب، وليست معه قوة تحميه.

وكعادة سيدنا عمر بن الخطاب يقف منتظرًا ليعرف أخبار المسلمين بنفسه كما كان يفعل في معركة القادسية والمدائن، فكان يخرج كل يوم ليطمئن على أخبار الجيش ويدعو لهم.

فرأى السائب بن الأقرع قادمًا عليه فقال: ما وراءك؟ فقلت: خيرًا يا أمير المؤمنين، فتح الله عليك وأعظم الفتح. وسمي هذا الفتح في التاريخ فتحَ الفتوح، ورغم المعارك التي سبقت هذا الفتح إلا أن كسر شوكة الفرس في هذه المعركة كان شديدًا، وكان القتال في عمق بلاد فارس مما هَزَّ الدولة الفارسية، فتبسَّم سيدنا عمر بن الخطاب ، وسَعِدَ سعادة كبيرة، ثم قال: وما فعل النعمان؟ فقال السائب: لقي ربه شهيدًا. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق كتده -والكَتِدُ: مُجْتَمَعُ الكَتِفَيْنِ من الإِنسان والفرس، وقيل: هو الكاهِل. وقيل: هو ما بين الكاهل إِلى الظهر، ثم قال عمر: وما فعل بقية المسلمين؟ فقال: لقد استشهد منهم كثير لا نعرف أنسابهم. فقال سيدنا عمر بن الخطاب: وما ضرَّهم ألا يعرفَهم عُمَرُ ابن أم عمر، إن الله الذي لاقَوْه يعرف وجوههم وأنسابهم. ويستمر في البكاء t فترة، وكان الوقت ليلاً فقال سيدنا عمر بن الخطاب للسائب بن الأقرع: ضَعِ الغنائمَ في المسجد في بيت المال.

ويذهب وينادي سيدنا علي بن أبي طالب وعبد الله بن الأرقم ليحرسا الغنائم حتى الصباح، وبعد أن أدَّى سيدنا السائب بن الأقرع المهمة التي كلف بها، وبعد أن ترك الغنائم في بيت المال، يرجع في الليلة نفسها إلى بلاد فارس حتى يلحق بالجيوش للقتال، فهو لا يريد أن يترك لحظة واحدة من لحظات الجهاد في سبيل الله، وعاد السائب بن الأقرع إلى أرض الجهاد رغم المسافة البعيدة بين المدينة وأرض فارس، وكانت المسافة من المدينة إلى الكوفة ألف كيلو متر.

وينام سيدنا عمر بن الخطاب ليأتي اليوم الثاني ليقوم بتوزيع الغنائم، فيرى سيدنا عمر بن الخطاب t رؤيا رهيبة، فيقوم على أَثَرِها من النوم فزعًا ولا يعلم تأويل هذه الرؤيا، ويستيقظ لصلاة الفجر ثم يذهب إلى بيت المال، وما إن رأى الغنائم حتى عرف تفسير الرؤيا التي رآها.
 
رد: فتوحات العراق وفارس

توسع الفتح الاسلامي في بلاد فارس






ذكرنا في المقال السابق أن سيدنا عمر بن الخطاب ترك الغنائم في بيت المال وذهب من ليلته لينام، في حين ترك سيدنا السائب بن أقرع المدينة متوجهًا إلى أرض الجهاد في فارس، ونام سيدنا علي بن أبي طالب في المسجد مع الغنائم، وكان في الغنائم سَفَطَان من حُلِيِّ كسرى لم يُعَدَّا من الخُمُس، أتى بهما السائب مع خُمس الغنائم؛ يقول سيدنا عمر بن الخطاب: والله إنْ هو إلا أن نمت في الليلة التي خرج السائب فيها، فباتت ملائكة الله تسحبني إلى ذينك السَّفَطيْن وهما يشتعلان نارًا، يقولون: لنكوِينَّك بهما. فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. وبعد أن صلَّى سيدنا عمر الصبح ذهب إلى بيت المال وعرّف له سيدنا عليّ خمس الغنائم وأنَّ هذين السفطين من حلي كسرى ولم يُعَدَّا في خمس الغنائم؛ فلما رآهما سيدنا عمر قال: هما هما. أي هما السفطان اللذان رأيتهما في المنام، فقال: ما أحد من المسلمين أحق بهذين السفطين إلا الذي اغتنمهما.

ولم يرد سيدنا عمر أن يحتفظ بهذين السفطين ولكنه بعفَّته المعهودة أمر بردهما على المسلمين الذين غنموهما في المعركة، ثم يأتي بأسرع من في المدينة ليلحق بالسائب بن الأقرع، فما أدرك السائب حتى دخل الكوفة وهو ينيخ بعيره، فقال: الحقْ بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن.

قال: فركبت معه فقدمت على عمر، فلما رآني قال: إليَّ وما لي وللسائب! قلت: ولماذا؟ قال: ويحك! والله ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تستحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان نارًا فيقولون: لنكوينَّك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. وكان من الممكن أن يبعثهما سيدنا عمر بدلاً من أن يرد السائب، ولكنه أراد أن يعلم السائب درسًا يعلمه لمن وراءه من المسلمين، وهو أن أربعة أخماس الغنائم تقسم على الجيش في أرض المعركة ويبعث بالخمس فقط إلى أمير المؤمنين.

قال السائب: فخرجت بهما فوضعتهما في مسجد الكوفة، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم. أي مليونين من الدراهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، أي بأربعة ملايين درهم، فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً حتى مات، ثم قسم ثمنهما بين الغانمين، فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السِّفْطَين.

وأراد عمر أن يرسخ العدل بين المسلمين، وكان بإمكانه أن يحتفظ بهذه الجواهر في بيت مال المسلمين ينفق منها على المسلمين في الضوائق، ولكنه أراد أن ينفذ العدل الذي شُرع أن أربعة أخماس الغنائم تُوزَّع على الجيش، والخمس إلى بيت المال، فليُقَسَّم كما أراد الله.

ولقد اختبر الله المسلمين بهذا المال الكثير فرغبوا عنه عفةً، والناظر إلى حال المسلمين مع ذينك السفطين يجد عفة متناهية سواء من الجيش أو من أمير المؤمنين، ولما فُتحت المدائن وأرسل المسلمون الغنائم إلى سيدنا عمر، قال: إن قومًا أَدَّوْا هذا لأمناء. فقال له سيدنا عليّ: عففتَ فعفُّوا، ولو رتعت لرتعوا.

فتح هَمَذان :

بعد سيطرة المسلمين على مدينة نهاوند وبعد استشهاد سيدنا النعمان بن مقرن، أصبح سيدنا حذيفة بن اليمان هو والي نهاوند، فأرسل فرقة لتتبع الفارين على رأسها القعقاع بن عمرو التميمي حتى وصل إلى ثنية العسل، وسميت بهذا الاسم بعد الحادثة المشهورة التي ذكرناها في الدرس السابق وقتل الفيرزان.

وأمر سيدنا حذيفة بن اليمان الجيش بأن يسير حتى همذان (تبعد عن نهاوند بمائة كيلو متر)، فوصلت مقدمة الجيش إلى همذان وخرج إليه صاحب همذان وأهلها يطلبون من سيدنا القعقاع الصلح على الجزية فصالحهم، مع أن حصون همذان من أقوى الحصون، وصدق الرسول: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ". ويرسل سيدنا القعقاع إلى سيدنا حذيفة بخبر الفتح، وتفتح همذان في ذلك الوقت صُلحًا.

وكان سيدنا عمر قد ألغى قراره السابق للجيوش عن الانسياح في بلاد فارس خوفًا عليهم من الغنائم، وكان سبب دخول المسلمين نهاوند هو تجمع أعداد من الفرس يقدر عددهم بمائة وخمسين ألفًا لمحاربة المسلمين.

وقال له الأحنف: يا أمير المؤمنين، إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وإن ملك فارس بين أظهرهم، ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنَّا لم نأخذ شيئًا بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح، فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس.
فقال: صدقتني والله! ونظر في حوائجهم وسرَّحهم. وأتى عمرَ الكتابُ باجتماع أهل نهاوند، فأذن في الانسياح في بلاد الفرس.

فتح أصبهان :

بعد فتح نهاوند وهمذان فكر سيدنا عمر في الانسياح في بلاد فارس، وتحير سيدنا عمر بأي بلاد فارس يبدأ، ولكن عاجله الفرس فتجمعوا في أصبهان، فقرر سيدنا عمر أن يبعث جيشًا إلى أصبهان، فيرسل رسالة إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان والي الكوفة وكلِّ أراضي فارس بعد سيدنا سعد بن أبي وقاص (كما ذكرنا ذلك من قبل في عزل سيدنا سعد وتولية عبد الله بن عبد الله بن عتبان)، يأمره بتجهيز جيش إلى أصبهان، وأن يقود الجيش بنفسه لفتح أصبهان، وأن يترك على الكوفة زياد بن حنظلة ليصبح والي الكوفة وأراضي فارس، ولكن لم يبقَ في الولاية كثيرًا؛ فقد وجد صعوبة في التعامل مع أهل الكوفة، فهم الذين شكوا سيدنا سعد بن أبي وقاص إلى سيدنا عمر فعزله، واستعفى سيدنا زياد من الولاية، فأعفاه سيدنا عمر وولَّى مكانه سيدنا عمار بن ياسر أجمعين.

وتحرك جيش سيدنا عبد الله بن عتبان من الكوفة إلى حلوان إلى نهاوند، وأمره سيدنا عمر أن يأخذ نصف قوات جيش سيدنا حذيفة بن اليمان ويتحرك بها إلى أصبهان، ثم أرسل سيدنا عمر برسالة إلى سيدنا أبي موسى الأشعري وهو والي البصرة في ذلك الحين، وكما ذكرنا من قبل أن أهم مدينتين في بلاد العراق وفارس هما الكوفة والبصرة، وتخرج من المدينتين الجيوش الإسلامية.

وأراد سيدنا عمر أن يحاصر أصبهان ويهاجمها من طريقين: من الطريق الشمالي الذي وجَّه إليه عبد الله بن عتبان، ومن الطريق الجنوبي. ورسالة سيدنا عمر إلى سيدنا أبي موسى الأشعري مضمونها أن يخرج سيدنا أبو موسى الأشعري على رأس الجيش القافل من البصرة ويتجه إلى أصبهان من جهة الجنوب، ولو نظرنا إلى أبعاد الخرائط نجد أن أصبهان في عمق الدولة الفارسية، فقد توغل المسلمون في داخل الأراضي الفارسية توغلاً كبيرًا.

ووصل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان قبل أبي موسى الأشعري، فيقابله جيش أصبهان خارج مدينة أصبهان بنحو خمسة كيلو مترات وقائد الجيوش بندار، وعلى مقدمته شهربراز بن جاذويه، شيخ كبير ومن المقاتلين المهرة، ولم يمنعه هذا السن الكبير عن القتال.

والتقى الجيشان وذلك قبل وصول جيش أبي موسى الأشعري؛ يقول الرواة: إنها كانت على مِنْوال معركة نهاوند، وينتصر عبد الله بن عبد الله بن عتبان على هذه الفرقة، ويقتل عبد الله بن ورقاء الرياحيُّ الشيخ الكبير قائد مقدمة جيوش أصبهان، وسمي ذلك الوادي "رُسْتاق" وادي الشيخ إلى اليوم.

ثم انسحب الجيش الفارسي إلى داخل أصبهان وتحصَّن داخل مدينة "جَيّ"، ووقف المسلمون محاصرين الحصن، وعلى رأس الحصن رجل يسمى "فاذوسفان" وكان أمير مدينة أصبهان، فقاتل المسلمين، وكعادة الفرس يحاربون من وراء جدر؛ يحاربون المسلمين فإذا انهزموا تحصنوا وراء الجدر، وكل ذلك ما مَلَّ المسلمين من الحصار، ولم يأت بعدُ جيشُ أبي موسى الأشعري، وذلك من سرعة عبد الله بن عتبان لا من بطء أبي موسى .

وطال الحصار حتى ظن الفرس الهزيمة، فيخرج الفاذوسفان رافعًا راية يريد أن يتحدث إلى قائد المسلمين، فقال لعبد الله بن عبد الله بن عتبان: لا تجعل أصحابك يقتلون أصحابي، ولكن اخرج لي فإن قتلتُك رجع أصحابك، وإن قتلتني سالمك أصحابي، وإن كان أصحابي لا يسقط لهم نشَّابة.

وكان سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان من أمهر المسلمين وأشدهم ضراوة في القتال؛ فوافق سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليقيَ المسلمين قتالاً عظيمًا ويكسب مدينة "جَيّ"، فيخرج سيدنا عبد الله إلى الفاذوسفان، واختارا أن يكون القتال بالرمح لا بالسيف، فقال عبد الله بن عبد الله بن عتبان: تحمل عليَّ أو أحمل عليك؟[1].

فقال الفاذوسفان: بل أحمل عليك. فوافق عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ويتترَّس بترسه فهجم عليه الفاذوسفان وضربه ضربة قوية تفاداها سيدنا عبد الله بمهارة عالية، ولكن أصاب الرمح سرج فرسه فقطعه، فوقع من على الفرس واقفًا، ثم اعتلى فرسه بقفزة واحدة، وقال للفاذوسفان: هذه نوبتي التي أهجم فيها.

ولكن لما رأى الفاذوسفان مهارة سيدنا عبد الله، قال له في خبث ومكر: إنك رجل كامل ولا أشتهي قتلك، فارضَ مني الصلحَ (والكَرَّةُ لسيدنا عبد الله بن عتبان، ولا بد من بعض التنازل من الفاذوسفان ليقبل منه سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان). وقال له: اقبل مني الصلح على أن يعطيك أهل أصبهان الجزية كما تطلب، ومن شاء منهم ألا يعطيك الجزية ترك المدينة وترك لك أرضه وماله، والأرض التي امتلكتها عنوة هي لك. فوافق سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وأخذ منهم الجزية وترك لهم حرية الخروج، فخرج ثلاثون رجلاً فقط رفضوا أن يعيشوا مع المسلمين، وأَنِفُوا أن يدفعوا الجزية، وهربوا إلى منطقة محيطة، ثم فكروا في حلٍّ لا يدفعون به الجزية فدخلوا في الإسلام، وحسن إسلامهم بعد ذلك لما رأوا من معاملات المسلمين، وحسن أخلاقهم، ووفائهم في العهد، ومهارتهم في القتال.

ويسيطر سيدنا عبد الله بن عتبان على المنطقة بكاملها، وكتب عهدًا لفاذوسفان وأهل منطقة أصبهان، هذا العهد تكررت صورته في كل صلح جزية أقامه المسلمون بعد ذلك في كل أراضي فارس:

"كتاب من عبد الله بن عبد الله بن عتبان للفاذوسفان وأهل أصبهان وحواليها: إنكم آمنون ما أدَّيْتُم الجزية، وعليكم من الجزية قدر طاقتكم في كل سنة تؤدونها إلى من يليكم من المسلمين عن كل حالم (والذي يحدد الطاقة هو والي المسلمين، وكما ذكرنا من قبلُ كانت أقلَّ من نصف الضرائب التي كان يدفعها أهل فارس لوالي الفرس نفسه، فكان أهل فارس يستمتعون بهذه الجزية؛ لأنها أقل بكثير من الضرائب الفارسية)، وعليكم دلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يومًا وليلةً (وفي بعض الروايات: قراه يومًا وليلة من أوسط طعامكم )، وحملان الرَّاجل إلى مرحلة (أي: إلى البلد التي تليكم)".

والبند الثاني تكرر في كل معاهدات المسلمين مع الفرس؛ لأنهم توغلوا في أرض فارس وهي ليست بأرضهم، فلا بُدَّ من نصيحة صادقة من أهل البلد للمسلمين، وإذا أخلَّ الفرس بهذا البند سقطت المعاهدة.

"ولا تَسَلَّطُوا على مسلم، ولكم الأمان ما فعلتم، فإن غيرتم شيئًا أو غيَّره مُغير منكم ولم تُسْلِمُوه فلا أمان لكم، ومن سبَّ مسلمًا بُلِغَ منه (أي: عُوقِب)، ومن ضرب مسلمًا قتلناه".

وكتب وشهد عبد الله بن قيس، وعبد الله بن ورقاء، وعصمة بن عبد الله، وكلهم من قواد الجيش الإسلامي.
وكل المعاهدات التي جاءت بعد ذلك كانت صيغت من هذه المعاهدة. وفي المعاهدة نرى عزة المسلمين، ومن يقوم بالمعاهدة من مركز القوة مع من في حالة الضعف. ودائمًا في حال المعاهدات بين القوي والضعيف يقدم الضعيف تنازلات كبيرة، ولا يتوقع أحد أن المعاهدة مكسبٌ للضعيف الذي يرجو القوي المسيطر على البلد ومن في حالة العزة.

وبعد هذه المعاهدة دانت منطقة أصبهان وما حولها من المناطق للمسلمين، وتم فتح أصبهان سنة إحدى وعشرين هجرية.

وبدأ المسلمون يرتبون القوات والمسالح (أي الحاميات) في أماكن مختلفة على الحدود الواسعة، وأصبحت الأراضي الفارسية من تُسْتَر إلى أصبهان في أيدي المسلمين، وذلك في سنة إحدى وعشرين؛ ففي العام الثامن عشر دانت تُسْتَر، وفي العام التاسع عشر وصل المسلمون إلى نهاوند، وفي العام الحادي والعشرين وصلوا إلى أصبهان.

إسقاط الدولة الفارسية :

بعد أن دانت هذه المنطقة بدأ تفكير سيدنا عمر بن الخطاب في تغيير خريطة العالم، فبدأ بإرسال الجيوش بكثرة من المدينتين العظيمتين: الكوفة والبصرة ليفتح المملكة التي بدأت تترنح.

ومملكة الفرس مملكة عريضة جدًّا؛ فالعراق على أطراف المملكة ومع ذلك خاض المسلمون فيها معارك كثيرة ليفتحوها، وأصبهان في منتصف فارس. فبدأ الفاروق عمر بإخراج الجيوش بكثرة ليُسقِط هذه المملكة العظيمة مملكة فارس، وليغير مجرى التاريخ كله، وكان ذلك عام اثنين وعشرين من الهجرة.

ويتذكر سيدنا عمر والصحابة أنهم في السنة الأولى من الهجرة هاجروا من مكة إلى المدينة وهم في أشد حالات الاستضعاف حتى إن رسول الله قائد الأمة في ذلك الوقت يخرج خُفْيَة، وكلنا نذكر حادث هجرة الرسول، وظل المسلمون في حالة استضعاف إلى غزوة الأحزاب في العام الخامس الهجري، حيث بدأ المسلمون يغزون كما أخبرهم بذلك النبي: "الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلاَ يَغْزُونَنَا"، ثم صلح الحديبية في العام السادس الهجري، ولم يستطع المسلمون توسيع حيِّز السيطرة إلى أبعد من المدينة إلا بعد فتح مكة في العام الثامن الهجري، ثم دانت الجزيرة العربية للنبي قبل موته في العام العاشر الهجري، وكانت هذه الدولة الإسلامية هي الجزيرة العربية فقط، وفي العام الحادي عشر حدثت حروب الردة، وفي العام الثاني عشر تبدأ الحروب لفتح فارس والروم، ونحن وإن كنا نتكلم في الجبهة الفارسية إلا أنه في جانب الروم تحدث معارك على نفس القدر من العظمة والعزة.

فهذا أمر عجيب جدًّا يسجله التاريخ للمسلمين: أن جيشًا من المسلمين في دولة صغيرة كالمدينة، يبدأ في التوسع حتى تدين له كل هذه المنطقة، وتسقط له دولة عندها من البشر ما لا يُحْصَى عدَدُه، ومن المهارة في الحرب ما يتعجب له الناس، وهزموا الروم قبل ذلك، وعليهم من الأمراء مَن له من الحكمة والمهارة في القتال ما يُضرَب به الأمثال، وعندهم من الأموال الكثير، ثم تسقط هذه الأرض تحت أيدي هؤلاء الأطهار صحابة رسول الله ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فلا بُدَّ من التفكر في هذه الأمور ونحن نفصل حروب فارس حتى لا يظن البعض -كما يدرسون- أن المسلمين حاربوا فارس وانتصروا في القادسية، ثم المدائن، ثم نهاوند، ثم سقطت فارس.

لا بد أن نعي أن هذه الانتصارات استوجبت جهودًا ضخمة من رجال عظماء، وبوجود أمثالهم تتكرر هذه الانتصارات من جديد، وهذا الأمر ليس معجزة أنبياء وما قام بهذا الأمر إلا بشر وبشر مثلنا، ولكن الفارق هو أنهم طبَّقوا منهج الله، فلما طبقوا المنهج دانت لهم الأرض.

فتح شمال الدولة الفارسية :

وبدأ سيدنا عمر يبعث الجيوش واضعًا لها الخطط من المدينة، فيخرج بعض الجيوش من الكوفة لتفتح شمال الدولة الفارسية، وبعض الجيوش من البصرة لتفتح وسط وجنوب الدولة الفارسية.

وأنفذ عمر بن الخطاب خمسة جيوش من الكوفة لفتح شمال الدولة الفارسية.

الجيش الأول: وعلى رأسه سيدنا نعيم بن مقرن t، وبلغ تعداد جيشه أربعة وعشرين ألف مقاتل مسلم، خارج من الكوفة في اتجاه همذان؛ لأن همذان نقضت صلحها مع المسلمين، وبدأ الفرس يتجمعون فيها لمحاربة المسلمين. وقال سيدنا عمر بن الخطاب لنعيم: إذا تم فتح همذان فتوجه إلى الري (وهي منطقة كبيرة على بحر قزوين).

الجيش الثاني: وعلى مقدمة الجيش سيدنا سويد بن مقرن، وهو أخو سيدنا نعيم بن مقرن والنعمان بن مقرن، وكلهم قادة جيوش، وأمر سيدنا عمر نعيم بن مقرن إذا وصل إلى الري أن يخرج سويد من جيش نعيم ويذهب إلى فتح بلدة تسمى قُومِس، ثم يذهب لفتح جرجان، ثم يذهب لفتح طبرستان، وهما أول جيشين خرجا من الكوفة معًا وسيفترقان في الري.

الجيشان الثالث والرابع:

وأخرج سيدنا عمر جيشين آخرين ووجههما إلى أذربيجان:

جيش بقيادة سيدنا بكير بن عبد الله وهو من صحابة رسول الله، وكان صحابيًّا قبل أن يبلغ الحلم، وهناك حادثة مشهورة تتعلق به نذكرها في الكلام عن جيشه. وجيش عليه سيدنا عتبة بن فرقد، وكلاهما مُوَجَّهٌ إلى أذربيجان، وهي منطقة واسعة كبيرة غرب بحر قزوين؛ لذا وجه لها سيدنا عمر جيشين أحدهما من جهة الشرق والآخر من جهة الغرب حتى يسيطرا على منطقة أذربيجان.

الجيش الخامس: وعلى رأسه سراقة بن عمر، وسيفتح منطقة تسمى "الباب" وهي شمال أذربيجان، وهذا الجيش يسير بمفرده إلى منطقة الباب بعيدًا عن جيشي بكير وعتبة بن فرقد المتجهين إلى أذربيجان.

وستخرج جيوش من البصرة تتجه لفتح منطقة الوسط، وهي منطقة كبيرة اسمها "خُرَاسَان" التي توجد فيها مدينة "مَرْو"، والتي هرب إليها يزدجرد.

وستتجه جيوش أخرى إلى الجنوب.

وما نريد معرفته هو أن كل هذه الجيوش تحركت في وقت واحد، ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن جيش نعيم وسويد بن مقرن وبكير وعتبة تدور حروب أخرى في الجنوب، وحروب في الوسط في نفس الوقت.

فكانت خُطَّة سيدنا عمر أن تتحرك الجيوش الإسلامية إلى فارس في أكثر من اتجاه حتى لا يساعد الفرس بعضهم بعضًا، بل كل طرف يحارب من يهاجمه.
فتح همذان والري :

تبدأ الجيوش الإسلامية في التحرك، ويصل جيش سيدنا نعيم بن مقرن إلى همذان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، ويمر في طريقه إلى همذان بثنية العسل، ويكمل المسلمون الطريق حتى وصلوا إلى همذان، وعلى المقدمة سيدنا سويد بن مقرن، فلما وصلت المقدمة قابلها أهل همذان بالحرب، ولكنها – أي المقدمة – دَكَّت جيوش الفرس في همذان كما ذكر الرواة، فطلب الفرس في همذان الصلح مرة أخرى، فعقد معهم معاهدة هي نفس المعاهدة التي عقدها المسلمون مع أهل أصبهان التي تكلمنا عنها آنفًا.

وبعد فتح همذان تجمعت قوات أخرى في وجه سيدنا نعيم بن مقرن، وكان ملك الرَّيِّ قد أرسل قائدًا من قواده اسمه "الزينبيّ"، ويعسكر الزينبي في منطقة "وَاج رُوذ" ويرسل رسائل إلى أهل فارس: فيرسل رسالة إلى أهل قزوين وهي مدينة واقعة على بحر قزوين، ويرسل إلى أذربيجان ليمدوه بمدد، فجاءه مدد من أهل قزوين على رأسه "موتا"، ويأتيه من أذربيجان مدد على رأسه "إسفندياذ" ملك مدينة أذربيجان وهو شقيق "رستم" أعظم قواد فارس على الإطلاق، والذي قُتِل في القادسية، فتجمع في "وَاج رُوذ" ثلاثة جيوش: جيش من الرَّيِّ، وجيش من مدينة قزوين، وجيش من أذربيجان حتى تلتقي مع سيدنا نعيم بن مقرن.

ونقلت عيون المسلمين إلى سيدنا نعيم بن مقرن خبر الجيوش الثلاثة وتجمعهم في واج روذ، فيتحرك سيدنا نعيم بالجيش إلى "واج روذ" ويلتقي مع جموع الفرس؛ يقول الرواة: لقد قُتِلَ من الفرس في هذه المعركة ما لا يحصى عَدَدُه، وخاض المسلمون مع الفرس معارك كثيرة، وفي كل معركة يَقْتُلُ المسلمون منهم مقتلة عظيمة، إلا أنهم مستمرون في محاربة المسلمين.

بعد الانتصار الذي حققه سيدنا نعيم بن مقرن على الجيوش الثلاثة، توجه بالجيش إلى الري كما خطط له سيدنا عمر بن الخطاب.

وكان إسفندياذ قد هرب إلى أذربيجان، وهرب الزينبي إلى الري، وأثناء سير الجيش المسلم من "واج روذ" إلى الري يأتيه الزينبي يريد الصلح، فقبل منه سيدنا نعيم بن مقرن ويأخذه هو ومن معه بعد أن قبلوا الصلح مع المسلمين، ويتوجه بكل المجموع إلى منطقة الري، وهناك التقى سيدنا نعيم بن مقرن مع أهل الري في معركة عظيمة في سفح جبل الري مع الفرس، وينتصر عليهم انتصارًا جزئيًّا، ولما جاء الليل انسحب الجيش الفارسي إلى داخل المدينة، وحاصر سيدنا نعيم بن مقرن المدينة منتظرًا الصباح فجاءه الزينبي، وقال لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة؛ فابعثْ معي خيلاً أدخلْ بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت، فإنهم إذا خرجنا عليهم لم يثبتوا لك على أن تعطيني العهد على هذه المنطقة (أي يعطي الجزية للمسلمين ويعاهدهم على الأمان).

فبعث معه نعيم خيلاً من الليل، عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو بن مقرن، فأدخلهم الزينبي المدينة ولا يشعر القوم وشاغلهم نعيم بالقتال فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم؛ فانهزموا وقُتِلُوا مقتلة عظيمة وكَثُرَ السبي، وأفاء الله على المسلمين "الري". ومن حول مدينة الري أعطى لهم سيدنا نعيم الأمان على أمان الزينبي، وأصبح الزينبي أميرًا على تلك المنطقة يعطي الجزية للمسلمين.

فتح قومس وجرجان وطبرستان :

بعد تسليم الري ومصالحة المسلمين لأهلها خرج سيدنا سويد بن مقرن ليفتح قُومِس وجُرْجان وطَبَرِسْتان كما خطّط سيدنا عمر بن الخطاب، وما بين مدينة الرَّيِّ وقومس ثلاثمائة وخمسون كيلو مترًا، وفي طريق سيدنا سويد من الري إلى قومس، وفي هذه المساحة العريضة الشاسعة لم يقابله فارسي واحد، وكانت الجيوش تفِرُّ من أمامه إلى قومس، وما إن وصل قومس حتى خرج إليه ملكها وأهلها طالبين الصلح مع المسلمين على أن يعطوا الجزية؛ فيعقد معهم معاهدة كالتي عقدها عبد الله بن عبد الله بن عتبان مع أهل أصبهان.

وكاتَبَ جرجان وطبرستان يخبرهم بوصوله قومس ويعرض عليهم الإسلام أو الجزية أو القتال؛ فيراسله أهل جرجان وطبرستان بقبول الصلح وإعطاء الجزية، ويعقد مع جرجان وطبرستان معاهدة، ويُغيّر سيدنا سويد بن مقرن تغييرًا طفيفًا في معاهدة جرجان حتى يكون لها الأثر في نفوس الفرس.

وكان لهذا التغيير الأثر الكبير في الفرس، وكان ذلك من حكمة سيدنا سويد بن مقرن، ويكون عبرة لمن بعده من المسلمين بعد ذلك، وللأسف في العصر الحديث تتم المعاهدات بالتغيير الذي أحدثه سيدنا سويد، ولكن انقلبت الآية فأصبح المسلمون في وضع الفرس من الضعف، وأصبح أعداء المسلمين في وضع المسلمين من القوة.


.............



التتمة لاحقا ..
 
رد: فتوحات العراق وفارس

معاهدة جرجان




توقفنا في المقال السابق عند بنود معاهدة جرجان وماذا فعل فيها سويد بن مقرن من تغيير ليسقط الدولة الفارسية إسقاطًا كاملاً، وكانت معاهدة جرجان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، ونصها:

"هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وإلى أهل جرجان أن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عِوَضًا من جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومِلَلِهم وشرائعهم، ولا يغيّر شيء من ذلك هو إليهم ما أدوا وأرشدوا ابن السبيل ونصحوا وقروا المسلمين -أي أكرموهم- ولم يبدُ منهم سَلٌّ لسيف، ولا غَلٌّ لمال، وعلى أن من سب مسلمًا بلغ جهده -أي عُوقِبَ- ومن ضربه حلَّ دمه".

وهذه هي معاهدة جرجان، وتختلف عن المعاهدات السابقة في قوله: "ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا من جزائه". وهي أول معاهدة من نوعها يقر فيها قائد المسلمين الفرس على ديانتهم المجوسية ولا يأخذ منهم جزية على أن يدافعوا عن البلد مع المسلمين، وكان ما يحدث قبل ذلك أن جيش المسلمين لم يكن يستعين بأهل البلد المفتوحة، بل يأخذ منهم الجزية مقابل أن يدافع المسلمون عن البلد، لكن هذه المرة عَرَض عليهم سيدنا سويد هذا العرض، فقبل أهل جرجان الدفاع عن البلد ضد أي هجوم خارجي، وهذا الهجوم سيكون -في الغالب- من الفرس نظيرَ إسقاط الجزية عنهم، وقد يجازيه المسلمون على هذا الدفاع الذي قام به.

انعكاسات التغيير في المعاهدات :

أولاً: توغل جيش المسلمين لمسافات كبيرة داخل الأراضي الفارسية، فما بين الري وقُومِس -مثلاً- ثلاثمائة وخمسون كيلو مترًا كما ذكرنا، وقد أصبح تعداد الجيش الإسلامي قليلاً بحيث لا يستطيع حماية كل المدن التي فتحها، فكان لا بد من توظيف جزء من الفرس في الدفاع عن هذه الأراضي نظير جزء من المال لضعف الدولة الإسلامية عن الدفاع عن هذه الأراضي.

ثانيًا: أراد سيدنا سويد بهذه المعاهدة أن يفرق الفرس إلى طائفتين: إحدى الطائفتين تدافع عن المسلمين، وتأخذ أجرها منهم؛ وطائفة أخرى تحارب المسلمين ولا تريد أن تقبل الصلح معهم، بل تهاجمهم. وهذه المعاهدة أحدثت تفككًا بين الفرس؛ فأصبح الفارسي يقاتل أخاه الفارسي دفاعًا عن "جرجان" لصالح المسلمين، فانقسم الفرس إلى فرقتين: فرقة تتسارع لتأخذ أماكن الدفاع إرضاءً للمسلمين، وتحصل على الأموال منهم أو تُسْقَط عنهم الجزية ويدافعوا عن الأرض، والفرقة التي أخذتها العزة أن تتصالح مع المسلمين وتحاربهم، فستحارب الفرس -أيضًا- لأن من بنود المعاهدة الدفاع عن جرجان ضد أي هجوم حتى ولو كان من الفرس.

ثالثًا: وهذا السبب في غاية الأهمية، وهو أنه طالما يشعر الفُرْسُ بالعداء فلن يتقبلوا الإسلام بنفس راضية؛ فالعدواة والكراهية من أهل الأرض لمن احتلهم هي الأصل في ذلك، وذلك يحول دون تقبلهم الأفكار الإسلامية، أما لو تحولت هذه العلاقة من علاقة عدو لعدو إلى علاقة صداقة أو تجارة أو علاقة يأخذ عليها أجرًا، فمع مرور الزمن تسقط هذه العداوة، وبالتالي يكون الجو أنسب للجيش الإسلامي لنشر الأفكار الإسلامية داخل الأراضي الفارسية.

وهذه المعاهدة التي عقدها سيدنا سويد بن مقرن، وما فكَّر فيه من نتائج لهذه المعاهدة، وما ذكرته كتب التاريخ آتت ثمارها بعد أشهر، فبعد أن علمت طبرستان بمعاهدة جرجان طلبت من المسلمين معاهدة على نهجها، أي على أن يشترك أهل طبرستان في الدفاع عنها نظير إسقاط الجزية وأخذ أجر من المال، ومعظم المعاهدات بعد ذلك كانت على ذلك النهج. ولما أرسل سويد بنود هذه المعاهدة إلى سيدنا عمر بن الخطاب استحسن ذلك الأمر، وهو دفاع الفرس عن الأراضي الفارسية لصالح المسلمين.

والمعاهدات مع اليهود في العصر الحديث صورة طبق الأصل من هذه المعاهدة، ولكن على العكس فالمسلمون أصبحوا مكان الفرس، واليهود أصبحوا مكان المسلمين، وكأن اليهود يقرءون كتب المسلمين ويستفيدون منها ويطبقونها عليهم، ونحن لا ننظر إلى تاريخنا، فقد قسموا البلاد الإسلامية الآن إلى أناس مسلمين يدافعون عن بلادهم، وآخرين يتسابقون ليأخذوا الأجر من اليهود وليأخذوا قطعة أرض كجرجان تاركين كل المملكة؛ لتكون لهم سلطة وحكومة تحت سلطان الاحتلال، وأصبح على الأخ المسلم الذي يريد قتال اليهود قتال أخيه الموالي لليهود والمتعاون معهم، كما نشأت صداقة بين هؤلاء واليهود، بعد أن كان اليهود أعداء أصبحوا أصدقاء، وبيننا وبينهم معاملات من تجارة وتبادل ثقافي وتبادل فني وتطبيع رياضي، وتسقط كل الحواجز وينتج عن ذلك أمران:

ذوبان الأفكار الإسلامية وانتشار الأفكار اليهودية، فكل الأفكار اليهودية الهدامة تأخذ طريقها في الانتشار في منتهى السهولة، بينما تنمحي الأفكار الإسلامية مع الوقت، ولن تقرأ في كتب التعليم أن اليهود أعداء، أو تدرس غزوة من غزوات النبي مع اليهود في كتب التاريخ أو التربية الإسلامية، فلا بُدَّ -عندهم- أن يخرج الجيل القادم وقد تربى على أن اليهود أصدقاء يأخذ منهم الأموال، ويدافع عن أرض المسلمين لصالح اليهود، ولا توجد بينه وبينهم كراهية أو عداوة.

ومهما حاولت أن تربي ابنك على عداوة اليهود لن تفلح؛ لأن الواقع كله يقول إنهم أصدقاء، وبعد سنوات معدودة حسب نشاط اليهود وكسل المسلمين تحدث عملية امتزاج بين الأفكار اليهودية والأفكار الإسلامية، وساعتها لن تجد فرقًا بين المسلمين واليهود.

والمسلمون يفعلون ذلك عن غفلة، أما اليهود فيفعلون ذلك عن نظر وتخطيط، فقد وصلوا إلى النظرة التي وصل إليها سيدنا سويد بن مقرن من قبلُ، وهؤلاء الفرس الذين قاموا بالمعاهدة مع سيدنا سويد بن مقرن إما أن تكون لديهم غفلة أو حب الرياسة وحب التملك لمنطقة جرجان وطبرستان، ولا يهمهم الدولة الفارسية التي تجمعهم، مع أن جرجان لا تساوي فيها شيئًا، ولكن حب التملك هو الذي جعلهم يدافعون عن هذه الأرض لصالح المسلمين ضد إخوانهم من الفرس.

ولكن كيف استفاد اليهود من تاريخ المسلمين؟ وكيف وقع المسلمون في أخطاء الفرس؟ أمر عجيب ولغز محيِّر، وهذا الأمر لا بد أن نستفيد منه لنعرف ما فُعِلَ بنا.

هذا هو نص معاهدة جرجان وطبرستان، وبعد ذلك ستأتي معاهدات شبيهة بهذه المعاهدة، تكررت في الحروب الفارسية.

وبعقد الصلح مع جرجان وطبرستان وتسليم الدولتين انتهت مهمة الجيش الثاني، وتمت مهمة سيدنا نعيم بن مقرن بفتح همذان والري كما خطط لها سيدنا عمر بن الخطاب تمامًا، وأيضًا تمت مهمة سيدنا سويد بن مقرن بفتح قُومِس وجرجان وطبرستان، وزاد على ذلك الشروط التي وضعها في المعاهدة مما كان لها الأثر الطيب على المسلمين، واستحسنها عمر بن الخطاب .

فتح أذربيجان :


كان سيدنا عمر قد وجه إلى أذربيجان جيشين: أحدهما بقيادة سيدنا بكير بن عبد الله والآخر بقيادة عتبة بن فرقد، ومنطقة أذربيجان من المناطق الواسعة وتقع غرب بحر قزوين، ومنطقة الباب في شمال منطقة أذربيجان، وأيضًا على بحر قزوين، وفوق منطقة الباب مملكة الترك وهي مملكة واسعة تقع في شمال الدولة الفارسية، وتصل إلى حدود الدولة الرومانية وعلى رأسها ملك يسمى خاقان، وليس بينها وبين الفرس حروب لمعاهدات كانت بينهما، ولو استطاع المسلمون فتح أذربيجان ومنطقة الباب لوصلوا إلى الحدود الشمالية للدولة الفارسية؛ لذا أرسل إليها سيدنا عمر بن الخطاب جيشين، وفي الوقت نفسه يعمل المسلمون في الوسط والجنوب، فكما ذكرنا من قبل أن الفتوحات كلها كانت تتم في وقت واحد.

وكالعادة يضع سيدنا عمر بن الخطاب خطة محكمة وهو في المدينة ليفتح منطقة الباب وأذربيجان، فيرسل جيش سيدنا بكير من الكوفة ويمر بحلوان ويتجه من حلوان إلى شرق أذربيجان، وفي الوقت نفسه يرسل جيشًا آخر على رأسه سيدنا عتبة بن فرقد من الكوفة ومرورًا بالموصل حتى يصل إلى أذربيجان من الغرب، فيؤدي ذلك إلى انقسام جيش أذربيجان المشهور بقوته إلى قسمين: نصفه في الشرق والنصف الآخر في الغرب، وبذلك يشتت الطرفين، وكان أول من ابتدع هذه الخطة الحربية سيدنا أبو بكر الصديق ، وذلك في بدايات فتوحات فارس لما أرسل سيدنا خالد بن الوليد من الجنوب وسيدنا عياض بن غنم من الشمال؛ ليدخلوا الحيرة من منطقتين مختلفتين، وبعد ذلك طبَّقها سيدنا خالد وسيدنا المثنى بن حارثة وسيدنا سعد بن أبي وقاص، وها هو سيدنا عمر بن الخطاب من المدينة يخطط لمثل هذه الخطة أكثر من مرة.

والجيوش الخمسة التي وجهها سيدنا عمر لفتح الدولة الفارسية يقودها خمسة من صحابة الرسول، وسيدنا بكير بن عبد الله كان صحابيًّا قبل بلوغه الحلم, وكانت له حادثة مشهورة مع النبي، فكان يدخل على نساء النبي قبل أن يبلغ الحلم، فلما بلغ الحلم ذهب إلى النبي، وقال له: إنني قد بلغت الحلم؛ حتى لا يدخل على نساء النبي، فأُعْجِبَ بصدقه ودعا له، وقال: "اللهم صَدِّقْ قوله، ولَقِّهِ الظَّفَرَ"؛ فظل طوال عمره صادقًا ومنتصرًا بدعوة النبي.

وقُتِلَ يهوديٌّ في المدينة فغضب سيدنا عمر لذلك غضبًا شديدًا، وقام وخطب في الناس وسأل عن قاتله، فقال بكير بن عبد الله: أنا قتلته. قال: لقد بُؤْتَ بدمه فأتني بالمخرج. فقال سيدنا بكير: لقد استخلفني أحد صحابة النبي على زوجته وهو خارج إلى الغزو، فذهبت يومًا أَمُرُّ أمام البيت، فوجدت هذا اليهودي يريد أن يعتدي عليها؛ فقاتلني وقاتلته، فقتلته. فصدقه سيدنا عمر بن الخطاب t رغم أنه لم يأتِ بشهود بدعوة النبي، فهو يعلم أن النبي دعا له بأن يكون صادقًا؛ فهو لا يكذب. وكتب الشعراء في سيدنا بكير شعرًا كثيرًا في فروسيته التي لا مثيل لها في ذلك الوقت.

يتقدم سيدنا بكير بالجيش حتى يصل إلى مدينة جرميذان وهي مدينة كبيرة في شرق أذربيجان، وفيها إسفندياذ شقيق رستم، وكان لهما أخ ثالث في غرب أذربيجان، وقد قُتِلَ رستم في القادسية وما زال إخوته يحاربون الإسلام.

ويدخل سيدنا بكير في معركة شرسة مع القوات الفارسية في جرميذان، وكان الجيش الأذربيجاني مشهورًا بقوته، والقتال صعب على المسلمين في الجبال فهذه المنطقة كمنطقة نهاوند، إلا أن المسلمين صبروا على القتال، وأنزل الله نصره عليهم بعد عدة أيام، وتمكن سيدنا بكير من أَسْرِ إسفندياذ، فقال له إسفندياذ: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح (يبغي سيدنا بكير الصلح رغم انتصاره في المعركة؛ فالغرض الأساسي من الفتح هو نشر الإسلام والفكرة الإسلامية في هذه البلاد، وينتشر الإسلام بصورة أكبر إذا كان هناك نوع من الصلح والمعاهدات والجزية). فقال له: أمسكني عندك؛ فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجيء إليهم لم يصالحوك.

ولقد هرب أهل أذربيجان إلى الجبال بعد الهزيمة، ومن الصعب أن يتعقبهم المسلمون فيها، وبدأ أهل أذربيجان في حرب من حروب العصابات، ولم يكن في شرق أذربيجان جيش منظم للفرس، ولكن كانت هناك فرق تهاجم المسلمين وينتصر عليهم المسلمون، فقال إسفندياذ لسيدنا بكير: ليس أمامك إلا أن تصالحني وأكون أنا على هذا الصلح (يتطلع ليكون رئيسًا على الأرض، ويدافع عنها لصالح المسلمين دون النظر إلى دولة الفرس التي نشأ فيها).

وفي الوقت نفسه كان جيش سيدنا عتبة بن فرقد قد تقدم غرب أذربيجان (وقد أسلم سيدنا عتبة قبل غزوة خيبر بقليل، أي في السنة السابعة من الهجرة، وكانت أول غزوة شارك فيها، ثم شهد مع النبي بعد ذلك باقي الغزوات).

ويدخل سيدنا عتبة بن فرقد بجيشه إلى غرب أذربيجان، والتقى في أردبيل مع شقيق رستم الثاني في موقعة شديدة، وينتصر سيدنا عتبة بن فرقد على جيش الفرس ويقتل أخا رستم الثاني.

ولما علم أهل أذربيجان بسقوط الجبهة الغربية لأذربيجان وبأسر قائد أذربيجان "إسفندياذ" وأنه ما زال حيًّا، ومن الممكن أن يعود لو صالحوا المسلمين، رجعوا من الجبال، ووافقوا على الجزية، وصالحوا المسلمين على نفس معاهدة جرجان، وهم الذين طلبوا الشرط بأن يدافعوا عن أرض أذربيجان ضد الهجوم الفارسي أو التركي أو الرومي لصالح المسلمين في نظير أن تُسْقَطَ عنهم الجزية، أو يأخذوا أجرًا من المسلمين، وهذه نتيجة سريعة جدًّا لمعاهدة جرجان التي لم يمضِ عليها إلا أشهر قليلة، وبذلك انتهت الحروب في أذربيجان.

وكان سيدنا بكير هو قائد الجيوش العامة في أذربيجان، وبعد أن تم الصلح أصبح سيدنا بكير هو أمير أذربيجان؛ فأرسل رسالة إلى سيدنا عمر بن الخطاب يقول فيها: أَرسِلْني إلى أرض من أراضي الجهاد. فهو ينأى بنفسه عن الراحة والدعة؛ لأنه يطمح إلى شرف الشهادة، ووافقه سيدنا عمر بن الخطاب على طلبه، واستخلف مكانه في شرق أذربيجان سيدنا سمَّاك بن خرشة وهو قادم من "واج روذ" بجيش بعثه سيدنا نعيم بن مقرن بناءً على رسالة من سيدنا عمر بن الخطاب بأن يمد جيش بكير بسماك بن خرشة على رأس ألفي مقاتل للسيطرة على منطقة أذربيجان الواسعة؛ فاستخلفه سيدنا بكير بن عبد الله على منطقة أذربيجان الشرقية، واستخلف على كل أذربيجان سيدنا عتبة بن فرقد.

ويرسل سيدنا عمر بن الخطاب سيدنا بكير بن عبد الله إلى سيدنا سراقة بن عمرو -رضي الله عنهم أجمعين- ليساعده في فتح مدينة "الباب".

فيذهب سيدنا بكير بفرقة صغيرة إلى منطقة باب الأبواب ليلحق بجيش المسلمين الذي على رأسه سيدنا سراقة بن عمرو، وهو من صحابة النبي، وقد أقلع سيدنا سراقة بن عمرو من الكوفة إلى منطقة "الباب" وليس له شأن بمنطقة أذربيجان مع أنها في طريقه، لكنه يذهب إلى وجهة معينة، وخطة موضوعة بحكمة شديدة، وضعها سيدنا عمر وهو في المدينة، ومدينة باب الأبواب من أكبر مدن "الباب" وتقع على مدينة بحر قزوين، وسميت باب الأبواب لأنها مبنية على أبواب طرق كثيرة مؤدية إلى الجبل فهي منطقة جبلية، وتوجد طرق كثيرة في الجبل، وهذه المدينة على باب الطرق، ولا يستطيع أحد صعود تلك الجبال إلا بعد أن يدخل من مدينة باب الأبواب.

وبعد أن كان سيدنا بكير بن عبد الله قائد الجيوش في أذربيجان يصبح على ميسرة جيش المسلمين تحت إمرة سيدنا سراقة بن عمرو القائد العام للجيوش، وعلى مقدمة الجيوش سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، وكان له ذكر مهم في موقعة القادسية هو وأخوه سلمان بن ربيعة الباهلي، وهو ليس من الصحابة رغم إسلامه في حياة النبي، لكنه لم يَرَ النبي، ويتقدم هذا الجيش إلى فتح مدينة الأبواب كما خطط له سيدنا عمر بن الخطاب t.

وبعد أن أصبحت أذربيجان تحت إمرة سيدنا عتبة بن فرقد بدأ بتقسيم الغنائم في أذربيجان، وكما ذكرنا من قبل أن أربعة أخماس الغنيمة يوزع على الجيش، والخُمْسُ الآخر يُرسَل إلى بيت مال المسلمين، فأرسل سيدنا عتبة بن فرقد خمس الغنائم إلى سيدنا عمر بن الخطاب وأرسل مع الخمس طعامًا من أرض أذربيجان لا يوجد في الجزيرة العربية؛ ليأكل منه سيدنا عمر بن الخطاب t، ويتوجه الرسول إلى سيدنا عمر بن الخطاب ويدفع إليه خمس الغنائم والطعام، ويتذوقه سيدنا عمر بن الخطاب، ويقول: والله إنه لطيِّبٌ، هل أكل جيش المسلمين منه؟ فقال الرسول: بل هو شيء خَصَّك به عتبة.

فيغضب سيدنا عمر غضبًا شديدًا لم يغضبه إلا في مواقف معدودة كما يذكر الحاضرون، ويرسل رسالة إلى سيدنا عتبة بن فرقد يقول له فيها: من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عتبة بن فرقد فليس من كَدِّكَ، ولا كَدِّ أُمِّك، ولا كَدِّ أبيك، لا نشبع إلا مما يشبع منه المسلمون.

وتظهر شدة سيدنا عمر في الرسالة، فهو لا يرضى أن يُخَصَّ بشيء يُفضَّل به على المسلمين، وقد طبَّق هذا الأمر في الإسلام، ونجح هذا الأمر فكان مثالاً عمليًّا يحتذى به.

فتح الباب :

بنظرة حربية ثاقبة يرسل سيدنا عمر بن الخطاب من الجزيرة -وقد فتحت الجزيرة في العام السابع عشر الهجري- جيشًا على رأسه حبيب بن مسلمة ليدخل المدينة من غربها، وكان جيش سيدنا سراقة متقدم ليدخل المدينة من شرقها، تمامًا كخطة فتح أذربيجان، ويمر الجيش من مدينة أرمينية التي فتحها المسلمون أيضًا في العام السابع عشر من الهجرة، ويتقدم الجيشان إلى مدينة الباب.

ويسارع حاكم مدينة الباب -وكان اسمه شهربراز- لطلب الصلح، ويضع هو الشرط بأن يدافع أهل الباب عن الباب نظير إسقاط الجزية أو أخذ أجر من المسلمين، وبدأت تتحقق آثار الصلح مع مدينة جرجان بصور متلاحقة، وسقطت مدينة (الباب) على حصانتها وكانت من أشد المناطق حصانة، وتسقط بطلب أهلها أن يدخلوا في الصلح مع المسلمين على أن تكون لهم الباب، ويدفعوا الجزية للمسلمين أو يأخذوا أجرًا مقابل الدفاع عنها لصالح المسلمين، وتسقط الباب بمنتهى السهولة على غير المتوقع تمامًا.

وبعد فتح الباب أصبح المسلمون على حدود بلاد الترك، وفي أثناء تفكير المسلمين في غزو الترك أو تكملة فتح بلاد فارس يتوفى سيدنا سراقة بن عمرو، ويستخلف مكانه قبل وفاته سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي قائد مقدمة المسلمين، ويُقِرُّه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، فأصبح عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي أمير منطقة الباب.

ويجهز عبد الرحمن بن ربيعة جيشه، ويرسل إلى شهربراز (الذي عقد معه المعاهدة) ويتقدم بالجيش إلى ناحية الشمال ليفتح بلاد الترك، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو بَلَنْجَر والترك. قال: لقد رضينا منهم ألا نغزوهم ولا يغزونا. فقال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى حتى نغزوهم في ديارهم، وتالله إن معنا أقوامًا لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. قال: وما هم؟ فيصف له سيدنا عبدالرحمن الجيش بكلمات قليلة فيقول: هم أقوام صحبوا رسول الله، ودخلوا في هذا الأمر بِنِيَّة، ولا يزال هذا الأمر لهم دائمًا، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم من يغلبهم.

وبالتمعن في هذه الكلمات وبالنظر إلى الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون، نعرف لماذا أصبحنا في حالة ضعف وهزيمة، فدائمًا النصر للمسلمين إلى أن يتغيروا، ومن يغيرهم يغلبهم، فببساطة شديدة يصف له جيشه، وأن الجيش منتصر إذا تمسك بدينه، فإذا تغير أصابته الهزيمة، وما فعله أعداء الإسلام في المسلمين كثير، وسنتكلم عن هذه التغييرات في الدرس القادم.

ولم يجد شهربراز حيلة، ودخل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي بجيشه إلى بلاد الترك، وتوغل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة بجيشه في بلاد الترك مسافة تعجب منها المؤرخون العسكريون؛ فقد تَوَغَّل ألفًا ومائة كيلو مترٍ من غير مقاومة تذكر من بلاد الترك، مع قوة الجيش التركي في ذلك الوقت، وكانت مملكة قوية جدًّا وعليها ملك قوي يُلَقَّبُ بالخاقان وكانت في قوة الفرس؛ مما دفع الفرس لأن تعقد معها معاهدة بعدم الغزو المتبادل، ومع ذلك هُزِمَ ذلك الجيش، وكان سر الهزيمة انتشار إشاعة في مملكة الترك كان لها أثر قوي جدًّا، وهذه الإشاعة لم ينشرها المسلمون بل نشرها الترك بين أنفسهم. فما هذه الإشاعة؟ هذا ما سنعرفه في المقال القادم بإذن الله.


فتح بلاد الترك


وقفنا في المقال السابق عند فتح مدينة (الباب)، وتَوَجُّه سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي خليفة سيدنا سراقة بن عمرو بعد موته إلى مملكة الترك ليفتحها، ولما عزم عبد الرحمن بن ربيعة على غزو الترك خرج بالناس، فقال له شهربراز: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو الترك. قال: لقد رضينا منهم ألاّ نغزوهم ولا يغزونا. قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى حتى نغزوهم في ديارهم، وتالله إن معنا أقوامًا لو يأذن لنا أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. قال: ومن هم؟ قال: أقوام صحبوا رسول الله، ودخلوا في هذا الأمر بِنِيَّة، ولا يزال هذا الأمر لهم دائمًا، ولا يزال النصر معهم حتى يغيّرهم من يغلبهم.

ولا ندعُ هذه القَوْلة تمر علينا دون النظر بإمعان والتفكر فيها لاستخلاص الدروس والعبر؛ فقد كان لسيدنا عبد الرحمن بن ربيعة نظرٌ ثاقب، وفهم عميق للإسلام العملي الذي يُطبَّق، وليس مجرد كلمات تقرأ في بعض الكتب.

ويخبر سيدنا عبد الرحمن أن النصر دائمًا مع المسلمين حتى يغيرهم من يغلبهم، فمن يستطيع أن يغير المسلمين يستطيع أن يغلبهم، ويظل المسلمون على هذه الحال حتى يعودوا من جديد إلى الإسلام، فيستطيعوا أن يغلبوا غيرهم كما تم في كل الحروب السابقة؛ ففي معاركهم مع الفرس كان المسلمون أضعف وأقل من الفرس في كل المواقع، وأيضًا في معاركهم مع الروم كان المسلمون أقل منهم عددًا وعُدَّةً، ورغم ذلك انتصر المسلمون وحققوا انتصارات كبيرة؛ والسبب أنهم لم يتغيروا.

واستخلاص هذه الدروس وتلك العبر لا يُعَدُّ خروجًا عن دراسة التاريخ، فلو أننا درسنا التاريخ لمجرد سماع الحكاية أو القصة فلن نستفيد من هذه المواقف، ولكن لو استفدنا وطبّقنا ما استفدناه سيكون درس التاريخ عبادة نؤجر عليها ونثاب.

وبنظرة إلى من استطاع أن يغير المسلمين نجد أن كثيرًا من أعداء المسلمين استطاعوا أن يغيروهم، ومما يؤثر في النفس أن يشترك المسلمون أنفسهم في التغيير، فيصير بعض المسلمين من أعمدة ذلك التغيير السلبي في الإسلام، وبذلك تتم الهزيمة.

ولقد غير اليهود كثيرًا في المسلمين، وكذلك فعل النصارى، كما غير بعض المسلمين في المسلمين.​

كيد اليهود ومكرهم :

لقد سمعتم عن المؤتمر الذي عقد سنة ألف وثمانمائة وسبع وتسعين في مدينة "بال" بسويسرا، هذا المؤتمر حضره حكماء اليهود في أنحاء العالم، ودعا إليه زعيمهم في ذلك الوقت "تيودور هرتزل"، وكان مؤتمرًا سريًّا، ودعا إليه زعماء اليهود في كل أقطار الأرض، وذهب هؤلاء الزعماء إلى هذا المكان وفي ذلك التوقيت؛ ليخططوا ليكون لهم مستقبل ويكون للعالم نهاية، وبدءوا بوضع قوانين وأفكار ومخططات؛ ليسيطروا على العالم في وقت ما حددوه في ذلك اللقاء، ووضعوا ما سُمِّيَ بعد ذلك بـ (بروتوكولات حكماء صهيون).

وظلت هذه المعلومات سرية حتى تُرْجِمَت إلى اللغة الروسية بعد أن استطاع أحد الروس أن يحصل على هذه المعلومات خفية وترجمها إلى اللغة الروسية، ولكنها لم تنل حظها من الشهرة إلا بعد ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، حيث انتشرت ترجمتها إلى كل لغات العالم.

ومن ينظر إلى هذه المخططات يرى أن اليهود قاموا بالتخطيط ليسير عليه العالم كما خططوا، وفي البداية كان اليهود يوجهون الأمور مباشرة، ثم أصبح بعد ذلك من أبناء المسلمين من يحافظ على أفكار اليهود، ومن أبناء النصارى من يحافظ على أفكار اليهود، وبدأت أفكار ومخططات اليهود تنتشر في كل مكان كما وضعوه.

ولا بد من قراءة هذا المخطط ليعرف المسلمون أن ما يحدث حولهم هو مخطط من قبل ذلك، وما حدث من أحداث لم يكن اعتباطًا أو جاءت عفوًا. ومما ذكر في مخططاتهم تشجيع الانقلابات في كل البلاد، فدائمًا ما يشجعون الانقلابات ويزرعون الفتن والقلاقل داخل الدول، ويشجعون الطائفة قليلة العدد على الانقلاب، وبعد عدة سنوات يشجعون انقلابًا آخر في نفس الدولة من طائفة أخرى، وهذه القلاقل المستمرة لن تحافظ على كيان أي دولة من دول العالم مهما كانت قوتها، سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة.

واليهود لهم دور كبير في دول قد لا يفكر الإنسان في القراءة عنها؛ ففي أوغندا وتشاد ومالي تجد لهم دورًا بارزًا في كل حدث، وقد تعجب عندما ترى يد اليهود تصل إلى جنوب أفريقيا، ولكن لا عجب فذلك تخطيط بعيد المدى، لتحقيق نتائج معينة.
ويعمل اليهود على تشجيع الحروب بين الدول، لكن بالمحافظة على الحدود الإقليمية لكل دولة حتى لا يتغير ميزان القوى في المنطقة، فتصبح إحدى الدول قوية ويتأثر اقتصاد اليهود بذلك، ومع تقدم اليهود الاقتصادي فإنهم يستطيعون تقديم مساعدات اقتصادية لهذه الدول؛ ليتمكنوا بعد ذلك من الحُكْم فيها، عن طريق حكام مسلمين في الظاهر، ولكن في الواقع يتمكن اليهود من السيطرة الاقتصادية عليها، وقد وُضِعت كل هذه المخططات موضع التنفيذ منذ قرن مضى.

ومن مخططاتهم السيطرة على الصحافة، والمطَّلِع على الأمور في أمريكا يرى السيطرة المطلقة لليهود على الصحافة، وللصحافة دور كبير في تغيير أي دولة، فمن الممكن أن ترفع من شأن أي قائد أو تضع منه، وقد تمدح في قانون ليكون أفضل قانون، أو تذم في نفس القانون ليكون أسوأ قانون في العالم.

وكما جاء في البروتوكول الرابع: سنختار من بين العامة رؤساء إداريين ممن لهم ميول العبيد، ولن يكونوا مدربين على فنِّ الحكم؛ ولذلك من اليسير أن يُمْسَخُوا قطعًا من الشطرنج ضمن لعبتنا في أيدي مستشارينا العلماء الحكماء الذين دُرِّبُوا خصِّيصًا على حكم العالم منذ الطفولة المبكرة.

وينص البروتوكول السادس على احتكار الثروة، وأنه لا بد لليهود من احتكار الثروة في العالم، وتملك كل البنوك وكل الذهب، وهم يعملون على تنفيذ هذا المخطط منذ قرن مضى.

وفي البروتوكول التاسع يقولون: عليكم أن توجهوا التفاتًا خاصًّا في استعمال مبادئنا إلى الأخلاق الخاصة بالأمة التي أنتم بها محاطون، وعليكم ألا تتوقعوا النجاح خلالها في استعمال مبادئنا بكل مشتملاتها حتى يعاد تعليم الأمة بآرائنا (فلن يكتب النجاح لليهود إلا بعد تغيير أخلاقيات الأمة التي تحيط بهم على النهج الذي أرادوه)، ولكن إذا تصرفتم بسدادٍ في استعمال مبادئنا فستكتشفون أنه قبل مضي سنوات سيتغير أشد الأخلاق تماسكًا.

وفي البروتوكول الثالث عشر يقولون: إنما توافق الجماهير على التخلي والكف عما تظنه نشاطًا سياسيًّا إذا أعطيناها ملاهيَ جديدة، سنلهيها بأنواع شتى من الملاهي والألعاب ومُزْجيات الفراغ والمجامع العامة، وسرعان ما سنبدأ الإعلان في الصحف داعين الناس إلى الدخول في مباريات شتى في كل أنواع المشروعات كالفن والرياضة وغيرها، هذه المتع الجديدة سَتُلهي ذهن الشعب -حتمًا- عن المسائل التي سنختلف فيها معه.
وهذا مُشَاهد حقًّا في كل البلاد الإسلامية، وبالنظر إلى بلادنا تجد الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وكذلك الأزمة السياسية، وتجد الشعب لا يتكلم إلا عن مباريات الأهلي والزمالك، فكل تفكير الناس في هذا الأمر ومُلْهَاة به، وتنسى الأزمات الطاحنة، وتنسى كل القضايا التي يختلف فيها اليهود مع المسلمين، ويتكلمون في قضية يتفق العالم كله فيها كفريق البرازيل، وأنه فريق جيد هذا بالنسبة للرياضة، أما بالنسبة للفن فالأمر أشد سوءًا، ولو استرجع كل منا الصحابة الذين ذكرناهم، وكم صحابيًّا يعرف؟ وكم فنانًا يعرف؟ وما نوعية الفكر الذي أَتَشَرَّبُه؟ لوجد المصيبة عظيمة، ولعلم أنهم قد نجحوا في مخططهم أيما نجاح؛ فقد اهتم الناس بسفاسف الأمور كالرياضة والفن، ونسوا القضايا الأساسية كالسياسة وغيرها.

ويقول اليهود في البروتوكول الرابع عشر: يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان عند الأمميين (وهم غير اليهود).

فاليهود يعلمون أن للإيمان قوةً كبيرةً جدًّا، وأن من يتسلح بسلاح الإيمان يستطيع الوقوف والتصدي للعوائق الضخمة، ومن الممكن أن ينتصر على أعداد مهولة، وكما ذُكِرَ في التاريخ أن عدد المسلمين كان -دائمًا- أقلَّ من عدد عدوهم، لكن كان عندهم عنصر مهم ذكره سيدنا عبد الرحمن هو أنهم لم يتغيروا عن إسلامهم، وبكسر عقيدة الإيمان في أي شعب يسهل أن يكون فريسة لأي شعب آخر حتى ولو كان من عَبَدَةِ الطاغوت، أو من الخنازير كاليهود وغيرهم.

وفي البروتوكول السابع عشر يقولون: الحَطُّ من كرامة رجال الدين عند غير اليهود للإضرار برسالتهم (وفي الأفلام القديمة تجد تصوير العلماء بصورة هزلية ليغرس في نفوس الناس السخرية والاستهزاء تجاههم، وإذا تكلم العالم بعد ذلك فَيُحمَل كلامُه على محمل العبث والسخرية)، وذلك على العكس تمامًا من الوضع عندهم؛ فمعاركهم مع المسلمين كلها تنطلق من مُنطَلقَاتٍ دينية، ففي كل خطوات رؤسائهم تراهم يذكرون ما في التوراة المحرفة، وأنهم ينفذون تعاليمها، ومكتوب في الكنيست (مجلس النواب الإسرائيلي): "من النيل إلى الفرات" وهي آية من آيات التوراة المحرَّفة، ويعلنون عن هذا الأمر، وليسوا كغيرهم من الأمم التي غيرها اليهود ليتبعوا ما أرادوه منهم وما خططوه لهم.

والخطط التي وضعها اليهود تسير في مسارها الصحيح، فقد وضعوا خطة ليكون لهم وطن في فلسطين بعد خمسين عامًا، وفي عام ثمانية وأربعين وبعد واحد وخمسين عامًا تحقق لهم ما خططوه وكان لهم وطن في فلسطين، وخططوا أيضًا ليكون لهم بعد مائة عام دولة من النيل إلى الفرات، وهم -وإن لم يحققوا السيطرة العسكرية- قد حققوا السيطرة الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، وأصبحت السيطرة لا تخفى على عاقل.

فهذه إحدى الفرق التي غيرت في المسلمين، ونحن لا نريد بهذا الكلام أن نضخم حجم اليهود ونَحُطُّ من شأن المسلمين، أو أن نصور أن هذه هي النتيجة الطبيعية لحرب المسلمين واليهود، ولكن ذلك ناتج عن تخلي المسلمين عن دينهم، فلقد كان اليهود على نفس الوتيرة ونفس العقلية منذ عهد النبي وحتى هذا العهد الذي استطاعوا أن يغيروا فيه المسلمين هذه التغييرات، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك إلا بعد الضعف الذي أصاب المسلمين، فبدأ النشاط اليهودي يَقْوَى وينشط ويتضح لهم أثر، وهذا انقلاب للموازين، ولكن إذا صلح أمر هذه الأمة يُطَبَّقُ كلام سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة: "لا يزال هذا الأمر دائمًا لهم، والنصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم", ولو استطاع المسلمون أن يغيروا ما بأنفسهم، ورجعوا إلى إسلامهم كان لهم الأمر من بعد ذلك، ولغيروا اليهود وتكون لنا الغلبة عليهم كما كانت لنا الغلبة من قبل.

وقد غير في المسلمين من غير اليهود كثيرٌ، سنتكلم عنهم في مقالات قادمة، والمقال القادم سنتكلم عن المسلمين الذين غيروا في المسلمين.
غزو الترك :

بعد هذه الكلمة التي قالها سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، والتي سطرها التاريخ لتكون قاعدة من قواعد النصر عند المسلمين،لم يجد شهربراز بُدًّا من الدخول في أرض الترك، ولقد ذكرنا أن سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي دخل في أرض الترك مسافة ألف ومائة كيلو متر إلى الشمال، وهي مسافة ضخمة دون أن يلقى مقاومة تُذكر من الترك، بل كان الجيش التركي يفر من أمام جيش المسلمين، رغم أن مملكة الترك -كما ذكرنا- كانت تضاهي مملكة فارس، حتى إن الفرس -على ما لهم من قوة- أقاموا معهم معاهدة ألا يغزوا أرض الفرس ولا يغزو الفرس أرضهم، وكان على رأسهم ملكٌ يُلقب بالخاقان ذو بأس وقوة، وكان الجيش التركي يُعرف عنه القوة العظيمة، ومع ذلك فرَّ الجيش من أمام المسلمين؛ وكان ذلك نتيجة شائعة انتشرت في الجيش التركي، وهذه الشائعة لم يكن للمسلمين فيها يد، وكان مصدر هذه الشائعة الجيش التركي نفسه، وصدقوا الشائعة التي أطلقوها هم وفروا من أمام الجيش الإسلامي.

وكانت الشائعة التي انتشرت بين الترك عن المسلمين أنهم قالوا: ما جرأهم على أرضنا، ودخول بلادنا، وقدومهم من الجزيرة العربية، وغزوهم فارس، ثم الدخول في مملكة الترك إلا أن الملائكة تحميهم، وأنهم لا يموتون؛ فكانت الجيوش التركية تهرب من أمام المسلمين، وجيوش المسلمين تفتح بلاد الترك، حتى وصل سيدنا عبد الرحمن الباهلي إلى مسافة ألف ومائة كيلو متر، وسيطر على هذه المنطقة، وبدأ بوضع الحاميات، وعاد سيدنا عبد الرحمن الباهلي إلى منطقة الباب.

وبعد ذلك، وفي عام ثمانية وعشرين من الهجرة ستحدث للمسلمين بعض الانشغالات، وسيصيب بعض الحاكمين في هذه المنطقة بعضُ الفساد -وإن لم يكن كالفساد المستشري اليوم- ونتيجة هذا الفساد يعكس الله الوضع؛ تحقيقًا لكلمة عبد الرحمن الباهلي: "لو تغير القوم عما كانوا عليه لضاع منهم النصر، حتى ولو كانوا ذوي عدد وعدة".

وقد قال بعض الترك: إن المسلمين لا يموتون وما أصيب منهم أحدٌ في غزوهم. وسبب ذلك أن المسلمين غزوهم قبل ذلك ولم يُقْتَلْ منهم أحد، فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون. فقال بعضهم: أفلا تجرِّبون؟ فكمنوا لهم في الغياض، فمر بالكمين نفرٌ من الجند فرموهم منها فقتلوهم؛ فثارت الترك وحاربت المسلمين، وانتصر فيها الترك على المسلمين، ثم أرسل سيدنا t جيشًا من المسلمين كانت لهم الغلبة ولم يكونوا أصحاب معاصٍ وذنوب. فالله له سنن في الكون، وهذه السنن واضحة {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

فسنة الله لا تتغير ولا تتبدل، فالطاعة يقابلها نصركم يقول I: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]. وليس بين الله وبين أحد محاباة أو نسب، بل العمل والتقوى هو الذي يتميز به إنسان عن إنسان، فالمفاضلة عند رب العالمين أساسها التقوى. وهذا بالنسبة لمملكة التُّرْك.

نرجع إلى الجيوش التي أخرجها سيدنا لتغيير خريطة العالم، وكانت تلك الجيوش التي أخرجها لفتح شمال الدولة الفارسية، وكانت عبارة عن خمسة جيوش خرجت من منطقة الكوفة كما ذكرنا من قبل.

جيش لفتح همذان، وجيش لفتح جرجان، أو الري وما وراءها، وجيشان لفتح أذربيجان، وجيش لفتح "الباب" الذي غزا الترك بعد ذلك. وهذه خمسة جيوش كانت قافلة من الكوفة، وكانت هناك جيوش أخرى قافلة من البصرة، وكما ذكرنا لأن الكوفة والبصرة هما قاعدتا العمليات العسكرية للجيش الإسلامي في بلاد فارس.
فتح جنوب فارس :

بعد الفتح الذي امتنَّ الله به على المسلمين في المنطقة الشمالية لبلاد فارس، توجهت الجيوش الإسلامية لفتح جنوب بلاد فارس، وفي المنطقة وفي شرق نهر دجلة مباشرة تقع مدينة الأهواز، وقد فتحها المسلمون قبل ذلك، وكان الفتح على يد سيدنا أبي موسى الأشعري وسيدنا أبي سبرة بن أبي رهم، والتي استشهد فيها سيدنا في معركة "تُسْتَر" التي تحدثنا عنها قبل ذلك بالتفصيل، وسقوط الهرمزان وكل هذه الأحداث كانت في شرق نهر دجلة وفي شمال هذه المنطقة، ولم يدخل المسلمون هذه المنطقة إلا مرة واحدة، وكانت ذكرى سيئة للمسلمين في عملية لم تُكَلَّلْ بالنجاح للمسلمين وهي عملية طاوس.
دولة فارس :

تقع هذه المنطقة في شرق الخليج الفارسي وهي في غاية الأهمية؛ لأنها دولة فارس الأم "دولة بني ساسان"، وهي التي توسعت على مَرَّ الزمان، واحتلت الأهواز واحتلت الري واحتلت أصبهان وسجستان ومُكْرَان وكل المنطقة التي تحيط بها، وأصبحت هذه هي الدولة الفارسية، وحققت كل ذلك قبل أربعمائة سنة من الوقت الذي نتحدث عنه.

وهناك مدينة "إِصْطَخْر" المقدسة وسُمِّي على اسمها الإقليم كله؛ فكان أكبر إقليم فارسي، وهذه المدينة الفارسية من أشد المدن حصانةً، ويقع بداخل مدينة "إِصْطَخْر" النار المقدسة التي لا تُطفأ أبدًا كما يعتقدون، وكان فيها القيادات الدينية لبني ساسان، وكانت لها مكانة عظيمة جدًّا عند الفرس.

ومنطقة فارس تنقسم إلى خمسة أقاليم رئيسية:

إقليم إصطخر.

إقليم أَرَّجَان وهو قرب الأهواز مباشرة، وعلى حدود المسلمين في ذلك الوقت، فقد فتح المسلمون كل هذه المنطقة.
إقليم سابور.

إقليم أَرْدَشِير.

إقليم دارا بجِرد.

وهذه الأقاليم الخمسة هي أصل الدولة الفارسية.
فتح إقليم فارس :

يبدأ سيدنا عمر بن الخطاب بتجهيز الجيوش من البصرة وهو في المدينة، وكأنه في ميدان المعركة؛ فيخطط لفتح إقليم فارس فيضع الخطة كالمعتاد، ويجهز سيدنا عمر بن الخطاب ثلاثة جيوش رئيسية لفتح الإقليم، وهذه الجيوش قافلة من البصرة لتتوزع على الأقاليم المختلفة بعد ذلك:

الجيش الأول بقيادة مجاشع بن مسعود.

والجيش الثاني بقيادة .

والجيش الثالث بقيادة أبي موسى الأشعري.

وهذه الجيوش الثلاثة موجَّهة إلى إقليم "أَرَّجَان" أول الأقاليم الفارسية، وهذا الإقليم كان على حدود الدولة الإسلامية في هذه الفترة؛ فألقى الله الوهن في قلوب الفرس في هذا الإقليم، فقبلوا الجزية مباشرة، ولم يحدث قتال يُذكَرُ، وأعطوا الجزية لسيدنا أبي موسى الأشعري، وبقي سيدنا أبو موسى الأشعري t في هذه المنطقة، وأكملت جيوش المسلمين بقيادة مجاشع بن مسعود وسارية بن زنيم -رضي الله عنهما- إلى إقليم فارس.

في ذلك الوقت علم المسلمون أن القوات الفارسية جمعت جموعًا عظيمة في بلدة تسمى "تَوَّج"، وهذه البلدة على الخليج الفارسي، وهي في إقليم سابور أصغر أقاليم فارس.
والجيش الإسلامي قادم من الشمال لهذه البلدة، فكان المعتاد أن الجيش الإسلامي إذا وجد تجمعًا اتجه إلى الجيوش الفارسية التي تحاربه، لكن المسلمين وضعوا خطة جديدة متجاهلين الجيوش الفارسية في "تَوَّج"، واستمروا في المسير إلى إقليم فارس، وكان ذلك من نتاج خبرات المسلمين في المعارك السابقة.

ولو نذكر موقعة "بُرْس" قبل فتح المدائن مباشرة، وقد تجمعت القوات الفارسية من أماكن مختلفة، ولما حاربهم المسلمون وانتصروا عليهم لم يدافعوا عن المدائن بل تفرق كلٌّ إلى مكانه الذي قدم منه ليدافع عنه، كلٌّ يريد أن يحافظ على ما يملك ولا تهمه الدولة الفارسية.

فكانت خطة المسلمين أن يسيروا إلى إقليم فارس تاركين جموع الفرس في "توج"، وتدريجيًّا يتفكك هذا الجيش وكل فرقة من هذا الجيش سترجع إلى إقليمها لتدافع عنه، وتبقى فرقة سابور حيث هي.

وكما توقع المسلمون ووضعوا خطتهم فقد تقدم الجيش الإسلامي متجاهلين الجيش الفارسي في توج، وما إن علم الجيش الفارسي المعسكر في توج أن المسلمين تجاهلوهم إلى بقية الأقاليم، حتى ذهب أهل كل أقليم إلى إقليمهم ليدافعوا عنه، فكانت تلك هزيمتهم وتشتَّتتْ أمورهم.

ولم يكن تقدم المسلمين عشوائيًّا بل كان بخطة محكمة، فما إن وصل الجيش الإسلامي إلى "دارا بجرد" حتى انقسم الجيش قسمين: قسمًا على رأسه سيدنا مجاشع بن مسعود t ويتجه بجيشه إلى أردشير؛ ليلتف حول الجيش الفارسي من الخلف ويواجه بقايا الجيش الفارسي في توج، والقسم الآخر على رأسه سيدنا سارية بن زنيم t يتوجه إلى "دارا بجرد" ليفتحها كما خطط له سيدنا عمر بن الخطاب.

ولما توجه سيدنا مجاشع بجيشه إلى أردشير لم يجد فيها جيشًا؛ فجيشها ما زال في توج ولم يصل بعدُ؛ فيتجه إلى توج ليجد بها نقصًا كبيرًا في عدد جنود الفرس على عكس تواجدهم منذ فترة قصيرة قبل مجيء الجيش الإسلامي، ويدخل سيدنا مجاشع بجيشه إلى توج ويحارب الفرس، ولم تشرح كتب التاريخ -للأسف- موقعة "توج"، ولكن توجد رواية واحدة رواها جبير الذي حضر المعركة بكلمات يسيرة جدًّا، ومع وجازتها إلا أن لها قيمة كبيرة، يقول الراوي: "فاقتتَلوا ما شاء الله (وذلك يدل على أن المعركة كانت طويلة)، ثم هزم الله أهل توج للمسلمين".
ومن خلال كلمات هذا الراوي نتبين أنه كان ذا فهم عميق، فهو يعلم تمام العلم أن النصر من عند الله، وما هم إلا أداة لتحقيق إرادة الله بأن يُعِزَّ الدين وأهله، ويذل الشرك وأهله، فيذل الله الفرس للمسلمين: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وقتلهم المسلمون كيف شاءوا كل قتلة، وغنموا ما في عسكرهم، وحاصروا توج فافتتحوها، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وغنموا ما فيها، ولم تقم لتوج قائمة بعد اليوم، ودعا مجاشع الفارِّين إلى الجزية؛ فأجابوا.

وقد هرب أهل سابور في الجبال؛ ولذا فقد دعا t بعد انتصاره أهل الجبال ليرجعوا إلى بلادهم، ويدفعوا الجزية؛ فرجعوا إلى بلادهم، ودفعوا الجزية للمسلمين، وفتح المسلمون بذلك سابور وأردشير بجيش سيدنا مجاشع بن مسعود .

وفي ذلك التوقيت يأتي سيدنا عثمان بن أبي العاص بجيش من البحرين ليفتح إصطخر عابرًا الخليج الفارسي كما أراد أن يفعل ، لكن مع اختلاف الموقف؛ فالدولة الفارسية تترنح تحت ضربات الجيش الإسلامي، والقوات الفارسية في كل مكان تتلقى الهزائم، وفي هذه اللحظة يأذن سيدنا عمر للجيوش الإسلامية بالتحرك داخل البحر، وما كان مَنْع سيدنا عمر بن الخطاب t التحرك في البحر قبل ذلك تعنتًا أو قصر نظر، بل لأن المرحلة لم تكن مواتية لذلك، بدليل أنه عندما دخل الجيش الإسلامي في ذلك الوقت تلقَّى الهزيمة من الجيوش الفارسية، أما الآن فالجيوش الإسلامية بالفعل قد سيطرت على المنطقة البرية، والجيوش الفارسية تتلقى الهزائم في كل مكان، ومن الصعب أن يأتي لها مدد؛ فيأذن سيدنا عمر بن الخطاب t في هذه اللحظة لسيدنا عثمان بن أبي العاص الذي تولى الأمر في البحرين بعد سيدنا العلاء بن الحضرمي بأن يتوجه بجيشه إلى إصطخر، فينزل سيدنا عثمان بن أبي العاص إلى أردشير ويؤسس مدينة للمسلمين، ويبني فيها مسجدًا كعادة المسلمين ببناء المساجد عند فتحهم أي بلد، ثم تكملة الفتوحات بعد ذلك.

وبعد بنائه المسجد تركها لمجاشع بن مسعود، وتوجه بجيشه إلى إصطخر هذه المدينة التي تتعلق بها قلوب الفرس، وكانت في منتهى الحصانة كما ذكرنا، ويلتقي عثمان بن أبي العاص والجيش الفارسي في معركة يقول عنها المؤرخون: إنها من أشد المعارك في إقليم فارس، ولكن ليست من أشد المعارك في الدولة الفارسية كلها.

وكل معارك إقليم فارس تأتي فيها الهزيمة في صفِّ الجيش الفارسي، ونتج ذلك عن الهزائم التي تلقوها من المسلمين في هذه الفترة الطويلة التي دخل المسلمون معهم فيها في حروب منذ بداية العام الثاني عشر الهجري إلى العام الثاني والعشرين من الهجرة؛ فأصيبت نفوسهم بالوهن، وماذا يفعل ذلك الجيش الذي يعيش حياة الهزيمة أمام جيش يقاتل لإحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة.

وبعد قتال عنيف هزم الله أهل إصطخر، ويسيطر المسلمون على مدينة إصطخر الدينية، وقد كان أول من سلم من أهلها رجل الدين "هربذ"، ورضي أهل إصطخر بدفع الجزية للمسلمين، وقُتِلَ قائِدُ الفرس في هذه المعركة واسمه "شَهْرَك" على يد سيدنا عثمان بن أبي العاص t.

ووصل جيش سيدنا سارية بن زنيم t إلى "دارا بجرد"، وهناك -وفي منطقة كان فيها تجمع كبير للفرس- حاصر الجيش المسلم هذه المنطقة، واستطاع أن ينتصر عليهم في البداية انتصارًا جزئيًّا، ولكنهم استدعوا مددًا فجاءهم مدد من مُكْرَان، ومن البلاد التي تقع شرقي إقليم فارس، فجاء مدد عظيم، وجاء مدد آخر من شرق إصطخر التي لم تفتح بعد؛ وَوُضِعَ المسلمون في موقف من أحرج المواقف في ، فقد قدم عليهم جيش مكران من الجنوب، وجيش إصطخر من الشمال، وكان أمامهم جيش "دارا بجرد"، والجيش في صحراء واسعة بقيادة سيدنا سارية بن زنيم.

ولم يكن لهذا الموضع إلا حلٌّ واحدٌ فقط، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين الموجودين في أرض المعركة، لكنه جاء على بال شخص ليس في ميدان المعركة، بل بعيد جدًّا عنها، فقد خَطَرَ ببال سيدنا عمر بن الخطاب وهو في المدينة على بُعد آلاف الكيلو مترات، وتحدث كرامة من الكرامات، ويحقق الله على يديه النصر في "دارا بجرد" في البلاد الفارسية وهو في المدينة المنورة.


http://defense-arab.com/الانسياح_في_بلاد_فارس
 
رد: فتوحات العراق وفارس

خرسان




توقفنا في المقال السابق عند جيش سيدنا سارية بن زُنَيْم في "دارا بجرد"، والموقف العصيب الذي لاقاه الجيش بتجمع وفود مختلفة من أماكن متعددة من الدولة الفارسية لحربه، وذكرنا أن الحل جاء من المدينة رغم بُعد المسافة بينها وبين بلاد فارس، ولكنه نصر الله الذي امتنَّ به على عباده المؤمنين: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31].

في هذا الموقف الذي ألَمَّ بالمسلمين، وقد أحاط بهم الفرس من كل مكان، وظنوا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وفي ذلك التوقيت ينام عمر بن الخطاب ، فيرى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، ورأى أن الوفود تجتمع من أماكن مختلفة لتحاصر جيش المسلمين، وأن الجيش الإسلامي وقع في مأزق، واستيقظ وأراد أن يخبر جيش المسلمين بالحل، ولكن كيف؟ فلو بعث إليهم رسولاً لاستغرق وقتًا طويلاً؛ لأن المسافة بينه وبين الجيش الإسلامي بعيدة تستغرق ثلاثة عشر يومًا، وكان اليوم التالي يوم الجمعة فبدأ يشرح للمسلمين في خطبة الجمعة أن الجيش الإسلامي في مأزق، وأن الجيوش الفارسية تحاصرهم من كل مكان، وهو يرى أن المسلمين بصحراء؛ إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى الجبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، ثم قال: يا سارية، الجبلَ الجبلَ! ثمَّ أقبل عليهم، وقال: "إنَّ لله جنودًا لا نعرفها، ولعل بعضها أن يبلغهم".

في هذا الموقف العصيب الذي يعيشه الجيش في "دارا بجرد" وبعد أن بلغت القلوب الحناجر، وانقطعت الأسباب، ووثق المسلمون في نصر الله، وأن الله ناصر دينه، تتنزل العناية الإلهية بالنصر على المؤمنين، ويكون النصر من رجل لم يكن في ميدان القتال أو يعرف طبيعة المكان، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء. ويسمع المسلمون صوتًا من السماء يقول: "يا سارية، الجبلَ"، وهذه الرواية ثابتة في الصحيح.

ونفَّذ سيدنا سارية ما سمع؛ فذهب بالجيش إلى الجبل وجعله في ظهره، وقاتلوا الفرس من وجه واحد والجبل في ظهرهم، حتى أتم الله النصر للمسلمين، وانتصر الجيش الإسلامي على كل الجموع التي جاءت لتفتك به، وحقق المسلمون نصرًا عظيمًا، وجمعوا غنائمَ كثيرة من الفرس.

لا أحد يعلم جنود الله أو الكيفية التي ينصر الله بها المسلمين إذا هم اتبعوا منهجه، ولكن كما يقول سيدنا عمر بن الخطاب: "إن لله جنودًا لا نعرفها، ولعل بعضها أن يبلغهم".
ولم يكن بوسع سيدنا عمر بن الخطاب أن يرسل رسولاً بهذه السرعة لينقل الخبر إلى سارية بن زنيم؛ فقال هذه الكلمة يخاطب بها الجيش الإسلامي، وهو يعلم أن صوته لن يفعل شيئًا ولكنه جُهْد المُقِلّ. ولما رأى الله صدق إيمان سيدنا عمر بن الخطاب، وصدق إيمان الجيش في دارا بجرد أتم الله لهم النصر.

وقد تتحقق مثل هذه الكرامة في أي وقت من الأوقات، وقد يُلْهِم الله قائد الجيش الحل، فدائمًا يلهم الله جنده بوسيلة قد لا يخطط لها المسلمون مطلقًا، ولكن ما عليهم هو الأخذ بالأسباب كاملة.​

عففت فعفت رعيتك :

وبعد الانتصار العظيم الذي حققه الجيش الإسلامي بقيادة سيدنا سارية بن زنيم في "دارا بجرد"، سقط إقليم فارس كاملاً، وسيطر المسلمون على أنحاء الدولة الفارسية، وبدءوا في توزيع الغنائم، وبقي من الغنائم سفط، أي: وعاء فيه جواهر لم يستطع تقسيمها بين المسلمين؛ فاستأذن سارية بن زنيم المسلمين أن يبعث بهذا السفط إلى عمر زيادةً على الخمس الذي يذهب إلى بيت المال.

وهنا نذكر مواقف سيدنا عمر مع سيدنا السائب بن الأقرع لما قدم عليه بجواهر، وكانت زيادة على الخمس، فقال: ليس أحق بهذا المال إلا الجيش. وأمره أن يبيعه ويقسم ثمنه بين المسلمين، وذكرنا أيضًا موقف أمير الجيش الذي أرسل طعامًا إلى سيدنا عمر بن الخطاب يخصه به ولم يأكل الجيش منه؛ فأرسل سيدنا عمر بن الخطاب إليه وقال له: إنه ليس من كَدِّك، ولا من كَدِّ أمك، ولا كَدِّ أبيك، ولا يشبع عمر من شيء لم يشبع منه المسلمون. كان هذا هو دَيْدَن سيدنا عمر بن الخطاب .

وكما نعلم أن فتح أقاليم الشمال وأقاليم الوسط كان في وقت واحد، ولما قرر سيدنا سارية بن زنيم أن يبعث هذا السفط لم يكن يعرف ما حدث من عبد الله بن عتبان وردّ سيدنا عمر عليه، ولكن اجتهد كلٌّ منهما هذا الاجتهاد في نفس الوقت، وأرسلوا هذه الأشياء إلى سيدنا عمر بن الخطاب؛ فاختار سارية بن زنيم رسولاً من الرسل وهو من أهل العراق ولا يعرفه سيدنا عمر بن الخطاب؛ ليبشره بالنصر وأرسل معه خُمس الغنائم وسَفَط الجواهر (وكان الرسل والوفد يُجَازَوْن وتُقضَى لهم حوائِجُهم)؛ فقال له سارية: استقرض ما تبلغ به وما تُخلِفه لأهلك على جائزتك. ففعل، ثم خرج فقدم على عمر، فوجده يطعم الناس ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره، فقال: اجلس. فجلس، حتى إذا أكل القوم انصرف عمر، وقام فاتبعه، فظن عمر أنه لم يشبع، فقال حين انتهى إلى باب داره: ادخُل. فلما جلس في البيت أُتِيَ بغَدائه: خبز وزيت وملح جَرِيش وماء، فوُضِعَ، فقال: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين؟ قالت: إني لأسمع حِسَّ رجلٍ. فقال: أجل. فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال، لاشتريت لي غير هذه الكسوة. فقال: أوَ ما ترضَينْ أن يُقَالَ: أم كلثوم بنت عليٍّ وامرأة عمر؟! فقالت: ما أقلَّ غَناء ذلك عني! ثم قال للرجل: اُدْنُ فَكُلْ، فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى. فلما أكلا وفرغا قال: أنا رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين. قال: مرحبًا وأهلاً. فأدناه حتى مست ركبتُهُ ركبَتَه، ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم؛ فأخبره بنصر الله الذي أتمه للمسلمين وهزيمة الفرس. فقال له سيدنا عمر: اِحْكِ لي الحوادث.

فقال: كان جيش المسلمين في مأزق شديد حتى سمعنا "يا سارية الجبلَ"؛ فأخذنا جانبًا من الجبل، فجعلنا الجبل في ظهرنا وانتصرنا على عدو الله بفضل الله. فقال: الحمد لله. وأخرج له خمس الغنائم، ثم قال: وهذا سفط من الجواهر جعله سيدنا سارية فوق الخمس. فغضب سيدنا عمر بن الخطاب غضبًا شديدًا، ثم صاح به: لا، ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجند فتقسمه بينهم. ما أشبع الله -إذن- بطن عمر، أما والله لئِن تفرق المسلمون في مشاتيهم قبل أن تقسم عليهم هذا، لأفعلن بك وبصاحبك الفاقرة. فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد أَنضيتُ إبلي، واستقرضت على جائزتي، فأعطني ما أتبلَّغ به. فما زال به، حتى أبدله بعيرًا ببعيره من إبل الصدقة، وأخذ بعيره فأدخله في إبل الصدقة، ثم وعده بشيء آخر إن هو ردَّ المال، ورجع الرسول محرومًا حتى دخل البصرة.

وهذا العدل الذي ظهر من سيدنا عمر بن الخطاب هو الذي دفع الجيش إلى أن يحب سيدنا عمر بن الخطاب ، وبذلك العدل انتصر المسلمون على هذه الدولة العظيمة التي ملأ الظلم والجور أركانها، ولم يُعْرَفْ في هذه الدولة حَقٌّ للمقاتل أو حق للفارسي بصفة عامة، ولكن كل الحقوق كانت تذهب إلى كسرى فارس وإلى الأمراء، ثم بعد ذلك يذهب الفتات إلى الجيش عكس الجيش الإسلامي تمامًا، وبذلك سقط الإقليم الأم في أعظم دولة احتلت جيرانها من الدول الأخرى، ويُعدّ سقوطها سهلاً نسبيًّا مقارنة بالمناطق الأخرى، ونذكر هنا أن هذه الأحداث كلها وقعت في سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، وأن أحداث الفتح الإسلامي لبلاد الفرس بدأت في العام الثاني عشر من الهجرة، وبذلك فقد استمرت الحروب في بلاد الفرس نحو عشر سنوات، كانت الهزائم تتوالى خلالها على الفرس؛ فكان من الطبيعي أن يُهْزَموا في هذه المعركة أيضًا بفضل الله .

فتح شرق فارس (كرمان ـ سجستان ـ مكران):


بعد انتهاء فتح دارا بجرد أرسل عمر بن الخطاب جيوشًا أخرى لاستكمال الفتوح في الدولة الفارسية:
في شرق منطقة فارس توجد مدينة "كرمان"، وكرمان داخلة في حدود إيران اليوم، وفي جنوب كَرْمان مدينة "مُكْرَان" -ومكران هي باكستان حاليًا- ثم إقليم "سجستان" وهو جزء من أفغانستان، و"خراسان" وتقع في الوسط، وسيكون لها جيش خاص.

يقرر سيدنا عمر بن الخطاب أن يرسل جيشًا من البصرة إلى كرمان لفتحها، وعلى رأس الجيش سيدنا سهيل بن عدي من صحابة النبي، وفي الوقت نفسه كان سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان قد انتهى من فتح أصبهان، فأمر سيدنا عمر بن الخطاب جيش سيدنا سهيل بن عدي أن يدخل كرمان من الجنوب، ويسانده جيش عبد الله بن عبد الله بن عتبان من أصبهان من الشمال حتى يدخل المسلمون على كرمان من منطقتين مختلفتين فيتم النصر للمسلمين، وبالفعل يلتقي الجيشان مع جيش كرمان الذي يملؤه الرعب، وكان الرعب قد تسلل إلى قلوب جيش الفرس لأمرين:​

الأمر الأول:

أن كرمان تقع في شرق إقليم فارس في الدولة الفارسية الأم التي تحتلها منذ أربعمائة عام؛ لذا فقد امتلأت قلوبهم رعبًا من هذا الجيش الذي استطاع أن يقضي على هذه الدولة القائمة منذ أربعمائة عام.

الأمر الثاني:

قَتْلُ قائد كرمان السابق في معركة "تَوَّج" -وكان مددًا لأهل فارس في هذه المعركة- على يد سيدنا مجاشع بن مسعود.

ولك أن تتخيل نتيجة هذه الموقعة بين جيش يملؤه الرعب وجيش آخر يمتلئ قلبه بالثقة في موعود الله ونصره، وأنه ينتظر إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة.

فتح سجستان:

بعد أن هزم الله جيش كرمان وانتصر المسلمون بمَنِّ الله وفضله، وتولى أمر كرمان سيدنا سهيل بن عدي ، أرسل سيدنا عمر بن الخطاب جيشًا خاصًّا إلى إقليم سجستان الجزء الجنوبي لأفغانستان، على رأسه سيدنا عاصم بن عمرو التميمي ، وله ذِكْرٌ طويل في فتوحات فارس منذ بدايات الفتح الفارسي مع سيدنا خالد بن الوليد من العام الثاني عشر الهجري، وله بطولات كثيرة، ومن بطولاته أنه كان قائد "كتيبة الأهوال" أول كتيبة دخلت المدائن عاصمة الدولة الفارسية.

يتوجه سيدنا عاصم بن عمرو التميمي على رأس جيش قادم من البصرة في طريقه مباشرة إلى سجستان، ليس له شأن بالجيوش التي تقاتل في كرمان أو غيرها، ولكنه يذهب إلى الوجهة التي وجهه إياها عمر بن الخطاب ، وهناك في سجستان يلتقي مع جيشها في موقعة صغيرة، وانتصر عليهم انتصارًا سريعًا؛ فطلب الفرس في ذلك الوقت الصلح مع سيدنا عاصم، ووافق سيدنا عاصم وأعطى الفرس الجزية للمسلمين، ثم دخل معظم إقليم سجستان في الإسلام، ومنذ دخل فيهم الإسلام ظلوا عليه ولم يرتدوا عنه، وأتم الله فتح إقليم سجستان في العام الثاني والعشرين من الهجرة.

فتح مُكْرَان

يخرج جيش من البصرة بأمر سيدنا عمر بن الخطاب t وبخطة منه ليستكمل فتح جنوب الدول الفارسية، وعلى رأس هذا الجيش سيدنا الحكم بن عمرو، ويولِّي هذا الجيش وجهه نحو مكران، ويأمره سيدنا عمر بن الخطاب بأن يستعين بعبد الله بن عبد الله بن عتبان الذي فتح أصبهان وساعد في فتح كرمان.

ويلتقي عبد الله والحكم قبل أن يلتقوا مع الفرس في منطقة مكران في معركة شديدة ظلت أيامًا، وكان على رأس الفرس في منطقة مكران ملك يدعى "راسل" ظل يقاتل أيامًا عديدة حتى قتله المسلمون، واستباحوا معسكره تمامًا، وحدثت مقتلة عظيمة في الجيش الفارسي، وبدأ الجيش الفارسي يفر من أمام المسلمين إلى مملكة الهند شرق مكران وخارج حدود المملكة الفارسية، ولم يبق في منطقة كرمان غير الفلاحين الذين أسلموا جميعًا، ومنذ دخولهم في الإسلام لم يرتدوا عنه، وكان هذا هو الفتح الأول في منطقة أفغانستان ومنطقة باكستان، أما الفتح الكامل لهما فسيأتي في عهد سيدنا عثمان ، وسيأتي على يد سيدنا محمد بن القاسم الثقفي رحمه الله، وأما منطقة سجستان وما فوقها في الشمال ففتحها سيتم على يد قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله.
وبذلك سقطت معظم الدولة الفارسية، وأصبحت الفتوحات أسهل بكثير من بدايتها، وكان ذلك في العام الثاني والعشرين من الهجرة.​

فتح خراسان:


تقع خراسان في وسط الدولة الفارسية، وكانت ذات أهمية كبرى؛ لذا أفرد لها سيدنا عمر بن الخطاب جيشًا خاصًّا، والناظر في حروب الفرس يجد أن سيدنا عمر قسّم جيوش المسلمين إلى ثلاثة أقسام:

قسم خارج من الكوفة لفتح منطقة الشمال في الدولة الفارسية، وقد أتم هذا الجيش مهمته على أكمل وجه؛ فقد أتم فتح كل المنطقة الشمالية، وفتح جرجان وطبرستان في هذه المنطقة، ووصل إلى حدود مملكة الترك، بل دخل إلى بلاد الترك وذلك على يد عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.

والقسم الثاني من الجيوش اتجه إلى جنوب فارس وأتم مهمته بنجاح، فقد تم فتح إقليم فارس ومكران وسجستان.

أما القسم الثالث من الجيوش الإسلامية فكان قادمًا من البصرة إلى فتح خراسان في عمق البلاد الفارسية، وخراسان هي الحدود الشرقية لدولة فارس مع الصين، وبفتح خراسان يتم فتح الدولة الفارسية بكاملها.

وهناك في فتح خراسان أمر ذو أهمية قصوى، وهو اختفاء يزدجرد الثالث كسرى الفرس في مدينة "مرو الشَّاهِجَان" إحدى مدن إقليم خراسان الموجود في شرق إقليم الدولة الفارسية، فتوَجُّه الجيوش الإسلامية إلى يزدجرد وقتله أمر ضروري؛ لأن بقتله تسقط الدولة الفارسية ولا تقوم لها قائمة بعد ذلك، فهو الرأس الذي يدبر للدولة الفارسية، وبوجوده يلتف حوله الفرس ويدافعون عنه حماسةً للدولة الفارسية.

فهذه المعركة -إذن- تحمل طابعًا خاصًّا، فالجيش متوجه إلى ملك الفرس كسرى الذي بقتله لن تقوم للفرس قائمة، وكما قال في الحديث الذي رواه أبو هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".

ولطابع المعركة الخاص أخرج سيدنا عمر بن الخطاب على رأس الجيش قائدًا خاصًّا، لأول مرة يقود جيشًا وهو سيدنا الأحنف بن قيس، فيخرج من البصرة على رأس جيش لفتح خراسان، ولمطاردة يزدجرد الثالث كسرى فارس.

وقبل الخوض في غمار المعركة، ومطاردة الفريقين لبعضهما البعض نتكلم عن الفريقين أولاً:

الفريق الأول:

وهو فريق يزدجرد الفارِّ الهارب، ومنذ صعوده إلى عرش فارس وهو يهرب، فقد تقلَّد حكم فارس أثناء وجود الجيوش الإسلامية في العراق، وبعد أن تولى الحكم دخل المسلمون إلى المدائن؛ فهرب كسرى إلى مدينة حلوان على بعد ما يقرب من مائتي كيلو متر شرقي المدائن، وبدأت الجيوش الإسلامية في غزو المدائن، وبعد أن أتم الله فتحها، اتجه المسلمون إلى حلوان وانتصرت جيوش الإسلام في معركة جَلُولاء قبل حُلوان، فهرب يزدجرد من حلوان إلى الري، ومكث في الري فترة؛ لأن سيدنا عمر أمر المسلمين بعدم الانسياح في بلاد فارس، وكان ذلك في العام السابع عشر الهجري، ثم دخل المسلمون أرض فارس بعد نصيحة بعض المخلصين بغزو الفرس وقتل يزدجرد، وكان الناصح لسيدنا عمر سيدنا الأحنف بن قيس.

وكانت نصيحته تنص على أن كسرى لن يكل من محاربة المسلمين، وسيلتفّ الناس حوله ما دام حيًّا فالأفضل محاربته؛ فبموته تنتهي الدولة الفارسية. ويأخذ سيدنا عمر برأي سيدنا الأحنف بن قيس، ويرسل إلى الري جيشًا على رأسه سيدنا نعيم بن مقرن، ولما توجه الجيش إلى الري هرب كسرى إلى مرو الشَّاهِجَان في عمق بلاد فارس -على بُعد المسافة بينهما- حتى يأمن وصول الجيش الإسلامي إليه، ومن مرو الشاهجان بدأ بتحفيز الجيوش الفارسية مرة أخرى لمحاربة المسلمين، واستقر يزدجرد الثالث في مرو الشاهجان.
الفريق الثاني:

وهو الرجل الذي أمَّره سيدنا عمر بن الخطاب على الجيش لمحاربة يزدجرد، وهو سيدنا الأحنف بن قيس، وكان من أحكم وأدهى وأذكى العرب ومن أحلمهم أيضًا، ويُضْرَب به المثلُ في الحلم والأناة واشتهر بذلك، واسمه الضحاك بن قيس، والأحنف صفة اشتهر بها لاعوجاج في ساق قدمه، ولما رأت أمه ذكاءه وحكمته قالت: لولا حنف في رجله لكان سيد قومه. وأصبح بعد ذلك سيد قومه مع هذا الحنف، ثم أصيب t بعد ذلك في إحدى المعارك فأصبح أعور. وقد دعا له النبي قبل أن يراه، يُروى عن علي بن زيد عن الحسن: أن الأحنف بن قيس قال: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان بن عفان t إذ جاء رجل من بني ليث وأخذ يدي فقال: ألا أبشرك؟ قلت: بلى. فقال: هل تذكر إذ بعثني رسول الله إلى قومك بني سعد، فجعلت أعرض عليهم الإسلام وأدعوهم إليه؟ فقلت لي: إنك تدعو إلى الخير، وتأمر بالخير، وجئتَ من عند من يدعو بالخير؛ فجعل الناس يدخلون في دين الله لمقولتك، فبلغت ذلك إلى النبي فقال: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ".

ولم يكن الأحنف قد رأى النبي، فقد مات قبل وصول الأحنف لمبايعته على الإسلام؛ وبذلك فلا يطلق عليه لقب صحابي؛ فالصحابي كما قلنا قبل ذلك هو من رأى النبي.

وكان يقول إذا عمل عملاً صالحًا: ولكنني أرجو أن ينجيني الله بدعوة النبي.

عندما لمع نجم سيدنا الأحنف بن قيس (ونذكر أنه كان في الجيش الذي أنقذ سيدنا العلاء بن الحضرمي في طاوس، وكان تحت إمرة سيدنا أبي سبرة بن أبي رهم، فأبلى بلاءً حسنًا في القتال، ووصل خبره إلى سيدنا عمر بن الخطاب في المدينة وكان لا يعرفه)، أراد سيدنا عمر بن الخطاب أن يختبره؛ فدعاه إلى المدينة، وأبقاه فيها عامًا كاملاً يعطيه أعمالاً ويراقبه فيها، وكانت نصيحة الأحنف بن قيس لسيدنا عمر بن الخطاب خلال هذه السنة بغزو بلاد فارس؛ فوافقه سيدنا عمر بن الخطاب على ذلك، وقال له: لقد سبقتني القول. وبدأ سيدنا عمر يرسل الجيوش لغزو بلاد فارس.

وقال له سيدنا عمر بن الخطاب بعد انتهاء السنة: يا أحنف، إن النبي قد حذرنا من كل منافق عليم (والمنافق العليم هو من يعرف عن الإسلام الكثير، ويدعو إلى ما يخالفه بالطعن فيه)، فحاولت اختبارك سنة، ووضعتك تحت عيني فوجدت علانيتك حسنة، وإني لأرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك؛ فاذهب إلى أهل البصرة فإني قد وليتك على جيش من جيوشها.

ثم أرسل رسالة إلى سيدنا أبي موسى الأشعري سيد قومه، فقال له: أتاك الأحنف بن قيس سيد قومه، فَخُذْ برأيه، وأَمِّرْه على جيش من الجيوش، وأرْسِلْه إلى خراسان. وكان ذلك في بداية العام التاسع عشر الهجري، حيث انشغل المسلمون بفتح أصبهان والقتال في منطقة الري، فلم يخرج الأحنف بن قيس بجيشه من البصرة إلا في أواخر العام الحادي والعشرين من الهجرة، وتوجه سيدنا الأحنف بن قيس بجيشه إلى خراسان.

ونذكر عن سيدنا الأحنف بن قيس أنه كان صالحًا ورعًا تقيًّا، وكان كثير الصلاة بالليل، وكان إذا أذنب ذنبًا ذهب إلى بيته وأوقد شمعة، وكان يضع المصباح قريبًا منه؛ فيضع إصبعه على المصباح، ثم يقول: يا أحنف، ما حملك على أن صنعت كذا يوم كذا.

ومن أقواله المشهورة: أن أحد الناس سأله وقال له: يا أبا بحر، إن فيك أناة شديدة، فأين العجلة في أمورك؟ فيقول: إني قد وجدت في نفسي عجلة في ثلاثة أمور: "في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها، وفي جنازتي إذا حضرت حتى أضعها في حفرتها (وكما نعلم أن النبي كان يحضُّ على إسراع دفن الموتى)، وفي ابنتي إذا خطبها كفؤها حتى أزوجها".

وسأله أحد الناس، فقال: يا أحنف، بمَ سُدت قومك وأنت أحنف أعور؟ فقال: بتركي ما لا يعنيني.

وبعد أن يُؤَمَّرَ الأحنف على الجيش يتوجه إلى خراسان، وفي طريقه يمر بأصبهان وقد حاصرها سيدنا عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فيستكمل طريقه إلى خراسان دون الاشتراك مع جيش عبد الله بن عتبان؛ لأنه ملتزم التزامًا شديدًا بتنفيذ أوامر سيدنا عمر بن الخطاب t.

ولما توجه سيدنا الأحنف بن قيس إلى عمق البلاد الفارسية ليفتحها واجه في بادئ أمره مدينة "هَراة"، وهذه المدينة تقع في غرب أفغانستان، ففتحها سيدنا الأحنف بن قيس عَنْوة، وبعد الانتصار الذي حققه سيدنا الأحنف بن قيس في هراة بدأ بإرسال الجيوش من داخلها؛ فأرسل جيشًا لفتح مدينة سَرَخْس على رأسه الحارث بن حسان، ويرسل مطرف بن عبد الله إلى "نيسابور" وتقع سرخس ونيسابور في الشمال وتسقط المدينتان، ويتوجه الأحنف بن قيس بالقوة الرئيسية من هراة إلى "مرو الشاهجان" التي فيها يزدجرد، وعندما يعلم يزدجرد الثالث بقدوم جيش المسلمين، يترك في مرو الشاهجان كنزه الدفين الذي جمعه من المدائن وحلوان والرَّيِّ وغيرها، ويدفنه في مكان لا يعلمه أحد، ويتجه إلى "مَرْو الرُّوذ" وهي تقع على بعد مائتي كيلو متر من مرو الشاهجان على أقصى حدود الدولة الفارسية، فبعدها مباشرة تقع الصين، واستولى الأحنف بن قيس على مرو الشاهجان واستخلف عليها حاتم بن النعمان الباهلي، وتوجه بجيشه إلى مرو الروذ لمتابعة يزدجرد، وعلم يزدجرد أن جيش المسلمين يتابعه وقادم من مرو الشاهجان، فهرب إلى أقصى شمال الدولة الفارسية إلى مدينة بلخ، وهذه المدينة على بعد أربعمائة وخمسين كيلو مترًا من مرو الروذ وتقع في أوزبكستان اليوم.

وبلخ هي أقصى الشمال وأقصى الشرق، وبعدها نهر جيحون ووراء هذا النهر الأراضي التركية، وفي الشرق مملكة الصين، وبين مملكة الصين ومملكة الترك مملكة الصُّغْد وقد اندثرت هذه المملكة مع الزمان.

وكان يزدجرد قد أقام المعاهدات مع هذه الدول الثلاثة: ألا نغزوهم ولا يغزونا، ومن شروط المعاهدة أن يدافع بعضنا عن بعض وقت الأزمات. وقبل أن يهرب يزدجرد من مرو الروذ إلى بلخ أرسل إلى هذه الممالك الثلاثة لينجدوه من هذا الهجوم المتوالي، والمطاردة العنيفة من المسلمين، ويتوجه يزدجرد بجيشه إلى بلخ، ويستولي سيدنا الأحنف بن قيس على مرو الروذ ويرسل فرقة إلى بلخ، ويتبعها هو بكامل الجيش بعد السيطرة على مرو الروذ ويصل إلى بلخ، ولم يجد يزدجرد مكانًا يهرب إليه، فقد وصل إلى أقصى نقطة في مملكته، فقد سقطت كل الدولة الفارسية.

وأثناء خروج يزدجرد من مرو الروذ إلى بلخ يستسلم إقليم طخارستان في شمال الدولة الفارسية من ناحية جرجان وأقصى شمال خراسان، ويستسلم هذا الإقليم دون قتال، وولَّى عليه سيدنا الأحنفُ بن قيس ربعيَّ بن عامر -رضي الله عنهما- الذي كان هو أول الرسل الذين ذهبوا إلى رستم في موقعة القادسية.

ولو رجعنا إلى الوراء خمسة عشر عامًا سنجد ربعي بن عامر في المدينة وفي غزوة الأحزاب، وأثناء حصار المشركين للنبي والمسلمين، وما أصاب المسلمين -في ذلك الوقت- من الخوف والجوع والشدة، ثم أصبح بعد خمسة عشر عامًا أميرًا على طخارستان.

ولم يبق أمام يزدجرد إلا محاربة المسلمين، وإلى الآن لم يأتِ إليه مددٌ من الممالك الثلاثة التي أرسل يستحثها لإرسال المدد لينقذوه، ولما وصلت الرسائل إلى ملك الترك وملك الصغد وملك الصين، قرر ملك الصغد وملك الترك أن يرسلا مددًا لمساعدة يزدجرد في حربه مع المسلمين، أما ملك الصين فكان رده مختلفًا، والحوار الذي دار بين ملك الصين ورسول يزدجرد كان حوارًا عجيبًا أسلم به كثير من حاشية ملك الصين.

ولما تقدم سيدنا الأحنف بن قيس إلى بلخ ووجد جيش الفرس وفيه يزدجرد، كانت أول معركة يلتقي فيها المسلمون مع يزدجرد منذ بداية الفتح في بلاد فارس إلى هذه اللحظة.

أما عن تفاصيل هذه الحرب، وما دار بين ملك الصين ورسول الفرس من حوار، ونتيجة هذا الحوار، وما الذي فعله ملك الصُّغْد وملك الترك، فهذا ما نعرفه في المقال القادم إن شاء الله.
http://defense-arab.com/غزو_المسلمين_للترك_فى_فتح_فارس
 
رد: فتوحات العراق وفارس

سقوط مملكة فارس



ذكرنا في المقال السابق أن جيش الأحنف بن قيس وصل إلى بَلْخ لقتال يزدجرد شخصيًّا في حاشيته الملكية، ولم يتمكن يزدجرد من الفرار واضْطُرَّ إلى قتال بنفسه، وكان يزدجرد قد أقام معاهدات مع الممالك المحيطة بالدولة الفارسية؛ فأرسل خطابًا إلى ملك الصين، وخطابًا إلى ملك الصُّغْد، وخطابًا إلى ملك الترك؛ أما ملك الروم فكان يعيش في الحروب التي تدور في مملكته، غير الحروب الطاحنة التي كانت بين الفرس والروم مما أثَّر على علاقتهما.

ووصلت رسائله إلى الملوك، فأجابه ملك الترك بإرسال جيش لنجدته، وقد دخل الجيش الإسلامي في بلاد الترك، وكان أول من دخل سيدنا عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي، فوجدها ملك الترك فرصة ليتحد مع ملك الفرس في حرب ضد الجيش الإسلامي، لعله يستطيع إخراجه من بلاده، وتوجه جيش الترك بالفعل تجاه بلخ.

ووافق ملك الصُّغْد على طلب يزدجرد وأرسل جيشًا لمساعدة كسرى فارس.

رد ملك الصين على رسول كسرى :

أما ملك الصين فكان أحكمَ من ملكي الترك والصغد؛ فقد حاور رسول كسرى، وقد سُجِّلَ هذا الحوارُ؛ لأن كثيرًا ممن سمعوا هذا الحوار قد أسلموا، ويقال: إن رسول يزدجرد نفسه أسلم.

ابتدأ ملك الصين قائلاً للرسول: إن حقًّا على الملوك إنجادُ الملوك على من غلبهم؛ فصِفْ لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم، فإني أراك تذكر قلةً منهم وكثرةً منكم، ولا يبلغُ أمثالُ هؤلاء القليل الذين تصف منكم -مع كثرتكم- إلا بخير عندهم وشرٍّ فيكم.

فقال الرسول: سلني عما أحببت. فقال ملك الصين: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم. قال ملك الصين: وما يقولون لكم قبل القتال؟ قال الرسول: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبنا أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة. ويتضح من أسئلة ملك الصين أنه كان يتابع الحروب الإسلامية، فالحروب تدور رحاها في المملكة المجاورة واستمرت اثني عشر عامًا، فهو يسأل عن أمور محددة يريد أن يستوثق منها من رسول يزدجرد. قال ملك الصين: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قال الرسول: أطوع قوم لمرشدهم. وهذه هي مفاتيح النصر، يجيب بها رسول كسرى على أسئلة ملك الصين.

قال ملك الصين: فما يُحِلُّون وما يحرِّمون؟ فعدَّد عليه الرسول بعض الأمور، وقد أثَّر ما ذكره في ملك الصين، لكن ما يهمّ هو السؤال التالي الذي طرحه ملك الصين على الرسول فقال له: هل يحلون ما حرم عليهم، أو يحرمون ما حلل لهم؟ قال الرسول: لا. قال ملك الصين: فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظَفَر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم.

وإذا كنا نعيش في وضع من الضعف والهزائم غير الوضع الذي عاش فيه المسلمون من قبل، فقد يكون ما ذكر ملك الصين هو السبب، والحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، ولو كان قائلها ملك الصين.

ثم قال ملك الصين: أخبرني عن لباسهم؟ فيشرح له الرسول بساطة ثيابهم. ثم قال ملك الصين: أخبرني عن مطاياهم؟ فقال الرسول: الخيلُ العِرَابُ الأصيلة، ووصفها له، والإبلُ العظيمة ووصفها له.

فكتب ملك الصين إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحِقُّ عليَّ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولُك لو يطاولون الجبال لهدوها، ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارضَ منهم بالمساكنة، ولا تهْجُهُم ما لم يهجوك.

ورفض ملك الصين أن يرسل إليه بمدد ينجده خوفًا من حرب المسلمين.

وحوى هذا الحوار حِكمًا كثيرةً من الممكن أن نستفيد منها فالتاريخ يعيد نفسه، ونحن الآن في وضع يدعونا لاستخراج الحكمة والبحث عنها، والحكمة كاملة في ديننا، وسيتضح هذا الأمر في نهاية الدرس في مقولة لسيدنا .
عودة للأحنف بن قيس :

كان الأحنف بن قيس أسرع من ملك الترك وملك الصغد فوصل بجيشه إلى بلخ قبلهما، وحارب يزدجرد والتقى الجيشان في أول معركة يحارب فيها يزدجرد بنفسه؛ فقد تعود الهرب منذ دخول الجيوش الإسلامية إلى أرض فارس، وكأنما كُتِبَ عليه الهروبُ منذ ميلاده؛ فقد هربت به أمه وهو طفل خوفًا عليه من كسرى ليقتله، ثم أحضروه ليتولى الحكم وكان عمره يومئذ إحدى وعشرين سنةً.

وبدأ القتال وتخيل حال جيش ظل يهرب من مكان إلى آخر حتى ألجأته الظروف للحرب مع جيش يتقدم من مكان إلى آخر، وكيف حاله وهو يقابل جيشًا يحرص على الموت حرصهم على الحياة، وكانت هذه المعركة من أقصر المعارك في الفتوحات الإسلامية، فما هي إلا ساعات قليلة حتى عملت السيوف الإسلامية في رقاب الجيش الفارسي، وكان يزدجرد يقاتل في مؤخرة الجيش، وكالمعتاد لما رأى سيوف المسلمين تأخذ مأخذها من جيشه؛ لاذ بالفرار بقلة من جيشه عابرًا النهر داخلاً في مملكة الترك..

ويقف سيدنا الأحنف بن قيس على آخر حدٍّ من الحدود الفارسية، ولم يكن لسيدنا الأحنف بن قيس أن يعبر إلى مملكة الترك دون أن يأذن له سيدنا عمر بن الخطاب، وكان قد أرسل إلى الأحنف رسالة بأنه إذا وصل إلى هذه النقطة فلا يعبر إلى مملكة الترك، فلم يفكر سيدنا عمر في الدخول في الأراضي التركية؛ لأن جيوش المسلمين متفرقة في أماكن واسعة، فالجيش الذي قضى على الدولة الفارسية قوامه عشرون ألف مسلمٍ، قد توزعت بقية الجيوش الإسلامية على أقاليم الدولة الفارسية، فخشي سيدنا عمر بن الخطاب من تشتت الجيوش في الأراضي التركية، وبذلك يضيع النصر الذي حققه في البلاد الفارسية، فكانت أوامره ألا يتعدَّى نهر جَيْحون حتى وإن هرب يزدجرد خلف هذا النهر، ويقف الأحنف بن قيس طاعة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولم يتقدم ليعبر نهر جَيْحون.

بعد الانتصار الذي حققه سيدنا الأحنف بن قيس في بلخ، وسقوط الدولة الفارسية، وبعد أن اطمأن على الوضع فيها تركها عائدًا بجيشه إلى مرو الروذ بعد أن ترك بها حامية لتحميها.

لم ينته الأمر بالنسبة ليزدجرد بعدُ؛ فبالأمس القريب كان ملكًا على مملكة كبيرة من أقوى الممالك في ذلك الوقت، واليوم أصبح فارًّا مطارَدًا، وقد فَقَدَ كنزه المدفون في مرو الشاهجان، وفقد وضعه الاجتماعي، وما بين عشية وضحاها سُلِبَ منه كُلُّ ما يملك، وبعد أن كان يتقلب في النعيم أصبح من أهل الجحيم.

واستنجد يزدجرد بملك الصغد وملك الترك على الجيش الإسلامي رغبة في الانتصار عليه، أو تحرير الكنز المدفون في مرو الشاهجان على أن يقاسمه الكنزَ ملكُ الترك، ووافق ملك الترك، وعبرت الجيوش التركية التي تحالفت مع الجيش الفارسي، واضطرت الحامية المرابطة في بلخ إلى الانسحاب إلى الأحنف بن قيس في مرو الروذ؛ لما رأت كثرة عدد الجيش القادم من مملكة الترك، ويستولي يزدجرد والخاقان على بلخ مرة أخرى.

واتجهت الجيوش الفارسية المتحالفة مع الجيوش التركية إلى مرو الروذ لمقابلة الأحنف بن قيس، وعسكرت هذه الجيوش قرب مرو الروذ، وجهز الأحنف بن قيس جيشه لما علم بانسحاب الحامية الإسلامية من بلخ، وتلتقي الجيوش في معركة في مرو الروذ، وهذه المعركة ليست على غرار معركة بلخ، فالجيوش التركية كانت كبيرة العدد بجانب جيش الصغد وبقايا الجيش الفارسي، فكانت من المعارك الشديدة في هذه الفترة، واستمرت المعركة أيامًا، وكانت الفلول تأتي من جهات مختلفة، ومن خارج حدود مرو الروذ وأحاطت هذه الفلول بالجيش الإسلامي، وكانت العادة القتال نهارًا، وفي أثناء الليل خرج الأحنف ليلاً ليعرف أخبار جنوده، ولعله يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفًا، وأحدهما يقول لصاحبه: لو أنا أميرنا أسند ظهرنا إلى هذا الجبل وجعل النهر على يميننا من خلفنا، وكان قتالنا من وجه واحد رجوتُ أن ينصرنا الله. فقد خشي المسلمون الحصار في أرض لا يعرفونها، فسمع الأحنف بن قيس ذلك الرأي وأعجبه، فلما أصبح جمع الناس وقال لهم: إني أرى أن تجعلوا ظهوركم إلى هذا الجبل. ثم قال لهم: أنتم اليوم قليل وعدوكم كثير فلا يَهُولَنَّكم؛ فـ{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. بعد الوضع الذي اتخذه المسلمون بدأت الكفة ترجح نسبيًّا في جانب المسلمين ولكن لم يتحقق النصر الكامل، وقاتل المسلمون من جهة واحدة، فأصبح الأمر معتمدًا على كفاءة المقاتل المسلم، وليس على حصار الفرس والترك كما كان في بداية المعركة.

وفي ليلة من ليالي المعركة خرج الأحنف قائد الجيوش طليعةً لأصحابه أو دورية استكشافية بين الحدود الفاصلة بين الجيشين ليدرس الموقف؛ ليعرف كيف ينتصر على هذا الجيش، حتى إذا كان قريبًا من عسكر الخاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه فضرب بطبلة، وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبلة، ثم يخرجون بعد خروج الثالث. ثم وقف الفارس من العسكر موقفًا يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج فارس آخر من الترك ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين، فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره.

وبالفعل خرجت الجيوش التركية بعد الثالث فأتوا على فرسانهم فوجدوهم قتلى، وكانوا أهل تشاؤم وتفاؤل كالفرس؛ فتشاءم خاقان وتطيَّر، وتسربت الهزيمة إلى قلوب جيشه.

وتعددت الروايات بالنسبة لموقف الخاقان وجيشه التركي، فبعض الروايات تذكر أنهم عادوا إلى بلادهم ولم يقاتلوا، وقال الخاقان: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير؛ فرجعوا. وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحدًا، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ.

وتذكر بعض الروايات الأخرى أن المعركة تمت، وحمل الأحنف بن قيس رايته وانطلق داخل الجيش التركي وأوقع بهم هزيمة رهيبة.

ونعلم أن يزدجرد كان مع الجيش التركي وكان بينهما اتفاق، وهو ما دفع الخاقان الدخول في حرب مع المسلمين، ولم يكن المسلمون على علم بتلك الاتفاقية.

وأثناء القتال ترك يزدجرد الخاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف بحاميته الفارسية إلى مرو الشاهجان، وكان بها حامية إسلامية صغيرة على رأسها حاتم بن النعمان، وكان الجيش الفارسي أكبر نسبيًّا من الجيش الإسلامي، فضرب عليهم الحصار، واستطاع يزدجرد ومن معه الدخول إلى مرو الشاهجان بعد انسحاب الحامية الإسلامية، وانكشف ما اتفق عليه يزدجرد والخاقان، فقد شغل الترك جيش المسلمين في مرو الروذ ليتمكن يزدجرد من الحصول على الكنز المدفون في مرو الشاهجان ثم يعود إلى مملكة الترك، وفي الوقت الذي وصلت فيه الأنباء إلى الأحنف بن قيس كان الجيش الإسلامي قد حقق انتصاره على الجيش التركي، وكان أمام الأحنف اختياران إما أن يسير إلى بلخ بالقوى الأساسية، أو يسير إلى مرو الشاهجان حيث يزدجرد وكنزه المدفون، فاختار الأحنف أن يسير إلى مرو الشاهجان لسببين؛ أولهما: أنه لا يريد أن يقع بين جيشين في الشمال والجنوب.

والسبب الثاني: طاعته لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عدم تجاوزه نهر جيحون.

لما علم يزدجرد أن الأحنف لحقه وقادم إليه أُسْقِطَ في يده، فهو لم يكن يتوقع أن تأتي إليه الجيوش، بل توقع أنها ستذهب إلى الجيش التركي، فهرب يزدجرد كعادته.
الفرس ينقلبون على يزدجرد :

فلما جمع يزدجرد خزائنه، وكانت كبيرة عظيمة، وأراد أن يلحق بخاقان، قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء، ارجع بنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم؛ فإنهم أوفياء وهم أهل دين، وإن عدوًّا يلينا في بلادنا أحب إلينا من عدو يلينا في بلاده ولا دين له، ولا ندري ما وفاؤهم. فأبى عليهم، فقالوا: دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا، لا تخرجها من بلادنا. فأبى، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وانهزم منهم ولحق بخاقان، وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة، وصالح الجنود الفارسيون سيدنا الأحنف بن قيس على الجزية وأعطوه كنز يزدجرد، فباعه المسلمون بمائة وخمسين مليون درهم، وقسم مائة وعشرين مليون درهم على العشرين ألفًا؛ فكان نصيب الفرد ستة آلاف درهم.
أخبار النصر تصل المدينة :

وأرسل إلى سيدنا عمر بن الخطاب خبر الفتح ومعه ثلاثون مليون درهم خُمس الغنائم، فما كان من سيدنا عمر بن الخطاب إلا أن جمع الناس وقرأ عليهم كتاب الأحنف بن قيس، ثم خطب خطبة فقال: "إن الله تعالى ذكر رسوله، وما بعثه به من الهدى، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة، ثم قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، الحمد لله الذي أنجز وعده ونصر جنده، ألا إن الله قد أهلك مُلْكَ المجوسية وفرَّق شملهم، فليسوا يملكون بأيديهم شبرًا يضر بمسلم، ألا إن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، ألا وإن المِصْرَيْن (الكوفة والبصرة) من مسالحها (المدن الصغيرة التابعة) اليومَ كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد، وقد أوغلوا في البلاد، والله بالغ أمره، ومنجز وعده، ومتبع آخر ذلك أوله؛ فقوموا في أمره يوفِ لكم بعهده، ويؤتكم وعده، ولا تُبدِّلوا ولا تغيروا؛ فيستبدل الله بكم غيركم؛ فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تُؤتَى من قِبَلِكُم".

ونضع كلمات سيدنا عمر بن الخطاب نصب الأعين لتكون لنا درسًا من الفتوحات الفارسية، تعيه قلوبنا وخاصة آخر كلامه، فهو لا يخاف على هذه الأمة من الفرس أو الروم أو الصين أو من غير ذلك بقدر ما يخاف أن تؤتى هذه الأمة من قبلها، وذلك إذا أحلَّت الأمة حرامها وحرَّمت حلالها، وإذا حدثت الفرقة بين المسلمين حتى لو حقق كل فرد أعلى درجات التقوى، طالما أنه يعمل بمفرده ولا يتعاون مع الآخرين لتحقيق أمة مترابطة ومتماسكة وقوية البنيان.

ودائمًا ما كان سيدنا عمر يقول لجيش المسلمين: إني أخاف عليكم من الذنوب أخوف من جيش الفرس ومن جيش الروم. وكان الجيش الإسلامي -في ذلك الوقت- قد حقق هذه الصفات التي هي مفتاح النصر؛ لذا أتم الله تعالى لهم فتح المملكة الفارسية، ودانت لهم مملكة من أعظم الممالك في ذلك الوقت.
مقتل كسرى يزدجرد :

وتزامن سقوط الدولة الفارسية مع فتح المسلمين لبرقة في تونس، وتوغلهم في أرض الروم حتى حدود المملكة التركية.

وبعد هذا السقوط المفزع الذي لحق بيزدجرد، إضافة إلى محاربة جنده له وأخذ كنزه، وصل يزدجرد إلى خاقان الترك فاستُقْبِل استقبال الملوك، ثم سأله أحد عماله (وكان على مرو الشاهجان وكان اسمه ماهويه) ابنته ليتزوجها؛ فغضب يزدجرد غضبًا شديدًا، وقال له: إنما أنت عبد من عبيدي. فعمل ماهويه على تقليب الحاشية على يزدجرد، وقررت الحاشية قتله، فهرب يزدجرد من الحاشية الفارسية حتى انتهى إلى بيت طحَّان فآواه وأطعمه ثم سقاه الخمر فلعبت برأسه؛ فأخرج تاجه ووضعه على رأسه فعرفه الطحان، ثم أخبر ماهويه، وتشاءم ماهويه من قتل يزدجرد بنفسه أو أحد من حاشيته؛ فقد كانوا يعتقدون أن من قتل كسرى أو قتل ملكًا عُذِّبَ بالنار في الدنيا، فأوحى إلى الطحان بقتله، فأخذ فأسه وضرب يزدجرد فاحتز رأسه بها، وبعد قتل الطحان لكسرى قال ماهويه: ما ينبغي لقاتل ملك أن يعيش. فقتل الطحان، وألقى جثة يزدجرد في نهر جيحون، وحملت المياه جثته إلى مكان قريب من مرو الشاهجان، وتعرف عليه مطران على مرو يقال له: إيلياء، فجمع من كان قبله من النصارى، وقال لهم: إنَّ ملك الفرس قد قتل، وهو ابن شهريار بن كسرى، وإنما شهريار وَلَدُ شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقَّها وإحسانها إلى أهل ملَّتها من غير وجه؛ ولهذا الملك عنصر في النصرانِيَّة مع ما نال النصارى في مُلك جدِّه كسرى من الشرف، وقبل ذلك في مملكة ملوك من أسلافه من الخير، حتى بنى لهم بعض البِيعَ؛ فينبغي لنا أن نحزن لقتل هذا الملك من كرامته بقدر إحسان أسلافه وجدّته شيرين إلى النصارى؛ وقد رأيت أن أبني له ناووسًا، وأحمل جثّته في كرامة حتى أواريها فيه.

وانتهت بذلك قصة آخر ملك تولى حكم فارس، وكان من عادة الفرس أن يبتدئوا التقويم من اعتلاء كسرى لكرسي العرش، وبموت الملك ينتهي التقويم ويبتدئ تقويم جديد ببداية عهد كسرى جديد، ولم يأت بعد يزدجرد أحد ليسير المجوس -إلى هذه اللحظة- بالتقويم اليزدجردي، وما زالت هذه الطائفة باقية وموجودة وتعرف بالزرادشتية.

بعد انتهاء الفتوحات الفارسية والانتصار العظيم الذي حققه المسلمون، الذي لا نستطيع إعطاءه حقه إلا بعد قيام من ينشر الخير، ويبشر بهذا الدين وينشره في ربوع الأرض، وفي كل مكان في العالم، في هذا الوقت نستطيع أن نعرف مقدار الجيش الإسلامي الذي خرج بعد مباشرة -رغم عدد قتلى المسلمين في معارك الردة- لغزو الفرس والروم، وشمال إفريقيا حتى وصل إلى الأندلس.

وذكر أبو الحسن الندوي في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) عن (علم مقارنة الأمم) فقال: بالمقارنة.. قوة المسلمين إلى قوة الفرس وقوة الروم في ذلك الوقت، هي أضعف من قوة المسلمين في هذا الوقت من قوة روسيا وأمريكا قبل سقوط روسيا، وقوة الفرس والروم أشد على المسلمين من قوة روسيا وأمريكا على المسلمين الآن، لكن الفارق عوامل النصر التي كانت موجودة من قبل، ولو أراد المسلمون العزة والمنعة والنصر وعملوا له لحققه الله تعالى؛ فلا شيء يعجزه وكل شيء بيده.
هدف الفتوحات الإسلامية :

هل يوجد تعارض بين الفتوحات الإسلامية التي كانت عن طريق حروب شديدة مع قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؟ مع أن الآية واضحة وصريحة، وأن الفرس لم يهاجموا المسلمين، بل المسلمون هم الذين حاربوهم في بلادهم.

الحقيقة أن هذا الأمر من الأهمية بمكان ولا بد من الوقوف على حقيقته، وفي هذا يقول أحد العلماء: إن حركة الفتوحات الإسلامية لم تكن لمجرد الدفاع عن الدولة الإسلامية كما يحاول بعض المسلمين الدفاع عن الإسلام، والقول بأن الإسلام لا يحارب إلا دفاعًا، ويظن أنه يخدم الإسلام بذلك، حتى لا يُطْلَق على الإسلام أنه دين إرهاب، أو أنه يحاول الضغط على هذه الدول لتعتنق الإسلام، ونذكر أن الإسلام ليس دينًا دفاعيًّا فقط، بل فرض عين على المسلمين أن ينشروا الدعوة خارج حدودهم حتى يَعُمَّ الإسلام ربوع الأرض، والمسلمون لم يفرضوا الإسلام على أية أمة من الأمم، لكنه يحرر هذه الشعوب من الطواغيت التي تحكمهم وتمنعهم من اختيار الدين المناسب؛ فمثلاً كان الشعب الفارسي يتبع ولاته في عبادة النار، ولا يحق لهم اختيار ما يدينون به، لكن دين الله لا بد أن يصل إلى هذه البلاد، وإلى كل فرد، ثم يترك له حرية الاختيار في اعتناقه للإسلام أو عدم اعتناقه، أما إذا تركه المسلمون دون إبلاغ فهم آثمون، فكانت مهمة الجيوش الإسلامية محاربة الطبقة الحاكمة التي تأبى أن تطيع أمرَ الإسلام، بعد عرض الإسلام عليهم وبعد عرض الجزية، والجزية حلٌّ أفضل للمعاهِدين من الأموال والضرائب التي يدفعونها لحكوماتهم وأقل مما يدفعه المسلمون زكاةً؛ ولذا كانت هذه الشعوب تغتبط بالحكم الإسلامي.

بعد عرض هذه الأمور الثلاثة: الإسلام أو الجزية أو المنابذة؛ فإن رفض القوم الإسلام أو الجزية قاتل الجيش الإسلامي الجيش الفارسي والجيش الرومي ولا علاقة له في الحرب بمن لا يحارب، لا يقاتل الفلاحين، ولا من يعبد الله في محرابه أو في كنيسته أو في صومعته أو حتى في معبد النار، لكنه يقاتل من يقفون أمام نشر دين الله I، حتى إذا خلَّى بين الناس وبين الاختيار، ترك لهم المسلمون حرية العقيدة، يعبدون ما شاءوا أن يعبدوا بعد توضيح الإسلام لهم، فإن رضوه دينًا كان بها، وإن لم يرضوه أقرُّوهم على ديانتهم، رغم أن الدولة الفارسية تعبد النار وليسوا أهل كتاب، ومع دفعهم الجزية يتركهم المسلمون يعبدون النار، وفي مقابل الجزية يمنعهم المسلمون ويدافعون عنهم، ولم يكن غرض المسلمين من الفتوحات التكالب على الدنيا، بل أوقف سيدنا عمر بن الخطاب الحروب خشية كثرة الغنائم على نفوس المسلمين، فهل هناك قائد أي جيش فاتح يوقف الحروب؛ لأنه يخاف على أتباعه من كثرة الغنائم؟!

ولم تحمل الرسائل التي بعثها سيدنا عمر بن الخطاب بين طياتها أي غرض من أغراض الدنيا بل كان جُلُّ همه الآخرة وترك الدنيا، ولو وضعوا أعينهم على الآخرة لربحوا الدنيا والآخرة، وإذا وضعوا أعينهم على الدنيا خسروهما معًا، وهذا هدف نبيل من أهداف الفتوحات الإسلامية، ولا نخجل من ذكر انتشار الإسلام في هذه البلاد بهذه الحروب، بل الإسلام أعطى الفرصة لهؤلاء الناس ليتعرفوا عليه، تاركًا لهم حرية الاختيار.

ونتساءل: هل سيأتي اليوم الذي نفرح فيه عندما نرى انتشار الإسلام في أوربا وأمريكا وروسيا وكل ربوع الأرض؟ نعم، سيأتي هذا اليوم لكن بجدٍّ واجتهاد من المسلمين في تعريف البشرية بديننا الحنيف، وقد وعد الله بتحقق ذلك، ونحن نؤمن بموعود الله وأن دين الله سيعمُّ كُلَّ الأرض، ويعز الإسلام كما كان من قبل ويَذِلُّ الشرك، ولكن الفكرة تكمن فينا، وهل سيكون لنا دور في ذلك أم نتولى؛ فيحق علينا قول الله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]؟ فبداية الهَلَكَة كما وضحها ملك الصين: يحلُّوا حرامهم ويحرِّموا حلالهم. ولا بد أن يستشعر كل إنسان أن النصر يتأخر بمعصيته وذنبه، فالزوج الذي يترك زوجته تخرج إلى الشارع بدون حجاب، وكذلك الأب الذي يترك ابنته بدون حجاب هذا الأمر يؤخر النصر، رغم أن هذا شيء فردي وخاصٌّ به إلا أنه يحرم حلالاً ويحل حرامًا، ويؤخر النصر, كذلك من يتعامل بالربا، ومن يتعامل في الخمر، والغيبة والكذب، وكل من يقوم بشيء مخالفٍ يحرم فيه حلالاً ويحل حرامًا.

ويؤخر النصر أيضًا -ولو كان الأفراد على أعلى درجات التقوى- إذا انصرف كلٌّ إلى نفسه لا يفكر في الآخرين، بل لا بد لهذه النفوس التقية أن يجتمع بعضها مع بعض في دولة واحدة، وليس من الصعب على المسلمين أن يعيشوا تحت لواء دولة واحدة تنشر الخير وتنشر الإسلام في أرجاء المعمورة، وقد ظل الإسلام يحكم وله دولة قائمة تجمع شمل المسلمين ألفًا وثلاثمائة عام، ولم يعش المسلمون سوى خمسة وسبعين عامًا فقط متفرقين بعد إسقاط الخلافة العثمانية، وهذه المدة ليست بشيء في حياة الأمم، واجتماع هذه الأمم ليس بالصعب ولا العسير، فالأهم من ذلك الإرادة القوية التي تجمع هذه الشعوب، وتبدأ بتكوين الحكومات الإسلامية داخل بلادنا ونشر الإسلام فيها، ثم تتحد هذه البلاد في أمة واحدة تحافظ على العدل والمحبة وتنشر الإسلام في ربوع الأرض، وكلٌّ له دور في مكانه..

وكما يقول النعمان بن مُقَرِّن لما خطب المسلمين في معركة نهاوند: ولا يكِلْ أحدُكم قِرْنَه إلى أخيه. فليبدأ كلٌّ منا بنفسه، ويقربها من الله I مبتعدًا عن الحرام، مقتربًا من الحلال، مكثِرًا من الطاعات، وكل هذه الأشياء من عوامل النصر، ثم يقوم بدعوة غيره إلى الخير والكفِّ عن المعاصي، وليكن لك دور في مجتمعك، لا أن تعيش لنفسك فقط، ويكون جُلُّ همِّك جمع الأموال، أو تحقيق منافع شخصية، حتى ولو كانت على المستوى العبادي والإيماني.

ويقول أحد المصلحين ملخصًا هذا الكلام: أصلحْ نفسَك وادعُ غيرَك، ولو حاول كل منا أن يقيم دولة الإسلام في قلبه لقامت على أرضه، أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقمْ على أرضكم. وحتمًا لو سلكنا الطريق الصحيح سنصل إلى ما وصل إليه الصحابة من نصر وتمكين بإذن الله.




وتم بحمد الله
 
رد: فتوحات العراق وفارس

جزاك الله الف خير
موضوع جميل من عضو مميز
و الله العظيم اني استمتعت بقرائتها
 
رد: فتوحات العراق وفارس

جزاك الله الف خير
موضوع جميل من عضو مميز
و الله العظيم اني استمتعت بقرائتها


انا سعيد جدا لانك أستمتعت بقراءة هذا الموضوع
فهذه المقالات من قلم الدكتور راغب السرجاني
وما قمت به لم يتجاوز الجمع والتنسيق وعرضها عليكم

 
رد: فتوحات العراق وفارس

السلام عليكم جزاك الله كل خير
 
جزاك الله خيرا انت مبدع اخي المعز احب فيك صبرك وتفانيك حتى اخرجت لنا هذا الموضوع ونظمته جعله الله في ميزان حسانتك اما الدكتور راغب فلا نزكيه على الله تعالى ولكن نحسبه غيورا على الامة وقد قام بجهد عظيم وثمين جدا ونهض باعباء جسام لصالح التاريخ الاسلامي والتعريف به على الرغم من انه توجد نقاط قد لا يتوافق معها الجميع ولكن نحن بشر لسنا رسلا ولا ملائكة والخطأ والمعارضة واردة ولا يمكن التركيز على الاخطاء والامور الجانبية والجدلية وندير الظهر للاعمال العملاقة الجليلة كمن يركز على بعض الشقوق في قصر عظيم منيف مزخرف تحف به الحدائق والانهار
 
لقد كان الصحابة في قتال ملحمي مع اطغى واظلم حكام ودولة في عصرهم الدولة الساسانية الفارسية كانت دولة شريرة يحكمها طبقة من المتعجرفين والظلمة والطغاة سواء من الاسرة الحاكمة او من طبقة النبلاء سامو الناس خسفا واعتبرو انفسهم الهة واعتبرو الناس عبيدا لهم يفعلون بهم ما يشاؤون والقصص في ذلك لا تنتهي لقد ذاق الفرس والامم التي وقعت تحت حكم الساسانيين المرارة وتجرعوا العلقم من هذه الاسرة ومن مرازبتها وطبقة النبلاء فيها وكان الفتح الاسلامي تحريرا لهذه الشعوب التي تنفست نسيم الحرية والعدالة والانصاف بهذا الفتح لقد كانت هذه الشعوب تعامل كالحيوانات ويؤخذ منها كل شئ وتصادر ممتلاكتهم لاتفه الاسباب هذا ناهيك عن الضرائب الباهظة والتجنيد الاجباري لابنائهم ليخوضو حروبا لاسباب واهية تافهة تسفك فيها الدماء وتزهق الارواح وتهتك الاعراض وقد كانت طبقة عامة الشعب محرومة من التعليم عمدا ولا يمكن لاحد ان يغير عمله الذي كان عليه ابوه وجده مهما وصل من ذكاء وفطنة لقد كان الحكم الساساني حكما اجراميا دكتاتوريا متسلطا لا يشبهه في هذا الزمان الا اسؤا الدكتاتوريات الشمولية وكانت لديهم سجون ومراكز تعذيب يرتكب فيها افظع وابشع ما عرفته الانسانية من قسوة والفتح الاسلامي لم يدمر الا طبقة الاسرة الحاكمة والنبلاء اما عامة الشعب فلم يصبهم اي ضرر بل بالعكس صار العراق وفارس في عهد الاسلام اعظم من قبل وصارت من اغنى اقاليم دولة الخلافة ان لم يكن اغناها وصارت منبرا ومنارا للعلم والمعرفة والازدهار والصناعة
 
ملا حظة اخيرة فقد قيل في التاريخ ان يزدجرد لعنه الله خلف ابنا صغيرا اسمه فيروز وقد وصل هذا الابن الى الصين في حكم اسرة التانغ وتزوج من اميرة صينية وذاب نسله في اسرة التانغ وحتى هذه الاسرة تم القضاء عليها وتفككت الصين الى عدة مقاطعات تحكمها اسر تركية حتى قضى المغول على الجميع وذبحوهم
 
طرح ولا اروع ومعلومات طيبة جدا جدا جدا
سلمت الانامل ومشكورة جدا

وانا متابعة لكل مواضيعك المميزة جدا
 
عودة
أعلى