قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

لقد تأخرت علينا أخي الكريم
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- نشأة عماد الدين زنكي

لا يحسبنَّ أحدٌ أن كل ما ذكرناه من فضائل في حياة قسيم الدولة آق سنقر كانت تخفى على الطفل الصغير عماد الدين زنكي ! فعقول الأطفال أوسع بكثير مما نتخيل ، وكان رسول الله يعرض على الأطفال قضايا في منتهى الحساسية ، وفي قمة العمق ، وما أروع عرضه للإسلام على الطفل الصغير عليّ بن أبي طالب ! وما أروع شرحه للعقيدة بكل تفصيلاتها للطفل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ! وما أروع إستشارته للطفل أسامة بن زيد رضي الله عنهما في قضية أهل بيته عائشة رضي الله عنها هل يطلِّقها أم يبقيها !!

إن عقول الأطفال تستوعب تصرُّفات الآباء في سنٍّ مبكِّرة جدًّا ، خاصَّةً في هذا الزمن الأول ، حيث كان الطفل يحفظ القرآن في عمر السابعة ، ويحفظ كتب الفقه والحديث وهو لم يبلغ العاشرة ، وكان يجاهد في سبيل الله وهو لم يبلغ الخامسةَ عشْرَةَ ، وكان يقود الجيش وهو لم يبلغ الثامنةَ عشْرَةَ ، وكان يحكم البلاد وهو لم يبلغ العشرين !!

إنها حياة جادَّة تستوعب إمكانيات الطفل وتنميها ، فتضيف إلى عمره أعمارًا جديدة ، بدلاً من الحياة اللاهية التي يبلغ فيها الشابُّ الثلاثين من عمره وأكثر ، وهو لا يمتلك بعدُ الخبرة التي تمكِّنه حتى من الإعتماد على نفسه .

مات آق سنقر ، وترك عماد الدين زنكي محمَّلاً بحبِّ الشريعة والجهاد ، وراغبًا في نصرة الدين والمسلمين ، وشاعرًا تمامًا بهموم أُمَّته ومشاكلها ؛ لذلك إختار عماد الدين زنكي في هذه السنِّ الصغيرة أن يحيا حياة الجهاد والجدِّيَّة .

ترك عماد الدين زنكي حلب بعد مقتل أبيه ، فلم يكن يستطيع - على رغم حبِّ كل الناس له - أن يعيش في بلدٍ يحكمه تتش قاتل أبيه ، وخاصَّة أن تتش كان ظالمًا فاسدًا لا ينظر مطلقًا إلى مصالح أُمَّته ، بل لا يصرف وقته ولا جهده إلا لمصالحه الخاصَّة فقط ..

فإلى أين انتقل عماد الدين زنكي ؟! , لقد انتقل إلى الموصل !

ولعلَّ هذا الإنتقال في الأساس كان لولاية كربوغا على الموصل، وكربوغا هو أمير تركماني تحدَّثنا عنه أيام بدايات الحروب الصليبية ، وكان صديقًا شخصيًّا لآق سنقر ، فلما مات إستقدم إبنه عماد الدين زنكي، وضمَّه إلى جيشه ، وكان هذا في سنة 489هـ ، وعماد الدين زنكي في الثانيةَ عشْرَةَ من عمره .

وأخذ يوالي تدريبه على الفروسيَّة والقتال وإدارة الجيوش ، وهكذا قَيَّض الله لعماد الدين زنكي من يصقل شخصيته ، وينمِّي مواهبه .

وإشترك عماد الدين زنكي فعلاً في القتال مع كربوغا لأوَّل مرَّة حين كان يخضع بعض الولايات لحكم السلطان بركياروق ، وكان عماد الدين زنكي لا يتجاوز في هذه المعركة الرابعةَ عَشْرَةَ من عمره .

وفي حياة كربوغا - وتحديدًا في سنة (491هـ) 1097م - إحتلَّ الصليبيون مدينة أنطاكية ، وأرسل السلطان بركياروق جيشًا بقيادة كربوغا لحرب الصليبيين ، ولكن الجيش مُنِيَ بالهزيمة كما مرَّ بنا ، ولا ندري إن كان الطفل عماد الدين زنكي كان مشاركًا في هذا القتال أم لا ، ولكن المؤكد أنه عاش قضية الصليبيين من أوَّلها ، فلا شكَّ أن كل الأحاديث التي كان يسمعها في بلاط كربوغا كانت تدور حول الصليبيين .

لقد عاش عماد الدين زنكي القصة من أوَّلها !

ومات كربوغا سنة (495هـ) 1102م ، وكان عماد الدين زنكي في الثامنةَ عَشْرَةَ من عمره ، وكان من توفيق الله أنَّ الذي تولَّى الإمارة في الموصل بعد ذلك كان جكرمش ، وكان أيضًا من أخلص أصدقاء الأب قسيم الدولة آق سنقر ، ومن ثَمَّ إستكمل مسيرة كربوغا في تربية عماد الدين زنكي ، وفي تقديمه على غيره ، وتعليمه كل فنون القيادة والإدارة .

إننا نرى بوضوح أن الله يُسَخِّر لعماد الدين زنكي مَن يضع قدمه على الطريق ، ويوجِّه خطواته التوجيه الأصوب .

وعند عزل جكرمش سنة (500هـ) 1106م ، حكم الموصل جاولي سقاوو ، لكن جاولي كان على خلاف الأمراء السابقين ، لقد كان ظالمًا فاسدًا لا يفكِّر إلاَّ في مصالحه ، بل وصل الأمر في سنة (501هـ) 1107م ، أي بعد سنة واحدة أن قرَّر جاولي أن ينفصل بحكم الموصل عن سلطة السلطان محمد السلجوقيّ ، وهو السلطان الذي خَلَف أخاه السلطان بركياروق منذ سنة (494هـ) 1100م ، وهنا يتَّخذ عماد الدين زنكي موقفًا عجيبًا ! لقد كان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره فقط ، ومع ذلك فقد قرَّر أن يخرج من جيش جاولي ، وهو رئيسه المباشر ، لينضمَّ إلى السلطان محمد السلجوقي ، وكانت هذه الخطوة في منتهى الخطورة عليه ، لكنه أقدم على هذه الخطوة دون تردُّد مُكَرِّرًا ما فعله أبوه قبل ذلك بخمسةَ عَشَرَ عامًا بحذافيره ! لقد كانت الرؤية واضحة تمامًا عند عماد الدين زنكي أن ولاءَه الرئيسي للسلطان العادل محمد السلجوقي ، وليس للأمير الظالم جاولي ، ولا بُدَّ أن يعلن هذا الولاء ، ولو كان الثمن منصبه ، بل ولو كان الثمن حياته !

ولكن الله سلَّم ، وحَفِظ عماد الدين زنكي ، وباءت ثورة جاولي بالفشل ، وعَرَف السلطان محمد السلجوقي القائد الشابّ الجديد عماد الدين زنكي إبن قسيم الدولة المشهور والمحبوب إلى ملكشاه والد السلطان محمد ، وأوصى السلطان محمد بعماد الدين زنكي خيرًا ، ورفع ذلك إسمه في عيون الجميع .

ثم كانت لحظة فارقة في حياة عماد الدين زنكي ، حين تولَّى أمرَ الموصل شخصيةٌ من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي ، وهو مودود بن التونتكين رحمه الله ، وقد مرَّ بنا طرف من حياته ، وكانت هذه الولاية مدة ستِّ سنوات ، كان فيها عماد الدين زنكي من أقرب الناس إلى مودود ، ومَنْ أدراك مَنْ مودود !!

إنه - كما مرَّ بنا - من أصلح الأمراء ، وأتقاهم لله ، وأحبهم للعبادة ، وأعدلهم مع الرعيَّة ، وأخلصهم في الجهاد في سبيل الله ، وأرغبهم في وَحْدَة المسلمين ، وأكرههم للصليبيين ، لقد أدرك عماد الدين زنكي مودودًا رحمه الله ، وكان عماد الدين زنكي في ريعان شبابه ، فقد صحبه حين كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا ، وقُتِل مودود ، وقد بلغ عماد الدين زنكي ثلاثين عامًا ..

إنها فترة النضج الحقيقية في حياة المجاهد عماد الدين زنكي ، شَرِب فيها عماد الدين زنكي كل توقير وتقدير للشريعة .

وشرب فيها كيف يمكن بذل الوقت والجهد والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض ..
وشرب فيها كل المهارات القيادية والفنية والقتالية التي يتمتَّع بها مودود .
وشرب فيها الشجاعة والجرأة والفكر العسكريّ الصائب .
وشرب فيها في ذات الوقت كراهية كبيرة للصليبيين الذين إستباحوا بلاد المسلمين ، وللباطنية الذين قتلوا مودودًا رحمه الله ، وللزعماء التافهين الذين تركوا مودودًا في أزمته ، بل أغروا به سفهاءهم ليقتلوه !

ومع مودود - وفي سنة 507هـ\ 1113م - شهد عماد الدين زنكي موقعة الصِّنَبَّرة ، حيث ذاق حلاوة النصر على الأعداء ، وذاق طعم العزَّة والكرامة ، وأبلى عماد الدين زنكي في هذه الموقعة بلاءً حسنًا غير مسبوق ، وأظهر شجاعة نادرة ، ومقدرة قتالية فذَّة ، حتى إكتسب شهرة واسعة في كل بلاد المسلمين ، وصار حديث الناس ، كما كان أبوه حديث الناس وأشدّ !

ثم قُتِلَ مودود رحمه الله .

وكانت صدمة كبيرة لعماد الدين زنكي ، فقد أحبَّه حبًّا شديدًا من أعماقه ، ثم إنها كانت صدمة لإكتشافه بحجم المؤامرات الدنيئة في العالم الإسلامي ، وعَلِم على وجه اليقين أن قتال الصليبيين مستحيل في وسط هذه الأجواء ، وليس هناك بُدٌّ من إصلاح الداخل قبل الصدام مع الأعداء الخارجيِّين .

ثم تولَّى آق سنقر البرسقي ولاية الموصل للمرَّة الأولى ، وذلك من سنة (507هـ) 1113م إلى سنة (509هـ)1115م ، وإشترك معه عماد الدين زنكي بقوة في معاركه ضد الصليبيين ، وحاصر معه الرها وسُمَيْساط وسروج ، مما زاد من شهرة عماد الدين زنكي لدى الجميع .

ثم بعد عزل آق سنقر البرسقي سنة (507هـ) 1115م ، وتولية جيوش بك دخل عماد الدين زنكي تحت زعامة الأمير الجديد ، وعندما حاول جيوش بك أن يقوم بمحاولة إنقلابية على السلطان محمود سنة (514هـ)\ 1121م ، رفض عماد الدين زنكي أوامر قائده الأقرب جيوش بك ، وأصرَّ على الولاء للسلطان الأعلى محمود ، وقد فشلت هذه المحاولة الانقلابية ، ورفع هذا كثيرًا من أسهم عماد الدين زنكي عند السلطان محمود .

ثم أُعِيد تولية آق سنقر البرسقي على الموصل سنة 515هـ ، فعاد عماد الدين زنكي من جديد إلى تبعيَّته آق سنقر البرسقي ، وعندما إنتُدِبَ آق سنقر لإدارة الأمن في بغداد للسيطرة على بعض الأمور الخطيرة سنة (516هـ) 1122م ، وكان دُبَيْس بن صَدَقَة قد قاد ثورة في بغداد للسيطرة على الحكم هناك ، أخذ آق سنقر عماد الدين زنكي معه لثقته في قدراته العسكرية والإدارية ، بل إن آق سنقر البرسقي ولَّى عماد الدين زنكي منطقة واسط حيث المركز الرئيسي لدبيس بن صدقة ليكون في مواجهته مباشرة ، ممَّا يدلُّ على عظيم ثقة آق سنقر في القائد العظيم عماد الدين زنكي .. وبالفعل إستطاع عماد الدين زنكي أن ينتصر على دبيس ويعيد الأمور إلى نصابها ، ولما هاجمت الأعراب مدينة البصرة هجمات متكرِّرة أعطى آق سنقر ولاية البصرة لعماد الدين زنكي للسيطرة على الأوضاع هناك ، فنجح في فترة وجيزة أن يُسَيْطِر على الأعراب ويمنع هجماتهم ، مما جعله بحقٍّ رجل المهام الصعبة في الدولة السلجوقية .

وكان ولاء عماد الدين زنكي في كل هذه الأحداث للسلطان السلجوقيّ وأمرائه ، ولم يكن للخليفة العباسي ، إنما كان يُدَافِع عن الخليفة العباسي في بغداد لأن مصالح السلطنة كانت متوافقة مع مصالح الخلافة، ولكن عند تَعَارُض مصالح السلطنة مع الخلافة ، مثل الخلاف الذي حدث سنة 519هـ بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله ، كان عماد الدين زنكي يقف إلى جوار السلطان دون تردد ، وهذا في رأيي أمر طبيعي ومُتَوَقَّع ، مع أنه قد يُسَبِّب لنا حرجًا في الفهم ، عندما نجد أن عماد الدين زنكي يقف بجيشه أحيانًا في وجه الخليفة ، لكنْ تعالَوْا نفهم حقيقة الأمر بهدوء ، وهذا سيساعد في فهم كثير من الأحداث المستقبليَّة ..

لقد عاش خلفاء بني العباس منذ فترة طويلة جدًّا تجاوزت المائتي سنة تحت السيطرة العسكرية لغيرهم، فكانت السيطرة تارة للأتراك ، ثم أخرى للبويهيين الشيعة ، ثم أخيرًا للسلاجقة ، وفَقَدت كلمة الخلافة كل معنًى لها ، وصار الحكم كله في يَدِ الحاكم العسكري الذي يملك الجيوش والوزارات والأموال والقرارات والإتفاقات الدُّوَلِيَّة ، والأمور الداخلية الأمنية وغيرها ؛ وفي ظلِّ هذه الأوضاع توارث الخلفاء اللقب والثروات الشخصيَّة فقط ، وكان أقصى أحلام كلِّ خليفة أن يُسَيْطِرَ فقط على الأمور في بغداد ، ولا أقول العراق !

بمعنى أنَّ الخليفة في أفضل أحواله كان كالمحافظ على بغداد ، بينما السلطان المهيمن على الحكم يحكم دولة شاسعة من الصين إلى الشام ، وتضمُّ بين طيَّاتها العراق بما فيه بغداد ، وكان السلاطين - وخاصة السلاجقة - يحافظون على بقاء الخليفة كرمز ليجمع الأُمَّة حول معنًى واحدٍ ، ويُعِيد إلى أذهانهم دومًا أنهم أُمَّة واحدة ، وصار وضع الخليفة في الدولة الإسلامية كوضع الملك أو الملكة الآن في البلاد التي أصبحت تُدَارُ بنظام جمهوري كإنجلترا وإسبانيا وكندا وهولندا ؛ فهو مجرَّد رمز يذكِّر الناس ببعض المعاني الجميلة ، ولكن ليس له دخلٌ في الحكم أو الإدارة أو أيِّ قرار .

ولكن أحيانًا كان الخليفة - كما في حالة المسترشد بالله في قصَّتنا - يجد في نفسه قوَّة ، وتُرَاوِدُه الطموحات الكبيرة أن يُعِيَد للقب "الخليفة" هيبته الحقيقية ، فيُكَوِّن جيشًا من أهل بغداد وما حولها ، ويبدأ بمهاجمة السلطان ، ومحاولة فرض الرأي عليه ولكن هذا في الحقيقة وضع مقلوب ، فبعيدًا عن الألقاب فإنَّ تَشَتُّتَ السلطة بين خليفة وسلطان يُضعف الولاء عند الجميع ، ويُدْخِل البلاد في حالة من الاضطراب غير المقبول ؛ ولذلك كان عماد الدين زنكي يقف بصرامة مع السلطان القويِّ في مواجهة الخليفة الضعيف ، مع أنَّ قوَّة الخليفة كانت أحيانًا تقوى محلِّيًّا حتى تتغلَّب على جيوش السلطان المحلِّيَّة في بغداد أو ما حولها ، لكنها تبقى في النهاية محلِّيَّةً .

ثم إنَّ عماد الدين زنكي بدأ في الظهور أكثر وأكثر نتيجة النجاحات المتتالية التي يحقِّقُها ، ممَّا جعل السلطان محمود سلطان السلاجقة العظام في فارس يستدعيه إلى أصفهان ، ويُقَرِّبه منه ، ويُولِيه ثقته ، ويزوِّجه أرملةَ كندغدي ، وهو أحد أكبر أمراء السلطان ، ثم ولاَّه على إمارة البصرة في سنة 518هـ ، ثم عيَّنه في سنة 521هـ في منصب خطير ، وهو "شِحْنَة العراق" أي مدير أمن العراق بكاملها ، بل وزاده على ذلك أمرًا عظيمًا ، وهو أن جعله بالإضافة إلى إدارة الأمن في العراق "أتابكًا" لولديه ألب أرسلان ، وفروخ شاه ؛ والأتابك هو المربِّي ، فأصبح عماد الدين زنكي هو الأتابك عماد الدين زنكي ، وأصبح مسئولاً عن تنشئة أولاد السلطان تنشئة عسكرية سياسية شرعية متميزة ..

لقد كان طريقًا طويلاً صعبًا بدأه عماد الدين زنكي في سنٍّ صغيرة مبكرة ، وعاش حياة جدية تمامًا ، ولم يكن يلهو في حياته كما يلهو الأطفال أو الشباب ، إنما كان رجلاً بمعنى الكلمة ، يعيش هموم أُمَّته ، ولا يهتم بسفاسف الأمور ؛ فأجرى الله على يديه من الخير الكثير ، وحقَّق نجاحات عظيمة ، وكان كلُّ ذلك تأهيلاً لما هو آتٍ، فقد كان على موعد في مستقبله مع مهمة أثقل ، ووظيفة أصعب ، وهي مواجهة الكيان الصليبي الذي إستقرَّ في بلاد الإسلام منذ ثلاثين سنة ، وباءت محاولات المسلمين في كل السنوات السابقة بالفشل في إخراج الصليبيين من الأراضي التي إحتلُّوها ، فكانت هذه المهمة تحتاج إلى رجلٍ من طراز عماد الدين زنكي !

لقد كان من قدر الله أن سخَّر الرسولين اللذين أرسلهما جاولي - المملوك الذي سيطر على الأمور في حلب - ليعرضا على السلطان محمود إسم عماد الدين زنكي ليتولى أمور الموصل وحلب ، وبالتالي يواجه الصليبيين بمهارته المعروفة ، ووجد الإسم قبولاً عند السلطان محمود دون تردد ، ومن ثَمَّ عهد إلى عماد الدين زنكي في 3 من رمضان 521هـ\ 13 من سبتمبر 1127م بولاية الموصل والجزيرة (شمال العراق) وما يفتحه من بلاد الشام ، لتبدأ بذلك مرحلة مهمة في التاريخ الإسلامي تُعرف بالدولة الزنكية التي بدأ تأسيسها عماد الدين زنكي في سنة 521هـ ، وتبدأ في نفس الوقت مرحلة جديدة من مراحل الصراع الإسلامي- الصليبي في قصة الحروب الصليبية .

- عماد الدين زنكي أتابك الموصل

عماد الدين زنكي شخصية فريدة في التاريخ الإسلامي ، ورأينا كيف كانت جذوره طيبة ، وقد ترك له والده آق سنقر الحاجب رحمه الله كلَّ خير ، ورأينا كذلك تدرجه في الأعمال والمناصب حتى وصل إلى رئاسة إمارة الموصل ، وهو منصب رفيع جدًّا ، لكن كم من الأمراء وصلوا إلى هذا المنصب قبل ذلك ، ولم يغيِّروا أحداث التاريخ ! لكن عماد الدين زنكي لم يكن كعامة الأمراء بل كان متميزًا متفردًا مؤثرًا في كل من حوله ، ناقلاً للأمة الإسلامية بكاملها نقلة نوعية كان لها من الأثر ما تجاوز عشرات السنين !

وما أبلغ ما قاله عماد الدين الأصفهاني وهو يصف عماد الدين زنكي رحمه الله حين قال : " كان قطبًا يدور عليه فلك الإسلام !" .. لقد صوَّر العماد الأصفهاني عماد الدين زنكي بأنه أصبح مركزًا لكل عمل مهم في الأمة الإسلامية ، فصار كل شيء إسلامي في زمانه مرتبطًا به ، متأثرًا بأفعاله ! وهي درجة لا يصل إليها إلا أعاظم المسلمين ، وأكابر المجددين .

إنني أعتبر عماد الدين زنكي بشخصيته المتميزة "رجل المرحلة"! إنه الرجل المناسب الذي توفرت فيه الصفات التي تؤهِّله للأخذ بيد الأمة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الأمة ، وهذا من فضل الله عليه وعلى الناس ، وهذا من رحمة الله بالمسلمين ، فهو يرزقهم في كل مرحلة من مراحل حياتهم قائدًا يحمل من الصفات ما يصلح لعبور هذه المرحلة بكل ما فيها من أزمات .

ولقد جمع عماد الدين زنكي من الصفات ما تجعله يصلح أن يكون "نموذجًا" للحاكم المسلم ، بحيث تصبح أقواله وأفعاله وأخلاقه واختياراته معيارًا تستطيع أن تحكم به على صلاح حاكم أو فساده ، وليس هذا مبالغة ، بل هو قليل من كثير .. ولعله من المناسب أن نقترب أكثر من شخصية عماد الدين زنكي فنطَّلع على جوانبها وصفاتها وأهم مميزاتها ، وذلك قبل الخوض في تفصيلات قصته في إمارة الموصل ، وخطوات تغييره للواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأمة ، وهذا الإقتراب من شخصيته سيضع أيدينا على المفاتيح المهمة التي ينبغي لكل مصلح أن يتحلى بها ؛ ولذلك فهي من أهم النقاط في هذا البحث الخاص بالحروب الصليبية .. وصفات الخير فيه كثيرة ، ولكن من أهمِّها ما يلي :

أولاً: الإخلاص والتجرد لله

وهذه كانت صفة غالبة على كل حياته رحمه الله، وبها كان يُنصر ويتمكن ، ولعل القارئ يتعجب من ذكر صفة الإخلاص كصفة واضحة في حياة عماد الدين زنكي ؛ لأن الإخلاص صفة قلبية ، وهي بين العبد وبين الله ، ولا يطَّلع عليها عموم الناس، ولكن الإخلاص له شواهد وعلامات ، وكل هذه العلامات والشواهد رأيناها بوضوح في حياة عماد الدين زنكي ؛ لذلك نشهد له بهذا ، ونسأل الله أن يتقبل كل أعماله الصالحة .

فمن شواهد الإخلاص في حياته مثلاً ثباته على الفكرة طيلة أيام عمره ؛ فقد جعل قضية إخراج الصليبيين من بلاد المسلمين قضية حياته ، فبذل جهده في هذه القضية عشرين سنة متصلة هي مدة حكمه للمسلمين ، هذا غير السنوات التي سبقت إمارته ، والتي كان فيها يشارك الأمراء السابقين في غزو الصليبيين وجهادهم .

إن الرجل الذي يتذبذب بين الإخلاص لله والعمل للذات وللنفس ، يغيِّر كثيرًا من قضاياه تبعًا للظروف ، أما أن تمر الأعوام تلو الأعوام وعماد الدين زنكي لا يتغير ولا يتبدل ، فهذا معناه أنه رجلٌ يعمل لله .

ومن شواهد إخلاصه أيضًا تقديمه لمصالح المسلمين على مصلحته الشخصية ، فقد خاطر كثيرًا بملكه الشخصيّ في سبيل نصر المسلمين ، وما أروع ما فعل حين وُضع في مأزق عسكري في أحد حروبه ضد الصليبيين سنة (532هـ) 1137م ، فقرر الإستعانة بجيوش السلطان السلجوقي مسعود ، فقال له أحد المستشارين : إن هذا قد يشجِّع السلطان على ضم حلب إلى أملاكه ؛ فتضيع بذلك من زنكي .. فقال عماد الدين زنكي : " إن هذا العدو (الصليبيين) قد طمع في البلاد ، وإن أخذ حلب لم يبق بالشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار!" .

وهذه الرؤية الرائعة تختلف كثيرًا عن رؤية عموم الأمراء الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية ، حيث كان الأمير لا يخاطر بالإستنجاد بأميرٍ آخر خوفًا من أن يتملك هذا الأمير الجديد كل شيء ، بل لا يمانع بعض الأمراء من الإستعانة بالصليبيين في سبيل الحفاظ على ملكهم ، بل وأكثر من ذلك فقد دبَّر بعض الأمراء مؤامرات لقتل الزعماء المسلمين المجاهدين خوفًا من دخول إماراتهم تحت سلطة الزعيم المجاهد ، وما أحداث قصة مودود رحمه الله منا ببعيد !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا أنه كان يخاطر بحياته في المعارك فلا يقاتل في أخريات الصفوف ، أو بمنأى عن المخاطر ، بل كان يتقدم الجميع ، وكثيرًا ما يكون أقرب الناس إلى العدو ؛ ولقد فَرَش في ليلة من الليالي بساطًا كبيرًا ، ووضع عليه الطعام ، وكان محاصِرًا لإمارة الرها ، فنادى في جيشه قائلاً : " لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غدًا في باب الرها!" أي أنه سيصل في قتاله غدًا إلى أقرب النقاط من الحصن ، حيث سيباشر محاولات كسر الباب بنفسه ، وهذا سيجعله في مرمى سهام العدو ، وسيعرِّض حياته للهلكة ، لكنه كان يفعل ذلك دومًا رحمه الله ؛ وعندما قال كلماته هذه لم يتقدم إليه ليأكل معه غير أمير واحد ، وصبي آخر لا يعرفه ! فقد أحجم الجميع لمعرفتهم بإقدام عماد الدين زنكي ورغبته الصادقة في الشهادة ، وقد قال الأمير للصبي الصغير : ما أنت وهذا المقام؟ فكأنه يستصغر شأنه ، ويشك في ثباته ، فقال عماد الدين زنكي: " دعه ؛ فإني أرى - والله - وجهًا لا يتخلف عني !"، وقد كان وثبت الصبي معه !

ومن شواهد إخلاصه أيضًا إجتماع الناس على حبِّه ؛ فقلوب العباد بين أصابع الرحمن سبحانه وتعالى ، وقد رأينا اجتماع أهل البلاد المختلفة على حبه ، ورأينا إجتماع الوزراء والقضاة وعلماء الدين على هذا الحب أيضًا ، ومن اجتمع له حب الناس بهذه الصورة فهو دلالةٌ على حب الله له ، والله لا يحب إلا المخلصين له .

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال : " إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ ؛ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ ؛ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" .. فإذا رأيت حاكمًا قد وُضع له القبول في الأرض فأحبه الناس ، فهذا علامة على إخلاص هذا الحاكم وحب الله له .

ومن شواهد إخلاصه رحمه الله أيضًا أن الله نصره في معظم لقاءاته مع الصليبيين ، والله لا ينزل نصره إلا لأحبابه وأنصاره ومن أخلصوا له ، والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ ومنها على سبيل المثال : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) ، ومنها : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ) ، (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) .

ومن شواهد إخلاصه أخيرًا حسن الخواتيم ، فسوف نرى أنه سيُقتل رحمه الله في ميدان الجهاد ، فهذه الخاتمة في هذا الميدان هي من أسعد الخواتيم ، وهي أمنية الصالحين ، ولقد قال رسول الله فيما رواه أحمد عن عمر الجُمَعِيِّ : " إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا إستعمله قبل موته" .. فسأله رجل من القوم ، وما أستعمله ؟ قال : "يهديه الله إلى العمل الصالح قبل موته ، ثم يقبضه على ذلك" .

فهذه بعض الشواهد على إخلاصه رحمه الله ، وهي سر تفوقه وتميزه ، فإن الله كان معه في كل خطواته ، مع نشأته يتيمًا ووحيدًا إلا أن الله سخَّر له من يتولى شئونه ، ويرعى أموره حتى صار إلى ما صار إليه .

ثانيًا : توقيره رحمه الله للشريعة والدين

وهذا أمر واضح في حياته رحمه الله ، فقد حرص على إقامة الحدود الشرعية في كل المناطق التي يحكمها ، وكان يلتزم بحكم الشريعة ويلزم بها الناس ، وما أكثر المواقف في حياته التي كان يجمع فيها الفقهاء ليأخذ رأيهم في المسألة ! وكان يُعطِي العلماء في إمارته منزلة عظيمة ؛ قال ابن الأثير عن القاضي بهاء الدين الشهروزري : "أن عماد الدين زنكي كان لا يصدر إلا عن رأيه" .

ومثل هذا الكلام قيل في معظم العلماء الذين عاصروا عماد الدين زنكي ، وقد إستقدم عماد الدين زنكي العلماء من كل مكان ، وأوكل لهم رعاية أمور الناس ، بل أوكل لهم تربية أبنائه ، فخرج أبناؤه على نفس الصورة البهية وأكثر ، وخاصةً نور الدين محمود وسيف الدين غازي ..

ولعل مما يؤكد على حبه للدين أنه سمَّى أولاده كلهم بأسماء مرتبطة بالدين ، فأولاده هم : سيف الدين ، ونور الدين ، وقطب الدين ، ونصرة الدين ؛ وهذه - والحمد لله - كانت سمة عامة في هذا الجيل ؛ ولذلك كتب الله له النصر ، فآق سنقر سمَّى إبنه عماد الدين ، ووُلد في هذه الفترة أيضًا صلاح الدين الأيوبي ، وكان القاضي لعماد الدين هو بهاء الدين ، وكان نائبه هو نصير الدين ، وهكذا؛ وهذا على خلاف الفترة السابقة لهذا الجيل ، حيث كانت أسماء الملوك والأمراء ترتبط بالدولة والملك ؛ ولذلك كثرت حينها الأسماء مثل : شرف الدولة ، وجناح الدولة ، وعضد الدولة ، وبهاء الدولة ، وتاج الملوك ، وشمس الملوك ، وما شابه ذلك من أسماء تدل على التمسك بالحكم لا بالدين .

ومع هذا التوقير الشديد للعلماء إلا أن عماد الدين زنكي رحمه الله ما كان يبخل بالنصح والإرشاد للعلماء بقدر طاقته ، وما أروع ما قاله لهبة الله بن أبي جرادة ، وهو من العلماء الأجلاء ، عندما ولاَّه قضاء حلب حيث قال له : " هذا الأمر قد نزعته من عنقي ، وقلدتك إياه ، فينبغي أن تتقي الله "!! وهذا من شدة توقيره للشريعة والدين ، حتى أصبح آمرًا للعلماء أن يتقوا الله .

ثالثًا : الشجاعة

وهذه صفة لازمة حتمية لكل من أراد أن يتولى شئون القيادة والإمارة ، وما أتعس الأمة لو تولى شئونها من يتصف بالخوف ، أو يغلب عليه الجبن !

وليست الشجاعة في ميدان الحروب فقط ، ولكن الشجاعة تكون قبل ذلك في مرحلة القرار ، فكثير من القواد لا يملك الشجاعة لأخذ قرار الجهاد أصلا ويتعلل بأنه لا يريد لأمته أن تعيش ويلات الحروب ! مع كون البلاد محتلة ، والكرامة مهانة ، والحقوق ضائعة ! لكن عماد الدين زنكي رحمه الله كان شجاعًا في كل شيء ؛ فكان شجاعًا في قراراته ، وشجاعًا في مواقفه المختلفة ، وشجاعًا في معاركه الكثيرة ، وهذا منذ أيامه الأولى ، وإلى آخر لحظات حياته .

ولقد شاهدنا شجاعته قبل ولايته حين كان يصحب أمراء الموصل كربوغا وجكرمش ومودود وآق سنقر البرسقي ، وإستمرت هذه الشجاعة بل زادت عندما تولى الإمارة ، وما أصدق الوصف الذي ذكره أبو شامة في حق عماد الدين زنكي حين قال : " وأما شجاعته وإقدامه ، فإليه النهاية فيهما ، وبه كانت تضرب الأمثال" !

أما إبن الأثير فقد قال عن عماد الدين زنكي : " وكان له الشجاعة في الغاية "! وقال في موضع آخر : "وكان أشجع خلق الله "! وفي موضع ثالث يقول : "وقد أظهر خلال معاركه شجاعة فائقة لم يُسمع بمثلها "! وفي موضع رابع : "فأظهر من الشجاعة ما لا يوصف" !

وهكذا كانت حياته كلها ، مما يدل على أن الشجاعة كانت صفة متأصلة فيه ، وليست عابرة في ظرف من الظروف ، أو موقف من المواقف .

رابعًا : العدل

لا بد أن يكون العدل صفة لازمة لأي حاكم صالح ؛ لأن الحاكم يملك القوة لفرض ما يريد ، فلو أراد الظلم لم يستطع أحد أن يمنعه ، ولو أراد العدل سعد به شعبه ، بل سعدت به الدنيا .

والعدل كان من السمات الرئيسية المميزة لعماد الدين زنكي ، حتى قال إبن الأثير في وصف فترة حكمه رحمه الله : " لا يقدر القوي على ظلم الضعيف !" .. وكان يوصي أمراءه دائمًا بالتخفيف على الرعية ، وتجنب أعمال السخرة ، وكان صارمًا في هذا الباب تمامًا ، ولقد إعتقل وزيره أبا المحاسن العجمي ؛ لأنه صادر بعض أموال الناس ، ولم يقبل له حجته ، فكان الشعب عنده مقدَّمًا على القادة والأمراء ، وكان شديد الحرص على ممتلكات الفلاحين البسطاء ، فيأمر جنوده بأن يسيروا وسط المزارع في منتهى الحذر ؛ لئلا يدوس أحدهم زرعًا لفلاح ، ولم يكن في زمانه يجسر جندي على أن يأخذ تبنًا لفرسه من فلاح بلا ثمن ، مع أن التبن سيؤخذ علفًا لخيول الجهاد إلا أن ذلك لا بد أن يكون بالثمن !
وإذا كان عماد الدين زنكي لا يسامح جنوده في تبنٍ أخذوه بغير ثمن ، فما بالك بالأراضي والأملاك والديار ؟!

لقد كان من عادة الأمراء قبله أنهم إذا دخلوا مدينة أو قرية كانت في حوزة غيرهم أخذوها وقسموها على الأجناد ، وبذلك تضيع ملكيات المالكين الأصليين ، حتى جاء عماد الدين زنكي فأقر نظام الإقطاعيات ورفض نظام الأملاك ، بمعنى أنه كان يعطي الأمير أو الجندي إقطاعية معينة في البلد المفتوحة يتولى إدارتها وتنظيمها وحمايتها دون أن يتملكها ، بل تبقى الملكية في يد المالك الأصلي ، ويدفع المالك ضريبة معينة مخففة للحكومة نظير التأمين والرعاية ، ومن هذه الضريبة يأخذ الأمير صاحب الإقطاع شيئًا ؛ أما الأرض فتبقى في يد مالكها ويتوارثها أبناؤه .. ولما ذهب إليه بعض أمرائه وجنوده الكبار يطلبون أملاكًا ، كما يفعل الزعماء غير عماد الدين زنكي ، قال لهم عماد الدين زنكي كلامًا من نور ! حيث قال لهم : " ما دامت البلاد بأيدينا (أي نحكمها) ، فأيُّ حاجةٍ بكم إلى الأملاك ؟! فإن الإقطاعات تغني عنها ، فإن خرجت البلاد من أيدينا ، فإن الأملاك تذهب معها (أي إذا تملك الصليبيون البلد ، فلن تنفع حينئذٍ ملكيته) ، ثم يكمل ويقول : "ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية ، وتعدوا عليهم ، وغصبوهم أملاكهم" .

إنه في هذا التصرف العادل يضع مصلحة الشعب والفقراء والبسطاء والضعفاء فوق مصلحة الأمراء والقادة ورجال الحكومة ، لكنه في الوقت نفسه طمأن قلوب الأمراء بأنه جعل لهم الإقطاعيات ، بمعنى مراكز القيادة والإدارة ، وجعل لهم دخلاً يتناسب مع حجم الإقطاعية ، فتحقق لهم ربح وفير دون الإخلال بحقوق الشعب ، بل إنه أدخل نظام التوارث في الإقطاعية ، فكان كثيرًا ما يُعطِي منصب حاكم الإقطاعية لإبن الأمير حال وفاة الأمير ؛ ليطمئن الأمير على مستقبل أولاده ، فلا يسعى في حياته إلى ظلمٍ يحفظ به أولاده بعد مماته .

ومن أروع مواقف عماد الدين زنكي بخصوص قضية الأملاك والإقطاعيات ما حدث عند فتحه للمعرَّة ، وأخذها من يد الصليبيين بعد إحتلال عدة سنوات !

لقد كان عماد الدين زنكي حنفيَّ المذهب ، وفي مذهب أبي حنيفة أن الأرض إذا إحتلها الأعداء غير المسلمين صارت دار حرب ، ثم إذا ردَّها المسلمون بعد ذلك صارت من أملاك الدولة ، فيأخذها بيت المال ، ويقسِّمها بمعرفته على مَن شاء من الناس دون النظر إلى الملكية السابقة للأراضي والديار .

فعند فتح المعرة جاء أهلها السابقون من كل مكان يطلبون أملاكهم القديمة ، فجاء عماد الدين زنكي بالفقهاء ليقولوا رأيهم في المسألة ، فأفتوا جميعًا برأي أبي حنيفة ؛ حيث إنهم جميعًا كانوا من العراق حيث ينتشر المذهب الحنفي ، وقالوا : إن الأرض لم تعد ملكًا لهم ، بل لبيت مال المسلمين (أي للدولة) !

فماذا فعل عماد الدين زنكي رحمه الله ؟! , لقد قال عماد الدين زنكي في فقهٍ عميق : " إذا كان الفرنج (الصليبيون) يأخذون أملاكهم ، ونحن نأخذ أملاكهم ، فأيُّ فرقٍ بيننا وبين الفرنج ؟ كل من أتى بكتاب يدل على أنه مالك لأرض فليأخذها " .. وبذلك ردَّ عماد الدين زنكي إلى الناس جميع أملاكهم ، ولم يتعرض لشيء منها .

وكان من منهجه رحمه الله ألا يبقي على مفسد ، وأنه يهتم بالأمن ونظامه في كل مكان ، فساد الأمن في كل مكان ، وقد كان هذا الأمن مضطربًا جدًّا خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي ، وكان الناس لا يستطيعون قطع المسافات الطويلة دون حراسة ، حتى إن أهل الموصل كانوا لا يستطيعون الذهاب إلى الجامع الكبير الذي أُنشِئ خارج البلد إلا في يوم الجمعة ؛ وذلك خوفًا من السير بمفردهم دون حراسة ، لكن بعد حكم زنكي إنتشر الأمن والأمان ، بل زاد العمران ، وعمت البركة ، وتوسع الناس في البناء .

وهكذا سخَّر عماد الدين زنكي قوته لإرساء العدل ، فتحقق مراده ، بل أنعم الله عليه وعلى شعبه بما لا يتخيلون من خير وبركة .

ولم يكن هذا العدل خاصًّا برعيته المسلمين فقط ، بل شمل اليهود والنصارى ، فقد كان في ذات يوم في جزيرة إبن عمر ، فدخل عليه يهوديٌّ يشتكي أن عز الدين أبا بكر الدبيسي - وهو من أكبر أمراء عماد الدين زنكي - أخذ داره ليسكن فيها مدة بقاء الجند في الجزيرة ، فنظر عماد الدين زنكي نظرة غضب شديدة لعز الدين ولم يكلمه كلمة واحدة ، فتأخر عز الدين القهقرَى ، وعاد إلى البلد فأخرج خيامه ونصبها خارج البلد في مطر شديد ، ولم يستطع أن يؤخِّر إعادة الحق إلى اليهودي ليلة واحدة !

خامسًا : رقة القلب والمشاعر

ولعل الكثيرين يتعجبون من وجود هذه الصفة في عماد الدين زنكي ، أو في معرض حديثنا عن صفات الحاكم المسلم متمثِّلة في عماد الدين زنكي !

ووجه العجب أن الذي يشتهر عادةً عن القادة العسكريين هو الغلظة والجفاء وقسوة القلب ، كما أن الحاكم بما يقيمه من حدود ، وبما في يده من وسائل للعقاب قد يأخذ صورة مخالفة للرقة والرأفة ، غير ما إشتهر - للأسف الشديد - في بعض الكتب عن عماد الدين زنكي شخصيًّا أنه كان قاسيًا غليظًا !

وواقع الأمر أن صفة رقة القلب والرحمة من الصفات اللازمة للحاكم المسلم، وقد كان رسول الله أرحم الناس ، مع كونه حاكمًا وقائدًا ومجاهدًا من الطراز الأول .. وكانت هذه الصفة موجودة أيضًا في عماد الدين زنكي ، ولكن لجديته الشديدة ولإنشغاله طيلة حياته بالأمور الجسيمة العظيمة ، وبتحرير بلاد المسلمين من الغاصبين أُخذ عنه الإنطباع بالقسوة والغلظة على خلاف طبيعته .

إن ما ذكرناه سابقًا عن رفقه بالفلاحين ، وخوفه على أرزاقهم وأملاكهم وزرعهم وتبنهم ، لا يمكن أن يكون إلا من قلب رقيق مفعم بالمشاعر .

ثم إنه كان لا يؤاخذ الناس بالخطأ الأول ، وكان يعفو ويصفح إلى أبعد الحدود ، ولا يعزل أحدًا من منصبه إلا بتكرار الخطأ ، أو بإرتكاب ما لا يجوز معه الغفران ؛ ولذلك فإن معظم من عيَّنهم في الإمارات المختلفة ظلوا معه إلى آخر لحظات حياتهم ، أو إلى آخر حياة عماد الدين زنكي نفسه ؛ لأنه كان دائم الصفح عنهم .

وكان من عادته رحمه الله أن يتصدق جهرةً كل جمعة بمائة دينار ، وذلك رحمة منه على الفقراء والمساكين ، وكان يفعل ذلك جهرة ليشجع الأغنياء على الإقتداء به ، فيعم الخير على الجميع ، لكنه كان له في كل يوم صدقةٌ كبيرة لا يعرفها إلا وزيره فقط وفي هذا تُروى قصة لطيفة !

كان عماد الدين زنكي في يوم يركب خيله فعثرت به ، وكاد يسقط من فوقه ، فنادى على أمير كان معه ، وقال له كلامًا وهو حزين أو غاضب ، فلم يتبين الأمير ماذا قال عماد الدين زنكي ، ولكنه شعر بغضب عماد الدين زنكي ، وظن أن هذا الغضب تجاهه هو ، ولم يتجاسر على سؤاله ، فأسرع إلى بيته ليعلن لزوجته خوفه الشديد من أن يكون قد أخطأ ، فنصحته زوجته أن يذهب إلى نصير الدين جقر نائب عماد الدين زنكي ، ويحكي له القصة ، لعله يجد حلاًّ عنده ! وبالفعل ذهب إلى نصير الدين جقر وحكى له ، فقال : لا عليك ، إنما كان يطلب منك هذه الصُّرَّة .. وأخرج صُرَّة كانت معه وأعطاها للأمير ! فحملها الأمير إلى عماد الدين زنكي فأخذها راضيًا ، فرجع الأمير إلى نصير الدين جقر وقال له : كيف علمت أنه يريد الصرة ؟ فقال : إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم ، يرسل إليَّ يأخذه من الليل ، وفي يومنا هذا لم يأخذه ، ثم بلغني أن دابته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض ، فأرسلك إليَّ ، فعلمت أنه ذكر الصدقة .

لقد ربط عماد الدين زنكي بين تأخُّره في إنفاقه للصدقة ، أو نسيانه لها وبين تعثر دابته ، وهذا من شدة حساسيته ، ورقة مشاعره ، وإلتفاته إلى الإشارات والحوادث ، ولا يأتي كل ذلك إلا من قلب رقيق .. ثم انظر إليه وهو في غاية الشغل كل يوم بقتال وخطة وإدارة دولة كاملة ، ثم هو لا ينسى أن يتصدق يوميًّا على الفقراء والمحتاجين .

إنه لا يتكلف الرحمة ، إنها مزروعة في قلبه !

ومن رقة مشاعره أنه كان لا ينسى من أسدى إليه معروفًا ، حتى لو مر زمان طويل على هذا المعروف ، وقصته مع نجم الدين أيوب معروفة ؛ إذ إن نجم الدين أيوب أسدى معروفًا إلى عماد الدين زنكي في سنة (526هـ) 1131م حيث آواه في قلعته التي يحكمها في تكريت حين هُزم زنكي في أحد معاركه ، وردَّ له زنكي الجميل بعد ذلك بثماني سنوات في سنة (534هـ)1139م ، عندما ولاه حكم مدينة بعلبك بعد فتحها ، ولا يخفى على أحد أن هذا الرجل الذي يتذكر جميلاً فُعل فيه منذ ثماني سنوات هو رجل وفيّ ، رقيق المشاعر .

بل إنه لم ينس ناصر الدين كوري بن جكرمش فأقطعه إقطاعًا ؛ إعترافًا بجميل والده ، مع العلم أن والده جكرمش قدَّم لعماد الدين خدمةً برعايته ، والإهتمام به منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا !

لقد كان عماد الدين زنكي رجلاً وفيًّا رحيمًا رقيقًا غير أن الإنطباع الذي أخذ عنه بالقسوة لم يكن لشيء إلا لأنه كان جادًّا جدًّا في حياته ؛ مما أوهم كثيرًا من الناس أنه غليظ الطباع ، وهو على العكس من ذلك تمامًا ، ولعل الصفة التالية التي سنتحدث عنها ستفسر لنا هذا التناقض الذي يراه بعض المؤرخين .

سادسًا : الجدِّيَّة

وُلد عماد الدين زنكي ونشأ وعاش في ظروف تفرض عليه الجدِّيَّة في كل أموره ، فقد وُلد في زمان فتن ، كان التصارع فيه بين الأمراء المسلمين مشتهرًا، وقُتل أبوه في واحد من هذه الصراعات ، ونشأ عماد الدين زنكي يتيمًا ووحيدًا ؛ إذ كان لا أخ له ، وترك موطن نشأته حلب وإتجه إلى الموصل، وعاش حياة عسكريَّة منذ نعومة أظافره ، ورأى الصليبيين يجتاحون بلاد المسلمين ، فعاش القضيَّة بكل ذرَّة في كيانه ، وكان لا ينسى أبدًا أن الأقصى أسير في يد الصليبيين ، وأن أنطاكية والرها وبيروت وعكَّا وطرابُلُس وغيرها أيضًا في يد الصليبيين ، وأن أرواح المسلمين تُزْهَق ليلَ نهارَ ، وأموالهم وأعراضهم تُستباح بشكل متكرِّر .

هذه الظروف جعلت منه شخصًا جادًّا تمامًا ، وأيُّ شخص يفقد جدِّيَّته في مثل هذه الظروف هو رجل منزوع المروءة ، ليِّن الدين والعقيدة .

وهذا الجِدُّ الذي تميَّز به عماد الدين زنكي كان يمنعه من الإستسلام للراحة ، فلا يستريح ولا يَقْبَل بالترف ، وليس معنى هذا أنه لم يكن يبتسم، فالرسول كان أكثر الناس تبسُّمًا ولكنه كذلك كان أكثر الناس جديَّة ، وأكثرهم بُعدًا عن الهزل والمزاح ، وكان في مزاحه القليل لا يكذب ولا يتجاوز ، وهكذا كان نهج عماد الدين زنكي في حياته ، لقد كان دائم الفكر، كثير الصمت ، لا يتكلَّم مع الناس إلاَّ قليلاً ؛ لأن ذهنه دائم العمل لصالح المسلمين ، ودائم التدبير للأمور العظام ، وهذا كان يعطيه هيبة عظيمة ، كتلك التي كان يلاحظها الجميع على عمر بن الخطاب ، وهي هيبة غير منكرة طالما ليس فيها ظلم أو تجاوز أو كبر .

والأشخاص العظيمة دائمًا لها هيبة ، وراجعوا بعض المواقف من حياة رسول الله حتى نعرف أن هذه الهيبة غير منكرة بضوابطها الشرعية .

روى إبن ماجه عن أبي مسعود قال : أتى النبيَّ رجلٌ فكلَّمه ، فجعل ترعد فرائصه ، فقال له: " هَوِّنْ عَلَيْكَ ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ ".

فهذا رجل يرى الرسول فترتعد فرائصه ، مع أن الرسول كان أرحم الناس ، ولكن لهيبته ولمركزه ولإحترام الناس له إرتعدت فرائص الرجل ، فهوَّن عليه رسول الله وطمأن قلبه وهكذا كان عماد الدين زنكي رحمه الله .

خرج يومًا من قلعته ، وكان الحارس نائمًا ، فأيقظه حرَّاس عماد الدين زنكي ، فلمَّا إستيقظ ورأى عماد الدين زنكي سقط على الأرض من الخوف ، فقلبوه ، فوجدوه ميتًا !!

وليس معنى هذا غلظة في عماد الدين زنكي أو قسوة ، فما عُلِمَ عنه تجاوزٌ في معاملة الناس أو الرعيَّة ، ولكنها الهيبة التي جعلت له مكانًا عظيمًا في قلوب الناس .

وقد عاش عماد الدين زنكي حياة الجدِّيَّة دون تكلُّف ، فهو لم يكن يُرغم نفسه على الجدِّيَّة ، بل كان يأْلفها ويأنس بها ، حتى قال إبن الأثير في حقِّه : " كانت أصوات السلاح ألذَّ في سمعه من غناء القينات " .. فبينما كان هناك مَنْ يستمتع بسماع الموسيقى والأغاني ، كان عماد الدين زنكي يجد متعته في سماع أصوات السلاح ، سواء في ميادين الجهاد أو في ساحات التدريب .

وقد أثَّرت هذه الجدِّيَّة في هواياته رحمه الله ، فكان إذا أراد التخفُّف قليلاً من الأعباء الثقيلة التي عليه ، وأن يُرَوِّح عن نفسه ساعة فإنه كان يقوم بواحدة من ثلاث :

إمَّا أن يخرج إلى صيد الطيور والوحوش ، ولا يخفى ما في ذلك من تدرُّبٍ على الرماية والمناورة والتخفِّي ، وهو بذلك يُساعد نفسه على مهارة أعلى تعود عليه بالنفع في ميادين الجهاد، وكانت أحبُّ الهدايا إليه ما كان صيدًا ، وكذلك كان يُهدِي هو إلى الملوك والأمراء ما اصطاده هو من فهودٍ وصقور ونحو ذلك .

وإمَّا أن يتمرَّن على الفروسيَّة ويعقد مسابقات الخيل ، وكان رحمه الله من أمهر الخيَّالين ، وأعظم الفرسان .

وإمَّا أن يأخذ قاربًا ويتنزَّه منفردًا في نهر دجلة ، سابحًا في ملكوت الله ، متفكِّرًا في السموات والأرض ، أو متدبِّرًا في الأحداث والمواقف ، وهذه الخلوات كانت كثيرًا ما تفيض عليه بفكرة جميلة ، أو حيلة ذكيَّة ، أو بخشوع في القلب ، أو سكينة في الجوارح .

هذه هي لحظات الترفيه في حياة المجاهد العظيم عماد الدين زنكي رحمه الله !

سابعًا : الحسم

وهي صفة من ألزم صفات الحاكم الواعي ، ومن ألزم صفات عماد الدين زنكي أيضًا ؛ فكم أضاع التردُّد فُرَصًا على المسلمين ، وكم أدخل المسلمين في أزمات ومشاكل ! لقد كان عماد الدين زنكي حاسمًا في كل أموره ، فكان سريعًا ما يقطع بما يفيد ، ويبدأ في التنفيذ دون تردُّد .

ففي بداية ولايته أدرك أنه لا طاقة له بحرب الصليبيين قبل أن يُعِدَّ العُدَّة ، فعقد معهم هدنة مؤقَّتة ، ثم بعد ذلك تَراه يحارب ويجاهد ، ولا يقبل بأطروحات السلام من الصليبيين ، وفي كِلا الأمرين كان حاسمًا في عرضه للهدنة وفي سعيه للجهاد ، وكثيرًا ما قرَّر الهجوم في النهاية ، وفي ظروف أخرى كان يُقَرِّر الإنسحاب ، ويرى أنَّ الظروف لا تحتمل حربًا وقتها ، فلا يُكابر أو يعاند ، إنما يفكِّر سريعًا ، وينفِّذ سريعًا ، ويُرِيح الجميع بقراره الحاسم ..

والأمثلة هنا أكثر من أن تُحْصَى ، بل هي كلُّ حياته ، والتفصيلات في الصفحات القادمة عند الحديث عن خطواته في حكمه وجهاده ستبيِّن لنا ذلك بوضوح .

ثامنًا : حسن السياسة

وَصَفَ إبنُ الأثير عماد الدين زنكي بأنه كان عظيم السياسة ، والسياسة كما عرَّفها إبن عقيل رحمه الله أنها : "ما كانت فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإنْ لم يضعه الرسول ولا نزل به وَحْيٌ " ..

وهذا هو التعريف الذي يعتمده إبن القيم رحمه الله ، ومفهوم طبعًا أنها لا تعني خروجًا عن الشرع ، ولكنها تعني إبتكار الوسائل المناسبة للعصر وللظروف لإصلاح حياة الناس وإبعادهم عن الفساد .

أمَّا السياسة في التعريفات المعاصرة فهي كما جاءت في معجم روبير : " فنُّ إدارة المجتمعات الإنسانيَّة ".. وكما جاءت في المعجم القانوني : " أصول أو فنُّ إدارة الشئون العامَّة" .
وسواء إعتمدنا التعريفات الإسلاميَّة الأصوليَّة ، أو التعريفات القانونيَّة الحديثة فإنَّ عماد الدين زنكي قد بلغ الغاية في السياسة بكل تعريفاتها .

لقد عاش عماد الدين زنكي في زمان مُلِئَ بالتقلُّبات والأحداث ، وتعامل مع شتَّى أنواع البشر ، ومختلَف الزعامات والقيادات، فكان حكيمًا في كل تصرفاته ، سياسيًّا في كل عَلاقاته ، وكان نادرًا ما يفقد إنسانًا ، أو يقطع عَلاقاته بأمير ، وكانت له من الأفكار السديدة ما يفلح به في إدارة المجتمعات الإنسانيَّة مهما كانت معقَّدة .

كان يُدرك رحمه الله مراكز القوى ، ويُقَدِّر قوَّة الخصوم بعناية ، وكان لا ينخدع بالألفاظ ولا بالألقاب ، وعَلِمَ من أوَّل أيَّامه أنَّ سلاطين السلاجقة أقوى بكثير من الخلفاء ؛ ولذلك جعل ولاءه واضحًا لهم ، لكنه لم يغفل حسن معاملة الخلفاء والتقرُّب إليهم ، لكن عند حدوث صدام حتميٍّ بين السلاطين والخلفاء ، كان يقف إلى جوار السلاطين لوضوح الرؤية عنده .

وعندما ضعف أمر السلاطين ، وصار عماد الدين زنكي هو القوة العظمى في الأُمَّة الإسلاميَّة ، لم يُعلن ذلك ليتجنَّب حدوث فتن ومكائد ، ولكنه أعلن أنه يحكم باسم ألب أرسلان السلجوقي ، مع أنه لم يكن لألب أرسلان أيُّ وزن إلى جوار عماد الدين زنكي ، ولكنه حُسْنُ السياسة الذي سكَّن جوارح ألب أرسلان والسلاجقة من ورائه ، وسكَّن جوارح العامَّة .

وكان له رحمه الله من الأساليب الذكيَّة التي يُفَرِّق بها بين الأحزاب المتحالفة ضدَّه ، وما أروع ما فعله لفكِّ تحالف الصليبيين مع البيزنطيين ، وكذلك لفكِّ التحالفات الإسلاميَّة ضدَّه ! وكلُّها أساليبُ يصلح أن تدرَّس في فنِّ السياسة .

وكانت له سياسته الخاصَّة في تحقيق النصر ، وإسقاط القلاع ، وفتح البلاد بأقلِّ خسارة ممكنة ، وكان بعضهم يتَّهمه بالغدر عند بعض المواقف ، لكنه كان يعتمد مبدأ "الحرب خدعة" ، وهو منهج نبويٌّ حكيم ، فكان يتجنَّب به الدخول في أزمات هائلة ، وسنأتي في تفاصيل قصَّته على بعض المواقف التي أخذوها عليه ، وتبرير فعله في هذه المواقف ..

وكان يُقَدِّر الشخصيات المعادية له ، ويحاول الإستفادة منها حتى لو كانت فاسدة وما أحكم ما فعله مع جاولي - وهو الأمير الذي كان يطمع في الولاية بعد مقتل آق سنقر البرسقي ، فذهبت الولاية إلى عماد الدين زنكي - إذ أقطعه عماد الدين زنكي إقليم الرحبة في حلب ! ولم يُقْصِه عن كلِّ شيء ؛ وبذلك تجنَّب أذاه، وأراح قلبه ، وإستفاد من طاقاته وقدراته .

بل فعل أكثر من ذلك مع دُبَيْس بن صدقة ، وهو زعيم قبيلة بني مزيد ، وكان شيعيًّا اثني عشريًّا ، وكان فاسدًا ، أظهر الفوضى والإضطراب في بغداد ، وحاول أن يخلع الخليفة ، وكان متعاونًا مع الصليبيين ، وكان شخصيَّة مكروهة بكل المقاييس ، ومع ذلك إستنقذه من أَسْرِهِ بدمشق ، ورفض تسليمه للخليفة ، بل إستخدمه وولاَّه بعض الإقطاعات ، وكان يهدف إلى إستخدامه في السيطرة على قبيلته الكبيرة بني مزيد ، وكان يستفيد أيضًا من عَلاقاته ومخابراته ، ولقد أرشد دبيسُ بن صدقة عماد الدين زنكي ذات مرَّة إلى مؤامرةٍ كان يحيكها له السلطان السلجوقي مسعود ، فعرف السلطان أن دبيسَ بن صدقة هو السبب في كشف المؤامرة فأمر بقتله فقُتِلَ ، فعندها قال عماد الدين زنكي : "فديناه بالمال (أي من الأسر) ، ففدانا بالرُّوح !" .

وكان يقرأُ أطماع مَن يحالفونه من القادة ، فيُريح بالهم ، ويعطيهم ما يريدون ؛ فيضمن بذلك ولاءهم وطاعتهم ، وإن كانت العَلاقات بينهم متوتِّرة وغير طبيعيَّة .

وكان يُحسن سياسة جنده ويُتْقِن سياسة الترغيب والترهيب ؛ فبينما كان يضاعِف لهم رواتبهم ، ويتعامل معهم بالرأفة والمودَّة كان عقابه صارمًا ، ولا يقبل تهاونًا أبدًا في أداء الوظيفة ، ولقد سمع مرَّة أنَّ أحد قوَّاده تعرَّض للنساء ، بينما كان عماد الدين زنكي وجنوده في سفر بعيد ، فأرسل فورًا مَنْ يعزله من منصبه ، ويجرِّده من كل ممتلكاته ، بل لمَّا عَلِمَ أنَّ الأمر تجاوز التعرُّض إلى التحرُّش الصريح أمر بقتله ، ثم قال كلمته الصارمة : " إن جنودي لا يفارقوني في أسفاري ، وقلَّما يُقيمون عند أهليهم ، فإنْ نحن لم نمنع مِن التعرُّض إلى حُرُمهم هلكْنَ وفسدْنَ " .. وبعدَ هذا العقاب الرادع لم يتجاسر أحدٌ على التعرُّض للنساء طيلة حكم عماد الدين زنكي رحمه الله .

ففي هذا الموقف نَرَاه قد جذب قلوب الجنود إليه من ناحية بعد أن أظهر حرصه الشديد على نسائهم ، وعَزَلَ قائدًا من أجلهم ، وفي نفس الوقت أظهر الردع المناسب لمن يخالف الأوامر ، ويتعدَّى على حدود الشرع ، ويأتي بالأفعال المنكرة القبيحة .

والحديث عن سياسة زنكي حديث لا ينقطع ، فقد إستطاع بتوفيق من الله أنْ يتعامل مع ظروف قاسية كأفضل ما يكون التعامل ، فصار بلا جدال من أعظم السياسيين في تاريخ الأُمَّة .

تاسعًا : كان عارفًا بالرجال

وهذه ملكة فريدة عزيزة يفتقر إليها كثير من الزعماء ، أمَّا عماد الدين زنكي رحمه الله فكان متميِّزًا فيها أشدَّ التميُّز ، فقد كان يمتلك القدرة على تقييم الناس ، فيعرف أصحاب المعادن الطيِّبة والمواهب النادرة فيقرِّبهم ، ويعرف خبثاء النفس ضِعاف القدرات فيُقصيهم ، ومن هنا فقد إلتفَّتْ حوله بطانة صالحة كان لها أشدُّ الأثر في تقوية مُلْكه ، وتثبيت حكمه .

ويكفي أنه اختار من رجاله جمال الدين الأصفهاني رحمه الله فأقطعه نصيبين ، وكان من أعظم علماء المسلمين ، وكان كريمًا واسع الكرم حتى لُقِّبَ بالجواد ، وكان إذا مرَّت بالناس ضائقة أنفق من جيبه الخاصِّ حتى يرفع الله الأزمة ، وكان من أعظم الناصحين ، وأوفى الأوفياء ؛ بل إنه لم يحفظ عماد الدين زنكي فقط ، بل حَفِظ أولاده من بعده ، وكان من أشدِّ الناس مساعدة لهم وفاءً لأبيهم .

وكان من رجاله أيضًا نصير الدين جقر ، وكان سياسيًّا عبقريًّا ، وعسكريًّا ماهرًا ، وكان نائبه على الموصل ، وكان الرجلَ المناسب حقًّا في المكان المناسب ، فقد كانت الموصل تموج بالفتن ، عند ولاية عماد الدين زنكي ، فضبط نصير الدين جقر الأمور ، ونظَّم حركة الأموال ، وحفظ الأمن ، وحصَّن المدينة ، وكان وفيًّا تمام الوفاء لعماد الدين زنكي ، وعرَّض نفسه لمخاطر كثيرة ليحفظ مُلْكَ عماد الدين ، حتى وصل الأمر إلى أنْ صَبَرَ على حصار الخليفة للمدينة ثلاثة أشهر كاملة ، فلم يُسَلِّم له ، مع أن الخليفة لو أسقط المدينة لكان مصير نصير الدين هو القتل ، بل إن نصير الدين دفع حياته ثمنًا لوفائه ، فقد دُبِّرت له مؤامرة قُتل فيها ؛ ليحاول المتمرِّدون السيطرة على الموصل ، لولا أن الله قيَّض آخرين لحفظ الحُكم لعماد الدين زنكي .

وأمَّا ما يتناوله بعض الناس عن ظلم نصير الدين جقر أو سفكه للدماء فهو تحليل لا يَنْظُر إلى الظروف التي كانت بالمدينة ، والأخطار التي أحدقت بها ، وليس إتخاذ التدابير لحفظ الأمن ظلمًا ، وليس القصاصُ من القتلة ومثيري الفتن سفكًا للدماء ، وقد ذكر إبن القلانسي في كتابه "ذيل تاريخ دمشق" في حقِّ نصير الدين جقر أنه كانت له أخبار في العدل والإنصاف ، وتجنّب الجور والإعتساف ، وذكر كلامًا كثيرًا يدور كله حول نفس المعنى ، ومن ثَمَّ فهو يستنتج في النهاية أن سلوك نصير الدين جقر محمودٌ من ولاة الأمور ، وأن قصده كان سديدًا في سياسة الجمهور .

وإستوزر عماد الدين زنكي أيضًا ضياءَ الدين أبا سعيد إبن الكَفَرْتُوثيّ ، وكان كما وصفه المؤرِّخون حَسَنَ الطريقة ، جميل العقل ، كريم النفس ، مرضيَّ السياسة ، مشهورًا بالنفاسة والرئاسة .

وكان زين الدين عليّ كجك بن بكتكين من أبرز رجال عماد الدين ، وإنظر إلى كلام إبن الأثير عنه ، إذ يقول : " كان زين الدين رجلاً صالحًا ، وكان معروفًا بالقوَّة والشجاعة والإقدام ، رءوفًا بالفقراء ، مواسيًا للمرضى ، إشتهر بالمحافظة على حسن العهد ، وأداء الأمانة ، ولم يمارس غدرًا قطُّ " .

وهذا قليل من كثير ، ولا يتَّسع المقام لذكر كلِّ نوَّاب عماد الدين زنكي وقوَّاده ووزرائه ، فهذه هي حكومته ، وهذه هي بطانته، وهؤلاء هم رجاله .

ولم يكن عماد الدين زنكي يُهْدِر الفرص ، بل كان يلتقط الرجال الأفاضل في حكمة بالغة ، ويستفيد من قدراتهم في مهارة فائقة ، ومن أمثلة ذلك أنه سمع بهرب أحد القادة من دمشق ، وكانت دمشق معادية على طول الخطِّ لعماد الدين زنكي ، وكان هذا القائد هو سوار بن أبتكين ، وقد سمع عماد الدين زنكي عن كفاءته ومهارته ، فإستقدمه وقرَّبه ولم يُقلِّل من شأنه وهو محتاج ، بل أكرمه وشرَّفه ، وأجرى له الإقطاعات الكثيرة ، بل أعطاه ولاية حلب وما يلحق بها من أعمال ، وإعتمد عليه في قتال الصليبيين ، وكانت لسوار بن أبتكين بصيرة بالحرب وتدبير الأمور ، وهكذا أسدى سوار خدمات جليلة لعماد الدين زنكي في أكثر من موقعة عسكريَّة ، وفي الدفاع عن حلب ، وقد إستمرَّ سوار في منصبه منذ قدومه من دمشق سنة 524هـ إلى مقتل عماد الدين سنة 541هـ ، أي سبعةَ عشَرَ عامًا كاملة .

وكان عماد الدين زنكي يُحْسن تقييم الرجال ، وبالتالي يُقَدِّر ما يصلح لمعاشهم ورواتبهم ، وقد كان يُعطي كمال الدين الشهْرُزُورِيّ عشَرَة آلاف دينار في السنة ، وهذا مبلغ هائل ، فقيل له : إن هذا كمال الدين يحصل له في كلِّ سنة ما يزيد على عشرة آلاف دينار ، وغيره يقنع منه بخمسمائة دينار .. فقال عماد الدين زنكي : بهذا العقل والرأي تُدَبِّرون دولتي ، إن كمال الدين يَقِلُّ له هذا القدر ، وغيره يكثر له خمسمائة دينار ، وإنَّ شغلاً واحدًا يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار .

وكان عماد الدين زنكي رحمه الله إذا تردَّد في أمر إنسان إختبره ؛ ليرى إن كان يصلح للقيادة ولحفظ الأمانة أم لا ، ومن ألطف ما يُحكى في هذا المضمار ما فعله عماد الدين زنكي مع مسئول ملابسه (طشت دار) ، إذ أراد أن يختبر أمانته وحُسن تصرُّفه ودرجة إهتمامه ، فأعطاه كعكة بالفستق واللوز فأمره أنْ يحتفظ بها حتى يطلبها منه ، وبعد سنة كاملة أرسل إلى الرجل وطلب كعكته ، فأخرجها الرجل من منديل كان معه ، وكان قد حفظها من الفساد بصورة من الصور ، فسُرَّ بذلك عماد الدين زنكي ، وعيَّن الرجل قائدًا لقلعة كَوَاشَى ، وهي إحدى قلاع الموصل .

فانظر إلى عماد الدين زنكي كيف كان يُدَبِّر شئون دولته ، واعلم أن هذه ملكات وقدرات قلَّ أن يوجد مثلها .

عاشرًا : الكفاءة الإدارية الفائقة

وهذه خاصية لا بد منها إلى جوار إختيار الرجال وحسن السياسة ، فالقائد قد يحسن إختيار أعدائه ، وقد يحسن أيضًا سياستهم فيجذب قلوبهم إليه ، ويضمن طاعتهم لأوامره ، لكنه قد يفشل في تنظيم حركة العمل بحيث يحقق أكبر نفع بأقل مجهود وأقل خسارة ، وبحيث يُنشِئ نظامًا محكمًا لا يتأثر بظروف طارئة أو أحوال عابرة .

ولقد كان عماد الدين زنكي رحمه الله إداريًّا من الطراز الأول ؛ فمع أن عماد الدين زنكي كان يؤمن بمركزية القرار والحكم ، إلا أنه كان يطبِّق هذا المبدأ في الأمور المصيرية المتعلقة بمستقبل الدولة ككل ، أما في أعمال الوزارات والإمارات والدواوين فكان يُعطِي صلاحيات كبيرة لنوَّابه ، وكان يفوضهم في أخذ القرار وتنفيذه ، وكان يوليهم ثقة كبيرة تدفعهم إلى الإبتكار والإبداع ، وكان قليل اللوم لهم ؛ مما دفعهم إلى الإحساس بالمسئولية ، وأشعرهم أن البلد بلدهم ، ومن ثَمَّ أفنوا حياتهم في سبيل الرقي بدولتهم ، وكان عماد الدين زنكي قليل التغيير لإدارته وعمَّاله ؛ فشعر الجميع بالإستقرار والأمن والإطمئنان ، ومن ثَمَّ إستقرت الأعمال وأحوال الناس .

وكان يهتم جدًّا بجمع المعلومات ، وكان له نوَّاب وعيون في كل مكان حتى في الإمارات المجاورة له ، فكانت لا تفوته صغيرة ولا كبيرة ؛ لذلك كان قليلاً ما يُفاجَأ في حياته بأمر بعد فوات الأوان ، بل كان دائمًا يعلم الأمور قبل تفاقمها ، ومن ثَمَّ كان يحسن التصرف فيها .

ولدقة عيونه وجهاز إستخباراته فإنه كان يستحيل على ملك أو أمير أن يعبر من أراضيه الواسعة دون علمه ، مع أن الحدود لم تكن واضحة كأيامنا الآن ، ولم يكن رسول يجرؤ على إجتياز مملكته دون إذنه ، وكان يرسل مع الرسول فرقة ترافقه من لحظة دخوله إلى لحظة خروجه ؛ لكي لا يُعطِي الرسول فرصة للتجول في البلاد ؛ فينقل أخبارًا قد تكون خطيرة .

وكان يوزِّع أمواله وأموال الدولة في الموصل وحلب وسنجار ، ولا يجعل خزينة الدولة في مكان مركزي واحد ، وكان يقول : " إن جرى على بعض هذه الجهات فتقٌ ، أو حيل بيني وبينه ، إستعنت على سدِّ الخرق بالمال في غيره " .

وكان يهتم إهتمامًا واسعًا بسهولة الإتصالات ، وبسلامة الطرق وأمنها ، وبجهاز البريد ، وكان يدرك تمام الإدراك أن سرعة وصول المعلومة قد تحفظ بلدًا ، أو تكسب معركة ..

وكان يهتم بالتخصص في المهنة ، فلا يضع عسكريًّا في منصب إداري ، ولا يضع عالمًا في منصب عسكري أو نحو ذلك ، وكان إذا إستقدم كفاءة من خارج البلد فإنه يرسله إلى أهل التخصص يعلمونه أحوال البلد والناس قبل أن يتولى المنصب ، فإن كان جنديًّا أو عسكريًّا قصد الأجناد فعرف النظام العسكري المتبع وأصوله ، وإن كان صاحب ديوان قصد أهل الديوان ، وإن كان عالمًا قصد القضاة ، وهكذا تقدَّم للغريب كل معونة وخدمة ، حتى يقول أبو شامة في وصف ذلك : " فيعود كأنه أهل! " ، أي يعود الغريب بعد هذا التدريب والإستضافة كأنه في أهله وليس غريبًا .. ولا يخفى علينا كيف يكون الإنتاج غزيرًا عند هذا الغريب ، سواء كان عسكريًّا أو موظفًا أو عالمًا ، خاصةً أن الرواتب في عهد عماد الدين زنكي كانت مجزية جدًّا .

وكان عماد الدين زنكي أيضًا يضع دائمًا الخطة البديلة ، ويفترض أسوأ الإحتمالات ، ويأخذ حذره منها ؛ ولقد سيطر على قرية البوازيج قرب تكريت وحصنها ، وذلك قبل أن يدخل الموصل خوفًا من عصيان الموصل عليه ، فجعل لنفسه مكانًا يأوي إليه في هذه الحالة ، مع أن إحتمالية عصيان الموصل كانت بعيدة !

ثم أخيرًا كان عماد الدين زنكي رحمه الله يحترم تمامًا السلم الإداري ، ويرفض أن يتجاوز مرءوس رئيسه المباشر إلى الرئيس الأعلى ، وهذا سيحقق فوائد كثيرة ؛ منها حفظ الهيبة للرئيس المباشر ، ومنها سلامة العمل ودقته ؛ لأن الرئيس المباشر قد يمتلك من المعلومات ما لا يمتلك الرئيس الأعلى ، ومنها حفظ وقت الرئيس الأعلى بدلاً من أن يخوض في كل القضايا ، ومنها عدم الإعتماد على شخصية واحدة ، بل نضمن سهولة سريان العمل وسلاسته حتى في غياب الرئيس الأعلى .

ومما يُروى في ذلك أن عماد الدين زنكي رأى ذات يوم مجموعة من حرسه الخاص يجتمعون ويقفون في مكان بحيث يراهم عماد الدين زنكي ، فعلم أنهم يريدون أن يشكوا إليه أمرًا ، فأرسل إليهم ، فقالوا أن رواتبهم قد تأخرت عن موعدها ، فقال : أشكوتم إلى الديوان ؟ قالوا : لا , قال : فهل ذكرتم حالكم لأمير حاجب (وهو بمنزلة قائد الحرس الملكي)؟ فقالوا : لا , قال: فلأيِّ شيء أُعطي الديوان مائة ألف دينار ، وأعطي الأمير حاجب أكثر من ذلك ، إذا كنت أنا أتولى الأمور صغيرها وكبيرها ؟! كان عليكم أن تشكوا حالكم إلى الديوان ، فإن أهملوا أمركم قلتم للأمير حاجب ، فإن أهمل أمركم شكوتم الجميع إليَّ ؛ حتي أعاقبهم علي إهمالهم ، وأما الآن فالذنب عليكم !!

وكاد عماد الدين زنكي يعاقبهم لتجاوزهم السلم الإداري ، لولا شفاعة أحد الأمراء لهم ، ولكنه في نفس الوقت ما أهمل القضية ، بل أرسل إلى الديوان وأمير حاجب وقال لهم : إذا كنتم تهملون أمر جندي الذين تحت ركابي ، ومن هو ملازمي في سفري وإقامتي ، وبهم من الحاجة إلى النفقات في أسفارهم ما تعلمونه ، فكيف يكون حال من بَعُد عنِّي ؟!

وشعر الديوان وأمير حاجب بخطورة الموقف ، وكانت رواتب الجند لم تصل بعدُ من الخزينة العامة ، فأعطى أمير حاجب الجند رواتبهم من ماله الخاص لحين قدوم الرواتب من الخزينة !

ويعلِّق إبن الأثير على هذا الموقف الإداري الفذِّ من عماد الدين زنكي فيقول : " بهذا الإجراء أصلح عماد الدين زنكي الجند لطاعة الديوان ، وأصلح الديوان للنظر في مصالح الجند ، وعظَّم نفسه عن أن يخاطَب في هذا الأمر الحقير" .

رحم الله عماد الدين زنكي ، فقد كان أمَّةً وحده ! وقد إختاره الله في هذا التوقيت ليعيد للأمة هيبتها ، ويعلي رايتها ، ويعز شأنها ، فكان بحقٍّ "رجل المرحلة".

=====
يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- عماد الدين زنكي وبناء الأمة

ذهب عماد الدين زنكي لتولي منصبه الخطير ، وهو إمارة الموصل ، وليس وجه أهمية المنصب في كونه يشرف على واحدة من أهم وأوسع وأثرى الإمارات الإسلامية في ذلك الوقت، وليس فقط للأهمية الإستراتيجية لهذه الإمارة الواقعة في وسط مثلث مهم جدًّا ؛ حيث إنها فاصلة بين العراق والخلافة العباسية ، وفارس ومركز السلاجقة العظام ، والشام بما فيها من أحداث ساخنة ، ليس لهذه الأمور فقط ترجع أهمية الموصل ، ولكن في الأساس لكونها أصبحت الإمارة التي يعلق عليها المسلمون آمالهم في تخليصهم من الكابوس المفزع المتمثل في الإحتلال الصليبي .


كانت المهمة إذن خطيرة جدًّا ، والمعوقات لنجاح العمل كثيرة ، ولا بد لمن يتولى هذا المنصب أن يكون على دراية تامة بأحوال الواقع الإسلامي ، وعلى علم غزير بأمور الجهاد والإدارة والسياسة ، وعلى قدرة تامة للتعامل مع كل المفاجآت والأحداث ، وقد كان عماد الدين زنكي هذا الرجل المطلوب !


بدأ عماد الدين زنكي - وقبل وصوله إلى الموصل - ينظر نظرة شمولية للأحداث وللظروف ، وكأني به قد نظر إلى المنطقة بمنظار درجته ثلاثمائة وستون درجة ، وكأنه بهذه الصورة قد رأى كل صغيرة وكبيرة في المنطقة ! فتعالوا نفكر مع عماد الدين زنكي في الوضع الجديد ، ونرى كيف يمكن أن تكون رؤيته ؟ وما هي أولوياته ؟ وكيف ستكون خطواته ؟! وما هي موازين القوى الموجودة في المنطقة في ذلك الوقت ؟ ..


أولاً : أقوى شخصيات العالم الإسلامي الآن هو السلطان السلجوقي محمود ، ومقرُّه في أصفهان ، وله الهيمنة على مناطق كثيرة أهمها إيران والعراق بما فيها بغداد والموصل ، كما أن له السيطرة كذلك على حلب ، ومن ثَمَّ فولاء عماد الدين زنكي سيكون بوضوح له ، فوق أنه هو الذي ولَّى عماد الدين زنكي أصلاً ولاية الموصل , وكان السلطان محمود عند ولاية عماد الدين زنكي يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا ، وكان عاقلاً حليمًا كريمًا عفيفًا، وإن لم يكن على نفس الخبرة والكفاءة التي كان يتمتع بها أبوه السلطان محمد أو أجداده .

ثانيًا : الخليفة العباسي آنذاك هو المسترشد بالله ، ولو ظهر هذا الخليفة في زمان قوة الدولة العباسية لكان له شأن ، لكنه ظهر والدولة العباسية في غاية الضعف ، وتقع تحت الهيمنة السلجوقية تمامًا ، وكانت تراود هذا الخليفة الطموحات بالإستقلال ، ومرَّ بنا كيف أنه إصطدم قبل ولاية عماد الدين زنكي بشهور قليلة مع السلطان محمود ، إلا أن السلطان محمود إنتصر ، وإعتذر الخليفة له ، فهذا - لا شك - سيؤثر في علاقة عماد الدين زنكي بالخليفة ؛ فعماد الدين زنكي وإن كان لا يريد خصامًا أو شقاقًا مع أحد إلا أن أولوياته في هذه المرحلة ستكون موجَّهة للسلطان محمود أولاً ، ثم الخليفة أو غيره من بعده ، ثم إن عليه أن يعلم أن الخليفة قد يؤذيه في يوم ما ؛ لأنه يعلم إرتباط عماد الدين زنكي بالسلطان محمود .

ثالثًا : إمارة الموصل الآن تموج بالفتن ، والوضع الأمني فيها في غاية الإضطراب ، ومنذ عام واحد قُتل آق سنقر البرسقي أمير المدينة بسهولة ، وذلك على يد الباطنية ، فهذا الإنفلات الأمني أدى إلى نتائج خطيرة ؛ حيث إضطربت حركة التجارة ، وساد المفسدون ، وخشي الناس على حركتهم وأموالهم ، ومن ثَمَّ فقدوم عماد الدين زنكي على البلد ليس آمنًا .

رابعًا : من موازين القوى المهمَّة التي لا ينظر إليها كثير من المحلِّلين هو الشعب في المدينة المعيَّنة أو الدولة المعيَّنة ، وشعب الموصل - كما سبق وتحدَّثنا عنه - كان شعبًا محبًّا للعلم راغبًا في الجهاد ، ومن ثَمَّ فهو يصلح أن يكون نواةً جيدة لدولة قويَّة ، كما تصلح الموصل بشعبها أن تكون عاصمة لحكم عماد الدين زنكي ، حتى لو كانت أوضاعها الأمنية منفلتة الآن ، وهذه نقطة مهمَّة ؛ لأن إختيار العاصمة نقطة محورية في ذهن عماد الدين زنكي ، خاصَّة أن حلب تُعَدُّ هي الأخرى بديلاً مطروحًا لأمورٍ كثيرة سنعرض لها في النقطة القادمة .

خامسًا : الوضع في حلب

حلب مدينة في غاية الأهميَّة ؛ فهي مدينة تتمتع بحصانة عسكرية عالية ، كما أنها تقع على خطوط المواصلات بين العراق والشام ، وهي قريبة جدًّا من معاقل الصليبيين ، وأهمها الرها في الشمال وأنطاكية في الغرب ، ولها أهمية إقتصادية عالية ، كما أن كثافتها السكانيَّة كبيرة ..


كل هذه العوامل جعلت عماد الدين زنكي يعتقد تمام الإعتقاد أن هذه المدينة مهمَّة جدًّا في المنطقة ، إضافةً إلى أن أهل حلب ما زالوا يتذكَّرون حاكمهم القديم "قسيم الدولة آق سنقر الحاجب" والد عماد الدين زنكي بكلِّ خير ، ولا شكَّ أن هذا سيجعل قاعدة شعبيَّة عريضة لعماد الدين زنكي .


لكن في ذات الوقت فطبيعة الشعب في حلب مختلفة عن الموصل ، فالشعب هناك عانى من سوء التربية وفساد الحكم عشرات السنين ، وذلك منذ أيام تتش بن ألب أرسلان وإبنه رضوان ، وهذا الشعب وإن كان فيه خيرٌ - إن شاء الله - إلاَّ أنه لا يصلح في هذه المرحلة أن يكون نواة للحركة الجهاديَّة ضد الصليبيين ، هذا إضافةً إلى أن المدينة قريبة جدًّا من معاقل الصليبيين ؛ ولذا فتَمَرْكُز الحكم فيها أمر خطير ؛ ولذا ففي ذهن عماد الدين زنكي أن أهميَّة الموصل تعلو فوق أهميَّة حلب ، ولكل منهما دور في خططه وبرامجه .


أمَّا الوضع السياسي الآن في حلب فهو مضطرب جدًّا ؛ لأنه بعد وفاة عز الدين مسعود بن آق سنقر البرسقي ظهر فيهم أحد التركمان وإسمه قتلغ أبه ، وسيطر على الحكم ، ووضع في صورة الحكم إبراهيم بن رضوان بن تتش ، وكان إبراهيم هذا فاسدًا كأبيه ، وكان قتلغ آبه أفسد منه ، فبدأت المدينة تعيش حالة من الظلم والجور ، وبدأ الذعر ينتشر هنا وهناك ، وطمع الجميع في المدينة ، وخاصَّة جوسلين دي كورتناي أمير الرها ، وريموند دي بواتييه أمير أنطاكية ..


ثم لجأ أهل المدينة إلى شخصيَّة جديدة لعلَّها تنقذهم من ظلم قتلغ أبه ، وهو سليمان بن عبد الجبار الأرتقي ، ولكنه كان ضعيفًا ، ومن ثَمَّ قامت مؤامرات وفتن ، ولم يستقرّ الوضع على حال ، والصليبيون على الأبواب ..


سادسًا : من مراكز القوى الموجودة أيضًا في ذلك الوقت الأمير جاولي ، الذي أعلن الوصاية على إبن آق سنقر البرسقي الصغير ، وكان طامعًا في الحكم ، ورأينا أنه أرسل بهاء الدين الشهرزوري وصلاح الدين الياغيسياني لكي يُقنعا السلطان محمود بإعطائه الولاية ولكن جَرَت الريح بما لا تشتهي السفن ، ووصلت الإمارة إلى عماد الدين زنكي ، فماذا سيفعل جاولي ، وهو الآن بالموصل ومعه جيش الموصل الذي كان تحت إمرة عز الدين مسعود قبل وفاته ؟

سابعًا : دمشق وبقية بلاد الشام

في كل قصتنا من أولها إلى هذه اللحظة كانت دمشق تمثِّل مشكلة عويصة للحركة الجهادية ! فدمشق هي المدينة الرئيسية في منطقة الشام بكاملها ، بل إن الأهالي في هذه المناطق لو قالوا : الشام، فإن كثيرًا ما يقصدون دمشق فقط ! لكن - للأسف - هذه المدينة بكل مقدراتها البشرية والإقتصادية والإستراتيجية والعسكرية ، وبالتاريخ الإسلامي الطويل لم تكن على المستوى المطلوب إسلاميًّا في هذه الفترة ، بل على العكس كانت حجر عثرة في المشروع الجهادي فترةً طويلة من الزمن !


وأصل المشكلة كما تعرضنا لها قبل ذلك الفترات الطويلة التي مرت على المدينة وهي محكومة بالفاسدين والظالمين وأصحاب البدع ، حتى خرج علينا بالتدريج جيلٌ لا يوقر العلم ولا يحب الجهاد ، ولا يعرف من الدين إلا بعض القشور ، بل وتتحول عنده البدع إلى أصول !!


لقد حكمت دمشق كما ذكرنا قبل ذلك من سنة 358هـ\ 968م إلى سنة 468هـ\ 1075م بالدولة العبيدية ، وفي هذه الفترة الطويلة تغيرت المناهج التربوية والتعليمية والحياتية بشكلٍ كبير ، أدى إلى حدوث خلل بيِّن في الشعب هناك ، وضاعت الكثير من المبادئ والقيم ، وفَقَد عقلاء المدينة الرؤية الصائبة ، ومن ثَمَّ هجرها علماؤها ، ودخلت فترة من الظلام الدامس !


وحتى بعد تحرير المدينة من العبيديين فإنها مرت بفترات عصيبة تحت الحكم العسكري لأحد قواد السلاجقة وهو أتسز (الأقسيس) ، ثم تتش بن ألب أرسلان ، ثم دقاق بن تتش ، وأخيرًا طغتكين التركماني ..


ومع أن الحكم الآن في يد طغتكين إلا أنه لم يكن بالشخصية الجهادية الصرفة ، ومن ثَمَّ فقد يمثل حجر عثرة أمام أحلام عماد الدين زنكي الجهادية .


أضف إلى كل ذلك تغلغل النفوذ الباطني في الشام ، وخاصةً في دمشق وما حولها من قرى وقلاع ، وكان هذا يرهب الناس إرهابًا كبيرًا ، خاصةً أن الباطنية كانوا يتربصون بأي دعوة إصلاحية في المنطقة ، مما جعل الشعب ييأس من إحتمالية الإصلاح .


كل هذه العوامل جعلت مشكلة دمشق معقدة ، فهي ليست مشكلة حكام فقط ، إنما هي مشكلة شعب كذلك ، وهذا - ولا شك - أصعب !

أما عسكريًّا وسياسيًّا فإن الوصول إلى بيت المقدس مستحيل دون التعاون مع دمشق أو السيطرة عليها ، ونفس الكلام يقال على إمارة طرابلس ، وعلى هذا فإن كان عماد الدين زنكي يريد حلاًّ لقضية الصليبيين في طرابلس وبيت المقدس ، فلا بد أن يجد حلاًّ أولاً لقضية دمشق !

أما المدن الأخرى في الشام فكانت أضعف بكثير من دمشق ، ولكنها جميعًا كانت محورية في حرب الصليبيين ؛ لتداخل المناطق بعضها مع بعض .


وكانت حماة تحت سيطرة إمارة دمشق ، وهي مدينة تتحكم في عدة محاور ، كما أنها قريبة من أنطاكية وطرابلس .


أما حمص فكانت في ذلك الوقت إمارة مستقلة على رأسها صمصام الدولة خيرخان بن قراجا ، وهو رجل تركي إشتهر بالظلم والتعسف ، ولكنه كان قويًّا ومؤثرًا في المنطقة .


وآخر هذه الإمارات هي إمارة شيزر ، وكان يسيطر عليها سلطان بن منقذ - وهو من الأمراء العرب - الذي سيطر على هذه الإمارة فترة طويلة من الزمن ، على الرغم من صغر إمارته وضعفها وخطورة موقعها ؛ حيث إنها قريبة جدًّا من أنطاكية ..


ثامنًا : منطقة الجزيرة وما حولها

وهذه المنطقة في غاية الخطورة ، وهي المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات من ناحية الشمال ، وهي تضم الآن أجزاء من العراق وسوريا وتركيا ، وهي المنطقة التي تحوي في داخلها إمارة الرها الصليبية ، وهي قريبة جدًّا من الموصل ، بل إن الموصل نفسها تُعَد إحدى مدن إقليم الجزيرة ، ومن ثَمَّ فإن هذه المنطقة من أهم المناطق التي يجب أن يفكر فيها عماد الدين زنكي .


وللأسف الشديد فإنه مع خطورة هذه المنطقة وقربها من إمارة الرها الصليبية إلا أنها كانت ممزقة بين الزعماء المختلفين ، سواء من الأراتقة أو التركمان أو العرب ، ولا نبالغ إن قلنا أن هذه المنطقة المحدودة كانت تضم عشرات الإمارات المستقلة ، وليس ذلك فقط ، بل كانت تتناحر مع بعضها البعض من أجل توسيع بقعة السيطرة !!


تاسعًا : الأكراد

وهم - كما ذكرنا - من الشعوب السُّنِّية العظيمة ، وكانوا يعيشون في الجبال الواقعة في شمال وشمال شرق الموصل ، ولكن نتيجة لوعورة المناطق هناك فقد ضعفت السيطرة الحكومية السلجوقية عليها ، وقلَّ وجود العلماء هناك ، فإنعدم الأمن وساد الجهل ، وصارت هذه المناطق مصدر إزعاج وقلق للمدن المجاورة .. وكانت الأكراد مقسَّمة إلى قبائل كثيرة ، وكل قبيلة مستقلة إستقلالاً كاملاً ، وليس هناك ما يمكن أن يسمَّى دولة كردية ، ولعل أشهر القبائل في هذه المنطقة في ذلك الوقت هي قبائل الأكراد الحميدية والهكارية والمهرانية واليشنوية ..


عاشرًا : الصليبيون

بعد كل هذه الهموم والمشاكل التي في المنطقة يبقى هناك الهم الأكبر ، والعبء الأعظم المتمثل في الكيان الصليبي المستقر في أربعة تجمعات رئيسية ، وهي الرها وأنطاكية وطرابلس وبيت المقدس .


وفي ظل الإضطرابات التي حدثت في الموصل بعد مقتل آق سنقر البرسقي سنة (520هـ) 1126م ، فإن الإمارات الصليبية إستقرت بصورة أكبر ، بل وبدأت تتعرض للقوافل المارة بجوارها ، وبدأت في فرض الإتاوات على المدن القريبة ؛ مما أحدث نوعًا من الفزع والرعب عند عامة سكان المنطقة، خاصةً أن الزعماء الضعفاء الذين كانوا يسيطرون على المدن الإسلامية كانوا لا يرغبون ، ولا يفكرون أصلاً في أي صدام مع الصليبيين ..


أما من ناحية الزعامات الصليبية فقد إستقرت أوضاعهم إلى حدٍّ كبير ، وكانت الرها تحت حكم جوسلين دي كورتناي ، وأنطاكية تحت حكم بوهيموند الثاني ، وطرابلس تحت حكم بونز بن برترام ، وبيت المقدس تحت حكم بلدوين الثاني .


ولا شك أن أخطر هذه الإمارات بالنسبة لعماد الدين زنكي هي إمارة الرها المزروعة كالإسفين بين الموصل وحلب !


إذن كانت هذه الصورة في ذهن عماد الدين زنكي ، وهي صورة معقدة ، فيها عشرات بل مئات المشاكل ، ولن يستطيع الخروج من هذه الأزمة المركبة إلا بيقين صادق في الله ، ثم رؤية واضحة ، وحسن ترتيب للأولويات ، وسياسة ماهرة في التعامل مع كل هذه التنوعات البشرية ، وحكمة بالغة في تغيير المنكر وإصلاح الفساد .


لقد كانت الرؤية في تمام الوضوح في ذهن عماد الدين زنكي من أول يومٍ تولى فيه الحكم ؛ لقد كانت قضيته بوضوح هي "تحرير العالم الإسلامي من الصليبيين" ، ولكن هذه مهمة شاقة وعسيرة ، وتحتاج إلى منهج واضح في التعامل ، ولقد كان منهج عماد الدين زنكي في ذلك يتركز في نقطتين رئيسيتين ظلتا الشغل الشاغل له طيلة حياته ؛ وهاتان النقطتان هما : توحيد المسلمين ، والجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين !


لقد أدرك عماد الدين زنكي من اليوم الأول أن حالة الفرقة الشنيعة التي تعاني منها الأمة الإسلامية هي السبب الرئيسي في تمكن الصليبيين من السيطرة على الأوضاع في عمق العالم الإسلامي ، ولم يكن الأمر يقف عند ضعف القوة فقط ، ولكن كان الصليبيون يضربون بعض المسلمين ببعض ، فنشأت الدويلات المتناحرة التي حفظت بقاء الصليبيين مدة أطول .


كما أدرك عماد الدين زنكي أيضًا من اليوم الأول أن الحل الوحيد لطرد الصليبيين من البلاد هو الجهاد في سبيل الله ، وأن التفاوض مع الصليبيين للموافقة على الخروج هراء لا معنى له ، خاصةً أنهم مجتمعات إستيطانية جاءوا بنسائهم وأولادهم ليستقروا ويعيشوا ، ومن ثَمَّ فقد أصبح الصليبيون يعتبرون الديار الإسلامية المنهوبة ديارهم ، وهناك أجيال كاملة ولدت وعاشت في بلاد المسلمين ، ولم تر أوربا أصلاً ، فقد مر على الوجود الصليبي حتى لحظة ولاية عماد الدين زنكي ثلاثين سنة كاملة .


وعلى هذا فخطة الجهاد في سبيل الله كانت واضحة تمامًا عند عماد الدين زنكي ، ولا بد أن يكون الجهاد في سبيل الله ، وليس في سبيل مطامع شخصية ، أو أحلام توسعية .. وهذا الجهاد له أسلوب وطريقة ، ويحتاج إلى إعداد وجهد ، وإلى طاقات وإمكانيات ، وهو ليس جهد فرد ، وإنما جهد أمة ..


هكذا كان يفكر عماد الدين زنكي ...

=====

يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- عماد الدين زنكي .. وحدة وجهاد !

تسلَّم عماد الدين زنكي منصبه الجديد ، والذي لم يكن تشريفًا على قدر ما كان تكليفًا ، فالمهمَّة صعبة ، والعبء ثقيل ، والآمال معلَّقة على هذا القائد الجديد .. وبدأ عماد الدين زنكي في ممارسة مهامه حتى قبل أنْ يصل إلى الموصل !

لقد كان متَّجِهًا من بغداد إلى الموصل ، وهو يعلم أن جاولي الذي تولى الوصاية على إبن آق سنقر البرسقي قد يرفض تسليم الموصل ويتحصَّن بها ، وقد يستقلُّ بها كما حدث من بعض الزعماء قبل ذلك ، فأراد عماد الدين زنكي أن يضع الخطَّة البديلة لمثل هذا الوضع إن حدث ، وعرف أنه لا بُدَّ له من مركز يتحرَّك منه ، وبالتالي فقد توجَّه على رأس الفرقة التي كانت معه إلى مدينة البوازيج ، وهي مدينة قرب تَكريت إلى الجنوب من الموصل ، وسيطر عليها ، وجعلها قاعدة لجيشه ، وبهذا يستطيع أن يتابع الضغط على الموصل في حال رفض جاولي أن يُسَلِّمها ، وفي نفس الوقت ستصبح البوازيج تأمينًا لحدود الموصل الجنوبيَّة في حال تسليم جاولي للمدينة ، أو سقوطها في يَدِ عماد الدين زنكي .

وبالفعل سيطر عماد الدين زنكي على البوازيج ، ثم أتبعها بضمِّ جزيرة إبن عمر ، وهي منطقة مهمَّة جدًّا تقع على مسافة خمسة كيلو مترات تقريبًا جنوب الموصل ، ولها أهمية عسكرية وإقتصادية عالية ، وكان قد إستقلَّ بها أحد مماليك البرسقي ؛ ولهذا كان لا بُدَّ من ضمِّها لتأمين جنوب الموصل ، ثم تقدَّم بطلنا صوب الموصل .

وفكر جاولي في موقفه ، فوجد أنه ضعيف ، وليس له سند من الدولة ولا من الشعب ؛ ولذلك تردَّد في منع عماد الدين زنكي من دخول المدينة ، وكان عماد الدين زنكي يقرأ أفكار جاولي ، ومن ثَمَّ عَلِمَ أنه ليست له طاقة كاملة للإستقلال بالمدينة ، إلاَّ أنه من الممكن أن يُكَلِّف عماد الدين زنكي خسائرَ في المال والأرواح والوقت إذا قاومه لفترة ؛ لذلك فكَّر عماد الدين زنكي في إستغلال جاولي لصفِّه ، فراسله من البداية ، ووعده بإعطاء إقليم الرحبة وما حوله كإقطاعية يحكمها بإسم عماد الدين زنكي ، وإقليم الرحبة من أقاليم الشام الثريَّة والقريبة من حصون الصليبيين ، وهو بذلك سيضرب أكثر من عصفور بحجر ؛ فهو سيدخل الموصل آمنًا دون قتال ، وسيستخدم جاولي في إدارة إقليم إسلامي مهمٍّ ، ويصبح بذلك من رجاله ، ثم سيستغلُّ طاقاته العسكرية في قتال الصليبيين ، وهو الهدف الرئيسي لعماد الدين زنكي ، وفوق كلِّ ذلك فإن هذا السلوك من عماد الدين زنكي سيشجِّع كل المعارضين على التعامل معه والإخلاص له ، فهو لا يتخلَّص من المنافسين له ، ولكن يُجزل لهم العطاء ، ويُوَلِّيهم في إمارته ، ولا شكَّ أن هذا سيجذب إليه القلوب .

وجد جاولي في هذا العرض السخي من عماد الدين زنكي حلاًّ لمطامحه ، وبالتالي وافق بسهولة ، ومن ثَمَّ دخل عماد الدين زنكي الموصل دون إراقة قطرة دم واحدة ، وكان هذا منهجه كلَّما إستطاع إلى ذلك سبيلاً .

بدأ عماد الدين زنكي مباشرة في ترتيب البيت الداخلي ، فعيَّن على إمارة الموصل نصير الدين جقر ، وهو بمنزلة محافظ الموصل ، وكان نصير الدين جقر شخصية حازمة قويَّة تناسب الوضع الأمني المتدهور في الموصل آنذاك ، وأوكل إليه عدَّة مهام رئيسية كان منها إستتباب الأمن الداخلي في الموصل ، وتقوية الأسوار والقلاع والخنادق ، وتقوية العلاقات مع رءوس الناس والأعيان ورؤساء القبائل ، وتنسيق الدواوين والإدارات ، وقد جعل عماد الدين زنكي ميزانيَّة ضخمة لهذه الدواوين (الوزارات) ، حتى صار العمل فيها سلسًا وسريعًا ومنظَّمًا ، كما أكَّد عماد الدين زنكي على حسن التعامل مع الجمهور حتى وصف أبو شامة المتعاملين مع هذه الدواوين بقوله : "وكأنهم في أهلهم" ..

وأوكل عماد الدين زنكي مهمَّة الجيش إلى صلاح الدين محمد الياغيسياني ، وهو أحد الرسولَيْنِ اللذين أرسلهما جاولي قبل ذلك للسلطان محمود ، وقام مع زميله بترشيح عماد الدين زنكي خلافًا لما أراده جاولي ، وقد شعر عماد الدين زنكي بمدى تجرُّد الرجل حيث ضحَّى بمنصب متوقَّع في سبيل تزكية عماد الدين زنكي ، إضافةً إلى أنه من المتمكِّنين عسكريًّا ، ومن المتميِّزين في ساحة المعارك ..

ثم أسند عماد الدين زنكي مهمَّة القضاء إلى الرسول الثاني الذي كان مرافقًا لصلاح الدين محمد الياغيسياني ، وهو بهاء الدين الشَّهْرُزُوري وقد كانت عائلة الشهرزوري بكاملها من العائلات المشهورة بالعلم عامَّة ، وبالقضاء خاصَّة ، وقد أيقن عماد الدين زنكي أيضًا بإخلاص هذا الرجل فقدَّمه على غيره ، وإعتمد عليه في إختيار مَنْ تحته من القضاة في الولايات المختلفة .

وهكذا إستقرَّ عماد الدين زنكي رحمه الله على حكومته الرئيسيَّة ؛ حيث إطمأنَّ على أهمِّ القيادات في دولته ، وهي القيادة الإداريَّة والعسكريَّة والدينيَّة .

ثم شرع عماد الدين زنكي رحمه الله في إستقدام العلماء من الأماكن المختلفة في العالم الإسلامي ، وأفسح لهم المجال لتعليم الناس دينهم ، والحديث بإستفاضة عن قضية الجهاد ، وتعبئة الشعب لهذه المهمَّة النبيلة ، وتذكير الناس بأيام الله التي إنتصر فيها المسلمون ، وإعادة الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ، وتنشئة الجيل الجديد على التضحية والبذل ، وتوجيه النيَّة لله رب العالمين وهكذا بدأ الإعلام في الدولة الجديدة يهتمُّ بقضايا أُهملت في كثير من المناهج ، وبدأت أحلام الناس وأهدافهم تتغيَّر لصالح قضية عماد الدين زنكي الرئيسيَّة ، وهي قضية إخراج الصليبيين من بلاد المسلمين .

وهكذا رتَّب عماد الدين زنكي بيته الداخلي ، وأسَّس دولة على بُنيان صُلب ، وإطمأنَّ إلى الأوضاع في داخل الموصل ، ومن ثَمَّ بدأ ينظر إلى خارجها عازمًا على توحيد الأُمَّة في كيان كبير يستطيع أن يصمد أمام الصليبيين .

ولما كان عماد الدين زنكي واقعيًّا ، وكان يُحسن تقدير قوَّته وقوَّة عدوِّه فإنه أدرك أنه في هذه المرحلة لا يَقْوَى على قتال إمارة الرها القريبة ، وكان في نفس الوقت يريد أن يتفرَّغ لتوحيد الإمارات الكثيرة المتناثرة حول الموصل ، ومن هنا قرَّر أن يعقد هدنة مع إمارة الرها لمدَّة سنتين ، وقد كان واضحًا جدًّا أن الإتفاقية محدَّدة بفترة زمنيَّة معيَّنة ؛ لأنه لا يستطيع بحالٍ أن يعقد إتفاقيَّة سلام دائم مع عدوٍّ يحتلُّ أرض المسلمين ، ومن هنا دلَّل على أنه يجمع بين الفقه العسكري والفقه الديني ، وهذا ما ميَّزه عن بقيَّة زعماء عصره .

ولما عُقِدَتْ هذه الهدنة المهمَّة فكَّر عماد الدين زنكي مباشرة في ضمِّ المدينة العظيمة حلب ، وقد تحدَّثنا قبل ذلك عن أهميَّة حلب الإستراتيجيَّة والعسكريَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والبشريَّة ، إضافةً إلى أن حلب كانت متحدة قبل ذلك في زمان آق سنقر البرسقي مع الموصل تحت حكم السلطان السلجوقي محمود ، فالوَحدة بينهما منطقيَّة وقانونيَّة ، وليس من المفترض أن يكون هناك خلاف على توحيدها مع الموصل ، هذا إضافةً إلى أن القاعدة الشعبية لعماد الدين زنكي هناك قويَّة ؛ وذلك لذكريات أبيه العادل قسيم الدولة آق سنقر الحاجب ، الذي قُتل منذ أربعٍ وثلاثين سنة وهو يدافع عن حلب ضد تتش بن ألب أرسلان .

لكن عماد الدين زنكي - مع رغبته في ضمِّ حلب - لم يشأ أن يُقْدِم على هذه الخطوة قبل أن يقوم بإجراءين رئيسيين :

أما الإجراء الأول فهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية للموصل ، وكان قد أمَّن حدودها الجنوبية قبل ذلك بضمِّ البوازيج وجزيرة إبن عمر كما مرَّ بنا ، وهذا التأمين يضمن له الحركة الآمنة في إتجاه الغرب ناحية حلب .

وكانت هذه المناطق مستَقَرًّا لقبائل الأكراد الكثيرة ، وكانت أقرب هذه القبائل للموصل هي قبائل الأكراد الحميدية والأكراد الهكارية ، وكانوا في هذه الفترة يُكَوِّنُونَ فِرَقًا مسلَّحة تُغِيرُ على مزارع وقرى الموصل الشرقيَّة ، وبالتالي يُثيرون الذعر بين الفلاَّحين ومواطني الموصل ؛ ومن ثَمَّ توجَّه إليها عماد الدين زنكي بفرقةٍ من جيشه .

ومع كون الفارق هائلاً بين قوَّة عماد الدين زنكي وجيشه النظامي وبين هذه القبائل المتفرِّقة ، إلاَّ أن عماد الدين زنكي رحمه الله كان حريصًا طيلة حياته على الإستفادة من كل الطاقات من حوله ، وكما وظَّف جاولي لصالحه قرَّر أن يوظِّف الأكراد - إن إستطاع - لخدمة دولته الناشئة ، وقد أقدم على هذه الخطوة على الرغم من التاريخ السيِّئ لهذه التجمُّعات ، لكنه كان دائمًا - رحمه الله - يسعى إلى الإصلاح وإلى الوَحدة .

إجتمع عماد الدين زنكي رحمه الله مع زعيم الأكراد الحميديين الأمير عيسى الحميدي ، وفي هذا الاجتماع أقرَّه على ولايته على الأكراد ، وترك له كل ما في يده ، في مقابل أن يُصبح تابعًا لإمارة الموصل ، وبالتالي لا يُغِيرُ على الإمارة ، إضافةً إلى الإستعانة به ضدَّ الصليبيين إذا لزم الأمر .. ولا شكَّ أن عيسى الحميدي أدرك قوَّة عماد الدين زنكي ، وعلى الرغم من أن هذه القبائل كانت كالميليشيات العسكرية الخاصة إلاَّ أنهم أدركوا أنه من الأسلم لهم - على الأقلِّ في هذه المرحلة - أن يخضعوا لسلطان عماد الدين زنكي , وهكذا ضُمَّتْ قوَّة الأكراد الحميدية إلى قوَّة الموصل ، أو على الأقلِّ حُيِّدَتْ .

وعندما نجحت خُطَّة عماد الدين زنكي رحمه الله مع الأكراد الحميدية , إتجه مباشرة إلى الأكراد الهكارية ، وعقد نفس الإتفاقية مع أبي الهيجاء الهكاري زعيمهم ، وبذلك أمَّن الحدود الشمالية والشمالية الشرقية تمامًا وهكذا نجح عماد الدين زنكي بجهود دبلوماسية في أن يقرَّ الأوضاع في الموصل وما حولها ، وبالتالي أفرغ ذهنه لقضيَّة حلب ، وكان هذا هو الإجراء الأول - وهو تأمين الحدود الشمالية والشمالية الشرقية - قبل الإتجاه غربًا إلى حلب .

أمَّا الإجراء الثاني فهو التمهيد الإعلامي والعسكري لفكرة قدومه إلى حلب ؛ حتى يتجنَّب حدوث صدام قد تراق فيه الكثير من الدماء المسلمة .

وكان التمهيد الإعلامي الذي قام به هو إرسال الرسل من طرفه إلى حلب فتسلَّلوا إليها ، وتحدَّثوا مع الناس في مساجدهم ومجتمعاتهم بأحقِّيَّة عماد الدين زنكي في حكم هذه المدينة المهمَّة ، فهو الذي إرتضاه لهم السلطان محمود سلطان السلاجقة والقوة الأُولى في العالم الإسلامي آنذاك ، وهو المجاهد الصُّلب الذي يستطيع أن يقف في وجه الصليبيين ، وهو الحاكم العادل الذي سيُقِرُّ السلام في داخل حلب ، ويُعيد الحقوق لأصحابها ، وهو إبن آق سنقر الحاجب الذي توارث أهلُ حلب الرحمة عليه ..

لقد كان عماد الدين زنكي يهدف من وراء هذا التمهيد أن يجعل قدومه على حلب مطلبًا شعبيًّا ، خاصَّةً أنه يعلم أن قتلغ أبه وإبراهيم بن رضوان كليهما من الفاسدين ، وأن سليمان بن عبد الجبار الأرتقي ضعيف ، وأن أهل حلب لا يريدون أحدًا منهم ، فإذا كان البديل هو عماد الدين شخصيًّا فلا شكَّ أن هذه ستكون فرصة طيِّبة للشعب هناك .

ولقد نجحت خطَّة عماد الدين زنكي تمامًا ، وإنتشر دُعاته بين الناس ، وصار الناس يترقَّبون اليوم الذي يظهر فيه عليهم .

أما التمهيد العسكري فقد قام به عماد الدين زنكي عن طريق إرسال رأس جيشه صلاح الدين الياغيسياني ، الذي درس الأوضاع حول حلب ، وأمَّن الطرق ، وتراسل مع بعض الأفراد من جيش حلب ، ومهَّد الأوضاع لإستقبال القائد العظيم عماد الدين زنكي ..

وعندما تيقَّن عماد الدين زنكي من أن الظروف أصبحت مناسبة في حلب ، تحرَّك إليها من الموصل على رأس فرقة قويَّة من جيشه ، وفي طريقه ضمَّ مدينتي بزاغة ومَنْبِج ، وهما مدينتان في شرق حلب تمامًا ؛ وذلك لتأمين خطِّ رجعته إن فشل في دخول حلب ، ثم إقترب بعدها من حلب ، وهنا حدثت المفاجأة السارَّة !

لقد خرج شعب حلب من المدينة ؛ ليكون في إستقبال عماد الدين زنكي ، مرحِّبِينَ به أشدَّ الترحيب ، ومعلنِينَ ولاءهم الكامل له ، بعد معاناتهم الفترة السابقة تحت حكم هذه المجموعة من الفاسدين .

وإزاء هذه المظاهرة الشعبيَّة الرائعة لم يجد إبراهيم بن رضوان ولا سليمان بن عبد الجبار بُدًّا من الهرب من المدينة دون قتال ، بينما أمسك الشعب بقتلغ أبه ، وقُتل جزاءً وفاقًا للأرواح الكثيرة التي أزهقها فترة حكمه ..

وهكذا دخل عماد الدين زنكي مدينة حلب دون إراقة دماء وفي وسط ترحيب شعبي عارم ، وتتوحَّد بذلك مدينتان من أهمِّ مدن المنطقة ، وهما الموصل وحلب ، ولم تكن أهمية هذه الوحدة تعود إلى إزدياد القوة الإسلاميَّة فقط ، ولكنها تعود أيضًا إلى فصل إمارة الرها عن بقيَّة الإمارات الصليبيَّة في الشام وفلسطين , ممَّا سيُؤَثِّر حتمًا في مقدراتها وإمكانياتها ، وكان هذا الدخول المبارك لحلب في شهر جُمادى الآخرة سنة (522هـ) يونيو 1128م أي بعد حوالي تسعة أشهر فقط من تسلُّم عماد الدين زنكي مقاليد الحكم في الموصل ، وهو بذلك إنجاز رائع في زمن قياسي !

وبمجرَّد دخول عماد الدين زنكي حلب قام بخطوة سياسيَّة رائعة ، وهي الزواج من خاتون إبنة رضوان بن تتش حاكم حلب السابق ، وكان هذا الزواج سياسيًّا ؛ لأنه بذلك سيُهَدِّئ أفئدة بيت رضوان ، وأصحاب العَلاقات معه .. ولا ننسى أن رضوان حَكَمَ حلب عشرين سنة كاملة قبل ذلك ، من سنة 487هـ إلى سنة 507هـ، ولا بُدَّ أن تكون له عَلاقات ضاربة في جذور البلد ، فضلاً عن عائلته المستقرَّة هناك ، وكذلك إبراهيم بن رضوان الذي كان يحكم حلب منذ أيَّام ، وهرب إلى نصيبين عند قدوم عماد الدين زنكي .

لقد كان الملوك والأمراء في ذلك الوقت يُثَبِّتون دعائم ملكهم عن طريق الزواج من حلفائهم ، وأحيانًا من أعدائهم ؛ حتى يتوثَّق الحِلْف بشكل أقوى ، أو تزولَ العداوة بشكل طبيعي ، وهذا ما سعى إليه عماد الدين زنكي ، وأثمر نتائجَ طيِّبةً ؛ حيث لم تقم عليه ثورات مطلقًا في داخل المدينة المهمة حلب .

ثم إنه تزامن مع دخول عماد الدين زنكي إلى حلب ، أو قبل ذلك بقليل ، في نفس السنة 522هـ أن مات طغتكين أمير دمشق بعد حكم دام حوالي خمسٍ وعشرين سنة (من سنة 497هـ إلى سنة 522هـ) ، وخلفه في الحكم إبنه بوري بن طغتكين بوصية من والده ..

وهذا الموت لطغتكين سيجعلنا نفتح مع عماد الدين زنكي ملف دمشق ! فلا شك أن دمشق هي أكبر مدن الشام مطلقًا ، وقوة من القوة المؤثِّرة في مجريات الأمور ، وهي بإمكانياتها البشرية والتاريخية والسياسية والعسكرية تمثِّل محطة مهمة جدًّا من محطات الصراع مع أي عدو من أعداء المسلمين ، وعندما ينصلح حالها ويقوى تُصبِح من أثقل النقاط إيجابية في المعادلة ، ولكنها على الجانب الآخر عندما يفسد حالها وتضعف تؤثَِّر تأثيرًا سلبيًّا في المنطقة ككل ، هذا أمرٌ لا نستطيع أبدًا أن نغفله .

وإذا كان عماد الدين زنكي يمتلك مشروعًا واضحًا ضخمًا كمشروع إخراج الصليبيين من أرض المسلمين كُلِّيَّةً ، فإنه لا بد أن يضع دمشق في حساباته ، وخاصةً أنها بموقعها المتوسط في الشام تصبح مركز إنطلاق وعودة في غاية الأهمية لإمارة أنطاكية وإمارة طرابلس ، وكذلك لمملكة بيت المقدس .

ومن هنا فلا بد لمن أراد أن يتم هذا المشروع بنجاح أن يضم دمشق إلى المشروع الوحدويّ الذي يجمع طاقات هذه المنطقة بكاملها ، وهذا من المؤكد أنه في ذهن عماد الدين زنكي ، وسيكون بعد ذلك في ذهن نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ، بل ومن يأتي بعد صلاح الدين الأيوبي من زعماء ، سواء في الدولة الأيوبية أو في المماليك ، ولعله إلى زماننا الآن ؛ فإن دمشق - لا شك - محطة لا يمكن أن تُغفل .

لكن - للأسف الشديد - مع كل الإعتبارات التي ذكرناها فإن دمشق في هذه الفترة من حياة الأمة ، حين دخل الصليبيون بلاد الشام وفلسطين كانت تمثِّل - بلا جدال - حجر عثرة أمام أي مشروع وحدة إسلامية !

ولقد ذكرنا قبل ذلك الخلفيات التي جعلت الشعب في دمشق في هذه الآونة يخرج بلا هُوِيَّة واضحة ، ولا نزعة إسلامية سويَّة ؛ وذلك نتيجة الحكم العبيديّ الذي إمتد أكثر من مائة سنة ثم حكم تتش الظالم وإبنه دقاق كذلك ، ولئن كان طغتكين على خلاف ذلك ، فإنه أيضًا لم يكن بالرجل المتكامل الذي يقدِّم مصلحة الأمة بصرف النظر عن مصالحه الشخصية ، بدليل أنه لم يمانع من التحالف مع الصليبيين في نظير الحفاظ على كرسيِّه في الحكم .

ولقد كانت مشكلة كبرى بالنسبة لدمشق أن الذي يحكمها يشعر من تلقاء نفسه بالإستقلالية ؛ لأنها مدينة كبيرة ، ولها سمعتها وقيمتها ، وبالتالي يصبح له من الوضع الإجتماعي ما يمنع ذهنه تمامًا من التفكير في كونه يصبح تابعًا لغيره ! إنه ملك دمشق أو زعيمها ، فكيف يتبع أميرًا آخر أيًّا كان هذا الأمير ؟! هذه كانت مشكلة طغتكين وأبنائه من بعده .

أضف إلى هذا أن طغتكين كان من عائلة تركية منفصلة عن بقية العائلات الكبرى التي كانت تحكم المنطقة ، فلا هو من السلاجقة ، ولا هو من العباسيين ، ولا هو من العائلات العربية التي كان لها تاريخ في الحكم في المنطقة كبني عقيل أو بني مرداس أو بني منقذ أو غيرهم ؛ ومعنى هذا الكلام أنه سيظل محدودًا في دمشق ، ولن يكون له أعوان في مدن أخرى ، وهذه كانت مشكلة طغتكين الكبرى ، إذ إنه مع قوة مدينته لم يستطع أن يضم إليها أي مدينة في المنطقة إلا بشكل عابر ومؤقت ؛ ولذلك قنع طغتكين بالإحتفاظ بدمشق ، وسيقنع أولاده من بعده بذلك ، وسيُخرِجون تمامًا مشروع الأمة من أذهانهم ليستمر لهم حكم دمشق !

كان عماد الدين زنكي يقرأ كل هذه الظروف والملابسات ، وكان في نفس الوقت يخطِّط لضم المدينة المهمة دمشق إلى الوحدة المنشودة التي تهدف إلى جهاد الصليبيين ، ولا شك أن محور الموصل - حلب لو إكتمل بدمشق ، فإنه سيصبح محورًا مستعصيًا على الإنكسار .
والآن بعد موت طغتكين الذي حكم خمسًا وعشرين سنة متصلة ، لا بد أن دمشق في حالة فقدان للتوازن ، والحاكم الجديد بوري بن طغتكين ليست له الخبرة الكافية التي تمكِّنه من السيطرة على مجريات الأمور في دمشق ؛ ولذلك فإنْ أراد عماد الدين زنكي أن يضم هذه المدينة فلا بد أن يسعى في ضمِّها الآن دون تأخير .

فإذا أضفنا أن دمشق في ذلك الوقت كانت وكرًا للباطنية ، وكان طغتكين طيلة حياته يخشاهم ويداريهم ، ويترك لهم الحبل على الغارب ؛ مما أدى إلى توحُّشهم ، وبالتالي إزدادت خطورتهم ، ليس على دمشق فقط ، بل على منطقة الشام بكاملها ؛ إذا أضفنا هذا فلا بد أن نعلم أن سرعة السيطرة على دمشق ستُعِيد الأمن إلى نصابه في الشام وستصرف جهود المسلمين إلى الإصلاح ، وستفتح المجال للعلماء والقادة أن يتحركوا في سبيل الله دون أن يخشوا من خناجر الباطنية وسيوفهم .

وكان عماد الدين زنكي كسياسي خبير يدرك أن محاولات الوحدة السلمية بين دمشق وحلب والموصل تكاد تكون مستحيلة ، فلم يكن طغتكين على هذه الصورة ، ومن المؤكد أن إبنه كذلك سيكون متمسِّكًا بحكم دمشق ؛ ولذلك فإنه لكي يضم دمشق إلى الكيان الإسلامي الجديد لا بد له من سلوك أحد طريقين :
إما طريق الحيلة ، وإما طريق القوة .

ولما كان عماد الدين زنكي لا يحب أن يريق الدماء إلا عند الضرورة القصوى ، وكان يغلب عليه طيلة حياته محاولة ضم المدن والبلاد الإسلامية دون الدخول في قتال عسكري ، فإنه إختار طريق الحيلة، ومحاولة الضغط على بوري بن طغتكين بطريقة غير عسكرية ليضم في النهاية دمشق إلى حكمه ، خاصةً أن دمشق كانت تسيطر على حماة أيضًا وهي مدينة مهمة جدًّا ، وقريبة من طرابلس .

وقبل الحديث عن حيلة عماد الدين زنكي ، فإننا يجب أن نشير إلى أنَّ حمص كانت هي الأخرى إمارة مستقلة ، وكان على رأسها رجل ظالم عامل أهلها بالتعسف والجور ، وهذا الرجل هو صمصام الدولة خيرخان بن قراجا ، وليس هذا فقط ، ولكن كان الشعب كذلك في حمص فيه من الصفات كما كان الحال في دمشق تمامًا لتعرُّض المدينة لنفس الظروف ، فقد حُكمت المدينة بالعبيديين أكثر من مائة سنة ، وحكمها بعدهم تتش بن ألب أرسلان ثم دقاق ، بل كان طغتكين شخصيًّا أميرًا عليها فترة من الزمان أيام حكم دقاق .

وهكذا - وبالنظر إلى جغرافية المنطقة - نجد أن الوصول إلى دمشق يحتِّم السيطرة على حماة وحمص أولاً لوقوعهما في الطريق بين حلب ودمشق فماذا يمكن أن يفعل عماد الدين زنكي ليتمكن من حمص وحماة أولاً ، ثم دمشق بعدهما ؟

لقد فكر عماد الدين زنكي في حيلة سياسية ، وهي أن يُظهِر أنه يجهِّز جيشًا لحرب الصليبيين ، ثم يطلب التعاون من الأميرين خيرخان بن قراجا أمير حمص ، وبوري بن طغتكين أمير دمشق، فإذا جاءا إليه ألقى عليهما القبض ، فتخلو مدنهما من الحماية ، وبالتالي يستطيع دخول المدن دون قتال .

هكذا كانت حسابات عماد الدين زنكي ولقد نجحت خطة عماد الدين زنكي في شقها الأول حيث جاءه بالفعل خيرخان بن قراجا في فرقة من جيشه ، أما بوري بن طغتكين فإكتفى بإرسال إبنه سونج مع سرية رمزية من دمشق قوامها خمسمائة فارس ، وكان سونج أميرًا على حماة .

فقام عماد الدين زنكي بالقبض على سونج فورًا ، وأسرع بدخول حماة ، وقد ضعفت لعدم وجود سونج وجيشه فيها ، وهكذا دخلت حماة في دولة عماد الدين زنكي دون إراقة دماء ، وبعد أن إستقر الوضع له هناك ألقى القبض على خيرخان بن قراجا ليفعل بحمص مثلما فعل بحماة ، لكن حمص أغلقت أبوابها ، وكان بها جيش كبير ، فلم يستطع عماد الدين زنكي أن يدخلها .

حاول عماد الدين زنكي أن يضغط على بوري بن طغتكين ليسلِّم مدينة دمشق في مقابل إطلاق سراح إبنه سونج إلا أن بوري رفض ، وعليه فقد ظلت دمشق منفصلة عن الوحدة الإسلامية .

وهكذا خرج عماد الدين زنكي من هذا الموقف بمدينة حماة بينما فشل في السيطرة على حمص ودمشق ، وليس هذا فقط، ولكن كُشفت كذلك أوراق عماد الدين زنكي أمام المدينتين ، وعلم بوري بن طغتكين أمير دمشق ، وقريش بن خيرخان أمير حمص الجديد (بعد أسر أبيه) أن عماد الدين زنكي لن يتردد في المستقبل في إختيار الحل العسكري لضم المدينتين ..

ويحمل كثيرٌ من المؤرخين على عماد الدين زنكي أنه قام بهذه الحيلة ، وأوهم بوري بن طغتكين ، وخيرخان بن قراجا بالجهاد ، ثم غدر بهما وقبض على الثاني وعلى إبن الأول ، وأن الغدر ليس أبدًا من شيم المؤمنين .

والواقع أن هذا الموقف من المواقف الصعبة في التحليل ؛ لأن الغدر فعلاً ليس من شيم المؤمنين ، لكن الأمر هنا ليس بهذه البساطة ، فالذي يصدر حكمًا على عماد الدين زنكي لا بد أن ينظر إلى جميع الملابسات في آنٍ واحد ، وأن يضع النقطة بجوار النقطة ، والدليل فوق الدليل ليخرج في النهاية برؤية سليمة للحدث ، ولا يتعامل معه على أنه غدرٌ مجرَّد أو مطلق .

ولعلنا لكي نتعايش مع عماد الدين زنكي في هذه القضية لا بد أن نقف على بعض الأمور :

أولاً , لا بد أن ننظر إلى المهمة التي يحملها عماد الدين زنكي قبل إطلاق الأحكام النظرية على الموقف والأحداث ؛ إنه يحمل مهمة جهاد الصليبيين الذين إحتلوا بلاد المسلمين منذ أكثر من ثلاثين سنة ، وإرتكبوا - وما زالوا يرتكبون - المذابح الشنيعة في القرى والمدن الإسلامية ، والوقت عامل مهم جدًّا في قضية كهذه القضية .

ثانيًا , هؤلاء الزعماء يرفضون مشروع الوحدة تمامًا ، وأي تلميح فضلاً عن التصريح لن يحمل إلا كل رفض ، وستضيع فرصة توحيد الأمة في كيان واحد قادر على مواجهة الصليبيين ، ولن يستطيع المسلمون - كما فهم عماد الدين زنكي - أن يُقدِموا على خطوة جهاد الصليبيين دون هذه الوحدة ، فأصبحت الوحدة واجبًا لا بد منه لتحقيق الواجب الأكبر وهو الجهاد ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

ثالثًا , هؤلاء الزعماء لا يكتفون برفض الوحدة ، والوقوف السلبي تجاه القضية ، ولكنهم يتعاونون تعاونًا صريحًا مع الصليبيين ، وتاريخهم يشهد بذلك، وكذلك واقعهم ، بل وسنرى في المستقبل القوات الصليبية تقف مدافعةً من حمص ودمشق ضد قوات عماد الدين زنكي !

رابعًا , ما هو البديل لهذه الحيلة ؟! البديل هو الضم القسري للمدينتين ! بمعنى أن يتم حصار المدينتين عسكريًّا ، وينشب القتال بين الجيشين المسلمين ، وتسقط الضحايا المسلمة ، وتدمر الحصون الإسلامية ، وتنسف الأسوار الإسلامية ، ويتعمق الحقد والبغضاء بصورة عظيمة بين الطائفتين !!

وهذا البديل وإن كان صعبًا ومُرًّا إلا أن الفقهاء أقروه ، وطبعًا هذا الإقرار لا يكون إلا في آخر المطاف ، أي بعد إستنفاد الوسائل السلميَّة الأخرى ، وقد رأينا هذه المواقف العسكرية لضم المدن الإسلامية في حياة معظم المجاهدين في تاريخ الأمة الإسلامية ، وخاصةً في الأوقات التي إبتليت فيها الأمة بضعف الخلافة ، فلم يعُدْ هناك رابط معين بين الدويلات الكثيرة المتفرقة .

فإذا نظرنا إلى هذا البديل العسكري ونتائجه ، ونظرنا في نفس الوقت إلى ضم حماة دون قطرة دم واحدة ، فإننا سندرك المنطلق الذي فكر به عماد الدين زنكي في هذه المسألة .

خامسًا , نحن لم نطَّلع على الصيغة التي أرسلها عماد الدين زنكي إلى بوري بن طغتكين أو خيرخان بن قراجا ، لندرك هل كان فيها أسلوب تورية أم لا ، فلعله صرَّح بألفاظ تحمل أكثر من معنى من أجل تحقيق هدفه دون غدر .

سادسًا , يقول رسول الله : "الْحَرْبُ خُدْعَةٌ" ، وهذه حرب حقيقية بين المسلمين والصليبيين ، وبين المجاهدين المخلصين ومن يقف حجر عثرة ضد الجهاد ، وقد رأى عماد الدين زنكي أن هذه خدعة من خدع الحرب ، وهذا اجتهاد قد يكون أصاب فيه أو أخطأ ، لكن يبقى أنه في حالة حرب ، والحرب لها أحكامها التي قد تختلف كُلِّيَّةً عن أحكام الأوضاع السلمية .

سابعًا , عندما أراد رسول الله أن يقتل كعب بن الأشرف ، قال له محمد بن مسلمة : أتحب أن أقتله ؟ قال : "نعم" .. قال: فإذن لي أن أقول شيئًا .. قال: قل , ثم كان حوار طويل بين محمد بن مسلمة وكعب بن الأشرف ، كان فيه خداع كبير من محمد بن مسلمة ، وإنتهى الأمر بقتل كعب بن الأشرف .

وأنا أعلم أن الفعل هنا مع كافر وليس مسلمًا ، ولكن الحكم عام ، وخاصةً أن الزعماء المسلمين في هذه المدن كانوا يتعاونون مع الصليبيين تعاونًا صريحًا مشينًا .

ثامنًا , كان عماد الدين زنكي رحمه الله يستفتي الفقهاء في كل أموره ، وقد وجد فقهاء زمانه أن الضرر الواقع من هذه الحيلة أقل من الضرر الواقع عند إصطدام الجيوش الإسلامية ببعضها البعض ، مع الإعتراف أنه ضرر ولا يجب أن يُفعل في الظروف العادية ، ولا داعي لاتهام فقهاء العصر جزافًا ، فقد وصل الأمر ببعض المؤرخين أن قال في حق هؤلاء الفقهاء : " فأفتاه من لا دين له ، وجوَّز له ما لا يحل ، ولا يحسن شرعًا وعرفًا " .

فلم يكن عماد الدين زنكي بالرجل الذي يستفتي من لا دين له ، ولم يكن فقهاء دولته من الذين يفتون للسلطان بما يريد ، إنما كانوا بشهادة كل المؤرخين من أفضل علماء عصره ، غاية ما هناك لو كانت الفتوى خاطئة ، أنهم إجتهدوا لتحقيق مصلحة فأخطئُوا .

تاسعًا , يؤخذ الفعل في ضوء سيرة الشخص ! فهل بمراجعة سيرة عماد الدين زنكي يمكن أن نقول أنه رجل غادر لا يهتم برأي الدين ؟! لقد وجدنا في سيرته سواء قبل هذا الحدث أو بعده سعيًا حثيثًا لجهاد الصليبيين ، وبذلاً لوقته وجهده وكل حياته من أجل هذه القضية ؛ ولذلك نستطيع أن نقول أنه ما كان يريد بهذا الفعل - حتى ولو كان خطأً لا يجب أن يُكرر - إلا المصلحة للمسلمين ، وليست المصلحة الشخصية له .

إننا نقول هذا الكلام لكي لا يتخذ أحد الجشعين من عشاق السلطة هذا الفعل ذريعة أن يتقدم بجيشه ناحية كذا أو كذا من بلاد المسلمين بحجة توحيد الأمة لمصلحة ما ! فلا بد أن ننظر إلى سيرة هذا الذي يجمع البلاد تحت حكمه ، هل هو من نوعية المجاهد العظيم عماد الدين زنكي ؟ أم من نوعية الحاكم الظالم تتش بن ألب أرسلان أو أولاده ؟!

عاشرًا وأخيرًا , لقد حكم عماد الدين زنكي المسلمين عشرين سنة كاملة ، من سنة 521هـ إلى سنة 541هـ ، فكم كانت أخطاؤه؟! إننا إذا سلمنا أن هذا خطأ محض ، وأنه موقف ما كان له أن يحدث ، فإننا سنجد هذه المواقف نادرة تمامًا في حياته ، ومَن هذا الذي لا يُخطِئ من البشر إلا المعصومين من الأنبياء ؟!

وكفى بالمرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه ! ولا ننسى أن الزمن كان زمن فتنة ، والخلافة ضعيفة ولا رأي لها ، وبالتالي فجهود المخلصين لتوحيد الأمة لا بد أن يشوبها لبسٌ كبير ؛ لأنه ليس هناك تكليف من شخصية معينة لها الأمر على كل المسلمين ، مما كان يستدعي بعض الرؤى الخاصة التي قد تتعارض أحيانًا مع الرأي الحكيم .

إننا بعد هذا التحليل لا نريد أن نخرج عماد الدين زنكي من دائرة البشرية فنعتبر أنه لا يخطئ ، ولا نريد أن نبرِّر له خطأً بينًا أو فعلاً فاحشًا ، وإنما نريد أن نقول أن الظروف المضطربة ، والأمور المتشابكة المعقدة جعلت من إختيار الرأي الصائب في قضية من القضايا أمرًا صعبًا لا يتحقق في كل الأحوال ، وشتَّان بين من يأخذ هذا الرأي وهو يعيش وسط الأحداث ، ويرى الصليبيين يجوسون خلال الديار ، ويري المعاملات الدنيئة من بعض الزعماء المسلمين مع قواد الصليبيين ، وبين من يجلس في غرفته آمنًا مطمئنًا ، وبعد الحدث بمائة سنة أو مئات السنين ، يحلِّل ويُنظِّر ، ويصوِّب ويخطِّئ ، ويقول في بساطة :
هذا حلال ، وهذا حرام !

فلنضع كل هذه الخلفيات عند التحليل ، والموفَّق من وفقه الله !

[font=&quot]====[/font]
[font=&quot]يتبع .[/font]
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

نعود إلى قصتنا ..

فإن عماد الدين زنكي - وبعد مرور سنة واحدة على حكمه - أصبح أميرًا على الموصل وحلب وحماة ، وهذه قوة لا يستهان بها ، وبالتالي سعى عماد الدين زنكي لتأمين الطريق الواصل بين هذه المدن لتصبح إمارته آمنة ، وجيدة المواصلات ، وضم لذلك سنجار الواقعة في منتصف الطريق بين الموصل وحلب ، وذلك في أواخر سنة 522هـ\ أواخر 1128م ، كما شاء الله أن يستدعيه أهل حرَّان لضم مدينتهم لدولته ، حيث أصبحت بعد وفاة عز الدين مسعود بن البرسقي معرضةً لهجمات الصليبيين ، وبالفعل ضمها عماد الدين زنكي في سنة 523هـ\ 1129م ، وبذلك صارت الأوضاع مستقرة إلى حد كبير في هذه الدولة الجديدة ..


ومع أن هذه الجهود التي كان يبذلها عماد الدين زنكي رحمه الله كانت تشير إلى ظهور قوة جديدة قد يكون لها شأن في تخليص المسلمين من كابوس الصليبيين ، إلا أن تنامي هذه القوة لم يكن مريحًا لكل القوى المعاصرة !


لقد وجد السلطان سنجر - وهو سلطان السلاجقة في منطقة خراسان وبلاد ما وراء النهر - أن هذه القوة المتنامية قد تؤثِّر سلبًا في ممتلكات السلاجقة أنفسهم ، فأشار على السلطان محمود إبن أخيه - وهو السلطان على منطقة فارس والعراق ، والذي عيَّن عماد الدين زنكي في منصبه - أن يعزل عماد الدين زنكي ويولِّي مكانه دبيس بن صدقة ! ودبيس بن صدقة هو أمير قبيلة بني مزيد ، وكان متشيعًا هو وقبيلته ، وكان قد أفسد قبل ذلك في بغداد ، وقام بمحاولة إنقلابية على الخليفة المسترشد بالله سنة 514هـ ، أي منذ تسع سنوات ، ولكنه كان قد لجأ إلى السطان سنجر ، وأصبح من خاصَّته ؛ ولذلك أراد السلطان سنجر أن يضعه في إمارة الموصل وحلب ليكون رجله في المنطقة ، خاصةً أنه يضمن أن الخليفة لن يستقطبه لحسابه للخلاف القديم الذي بينهما !


إنها حرب المصالح والأهواء ، حيث لم ينظر السلطان سنجر إلى مصلحة المسلمين ، ولا إلى قضية جهاد الصليبيين ، فطلب هذا الطلب من السلطان محمود ، الذي لم يعارض تقديرًا لمكانة عمِّه ، ومن ثَمَّ إستدعى عماد الدين زنكي ليخبره بهذا التطور الجديد !


هكذا وبهذه البساطة ! .. وكادت هذه الفكرة تُنهِي على آمال المسلمين في الوحدة ، وعلى قضية الجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين ، وأسرع عماد الدين زنكي إلى بغداد ، حيث إلتقى مع السلطان محمود في مباحثات طويلة ، وإستعمل فيها كل ما أوتي من فكر ودبلوماسية لإقناع السلطان محمود بضرورة بقائه في هذا المنصب
، وعدَّد له الأسباب التي من أجلها لا بد أن يستمر في مهمته ، فكان منها :

أولاً : أنه لم يخطئ في منصبه ، بل على العكس، لقد حقق نجاحًا غير مسبوق ، وأفلح في ضم الموصل وحلب وحماة وسنجار وحرَّان ، ومناطق الأكراد تحت راية واحدة .

ثانيًا : كل هذا النجاح يصبُّ في صالح السلطان محمود ، حيث يحكم عماد الدين بإسمه .

ثالثًا : السلطان سنجر وإن كان عم السلطان محمود إلا أنه يحاول السيطرة على هذه المناطق لحسابه هو ، وليس لحساب السلطان محمود ؛ ولهذا يضع رجله هو في المكان وذلك تمهيدًا لإقصاء محمود عن مكانته .

رابعًا : من هو البديل؟ إنه دبيس بن صدقة الشخص المنحرف الذي أفسد قبل ذلك في بغداد ، كما أنه متشيِّع بينما دولة السلاجقة بكاملها سُنِّيَّة .

خامسًا : دبيس بن صدقة شخصية إستقلالية ، ولا يستبعد أبدًا أن يستقل بحكم الموصل وحلب لنفسه ، خاصةً وقد حاول أن يفعل ذلك مع مدينة بغداد نفسها .

سادسًا : دبيس بن صدقة سيحبط أهم مشروع عند المسلمين الآن ، وهو مشروع جهاد الصليبيين ؛ لأنه لم يقف قبل ذلك موقفًا سلبيًّا فقط ، إنما تعاون معهم في حروبهم ضد المسلمين .

لهذه الأسباب مجتمعة فإن من مصلحة المسلمين ، ومصلحة السلطان محمود نفسه ، أن يستمر عماد الدين زنكي في منصبه .


وكان السلطان محمود كما يصوِّره إبن الأثير حليمًا عاقلاً ، فلما إستمع إلى هذه الكلمات والحجج وافق على إقرار عماد الدين زنكي في منصبه ، بل وكتب له منشورًا جديدًا يؤكِّد فيه على منشوره السابق ، وفيه يُقطِعه حكم الموصل والجزيرة وما إستطاع أن يضمه من بلاد الشام .


وهكذا مرت أزمة خطيرة كادت تعصف بالأمة دون أن يكون لها أثر في المسيرة التي بدأها عماد الدين زنكي .


ولعل هذا الموقف يطمئننا أن الله يريد الخير لهذا الجيل ؛ لأنه إطَّلع على الصدق في قلوبهم ، فلو عُزِل عماد الدين زنكي وولي دبيس بن صدقة لكان في ذلك تعطيل واحد لحركة الجهاد ولنهضة الأمة ، ولكن الله سلَّم .


عاد عماد الدين زنكي إلى الموصل وهو أكثر قوة ، بعد أن نال تأييد السلطان محمود ، كما أن الخليفة المسترشد بالله كان سعيدًا به ؛ لأنه أقصى دبيس بن صدقة عن إحتمالية حكم الموصل وحلب ، مما كان سيشكِّل أزمة للخليفة لعداوته السابقة معه .


نظر عماد الدين زنكي إلى الوضع الآن ، فوجد أنه أصبح قريبًا جدًّا من حدود إمارتي الرها في الشمال وأنطاكية في الغرب ، فأيهما يبدأ ؟

إن إمارة الرها - لا شك - أضعف من إمارة أنطاكية ، ليس لمناعة حصون أنطاكية فقط ، ولكن أيضًا لقوة المقاتلين النورمان في أنطاكية ، ولكون التركيبة السكانية في الرها عبارة عن مزيج من الأرمن والصليبيين بكل المشاكل التي بينهما ، والتاريخ الأسود الذي لا ينساه الأرمن ، أما إمارة أنطاكية ففيها تجانس واضح ، حيث يغلب عليها الطابع النورماني الكاثوليكي .


هذا الفارق بين الإمارتين جعل تفكير عماد الدين زنكي يتجه إلى الجهاد ضد إمارة الرها قبل إمارة أنطاكية .


لكن هناك مشكلة كبيرة تعوِّق مسيرة الجهاد إلى الرها ! :

إن إمارة الرها تقع في شمال منطقة الجزيرة ، وعلى ضفاف نهر الفرات ، وبقية شمال الجزيرة يقع الآن تحت حكم الأراتقة ، والجيل الموجود الآن يختلف تمامًا عن الجيل السابق ، فليس فيهم من يشبه سقمان بن أرتق أو إيلغازي بن أرتق أو بلك بن بهرام ، إنما هناك شخصيات هشَّة في غاية الضعف ، وقد قسمت بينها البلاد والعباد ، وأضعفت المسلمين وشتتهم ، ولا نبالغ إذا قلنا أن المنطقة أصبحت تضم عشرات الإمارات المستقلة ، وكلها يجاور إمارة الرها ، ويفصل بين عماد الدين زنكي وبين الإمارة الصليبية .


إن عماد الدين زنكي لو خاطر باجتياز أرضهم لقتال الصليبيين في الرها ، فإنه سيعرِّض نفسه لعدة مخاطر :

أولاً : قد يُضرب في ظهره من هؤلاء الزعماء المسلمين أنفسهم ؛ لأنهم سيعتبرونه خطرًا عليهم كما هو خطر على الصليبيين .

ثانيًا : قد يتعاون هؤلاء تعاونًا صريحًا مع الصليبيين ، فتكون كارثة على جيش عماد الدين زنكي .

ثالثًا : إذا هُزِم جيش عماد الدين زنكي من إمارة الرها ، فإلى أي الحصون سيلجأ ؟ إن العودة إلى الموصل أو حران أو حلب تحمل مخاطر جمَّة لطول المسافة ، فلا بد من وجود قاعدة قريبة ينطلق منها ويعود إليها .

رابعًا : هذه المناطق ذات كثافة سكانية عالية ، وكل السكان من المسلمين ، فلو توحدت قوتهم مع جيش عماد الدين زنكي كانوا إضافةً قوية ، ولو قاوموه وعطَّلوا مسيرته ، كانت مشكلة صعبة الحل .

لهذه الأسباب وجد عماد الدين زنكي أن ضم هذه المنطقة إلى حكمه خطوة لازمة قبل محاربة إمارة الرها ؛ وعلى هذا بدأ عماد الدين زنكي يدرس الوضع هناك ، ويقيِّم موازين القوى الرئيسية في المنطقة .


لقد كان هناك عشرات الزعماء في هذه المنطقة إلا أن القوة الرئيسية تعود إلى ثلاثة :


أما الأول فهو حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي الأرتقي ، وهو - كما ذكرنا قبل ذلك - شخصيَّة تميل إلى الدَّعَة والرفاهية ، ولا يضع قضية الصليبيين في حساباته ، وكان يستقر في ماردين ، ويمتلك عدة مدن بالإضافة إلى ماردين ، لعل من أهمها مدينة نصيبين (على الحدود بين تركيا وسوريا الآن) .

أما الثاني فهو ركن الدولة داود بن سقمان الأرتقي ، وهو أمير حصن كيفا ، وكان رجلاً متصلبًا وفظًّا صعب المِرَاس .

وأما الثالث فهو سعد الدولة أبو منصور إيكلدي أمير آمد ، وكان أضعفهم عسكريًّا .

وجد عماد الدين زنكي أن أقرب المدن إلى مناطق حكمه هي مدينة نصيبين التابعة لحسام الدين تمرتاش ، ولم يرد أن يكرِّر مشكلة دمشق ، وقد علم أن المفاوضات السلمية لن تؤدِّي غالبًا إلى نتيجة ، فذهب بسرعة في أوائل سنة 524هـ ، وبعد عودته من بغداد ، وحاصر مدينة نصيبين بجيشه ، بينما كان حسام الدين تمرتاش في ماردين .


وجدت الحامية الأرتقية نفسها في أزمة كبيرة نتيجة قوة جيش عماد الدين زنكي بالقياس إلى قوة الحامية ، ومن ثَمَّ أرسلت رسالة إستغاثة عاجلة إلى حسام الدين تمرتاش في ماردين ، فردَّ عليهم حسام الدين بأنه سيوفِّر لهم فرقة عسكرية في غضون ثلاثة أيام ، مع أن المسافة بين المدينتين أقل من خمسين كيلو مترًا ! مما يدل على عدم الجاهزية وقلة الحيلة ! ثم أراد الله أن تقع الرسالة التي أرسلها حسام الدين تمرتاش ، وكان قد أرسلها على جناح طائر من الحمام الزاجل ، في يد عماد الدين زنكي ، فحوَّر ألفاظ الرسالة وجعل المدة التي ستأتي فيها النجدة عشرين يومًا بدلاً من ثلاثة ! ثم أعاد إطلاق الطائر إلى داخل مدينة نصيبين ، وقد أراد بذلك أن ييأس الجنود من المقاومة فيفتحوا الأبواب سلميًّا ، وهو ما حدث بالفعل ، وفتحت المدينة أبوابها ليضمها عماد الدين زنكي في سهولة ، ودون إراقة دماء !


وصلت الأخبار إلى حسام الدين تمرتاش ، وشعر بالقلق الشديد ، وتكلم مع بقية زعماء الأراتقة ، وجمع الأعوان والأنصار منهم بقيادة ركن الدولة داود بن سقمان ، وأبو منصور إيكلدي ، وغيرهم من زعماء التركمان الموالين لداود بن سقمان ، وتجمعت قواتهم في بلدة إسمها دارا ، وبلغ تعدادهم عشرين ألفًا ، وعلم عماد الدين زنكي بتجمعهم ، فتحرك لهم على رأس فرقة من جيشه قوامها أربعة آلاف مقاتل فقط ، ومع أن قوته صغيرة إلا أنه إنتصر عليهم في فترة قصيرة جدًّا ، وأتبع هذا الانتصار بالسيطرة على عدة حصون في المنطقة مثل :
حصن دارا ، وحصن سرجي .

لقد كان هذا دليلاً على أنهم لا يملكون مقومات الإستقلال ، إنما عاش كل منهم على بقعة صغيرة من الأرض ، وإعتبر نفسه زعيمًا وقائدًا وعطَّل بذلك مسيرة الأمة ، وشتَّت أمرها .


كانت هذه هي أول الصدامات مع الأراتقة ، وكُلِّلت بنجاح سريع ، وكان من الممكن أن تكون بداية جيدة لمسيرة واضحة تنتهي بضم إقليم الجزيرة بكامله إلى دولة عماد الدين زنكي ، وذلك بكل ما في الإقليم من إمارات ودويلات لا وزن لها ؛ كان من الممكن أن يحدث ذلك لولا الأنباء المفاجئة التي جاءت من إمارة أنطاكية !


والقصة أن أحد التجمعات الأرمينية في جبال طوروس القريبة من شمال أنطاكية تعرضت لهجوم بوهيموند الثاني أمير أنطاكية ، فما كان من ليون الأول زعيم الإمارة الأرمينية إلا أن يستغيث بإيلغازي الدانشمندي زعيم ملطية ، وحدث صدام بين الجيش الدانشمندي بقيادة إيلغازي ، والجيش النورماني بقيادة بوهيموند الثاني ، وكانت المفاجأة الكبرى أن سُحِق الجيش النورماني ، بل وقُتِل بوهيموند الثاني في المعركة !


وهكذا خلت أنطاكية من الزعماء !

لقد كان بوهيموند الثاني شابًّا صغيرًا ، وكان متزوجًا من أليس ابنة بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، ولم يكن له إلا ابنة صغيرة إسمها الأميرة كونستانس ، ووفقًا لقوانين الإقطاع في غرب أوربا فإنَّ إمارة أنطاكية تنتقل إلى الوريثة الوحيدة ، وهي الطفلة كونستانس ! على أن يوضع وصيٌّ مناسب عليها حتى تبلغ سن الرشد ، فوضعت أليس بنت بلدوين الثاني نفسها على الوصاية دون أن تنتظر رأي أبيها ملك بيت المقدس ، وكان من الواضح أنها تطمح إلى الملك ، بل وترامت الإشاعات في أنطاكية أنها تريد أن تحكم كأميرة مستقلة ، وليست كوصية على الأميرة الصغيرة كونستانس !


ووصلت الأنباء من أنطاكية بسرعة إلى كل مكان ..

سمع عماد الدين زنكي بالأخبار فإهتم بها جدًّا ؛ لأن حالة أنطاكية الآن مضطربة جدًّا ، ولو إستغل الفرصة ، وباغتها بالهجوم فقد يستطيع أن يفتحها ، ويخلِّص المسلمين من هذا الإحتلال .


وكذلك وصلت الأخبار إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، فأسرع إلى أنطاكية ليختار الوصي المناسب .


ووصل بلدوين الثاني إلى أسوار أنطاكية أولاً ، ففوجئ بكارثة أخرى ! وهي أن إبنته أعلنت العصيان عليه وإستقلت بالإمارة ، بل وأرسلت إلى عماد الدين زنكي تعرض عليه مساعدتها في حكم أنطاكية على أن تعطيه جزية مالية كرمزٍ للتبعية !


كانت هذه بالطبع فرصة ذهبية لعماد الدين زنكي لولا أن بلدوين الثاني إستطاع أن يمسك بالرسول الذي يحمل رسالة أليس، بل وأعدمه ، ثم تراسل مع رجال الحكومة في أنطاكية الذين وجدوا أن محاولة أليس هذه محاولة طفولية للاستئثار بحكم إمارة صليبية عسكرية ؛ ففتحوا الأبواب لأبيها بلدوين الثاني الذي تملك الأمور بسرعة ، ثم قام بنفي إبنته إلى مدينة اللاذقية .


ومع أن بلدوين الثاني سيطر على الأوضاع في أنطاكية إلا أن عماد الدين زنكي أدرك أن الوضع في الإمارة لا بد أن يكون مضطربًا ، ومن هنا أسرع عماد الدين زنكي بجيشه إلى حلب ليدرس الوضع هناك ، فلعل الهجوم على أنطاكية الآن أفضل من الهجوم على الرها ، وعليه فيمكن له أن يؤجِّل قصة الأراتقة إلى وقت لاحق ، خاصةً أن قوتهم كما بدا له ضعيفة .


وجد عماد الدين زنكي أن أقرب الحصون التابعة لإمارة أنطاكية هو حصن الأثارب ، وقد فقده رضوان بن تتش سنة (504هـ) 1110م ، أي منذ عشرين سنة كاملة ، وهو أقوى حصون المنطقة مطلقًا ، ويشرف مباشرة على مدينة حلب ، ويسيطر على الطريق بين حلب وأنطاكية ، ولأهميته القصوى وضع فيه الصليبيون فرقة من أمهر الفرسان في أنطاكية .


رأى عماد الدين زنكي أن فتح هذا الحصن سيهزُّ أنطاكية هزة عنيفة ، إضافةً إلى تأمين مدينة حلب ؛ حيث كان الفرسان الصليبيون كثيرًا ما يخرجون من الحصن ليغيروا على مزارع حلب وفلاحيها ثم يعودون سالمين إلى داخل الحصن ؛ ولذلك توجه عماد الدين زنكي مباشرة لحصار الحصن المهم ، مستغلاًّ حالة الفوضى التي تعاني منها الإمارة .


لكن عماد الدين زنكي بخبرته العسكرية أدرك أن فتح الحصن صعب جدًّا ، وقد تطول مدة الحصار دون فائدة ، وهو في نفس الوقت لا يستطيع أن يهاجم أنطاكية في الغرب تاركًا هذا الحصن الخطير في ظهره ، فقام بحيلة ذكية ؛ إذ توجه بجيشه في إتجاه أنطاكية موهمًا فرسان الأثارب أنه سيستغل ظروف أنطاكية في إسقاط المدينة الرئيسية ، ومن الواضح أنه لم يظهر لهم قوته بكاملها ، إذ رأى الفرسان في الحصن أن الخروج واللحاق بعماد الدين زنكي ممكن ، وسينقذ الإمارة ، وهكذا خرجوا بالفعل ، فإستدرجهم عماد الدين زنكي بعيدًا عن الحصن ، ثم فاجأهم بالقتال المباشر ، وأسقطهم في كمين عسكري محترف ، وما هي إلا ساعات قليلة وسقطت كتيبة الفرسان بكاملها بين قتيل وأسير ! وعاد عماد الدين زنكي بسرعة إلى الحصن ، ففتحه عنوة ، وأسر الحامية التي بداخله ، ثم أمر بتخريب الحصن ؛ لكي يقطع على الصليبيين أي فرصة مستقبلية للسيطرة منه على حلب .


لقد إنتصر إنتصارًا مهيبًا حقًّا ، خاصةً أن هذه الفرقة الصليبية كانت من أمهر فرقهم وأقواها ، ولم يكتف عماد الدين زنكي بذلك ، بل انطلق صوب أنطاكية ، فحاصر مدينة حارم القريبة جدًّا من أنطاكية ، فعرضوا عليه أن يدفعوا له نصف دخل البلد ، على أن يعقد معهم هدنة، ووجد عماد الدين زنكي أن قوته العسكرية لن تسمح له بفتح البلد ، وكان رحمه الله حاسمًا جدًّا في قراراته ، فأدرك أنه لن يستطيع فتحه ، ومن ثَمَّ قَبِل بعرضهم، ورفع الحصار .


لقد كانت حملة موفقة غاية التوفيق ، أسقط فيها حصنًا منيعًا كحصن الأثارب ، وأوقع فرقة صليبية ماهرة بين قتلى وأسرى ، وضرب الجزية على مدينة حارم ! وكانت كل هذه الأحداث في سنة (524هـ)1130م .


وطار ذكر عماد الدين زنكي في الآفاق ، وصار الحديث عنه كبطل المسلمين في حروبهم ضد الصليبيين ، وبدا المسلمون يشعرون أن الجهود التي بُذلت لتوحيد المسلمين قد بدأت تؤتي ثمارها .


وحملت سنة 525هـ بعض الأخبار الجديدة التي تصب في مصلحة المسلمين ، فقد شاء الله أن يموت في هذه السنة (21 من أغسطس 1131م) بلدوين الثاني ملك بيت المقدس ، وهو الملك صاحب الخبرة العريضة الذي حكم قبل ذلك إمارة الرها ثمانية عشر عامًا ، ثم مملكة بيت المقدس ثلاثة عشر عامًا ، وطَّد في كل هذه السنوات ملك الصليبيين ، وإكتسب مهارة فائقة وخبرة عميقة في التعامل مع المسلمين ، وكذلك مع زعماء الصليبيين ، وكان موته خسارة كبيرة للصليبيين ، خاصةً أنه كان وصيًّا على إمارة أنطاكية بعد الظروف الصعبة التي مرت بها من قتل للأمير بوهيموند الثاني ، والمؤامرة الفاشلة التي قامت بها أليس إبنة بلدوين الثاني للإستيلاء على الحكم .


لقد كانت أزمة كبيرة لمملكة بيت المقدس وإمارة أنطاكية ، خاصةً أن الذي تولى الحكم بعد بلدوين الثاني لم يكن له إلا خبرة بسيطة جدًّا في الأراضي الإسلامية ، وهو الملك فولك الأنجوي !


أما كيف وصل الأمير فولك الأنجوي إلى حكم مملكة بيت المقدس ، فالقصة تبدأ من ثلاث سنوات (521هـ\ 1128م) حيث رغب بلدوين الثاني أن يزوِّج إبنته الكبرى من أمير يصلح لقيادة المملكة من بعده ؛ وذلك لأنه لم ينجب إلا أربعة بنات كانت إحداهن هي أليس التي تزوجت من بوهيموند الثاني أمير أنطاكية ، ومرت بنا قصتها ، وحيث إن الملك بلدوين الثاني لم يجد في الزعماء الصليبيين في المنطقة من يصلح لهذا الزواج ، فقد أرسل رسالة إلى لويس السادس ملك فرنسا في ذلك الوقت ، وطلب منه ترشيح أحد الأمراء الأكفاء الذين يصلحون لهذا الشرف ، وكان أن إختار ملك فرنسا أحد أهم الأمراء الفرنسيين ، وهو فولك الأنجوي ، وأرسله إلى بيت المقدس ، وإطمأنَّ له بلدوين الثاني ، وزوجه فعلاً من إبنته ميلزاند وأقطعه مدينتي صور وعكا ، وحرص على تدريبه سياسيًّا وعسكريًّا ، حتى إذا مات بلدوين الثاني إعتلى فولك الأنجوي مملكة بيت المقدس ، وصارت له كل صلاحيات الملك الراحل ، ومنها أنه أصبح وصيًّا على أنطاكية كذلك .


ومن هنا فلا شك أن أوضاع الصليبيين ستصبح مضطربة ، لا لقلة خبرة الملك فولك الأنجوي فقط ، ولكن لأن الأوضاع في أنطاكية لم تكن مستقرة أبدًا بسبب أطماع الأميرة أليس بنت الملك بلدوين الثاني ، والتي تم نفيها قبل ذلك إلى اللاذقية .


وشاء الله أن يحدث أمرٌ آخر مهم جدًّا بعد هذه الأحداث بقليل، وهو وفاة جوسلين دي كورتناي أمير الرها المخضرم ! وتولى من بعده إبنه جوسلين الثاني ، الذي لم يكن يمتلك معشار خبرة أبيه ، فكان هذا حدثًا كبيرًا مساعدًا للمسلمين ، خاصة أنه يأتي في الوقت الذي تتنامى فيه قوة المسلمين تحت قيادة عماد الدين زنكي رحمه الله .


ثم إنه تزامن مع هذه الأحداث أمر آخر كان له من الآثار ما غيَّر من مسيرة الأحداث ، ذلك أن دُبيس بن صدقة ، وهو زعيم قبيلة بني مزيد الشيعي ، الذي كان مواليًا للسلطان سنجر السلجوقي الرأس الأكبر للسلاجقة ، وقع أسيرًا في يد بوري بن طغتكين ، ولم يكن هذا الأسر في معركة ولا قتال ، ولكن ضلَّ دبيس بن صدقة الطريق يومًا ما فوقع في يد حسان بن كلثوم الكلــبي، فعرف شخصه وقيمته ، فحمله إلى زعيم دمشق ليكون له يدٌ عنده !


وعرف عماد الدين زنكي بأسر دبيس بن صدقة لدى بوري بن طغتكين ، فقام بمباحثات مع بوري بن طغتكين إنتهت إلى تبادل الأسرى ، حيث يأخذ عماد الدين زنكي دبيس بن صدقة ، في نظير ردِّ سونج بن بوري بن طغتكين إلى دمشق .

وتمت بالفعل الصفقة ، وكان الجميع - بما فيهم دبيس بن صدقة - يتوقع أن يُؤذِي عماد الدين زنكي دبيسًا ؛ لأنه كان رجلاً فاسدًا ومثيرًا للفتن ، إضافةً إلى أنه كان منافسًا لعماد الدين زنكي على منصب إمارة الموصل وحلب ، لكن عماد الدين زنكي بفقهه السياسي المعروف فعل عكس ما توقع الجميع !


لقد إستقبل عماد الدين زنكي دبيسًا إستقبال الأمراء والزعماء ، وقرَّبه وأكرمه ، وعامله بما يعامل به أكابر الملوك ! وهذا أثار تعجب الناس ودهشتهم ، لكن عماد الدين زنكي كان يستقطب مثل هذه الرموز المحرِّكة فيستفيد منها ، ويوجِّهها نحو خدمة الهدف العام لدولته .


لقد كان دبيس بن صدقة من الشخصيات المؤثرة في المجتمع في ذلك الوقت ، مع الإعتراف تمامًا أن تأثيره كان سلبيًّا ولم يكن إيجابيًّا ، إلا أنه يستطيع توجيه قبيلة كبيرة تسيطر بشكل كبير على وسط العراق ، وخاصةً منطقة واسط والحلَّة ، ولن يُقدِم مثل هذا الرجل على محاولته القديمة الفاشلة بقلب نظام الحكم في بغداد إلا وهو يملك مقومات كثيرة تدفعه إلى هذه الفكرة ؛ فلماذا لا يشتري عماد الدين زنكي ولاءه في هذا الموقف ، فيضمن وقوفه إلى جانبه في مشاريعه الضخمة لتوحيد المسلمين ولجهاد الصليبيين ؟ أو على الأقل فإنه سيضمن تحييده ، وعدم التدبير له ؟ ..


إن قبيلة دبيس بن صدقة لن تختفي من الساحة ، بل سيظهر من يقودها في حال غياب دبيس ، فلماذا لا يوجِّه عماد الدين زنكي دفَّة القبيلة عن طريق دبيس بن صدقة نفسه ؟ , ثم إن دبيس بن صدقة كان مقربًا للسلطان سنجر أعلى سلطة في الدولة السلجوقية ، ومثل هذا الفعل من عماد الدين زنكي يُهدِّئ من روع هذا السلطان ، الذي كان يريد تولية دبيس مكان عماد الدين زنكي ، فسيرى الآن أن عماد الدين زنكي يحفظ أصدقاء السلطان ومقربيه .


وهذا العمل من عماد الدين زنكي لن يكون منتقدًا من السلطان محمود سلطان فارس والعراق ؛ لأنه لم يكن يمانع منذ سنتين أن يولِّي دبيسًا إمارة الموصل وحلب ، لولا قوة حجة عماد الدين زنكي وحسن بيانه .


على أن السلبية الوحيدة التي تظهر في هذا العمل هي أن هذا الفعل سيغضب الخليفة المسترشد الذي كان يكره دبيس بن صدقة كراهية شديدة ؛ لأنه كان يريد أن يخلعه من منصبه ، وهذه كبيرة لا تغتفر عند الخلفاء ، ولا تُنسى أبد الدهر ؛ ولذلك فمن المتوقع أن يعترض المسترشد بالله على هذا الموقف من عماد الدين زنكي ، ولكن عماد الدين زنكي كان محدِّدًا وجهته من البداية ، وكان واضح الرؤية تجاه مراكز القوى الحقيقية في المنطقة ؛ ولذلك فولاؤُهُ سيكون أقرب إلى السلطان سنجر والسلطان محمود لا إلى الخليفة المسترشد حتى لو أظهر بعض القوة !


وغني عن البيان أن عماد الدين زنكي لم يقدِّم أي تنازل عقائدي أو فقهي أو فكري للقائد الشيعي دبيس بن صدقة ، إنما كان تعامله معه من باب السياسة وتقريب وجهات النظر في العمل الإسلامي ، لا من باب الرضا بمخالفات دبيس بن صدقة في الفقه والعقيدة ، أو التقريب بين مذهبين متباعدين .


وكما كان متوقعًا فإن هذا الموقف من عماد الدين زنكي أثار إرتياحًا عند السلطان سنجر والسلطان محمود ، بينما أثار غضبًا شديدًا عند الخليفة المسترشد بالله ، الذي راسل عماد الدين زنكي يطلب تسليم دبيس بن صدقة إليه ، وكان من المحال طبعًا بعد أن فعل عماد الدين زنكي كل ذلك أن يُسلِّم دبيس بن صدقة ليُقتل ؛ فرفض طلب الخليفة مما أوغر صدره على عماد الدين زنكي بشدة .


إذن كرؤية عامة للأوضاع في أوائل ومنتصف سنة 524هـ ، فإن أسهم عماد الدين زنكي كانت بصفة عامة قد إرتفعت جدًّا بإنتصاراته الباهرة على الصليبيين في حصن الأثارب وفي حارم ، وصار مقربًا جدًّا إلى قلوب العامة ، وإمتلك الكثير من الأوراق الضاغطة ، خاصةً بعد إخضاع مدن نصيبين ودارا ؛ مما أعطى الإنطباع أنه يريد أن يتوجه إلى الرها ، وبعد أن أنقذ دبيس بن صدقة من الأسر ، مما يشير إلى رغبته في إستغلال كل القوى لهدفٍ واحد واضح ، هو وَحْدة المسلمين وجهاد الصليبيين .


وإضافةً إلى هذه الصورة الطيبة فإن أوضاع الصليبيين كانت مضطربة للغاية ، حيث مات بلدوين الثاني وجوسلين دي كورتناي ، وتولى فولك الأنجوي حديث الخبرة بالمنطقة ، وكذلك جوسلين الثاني الأضعف كفاءةً وشجاعة من أبيه ، غير الإضطرابات الطاحنة التي كانت في أنطاكية .


كان هذا الوضع يشير إلى أن الفترة القادمة ستكون فترة علوٍّ للمسلمين ، وقلاقل وخسائر للصليبيين ..لكن كثيرًا ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن !لقد حدث أمرٌ غيَّر مجرى الأحداث كثيرًا ، وعطَّل مسيرة الجهاد ما يقرب من أربع سنوات كاملة !


لقد مات السلطان محمود عن عمرٍ أقل من سبعة وعشرين عامًا ! وكانت مفاجأة قلبت الموازين في الأمة الإسلامية ، حيث إنه مات صغيرًا جدًّا ، وبالتالي فأبناؤه أعمارهم صغيرة جدًّا ، ومن هنا ظهر الطامعون في الملك من كل مكان ، وصارت الأمة كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا !

إن كرسي السلطنة له بريق ما بعده بريق ، والفرصة المواتية الآن قد لا تتكرر إلا بعد عدد من السنوات لا يعلمه إلا الله ، ومن هنا اجتهد كل الطامعين أن يصلوا إلى هذا الكرسيِّ الوثير !


مَن الطامعون في كرسي السلطنة ؟!

أولاً : الملك داود ابن السلطان محمود ، وقد إستخلفه أبوه على السلطنة ، ولكنه كان أصغر من عشر سنوات ؛ ولذلك فهو تحت وصاية أتابكه (مُربِّيه) آقسنقر الأحمديلي .

ثانيًا : الأخ الأول للسلطان محمود وهو الملك مسعود بن محمد بن ملكشاه ، وكان رجلاً حسن الأخلاق ، وكان يرأس جرجان ، وكانت له قوة كبيرة وجيش عظيم ، وكان يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عامًا .

ثالثًا : الأخ الثاني للسلطان محمود ، وهو الملك طغرل بن محمد بن ملكشاه ، وكان خيِّرًا وعادلاً قريبًا إلى الرعية ، وكان يبلغ من العمر إثنين وعشرين عامًا .

رابعًا : الأخ الثالث للسلطان محمود، وهو الملك سلجوقشاه بن محمد بن ملكشاه ، وهو أمير فارس وخوزستان ، وكان يبلغ من العمر ... .

خامسًا : السلطان سنجر ، وهو عم السلطان محمود ، وأقوى الشخصيات السلجوقية ، وسلطان خراسان وبلاد ما وراء النهر ، وأكبر الجميع سنًّا (46 سنة) ، وإن كانت بلاده بعيدة عن العراق وشرق فارس ، وهي منطقة أملاك السلطان الراحل محمود .

سادسًا : الخليفة المسترشد بالله ، الذي يريد أن يخرج من سيطرة السلاجقة ، وأن يستقل بنفسه ، وإن كان هذا سيعني أنه لن يصبح حاكمًا إلا على منطقة بغداد فقط وما حولها ؛ لضعف جيش الخلافة في هذا الوقت .

فهذه ست قوى متصارعة على الحكم ، كلٌّ منها له طموحه الخاص ، ومبرراته لطلب الحكم ، وكلٌّ منها يقف خلفه أنصار وأعوان ، وجيش وشعب ! لقد كانت أزمة حقيقية توشك أن تدفع الأمة إلى أتُّونٍ من الصراعات والإنشقاقات .


فإذا أضفت إلى هؤلاء بعض القوى الأخرى التي لا تطمع في كرسي السلطنة ولكنها مؤثِّرة للغاية ، فإن الموقف سيزداد تعقيدًا ، وعلى رأس هذه القوى بلا شك يأتي عماد الدين زنكي رحمه الله !!


فعماد الدين زنكي وإن كان مجرد أمير على إمارة إلا أنه أصبح من أقوى القادة العسكريين ، ومن أوسعهم نفوذًا ؛ إذ يسيطر الآن على الموصل وحلب وحران وحماة ونصيبين وبعض مناطق الأكراد ، بل يصل نفوذه إلى مشارف أنطاكية .. ثم إنه البطل الذي إنتصر على الصليبيين ، وقلوب الشعوب الإسلامية تهفو إليه .


نَعَمْ هو في هذه المرحلة لا يستطيع أن يعلن دولة خاصة به ، وليس له القبيلة الكبيرة أو الأعوان الكثر الذين يساعدونه على الإستقلال وإنشاء دولة جهادية خالصة إلا أنه قوة لا يستطيع المتنافسون على السلطة أن يتجاهلوها ، ولن يصبح في نفس الوقت قرار عزله قرارًا آمنًا ؛ لأنه سيؤدِّي إلى سخط عام في العالم الإسلامي ، كما أن الاحتياج إليه في جهاد الصليبيين أصبح إحتياجًا ماسًّا ..


وعلى هذا فالمتوقع الآن أن تبدأ إحدى هذه القوى أو أكثر من قوة ، في إستقطاب عماد الدين لصالحها وعلى عماد الدين أن يحسن الإختيار ؛ لكي لا يدخل في صدام مع شخصية قد تصل بعد ذلك إلى كرسيِّ السلطنة ، ومن ثَمَّ يضطرب موقفه ، وبالتالي تتوقف حركة الجهاد .


فما هي رؤية عماد الدين زنكي في هذا الموقف الشائك ؟

إن الموقف حقيقة في غاية التعقيد ؛ لأن القوى تكاد تكون متساوية ، وفرصتها متقاربة ، إلا أن الفرصة الكبرى في تخيل عماد الدين زنكي كانت للملك مسعود بن محمد بن ملكشاه ، وهو أكبر الأخوة الآن للسلطان الراحل محمود .


إن هذا هو أكبر الأخوة ، وبالتالي ففرصة إجتماع الناس عليه عالية ؛ لأنه أكبر من أخويه طغرل وسلجوقشاه ، وهو أفضل من الطفل داود إبن السلطان الراحل ، الذي لا يملك من أمره شيئًا ، بل سيكون أُلْعُوبة في يد أتابكه آقسنقر الأحمديلي .. وكذلك فرصة الملك مسعود أعلى من السلطان سنجر ؛ لأن السلطان سنجر وإن كان كبيرًا مهيبًا إلا أنه بعيد ، وسيطرته في غالب الأمر شرفيَّة ، وليست واقعية .


أما الخليفة المسترشد بالله فإمكانياته أقل من أحلامه ، والوقوف إلى جواره في هذه الأزمة هو عدم فقه للواقع ، ولا حسن تقدير للنتائج , وإضافةً إلى كل ما سبق فإن الملك مسعود شخصيَّة محبوبة وحسنة الخلق ، وبالتالي سيكون قبول المسلمين لها عاليًا .


وفي نفس الوقت الذي كان عماد الدين زنكي يفكِّر فيه في الملك مسعود كان الملك مسعود يفكر في القوى الموجودة على الساحة لنصرته في الوصول إلى كرسي السلطنة ، وكان من أوائل الذين فكَّر فيهم عماد الدين زنكي الأمير القوي !


وهكذا أرسل الملك مسعود رسالة إلى عماد الدين زنكي يطلب منه المساعدة العسكرية على إقراره في منصب السلطة ، ووعده بإعطاء مدينة إربل المهمة جدًّا عسكريًّا في نظير هذه المساعدة ، فوافق عماد الدين زنكي ، وصار في صفِّ الملك مسعود .


ثم إن التقليد المتبع في ذلك الوقت كان يقضي بأنه لا بد للسلطان الجديد من تقليد من الخليفة العباسي ، وهذا يجعل فرصة الطاعة للسلطان في أنحاء العالم الإسلامي أوسع؛ لأن الناس كانت تعتبر جدًّا برأي الخليفة ، على الأقل من الناحية الشرعية ، ويشعرون أن مخالفته لا تأتي بخير ، مع يقين الجميع بضعف مركزه، وقلة حيلته؛ ولذلك كان السلاطين حريصين دائمًا على تقليد الخليفة لهم ، ومن شَعَر أن الخليفة لن يقلده فلا يمانع أن يخلع الخليفة تمامًا ، ثم يضع خليفة غيره يعطيه التقليد !


وعليه فإن الجميع كان ينظر إلى رأي المسترشد في هذه القضية ، وعادةً ما كان الخليفة يُقِرُّ من إتفق السلاجقة على إختياره ، أما الآن فالوضع مختلف ؛ إذ حدث التنازع بين خمس شخصيات مختلفة : العم سنجر ، والأخوة الثلاثة مسعود وطغرل وسلجوقشاه ، والإبن داود .. فمَن مِن هؤلاء يختار الخليفة ؟!


إن الخليفة المسترشد متطلع للحكم ، وعليه فهو يريد أن يختار أقل الناس تدخلاً في شئون الحكم ؛ لكي يدير هو الأمور بنفسه ، وعلى ذلك فقد وقع إختياره على السلطان سنجر ؛ وذلك لبُعد المسافات بينه وبين العراق ، ومن ثَمَّ سيصبح للخليفة المسترشد كلمة مسموعة في العراق على الأقل ، وقد يكون في الشام أيضًا !


هكذا كان رأي المسترشد بالله وطموحه !

وعلى هذا فقد أقام المسترشد الخطبة للسلطان سنجر ، وعلَّق أي موافقة على سلطان جديد على موافقة السلطان سنجر شخصيًّا ، وهذا - ولا شك - أعجب السلطان سنجر جدًّا وإستحسنه !


فالسلطان الذي إختاره السلطان محمود قبل أن يموت هو السلطان داود إبنه ومعه جيش أصفهان ، وهو القوة الرئيسية في جيوش السلاجقة ، حيث كان تحت سيطرة السلطان محمود شخصيًّا ، ولا شك أن السلطان داود - مع أنه طفل صغير - لن يقبل بضياع السيطرة منه ؛ ولذلك عزم على التوجه إلى بغداد بجيشه ؛ لإجبار الخليفة على تقليده للسلطنة !


وفي نفس الوقت تحرك الأخوان مسعود وسلجوقشاه إلى بغداد لنفس الغرض ، وهو إجبار الخليفة على تقليدهما كلٌّ على حدة !


فهذه جيوش ثلاثة لداود ومسعود وسلجوقشاه ! ومن الموصل تحرك جيش عماد الدين زنكي نصرةً لمسعود , أما السلطان سنجر فقد شعر أن بُعد المسافة قد يمنعه من السيطرة على الأوضاع ، فإتفق مع الأخ الثالث طغرل ، وجمع جيشًا كثيفًا وتوجه إلى بغداد هو الآخر ! وهذا مالم يكن يتوقعه الخليفة ، فهو لم يتخيل أن يأتي سنجر بنفسه ومعه طغرل ، ليصبح في النهاية الخليفة تابعًا لهم كما كان تابعًا لغيرهم !


وتعقَّد الموقف تمامًا ! فهناك أربع قوى متصارعة !

قوة السلطان المعلن حتى الآن ، وهو السلطان داود بن محمود ومعه جيشه المتجه إلى بغداد ، ويقاومه الآن ثلاث قوى مؤيدة بجيوش ، وكلها يتجه إلى بغداد أيضًا :


القوة الأولى : قوة الملك مسعود بجيشه ، ومؤيَّدة بجيش عماد الدين زنكي .
القوة الثانية : قوة الملك سلجوقشاه .
القوة الثالثة : قوة السلطان سنجر ، ومعه الملك طغرل .

وهذا الوضع لا بد أن يلزم الخليفة بأن يختار بجدية السلطان المرتقب الذي يجب أن يقف إلى جواره .


ولكن قبل الحديث عن نتيجة هذه الصدامات المرتقبة لا بد من وقفة مع هذا الموقف العجيب ، حيث تتصارع جيوش حقيقية قوية يقودها أخوة وأقارب من الدرجة الأولى !

كيف تمَّ هذا ؟ وما هي طبيعة القتال بينهم ؟!

لي على هذا الموقف عدة تعليقات :

أولاً : فتنة الدنيا , يقول رسول الله : "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا" .

والفتنة التي فتحت على هؤلاء فتنة عظيمة جدًّا ، فنحن كثيرًا ما نرى الأخوة يتصارعون على ميراث بسيط تركه لهم أبوهم ، فما بالكم بتركة تضم عدة دول كبرى !!


إن الذي سيوضع في منصب السلطان ستكون له السيطرة على العراق وفارس (إيران) والشام بكل دولها وأذربيجان وأرمينية وباكستان ، وقد يتوسع ملكه بعد ذلك في بلاد أخرى كالجزيرة العربية أو تركيا ، فهي فتنة عظيمة ، ولا سيما أن آخر ما يخرج من قلب الإنسان هو حب السلطان !


ثانيًا : هؤلاء الأخوة وإن كانوا من أبٍ واحد ، إلا أنهم كثيرًا ما ينشئون متباعدين ، حيث يعيش كل واحد في دولة مختلفة ، وقد يكون له أم مختلفة ، ومربٍّ مختلف ؛ فلا يربط بينه وبين أخيه الرباط الذي نراه في الأخوة المتحابين .

ثالثًا : التربية العسكرية الصرفة التي ينشَّأ عليها الأولاد ، خاصةً في الدولة السلجوقية التي كانت دولة عسكرية من الطراز الأول ، وقد رأينا في كثير من الأحيان أن الذي يتولى تربية الأولاد رجل عسكري ، بل قد يكون رئيس الجيش كله ، وهو الذي كان الأتراك السلاجقة يطلقون عليه لفظ "أتابك" أي مربي الأمير ، فكان عماد الدين زنكي مثلاً هو مربي ألب أرسلان بن السلطان محمود ، وكان طغتكين الذي صار أمير دمشق هو مربي أولاد دقاق بن تتش ، وهكذا .. ولا شك أن هذه النشأة العسكرية جعلت قضية الروابط الأسرية والعلاقات الإنسانية أقل عندهم من غيرهم .

رابعًا : الزمن زمن فتنة ، والخليفة ضعيف ، وكل واحد من هؤلاء له مبرراته - التي قد تكون مقنعة - للوصول إلى الحكم ، وقد يرى أنه يدافع عن حقٍّ ، ولا يجب التفريط فيه ..

والذي يثبت أن القضية فعلاً فتنة هو إشتراك عدد لا بأس به من أفاضل الأمة وثقاتها في مثل هذه الصراعات ، بل إن السلاطين المشاركين في هذه الصراعات كانوا على درجة عالية من الأخلاق الحميدة ، والخصال الحسنة ، وكانوا في مجملهم محبوبين في شعوبهم ، قريبين من رعيتهم .


رابعًا : ضعف الاتصالات كان يؤدي إلى كثير من النتائج السلبية ، والمشاكل المعقدة ، وقد كان الجميع يتنافس على الوصول إلى الخليفة أولاً، وقد يأخذ هذا الوصول أيامًا كثيرة ، ثم يعود بالرَّدِّ في أيامٍ أخرى ، وهكذا , فلو أخذت هذا الأمر على نطاق المساحة الشاسعة التي يعيش فيها كل واحد من هؤلاء المتصارعين ، لعلمت أن الأمر فعلاً في غاية التعقيد .

خامسًا : لا شك أن البطانة المحيطة بكل واحد من هؤلاء كانت تزيِّن له أنه أفضل الجميع وأحكمهم وأعقلهم ، وأحقهم بالحكم ، ولا شك أن هذه البطانة مستفيدة جدًّا من وصول رجلهم وقائدهم إلى منصب السلطنة ، فهذه ليست ترقية له فقط ، بل ترقية للجميع !

فهذه بعض الخلفيات التي تفسِّر لنا حدوث مثل هذه الفتنة ، وليس هذا مبرِّرًا لقَبولها ، أو عذرًا لحدوثها ؛ فإن هذه الفتنة كانت وبالاً كبيرًا على المسلمين عطَّل مسيرة الجهاد أربع سنوات كاملة ، ولكن ذكرناها من باب محاولة فَهم الأحداث فهمًا متكاملاً .


وممَّا هو جدير بالذكر أن المعارك التي كانت تدور بين هذه الطوائف المتناحرة لم تكن معارك ضارية مع أن أعدادهم كبيرة ، وعُدَّتهم قويَّة ، ممَّا يدلُّ على أن معظم المتصارعين كانوا حريصِين إلى حدٍّ كبير على دماء إخوانهم ؛ ولذلك كثيرًا ما رأينا تصالحًا أثناء القتال ، أو عفوًا بعد النصر ، أو عدم حميَّة أثناء الصدام ؛ ممَّا أفرز نتائج قد نستغربها أحيانًا ، وهذا لم يكن عند السلاطين فقط ، بل حتى عند القادة الأقلِّ ، بل وعند الجنود ؛ لأنه من المؤكَّد أن حميَّة هؤلاء للقتال ليست كحميَّتهم عند قتال الصليبيين .


ونعود إلى الأحداث ، ونجد أن الخليفة المسترشد بالله بدأ يتردَّد في قضيَّة إعلانه أن السلطان الذي يجب أن يُسيطر على العراق هو السلطان سنجر ، وخاصَّة أنه أتى معه بالملك طغرل بن محمد ، الذي سيسيطر على الأمور كلها .


وفي نفس الوقت إلتقى جيشا السلطان داود بن محمود مع جيش عمِّه الملك مسعود في أرض فارس ، وحدثت مناوشات ليمنع كل منهما الآخر من الوصول إلى بغداد ، وإنتهت المناوشات بالصلح بين الطرفين ، ولكن أرسل كل منهما رسالة سريعة إلى الخليفة المسترشد يطلب إعطاءه السلطنة .


وكانت المناوشات التي حدثت بين السلطان داود والملك مسعود سببًا في وصول الملك سلجوقشاه إلى بغداد أولاً ، وهو بالطبع يطلب لنفسه السلطنة !


وبينما إستقبل الخليفة سلجوقشاه ، وبدأ في المباحثات ، إذ بجيشين يقتربان من بغداد ,
الجيش الأول هو جيش الملك مسعود من الشمال الشرقي ، والجيش الثاني هو جيش عماد الدين زنكي الموالي للملك مسعود ، ويأتي من الشمال الغربي !

ووجد الخليفة نفسه في مأزق ، خاصَّة أنه ليس على وفاق مع عماد الدين زنكي بسبب قضيَّة دبيس بن صدقة ، ومن ثَمَّ وبعد مفاوضات سريعة مع سلجوقشاه اتَّفقا على قتال هذين الجيشين والدفاع عن بغداد ! ولكن كان من الواضح أن الخليفة لا يدري لماذا هو يدافع عن بغداد ، هل يدافع عنها لنفسه أو للملك سلجوقشاه ، أم للسلطان سنجر ، أم للسلطان داود ؟! لقد كان الموقف عجيبًا حقًّا ! كما أن الجيوش المهاجمة لبغداد لم تكن تهاجم بحميَّة وقوَّة ، فَهُمْ في النهاية يهاجمون عاصمة الخلافة الإسلاميَّة بغداد ، والذين يدافعون عنها هم إخوانهم وعشيرتهم .


وهكذا حدث قتال بلا رُوح ، لم تظهر فيه المهارات المعروفة للمقاتلين .. لقد إتجه سلجوقشاه بجيشه لحرب أخيه مسعود ، بينما إتجه الخليفة لحرب عماد الدين زنكي !

وكان الصدام الأول هو الصدام بين الخليفة بجيش بغداد مع عماد الدين زنكي بجيش الموصل ، ومن الواضح أن عماد الدين زنكي لا يقاتل بحميَّته المعروفة ، ولا بحماسته المعهودة ، فحدث أمر متوقَّع ، وهو أنه إنهزم من جيوش الخليفة! ونقول : إن هذا شيء متوقَّع ؛ لأن الخليفة يقاتل بكلِّ طاقته ، وبجيش بغداد الذي يصل إلى ثلاثين ألف مقاتل ، بينما كان يتحرَّج عماد الدين زنكي من مثل هذا القتال ، وكل ما تخيَّله أنه سيذهب بقوَّة رمزيَّة إلى بغداد يكون هدفها فقط أن تعلن أن الموصل وبلاد الشام تقف إلى جوار الملك مسعود ، غير أن الصدام حدث ، وكان الخليفة جادًّا تمامًا في حربه ، ولعلَّه كانت تراوده أحلام الفكاك النهائي من السيطرة السلجوقيَّة على العراق !

وهُزم عماد الدين زنكي وجيشه ، وتفرَّق الجيش هنا وهناك ، وهرب عماد الدين زنكي في إتجاه الشمال ، ووصل إلى مدينة تَكريت ، وهي في المنتصف بين بغداد والموصل ، وكانت وراءه فرقة من الجيش العباسي تطارده ، وكان من الممكن أن تكون أزمةً كبيرة ، خاصَّة أن نهر دجلة كان يعوقه عن العبور للناحية الغربيَّة ليصل إلى مدينة الموصل ، لولا أن أمير قلعة تكريت عرف عماد الدين زنكي فأسرع بمدِّ المعابر على دجلة ، وأنقذه من الجيش العباسي ، بل وإستضافه في قلعته عدَّة أيام أصلح فيها شأنه ، وطمأن قلبه ؛ لأنه كان يشعر أن هذا الرجل هو أمل المسلمين ، وهو الذي يحمل راية الجهاد ضدَّ الصليبيين ، كل هذا مع أنَّ مدينة تكريت تابعة للخليفة العباسي ، وليس لأحد آخر ، ممَّا يعني أن هذا الرجل يخاطر بمنصبه في سبيل حماية عماد الدين زنكي .


بقي أن نعرف أن هذا الرجل هو نجم الدين أيوب بن شاذي ، وهو والد صلاح الدين الأيوبي ، ولم يكن صلاح الدين قد وُلد بعدُ في هذه الفترة ، ولكن كانت هذه الحادثة سببًا في التعارف والتآلف بين نجم الدين أيوب وعماد الدين زنكي ؛ مما مهَّد لأن يُرَبَّى صلاح الدين الأيوبي بعد ذلك في كنف أولاد عماد الدين زنكي ، وأهمّهم بالطبع هو نور الدين محمود .


فانظر إلى عجيب تدبير ربِّ العالمين ، ولو لم يكن هناك من فوائد لهذه الفتنة التي حدثت إلاَّ هذا التعارف لكفى به ، وصدق الله إذ يقول: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) .


وصلت أخبار هزيمة عماد الدين زنكي إلى الملك مسعود ، وكان حينها في مناوشات عسكريَّة مع أخيه سلجوقشاه ، فعلم أن الحلَّ العسكري لن يُجدي ، خاصَّةً أن جيوش السلطان سنجر بدأت تقترب من بغداد ، هنا إتَّفق الملك مسعود وأخوه الملك سلجوقشاه على الصلح ، وتراسلا مع الخليفة ليعرضا عليه رأيًا !


وكان الرأي هو أن يُعطى العراق للخليفة يحكمه عن طريق وكيل له يختاره ، وتُعطى السلطنة لمسعود ، وتعطى ولاية العهد لسلجوقشاه ، بمعنى أنه عند وفاة الملك مسعود يتولَّى سلجوقشاه ، وليس أحدٌ من أبناء السلطان مسعود .


ووجد الخليفة أن هذا الحلَّ أفضل من سيطرة السلطان سنجر ، وعلى ذلك وافق على هذا الرأي ، وقُطعت خطبة السلطان سنجر من العراق ، وصارت إلى السلطان مسعود !


وإقترب السلطان سنجر أكثر وأكثر من بغداد ، وهنا إضطر السلطان مسعود وأخوه الملك سلجوقشاه أن يجتمعا على حرب عمِّهما السلطان سنجر ، مع العلم أن أخاهما طغرل في جيش السلطان سنجر !


وكانت موقعةً عجيبة ، تقاتلت فيها أعداد هائلة ؛ حيث وصلت جيوش السلطان سنجر إلى مائة ألف فارس أو يزيد ، وكانت الغلبة فيها بوضوح للسلطان سنجر ، الذي إستدعى الملك مسعود بعد هزيمته ، فلما رآه قبَّله وأكرمه ، وعاتبه على عصيانه ، ثم أعاده إلى كنجة في بلاد فارس ، ووضع إبن أخيه طغرل في كرسيِّ السلطنة ، دون إعتبار بالطبع لرأي الخليفة ، الذي اضطرَّ أن يُعطيه السلطنة وهو كاره .. وهكذا صار سلطان العراق وفارس هو السلطان طغرل ، وذلك تحت رعاية السلطان سنجر ! وكانت هذه الوقعة العسكريَّة في 8 من رجب سنة 526هـ\ 1132م .


فهل هدأت الأحداث بهذه الزعامة الجديدة للسلطان طغرل ؟!


أبدًا ، إن الفتنة لم تقف ! فقلوب الجميع تغلي بالمشاكل ، وكلُّ واحد من هؤلاء تشغله هموم شتَّى، والأفكار تتزاحم في عقله، وتعالَوْا نأخذ استراحة سريعة بعد هذه الصدامات ؛ لنرى الوضع في أخريات هذه السنة ، خاصَّة أن هناك أحداثًا مهمَّة عاصرت هذه الفتنة لا بُدَّ من التعليق عليها ،
فلنرقب معًا هذه الملحوظات العشر :

أولاً : السلطان سنجر عاد إلى بلاده مسرعًا بعد وضع الملك طغرل في السلطنة ؛ لأن بلاد السلطان سنجر بعيدة ، وهي خراسان وبلاد ما وراء النهر ، أي في وسط آسيا ، وتَرْكُ السلطانِ لبلاده فترة طويلة قد يُغري بعضَ الطموحين بالثورة عليه .

ثانيًا : الملك طغرل الآن يستمتع بكرسي السلطنة ، لكنَّ قوَّته بمفرده دون عمِّه ، لا شكَّ أنها ضعيفة ، فهذا قد يؤثِّر في موقفه ، وقد يُغري إخوانه بالإنقلاب عليه !

ثالثًا : الملك مسعود خسر في معركة ضدّ السلطان سنجر ، لكنه لم يخسر جيشه ، فالسلطان سنجر كان رحيمًا به ؛ فأعاده وما يملك من جيوش إلى فارس .. ولا شكَّ أن رغبته في السلطنة لن تنقطع ، خاصَّة أنه كان أكبر من أخيه السلطان طغرل ، ولا يجد معنًى لإعطائه السلطنة دونه .

رابعًا : الملك داود الذي كان سلطانًا وخُلِع ، لا بُدَّ أنه سيفكر في مصيره ؛ فهو إبن السلطان محمود الراحل ، وقد إستخلفه أبوه لكن أعمامه وجَدَّهُ صرفوا السلطنة عنه ، فهل سيهدأ ، أم سيناضل من أجل الكرسيِّ المسلوب ؟!

خامسًا : الخليفة المسترشد يغلي غيظًا ؛ فالسلطان الآن هو طغرل بن محمد على غير رغبته ، ولا شكَّ أنه سيتحيَّن الفرصة للخلاص من سيطرة هذا السلطان الجديد .

سادسًا : عماد الدين زنكي يتحسَّر على ما آلت إليه الأحداث ؛ لقد مرَّ الصليبيون بظروف صعبة جدًّا وقلاقلَ ، وسيمرُّون بظروف أخرى أكثر صعوبة ، وكانت الفرصة مواتية لهجوم شامل عليهم ، لولا الفتنة التي بدأت ، ولا يبدو لها من نهاية في القريب العاجل .

سابعًا : في 21 من شهر رجب سنة 526هـ - أي في نفس الشهر الذي وُضع فيه السلطان طغرل في منصبه - تُوُفِّيَ بوري بن طغتكين أمير دمشق ، وخلفه إبنه إسماعيل بن بوري الملقَّب بشمس الملوك ، وكان رجلاً فاسدًا ظالمًا ، شديد الظلم ، إرتكب في حياته من القبائح والمنكرات ما أنكره عليه الجميع ، وصار يُقاتل كل مراكز القوى في بلده ؛ حتى أوقع الرهبة في قلوب كل الناس ، وكانت فتنة عظيمة على أهل دمشق !

ثامنًا : حدثت فتنة بين شمس الملوك إسماعيل بن بوري حاكم دمشق وأخيه شمس الدولة محمد بن بوري أمير بعلبك ، وصار بينهما قتال كبير ، إنتهى بإستيلاء شمس الملوك إسماعيل على حصنين مهمَّين في شمال دمشق ، بينما أقرَّ أخاه شمس الدولة محمد على حكم بعلبك ، وكانت هذه الفتنة فرصة لتدخُّل عماد الدين زنكي ليضمَّ دمشق إلى حكمه ، لولا الفتنة الأشدُّ التي كانت تدور في العراق ..

تاسعًا : تأزّم الموقف أكثر في أنطاكية ! لقد قامت الأميرة المتمردة أليس بنت الملك الراحل بلدوين الثاني بمؤامرة للسيطرة على الحكم في أنطاكية ؛ حيث قامت بالإتِّفاق مع ثلاثة أمراء صليبيين على مساعدتها في الوصول إلى الحكم في أنطاكية مستغلَّة حداثة خبرة الملك فولك الأنجوي بالشرق الإسلامي ، ولم تكن خطورة المؤامرة فقط في الخروج عن طوع الملك فولك وتسيير الإمارة وَفق أهواء امرأة غير ناضجة كأليس ، ولكن كانت خطورتها في أسماء الأمراء الثلاثة الذين وافقوا على مؤامرة أليس ؛ فهم : جوسلين الثاني أمير الرها ، وبونز بن برترام أمير طرابلس ، إضافةً إلى وليم وهو أمير أحد حصون اللاذقية التابع إلى إمارة أنطاكية ، وهو حصن صهيون .

ووجه الخطورة أن هذه المؤامرة ستؤدِّي إلى إنشقاق كبير في الصفِّ الصليبي ؛ حيث تتعاون الإمارات الثلاث في قضية ضدَّ المملكة الرئيسية ، وهي مملكة بيت المقدس .


ولقد شعر بعض فرسان أنطاكية بالمؤامرة ، وراسلوا الملك فولك الأنجوي الذي جاء مسرعًا على رأس جيشه ليُحبط مؤامرة الأميرة المتهوِّرة ، إلاَّ أن بونز أمير طرابلس إعترض طريقه في لبنان ، ومنعه من إكمال المسيرة ، فحدث قتال بين جيش بيت المقدس وجيش طرابلس ، وهي المرَّة الأولى منذ نزول الجيوش الصليبية في أرض الشام وفلسطين التي يحدث فيها قتال بينهم ، وإضطرب الوضع جدًّا ، وإنسحب الملك فولك من أرض المعركة ، ولكنه إستطاع الوصول إلى أنطاكية عن طريق البحر من ميناء بيروت ، ودخلها بالفعل ، وأحبط المؤامرة ، لكنَّ بونز أسرع إلى أنطاكية ليحاول تثبيت دعائم الأميرة أليس ، إلاَّ أنه حدث قتال كبير بينه وبين الملك فولك انتهى بهزيمة كبيرة لأمير طرابلس ، وإستقرار الأوضاع في أنطاكية لصالح الملك فولك الذي وَضَعَ على أنطاكية أميرًا من طرفه هو رينو ماسوير
Renaud Masoier , لقد كانت أزمةً كبيرة كان من الممكن أن تُستغلَّ لصالح المسلمين ، لولا أن المسلمين كانوا منشغلين بفتنتهم !

عاشرًا : لم تكن هذه هي الأزمة الوحيدة التي مرَّ بها الصليبيون ، بل كانت هناك أزمة أخرى لعلَّها أشدّ ، حيث حدث تصادم عسكري داخلي في مملكة بيت المقدس بين الملك فولك الأنجوي والأمير هيو الثاني أمير يافا .. وسبب الصدام هو إكتشاف الملك فولك الأنجوي أن زوجته الملكة ميلزاند بنت الملك بلدوين الثاني كانت تخونه مع الأمير الشابِّ هيو الثاني ! وكانت نتيجة الصدام بالطبع هو أسر الملك هيو الثاني ، وجرحه جراحة خطيرة ثم ترحيله إلى صقلية ، حيث مات هناك بعد قليل .

ومع أن الشرع النصراني يقضي بإمكانية أن يُطَلِّق الملك فولك الأنجوي زوجته لثبوت الخيانة الزوجيَّة عليها ، إلاَّ أن الملك فولك الأنجوي كان يعلم أن تطليقها يعني ذهاب المُلْكِ ؛ لأنه يحكم بيت المقدس إنتسابًا لبنت الملك الراحل بلدوين الثاني ، وعليه فحتَّى لو حُوكِمَت الملكة ميلزاند ، فإن الحكم سينتقل إلى إحدى أخواتها ، وبالتبعية إلى زوجها ؛ ومن هنا آثر الملك فولك الأنجوي أن يغضَّ الطرف ، وأن يأمر زوجته أن تستغفر لذنبها ! بل إنه بدأ يسترضيها بشكل مبالغ فيه ؛ لأنها أظهرت الغضب الشديد عليه لقتله عشيقها !


ومن هذه المبالغات التي فعلها الملك فولك الأنجوي أنه إضطر لموافقة الملكة ميلزاند على إعادة أختها الأميرة أليس إلى حكم أنطاكية بدلاً من الأمير رينو ماسوير ! وبهذا لم يتنازل الملك فولك الأنجوي عن كرامته فقط ، بل تنازل أيضًا في مسألة الأميرة أليس - والتي كان صارمًا جدًّا فيها قبل ذلك - عن أمن وسلامة أنطاكية حين وافق على إمارة الأميرة الطموحة أليس ، هذا بالإضافة طبعًا إلى تنازله تمامًا عن نخوته كرجل ، أو فطرته كإنسان !


إذن كان الوضع في أواخر سنة 526هـ يبشِّر بتصدُّع داخلي في الصفِّ الصليبي ، ولولا إنشغال المسلمين بأزماتهم الداخليَّة في العراق لكان الوضع مختلفًا تمامًا ، ولْيُدْرِك المسلمون الأثمان الباهظة التي تدفعها الأُمَّة نتيجة الفُرقة والتشتُّت .


أمَّا بالنسبة لبطلنا عماد الدين زنكي فقد إضطرَّ أن يمكث بجيشه في الموصل قرب الأحداث الساخنة في بغداد ، حيث إن هذه الأحداث من الممكن أن تُغَيِّر كل الأنظمة والأوضاع ، وإكتفى بمناوشات بسيطة مع الصليبيين عن طريق أمير حلب الأمير سوار ، وهو أمير من أمراء دمشق الذين هربوا منها سنة 524هـ ، فإستقطبه عماد الدين زنكي ، وأقطعه حلب وأعمالها ، وكان من المجاهدين الأشداء ، الذين أبلَوْا بلاءً حسنًا في منصبهم طيلة حياة عماد الدين زنكي .


=====

يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

عوداً حميداً يا أخ أبو البراء ونشكرك على تكملة الموضوع حتى إنهائه ان شاء الله ، اتمنى أن يكون تأخرك فى التكملة فيه خيراً لك ان شاء الله
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- ولْنَعُدْ إلى موقفنا المعقَّد في العراق !

إن الأمور لم تهدأ بطبيعة الحال ؛ لقد ترك السلطان سنجر إبن أخيه السلطان طغرل في كرسي السلطنة وعاد إلى خراسان ، ولا شكَّ أن هذا أضعف موقفه ، وأطمع المتنافسين فيه ! وكان السلطان طغرل يتَّخذ من همذان مقرًّا له ، فقام الملك داود بن محمود ومعه أتابكه والمتصرِّف في شئونه آقسنقر الأحمديلي بالثورة على السلطان طغرل ، وجمعا الجيوش ، وحدث تصادم بين القوَّتين في رمضان سنة 526هـ بالقرب من همذان ، وإنتهى الأمر بهزيمة الملك داود ، وإستقرار الأمر من جديد للسلطان طغرل .

ولكنَّ الأمر لم يقف عند هذا الحدِّ ، فقد رحل الملك داود إلى بغداد ، وإلتقى بالخليفة المسترشد بالله الذي أكرم وفادته ، وإستقبله إستقبالاً كبيرًا ، وأنزله بدار السلطان ، وإن لم يخلع عليه لقب السلطنة ؛ فهو الآن ضعيف مهزوم !


سمع بهذه الأحداث الملك مسعود ، وكان يرى أنه أحقُّ الناس بالسلطنة ؛ لأنه أكبر الإخوة ، وعلى الأقلِّ فهو أحقُّ من السلطان الحالي طغرل أخيه الأصغر ، فذهب مسرعًا إلى بغداد ، وإلتقى بالخليفة المسترشد وبالملك داود ، وإتفق معهما على أن يخلع الخليفةُ عليه لقب السلطان على أن يكون داود بن محمود وليَّ عهد له ، وبذلك ينفذ المخطط القديم الذي كان بين الخليفة المسترشد بالله والملك مسعود مع إختلاف ولاية العهد ، فإنها ستكون لداود بدلاً من الملك سلجوقشاه !


وجمع الملك مسعود والملك داود جيوشهما ، وتصادما مع جيش الملك طغرل في أكثر من موضع في بلاد فارس ، وإنتصر الملك مسعود ، وبالتالي أخذ لقب السلطنة ، وكان هذا في أواخر سنة 527هـ ، حيث أخذت الأحداث المؤسفة السابقة عامًا كاملاً .


وفي ظلِّ هذه الأزمات المتتالية كان إسماعيل بن بوري حاكم دمشق الفاسد يرقب الأحداث ، ومن ثَمَّ باغت مدينة حماة التي كانت تتبع عماد الدين زنكي ، فحاصرها حصارًا شديدًا ، وإنتهى الأمر بإسقاطها لصالحه ، وكانت خسارة كبيرة جدًّا للإمارة الزنكية الناشئة ؛ لأن حماة مركز مهمٌّ للإنطلاق نحو دمشق ، كما أنها مركز مهمٌّ أيضًا لحرب إمارة طرابلس ، لكن على فداحة هذه الحادثة إلاَّ أنها كانت متوقَّعة ؛ نتيجة الخلل الأمني الخطير من جرَّاء صراعات السلاطين والملوك السلاجقة !


ومع ذلك فالأمير المحنَّك عماد الدين زنكي لم يكفّ عن إرسال السرايا لحرب الصليبيين ؛ وذلك ليمنعهم من الطمع في بلاد المسلمين نتيجة الفتن المتتالية بالعراق ، وكان القائم بهذه الحملات العسكريَّة في المعظم هو سوار أمير حلب ؛ ومن ذلك مهاجمته لمدينة تلِّ باشر التابعة لإمارة الرها في جمادى الآخرة سنة 527هـ ، وإنتصاره على الصليبيين مع قتل ألف منهم ، هذا غير الغنائم الكثيرة التي ظفر بها ، وفوق ذلك فقد جنَّد سوار عدَّة فرق من التركمان من أرض الجزيرة ، وإستغلَّهم في الهجوم على إمارتي أنطاكية وطرابلس ، وحقَّق عدَّة إنتصارات هنا وهناك ، وقتلوا عددًا كبيرًا من الصليبيين ، وغنموا غنائم أخرى .


ولم يكن الهدف من هذه المعارك هو تحرير هذه الإمارات ؛ لأن القوَّة الإسلاميَّة لم تكن كافية لذلك ، ولكن كان الهدف الرئيسي هو قطع طمع الصليبيين في حلب وما حولها ، وذلك إلى أن تنتهي فتنة العراق ، ويتفرغ عماد الدين زنكي لمشروعه الجهاديِّ من جديد .. ومن هذا المنظور فقد نجحت هذه الحملات نجاحًا كبيرًا ، وإن لم تفلح في تحرير قلعة أو مدينة !


ثم نعود إلى قصتنا في العراق وفارس !

نحن الآن في سنة 528هـ وكرسي السلطنة مع الملك مسعود ، لكن هذا - ولا شكَّ - لن يُرضِي السلطان المخلوع طغرل ، الذي ما زال يتلقَّى معونات السلطان سنجر من بعيد ! , ولهذا فقد جمع السلطان طغرل قوَّته من هنا وهناك ، وأغرى الملك داود بن محمد بالإنفصال عن السلطان مسعود ، وحدث ذلك بالفعل ، بل وإستقطب بعض الفرق من جيش السلطان مسعود بنفسه ، ودارت معارك في أرض فارس بين الأخوين طغرل ومسعود ، وإنتهى الأمر بإنتصار السلطان طغرل من جديد على أخيه السلطان مسعود ، وبذلك عاد كرسي السلطنة مرَّة أخرى إلى السلطان طغرل !


لقد دخل المسلمون في تِيهِ الصراعات والفتن ، فأصبح أمرًا عاديًّا أن يتقاتل الإخوة ، وتتصارع الجيوش الإسلاميَّة مع بعضها البعض ، وأصبح أيضًا أمرًا مألوفًا أن ينتقل كرسي السلطنة من واحد إلى آخر كل عدَّة أشهر ، وكأنه منصبٌ عادي بسيط لا يؤثِّر في مسيرة أُمَّة كاملة !


ولا شكَّ أنه في ظلِّ هذه الظروف سيطمع كل مَن كان في قلبه مرض ، وكان أشدّ الناس معاناة في هذا الموضوع هو عماد الدين زنكي رحمه الله ؛ فقد تعب كثيرًا من أجل توحيد المسلمين في كيان واحد يصلح لجهاد الصليبيين ، ثم ها هو يرى بعينيه أن الكيان ينهار أمامه ، وأن السلاطين المسلمين يتصارعون معًا بدلاً من توحيد القوة في إتجاه صحيح ، بل ويستقطب كل واحد منهم طائفة من المسلمين فيستعديها على الأخرى ؛ ومن هنا ظهرت القلاقل في كل مكان ، وبدأت الأحوال تضطرب في داخل الإمارة الزنكيَّة الواسعة ، وشعر الناس أن عماد الدين زنكي مضطر للإنتظار حتى يرى نتيجة صراع السلاطين ، وكان عماد الدين زنكي نفسه متحرِّجًا من المشاركة في هذه الصراعات ، فنجده قابعًا بجيشه في الموصل منتظرًا لإستقرار الأحداث ، غير أنها كانت لا تستقرُّ !


في هذه الظروف قامت عدَّة إنقلابات في مناطق الأكراد الحميدية والهكارية في شمال وشمال شرق الموصل ، وكانت هذه المناطق - كما بيَّنَّا قبل ذلك - قد خضعت لحكم عماد الدين زنكي ، ولكنهم في ظلِّ هذه الإضطرابات طمعوا في الإنفصال عن الإمارة الزنكيَّة ، بل وبدءوا في الإغارة على حقول الفلاَّحين وأسواق التجَّار ؛ مما أحدث فزعًا كبيرًا في الموصل ، ولكن عماد الدين زنكي تعامل مع الموضوع بمنتهى الحزم ، فأخذ فرقة من جيشه ، وإتجه إليهم بنفسه ، وبعد عدَّة صدامات في جبالهم الوعرة إستطاع بفضل الله أن يقمعهم ، ويُسيطر على متمرِّديهم ، ويمتلك عدَّة قلاع وحصون لهم في أعالي جبالهم ، وما هي إلاَّ عدَّة أشهر حتى عاد الأمن من جديد ، وإستقرَّت الأوضاع .


ثم ما لبثت المشاكل أن ظهرت في منطقة جديدة هي منطقة الجزيرة وأراضي ديار بكر ؛ حيث وجد الزعماء هناك أن الأوضاع المستقبلة في العراق - التي شغلت عماد الدين زنكي بشكل كبير - ما هي إلاَّ فرصة لهم ليعيدوا السيطرة على ما ضمَّه عماد الدين زنكي قبل ذلك إلى إمارته ..


وإذا نظرنا إلى وضع هذه المناطق فإننا - كما ذكرنا من قبلُ - سنجد أن فيها قياداتٍ كثيرةً وزعامات متعددة ، لكن كل هذه الزعامات لا وزن لها ، اللهم إلا ثلاثة يمثِّلون أكبر قوَّة في هذه المناطق ،
وهؤلاء هم الثلاثة الذين إشتركوا قبل ذلك في سنة 524هـ ، أي منذ أربع سنوات ، في حربٍ ضدَّ عماد الدين زنكي ، وهي موقعة دارا .

1- حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ، وهو أمير ماردين .

2- ركن الدولة داود بن سقمان (إبن عم الأول) ، وهو أمير حصن كيفا .

3- سعد الدولة أبو منصور إيكلدي ، صاحب آمد .


وجد عماد الدين زنكي رحمه الله أن تجمُّع هؤلاء من جديد سيمثِّل عائقًا كبيرًا لمشروع الوَحدة ، خاصَّة في الظروف التي يمرُّ بها الآن ؛ حيث الأوضاع المضطربة في العراق وفارس ، وحيث الإنقلابات المتكرِّرة في مناطق الأكراد ، وحيث الهجمات الصليبية المتوقَّعة في منطقة حلب وما حولها ، ومن ثَمَّ فإنه لا بُدَّ من التعامل مع هذه المشاكل الجديدة بشيءٍ من الحسم وسرعة القرار .


وجد عماد الدين زنكي أن قتال هؤلاء الزعماء مجتمعين سوف يؤدِّي إلى خسائر كبيرة ، ومن ثَمَّ قرَّر أن يسلك الطريق السياسي لتفتيت إتحادهم ، وإستقطاب بعضهم ؛ لتنتهي المشكلة بأقلِّ خسائر ممكنة ..


وعند النظر إلى شخصيات وإمكانيات هؤلاء الزعماء ، فإنه وجد أن ركن الدولة داود شديد التصلُّب ويتَّصف بالعِنْد ، أما سعد الدولة أبو منصور إيكلدي فهو ضعيف ، وإمكانياته محدودة ، ويبقى حسام الدين تمرتاش فهو صاحب قوَّة كبيرة ، وإن كان هو شخصيًّا يتميَّز بالمرونة السياسيَّة ، كما أنه - كما وصف إبن الأثير - يحبُّ الدِّعَةَ والرفاهية ! وعلى ذلك ففرصة التوحُّد مع حسام الدين تمرتاش وإغراؤه بفكِّ التحالف مع هؤلاء الضعفاء ، وجعل تحالفه مع عماد الدين زنكي شخصيًّا قد تكون فكرة صائبة .. ومن هنا بدأ عماد الدين زنكي رحمه الله يتقرب من حسام الدين تمرتاش ، فأوقف التحرُّكات العسكريَّة ناحية بلاده ، وأرسل له بعض الهدايا ، مع تذكيره بأهمية الوَحْدة بين المسلمين ، وإغرائه بإتساع ملكه في حال التوحُّد معه .


ووجد هذا الأمر قبولاً سريعًا عند حسام الدين تمرتاش ، ووجد في صداقة عماد الدين زنكي أكبر النفع عن صداقته مع ركن الدولة داود أو سعد الدولة إيكلدي ، فتجاوب مع تقرُّب عماد الدين زنكي ، ثم ما لبث الأمر أن وصل إلى تحالفٍ سياسي معلن ، وتوحيد القوَّتين في كيان واحد ، وبدأ عماد الدين زنكي وحليفه حسام الدين تمرتاش في بسط السيطرة على المناطق المحيطة ، وجُوبهوا - بلا شكٍّ - بمقاومة من الزعيمين الآخرين ، إلاَّ أنهماإ نتصرا في أول الصدامات ، وتمَّ الإستيلاء على قلعة من أهمِّ قلاع ركن الدولة داود ، وهي قلعة الصَّوْر قرب ماردين ، وأهداها عماد الدين زنكي إلى حليفه الجديد حسام الدين تمرتاش ؛ تأكيدًا على الحلف الذي بينهما .


هكذا إستطاع عماد الدين زنكي بسياسته أن يوظِّف حسام الدين تمرتاش لصالحه ، وأن لا يكتفي فقط بضمِّ أراضٍ جديدة لإمارته ، بل ويرسِّخ الأمن فيها دون أن يعرِّض قوَّاته لخطر كبير .


ونترك إقليم الجزيرة وديار بكر ، ونترك الإمارة كلها لنرحل رحلة سريعة في عقل بطلنا عماد الدين زنكي !


إن الأحداث الجارية في الأُمَّة الآن تكشف طبيعة الرجال ومعادنهم ، كما تكشف قوَّتهم وإمكانياتهم .. فما هي الرؤية الصائبة في هذه الأحداث ؟ وما هو ردُّ الفعل المناسب الذي من المفترض أن يتعامل به عماد الدين مع الأحداث ؟.


إنه إعتاد - كما كان يفعل أبوه من قبل - أن يكون ولاؤه لسلطان السلاجقة ؛ لأنه هو الأقوى ، وهو الذي يتحكم فعليًّا في الأمور ، وهو الذي يتحمَّس لقضايا المسلمين ويتحرَّك إليها .. إنه اعتاد على ذلك منذ زمنٍ ، لكن شتَّان بين سلاطين الأمس وسلاطين اليوم ! أين الثَّرى من الثُّريَّا ؟!


أين مجموعة السلاطين المتصارعة الآن من ألب أرسلان أو ملكشاه أو بركياروق أو محمد ؟ حتى السلطان محمود - على صغر سنِّه - كانت له رؤيةٌ ، وكانت له طموحات جيدة للأُمَّة الإسلامية ، كما أنه كانت له قوَّة يستطيع بها أن يتغلب على منافسيه ، ومن ثَمَّ تستقرُّ أوضاع البلاد ، وتتفرغ إلى همومها الخارجيَّة ، وعلى رأسها قضية الصليبيين .


أما هؤلاء السلاطين الأقزام فعلامَ يتقاتلون ؟!

هل يستطيع أحدٌ أن يقول : إن هذا القتال لله ؟! بل هل يستطيع أحد أن يجزم أن الحقَّ في الصراع مع هذا الطرف دون غيره؟!
... إن المعاصرين للحدث أنفسهم كانوا لا يستطيعون أن يجزموا أن فلانًا على حقٍّ ، وغيره على باطل ! ولذلك ترى الزعماء والأمراء والجنود والشعوب كثيرًا ما تنقلب من طاعة سلطان إلى طاعة غيره ، وليس ذلك لضعف في الأخلاق أو المبادئ ، ولكن لضعفٍ في الرؤية والتحليل .

ثم إن كل السلاطين ضعفاء ! أو على الأقلِّ قوَّتهم متكافئة ؛ فيصعد سلطان على الكرسيِّ عدَّة أشهر ، وأحيانًا عدَّة أيام ، ثم يخلعه غيره ! ويُنادى بالسلطنة لفلان في بلد ، ويُنادى بها لغيره في بلد مجاور ، ويقف الخليفة اليوم مع سلطان، ويقف غدًا مع سلطان ثانٍ، وقد يقف بعد غدٍ مع سلطان ثالث !


إنها فتنة تترك الحليم حيرانَ !


لقد شهدت السنوات الثلاث التي أعقبت موت السلطان محمود ولاية داود ، ثم مسعود ، ثم طغرل ، ثم مسعود ، ثم الآن طغرل ! ولا يعلم أحد كيف يكون الغد ؟!


أهذا أمر يُعقل؟! ثم إن الخليفة الطموح المسترشد بالله صار طرفًا في الصراع ، وله جيش مؤثِّر ، وإن لم يكن كبيرًا جدًّا ، بحيث يفرض على الجميع كلمته ، لكنه أصبح من عناصر التأثير المحسوبة في المعادلة ، فهل سيأتي زمنٌ يحمل فيه الخليفة مهامَّ الخلافة كما يحمل إسمها ؟!


إنه سؤال صعب في وسط هذه المتغيِّرات الكثيرة ! ولنتجوَّل في عقل بطلنا عماد الدين زنكي !


مع أيِّ هذه القوى ينضمُّ ؟ وأيُّ هذه القوى يناصر ؟ وأي القوى أعظم ؟! .. لقد كان يقف مع الملك مسعود في البداية ؛ لأنه الأخ الأكبر من الإخوة المتصارعين ، ويبدو أنه كان أقرب إلى السلطنة .. أما الآن فقد كشفت الصراعات أن الجميع ضعيف ، وأن الجميع من طلاَّب الدنيا ، وإن حَسُنت أخلاقهم ، ورقَّت طبائعهم .. فهل يُكمِل المسيرة مع السلطان مسعود ؟ أم يُوَجِّه عونه إلى سلطان آخر ؟ أم يقف مع الخليفة ؟!


إن الأمر جِدُّ محيِّر !! بل محيِّر جدًّا .


أتدرون وجه الحيرة في المسألة ؟! إن الحيرة ليست فقط في الإختيار بين المتنازعين ، ولكن الحيرة في شيء أعظم ! لقد أثبتت الأيام أن عماد الدين زنكي أقوى من الجميع !!

إنه أقوى من كل سلاطين هذه الأيام ، وكذلك أقوى من الخليفة العباسي !! إنه ليس فقط أقوى أخلاقيًّا أو عقائديًّا ، لكنه أقوى كذلك ماديًّا وعسكريًّا ، وهو أقوى أيضًا في فَهْمه وعقله ورؤيته , إنه الوحيد الذي جعل من قضية الصليبيين قضية حياته ، والوحيد الذي حمل على أكتافه مهمة توحيد المسلمين ، والوحيد الذي كان يستشير الفقهاء والعلماء فيما يفعل وفيما يختار .

ثم إنه أقوى كذلك في حبِّ الناس له ؛ إنَّ قلوب المسلمين في كل مكان تهفو إليه ، ويتناقل الجميع أخباره بشغفٍ وحب ولهفة ، ولا يختلف عليه إثنان من عموم الشعوب ، لكن مَن مِن الناس يتعلق بأحد هؤلاء السلاطين ؟! إن وجود طغرل لا يفرق كثيرًا عن مسعود ! وسلجوقشاه لا يختلف كثيرًا عن داود ! ولو ظهرت شخصية رابعة أو خامسة أو عاشرة فلن يفرق هذا كثيرًا مع الناس !


إن هذا هو الواقع الحقيقي ، فلماذا لا يُصبِح عماد الدين زنكي هو القوة الأولى في العالم الإسلامي ، ويصبح قائمًا بما يجب أن يقوم به السلطان ؟!


إنه سؤال جريء !ولكنه سؤال واقعي ! إن الإجابة المحزنة قد تكون : إنه ليس سلجوقيًّا ! فكيف يقوم مقامه ؟!

وهل لا بد للسلطان أن يكون سلجوقيًّا ؟! وهل لا بد للخليفة أن يكون عباسيًّا ؟! وهل لا بد للحكم أن يكون توارثيًّا ؟!


إنها أسئلة جريئة ، لكن الإجابة عليها ستكشف لنا أخطاء كثيرة وقعت فيها الأمة في كثير من فترات حياتها .. إنني لا أمانع أن يتولى الإبن بعد الأب حكم البلاد ، إن كان الإبن كملكشاه الذي تولى الحكم بعد أبيه ألب أرسلان .


إن هذا توارث غير مخلٍّ بقواعد الشريعة ، ولا آداب الحكم وأصوله .. إن الحاكم المسلم لا بد أن تتوافر فيه صفات كثيرة من العلم والقوة وحسن الخلق وتوقير الشريعة والكفاءة في الإدارة وحسن السياسة ، وغير ذلك من صفات لا بد أن يتحلى بها الحاكم ، فإن توافرت هذه الصفات في الإبن أو الأخ فلا مانع من أن يتولى بعد أبيه أو أخيه .. أما أن يتولى حكم المسلمين فقط لأن مؤهلاته هي القرابة من الحاكم ، فهذا لا يجوز شرعًا ولا عقلاً !


لقد كانت فترة السلاجقة فترةً مهمَّة في حياة الأمة الإسلامية ، وذلك أيام طغرل بك مؤسِّس الدولة ثم ألب أرسلان وملكشاه وغيرهم من السلاطين الأقوياء ، لقد كانت فترة مهمة رفعوا فيها راية الإسلام عالية ، لكن إذا ضعف أمرهم فلا بد أن يحمل الراية آخرون ، ولا يُضحَّى أبدًا بالأمة في سبيل أشخاص ، والله يقول : (
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) .

وكما ذهب المُلْك من يد أقوامٍ إلى السلاجقة ، فلا بد أن يأتي يوم ويذهب المُلْك من يد السلاجقة إلى غيرهم .. ويبدو أن هذا "الغير" في هذه الأيام سيكون عماد الدين زنكي !

إن رصيد عماد الدين زنكي من الجهاد والخبرة والمواهب والكفاءة يرشِّحه لهذا المنصب الرفيع دون منافس حقيقي في زمانه ، وإلا فمَن مِن الأسماء المتصارعة يدانيه في ملكاته ؟ خاصةً أنهم جميعًا من صغار السن قليلي الخبرة ؛ فالسلطان مسعود - وهو أكبرهم - لم يتجاوز في سنة 528هـ السادسة والعشرين من عمره ، بينما يبلغ عماد الدين زنكي من العمر الآن الحادية والخمسين من العمر ! إنه رجلٌ عركته التجارب ، ودرَّبته الخطوب والأحداث ، وشهد القريب والبعيد ببراعته ، وعرف الجميع قوته ، ولو ملك أمر المسلمين فإنهم جميعًا سيسعدون به ، ويكونون طوع كلمته .

لكن ماذا يفعل عماد الدين زنكي الآن ؟! هل يُعلِن الثورة وينفصل بإمارته عن الجميع ؟

أم يقف بقوته مع أحد الضعفاء فيصبح هذا الضعيف قويًّا به ؟

إن إعلانه الثورة قد يفتح نيران السلاجقة أجمعين ؛ لأنه ليس سلجوقيًّا ، وبذلك تدخل البلاد في تِيهِ الصراعات .. وكذلك وقوفه بجوار أحد الضعفاء سيقوِّي مركزه على حساب غيره ، وسيصعد هذا الضعيف على كرسيٍّ لا يناسبه ، وإلى مقام لا ينبغي أن يصل إليه ، وفي هذا خداع للناس ، وخيانة للأمانة .


كما أن قضية الصليبيين ستُنسى تمامًا في خضم هذه المعارك الداخلية المقيتة !


ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!


إنه يريد أن يُغلِق هذا الملف تمامًا ليتفرغ إلى قضية الصليبييين ، وليعيد البسمة إلى شفاه المسلمين المعذَّبين ، والمجروحين في كرامتهم ، والمطرودين من ديارهم وأرضهم .


فأين الطريق في هذه المتاهات المخيفة ؟!


لقد فكَّر عماد الدين زنكي كثيرًا ثم أخذ قراره ! لقد قرر أن يعيش قصته "وكأنه" منفصلٌ عن السلطنة والخلافة ، لكنه لن يُعلِن الإنفصال لكي لا يثير الغضب ، ويحرِّك الفتن .


إنه سوف يضع هؤلاء الضعفاء جميعًا خلف ظهره ، حتى لو إستقر الأمر لأحدهم ، فهم سيأخذونه إلى الدنيا التي يريدونها إذا سار خلفهم ، أما هو فسيقود الأمة إلى عزِّها ومجدها ، وقبل ذلك وبعده إلى رضاء ربِّها .


إن في عنقه أمانة ثقيلة ، ولا يريد أن يضيِّع وقته في جدال طويل ، أو في صراع عقيم .. إنه لن يُعلِن الآن أنه الزعيم الأول الذي يجب أن يُتبع ، وقد لا يعلن ذلك مطلقًا ، ولكنه سيعمل بعمل الرجل الأول ، وفي نفس الوقت فهو سيتلطَّف قدر ما يستطيع مع أشباه الزعماء الذين يعاصرونه ؛ ليتجنَّب أذاهم ، أو عرقلتهم لمشروعه الكبير !


إنه سيجعل ساحة عمله في المنطقة التي حددها السلطان الراحل محمود في منشوره لعماد الدين زنكي ، وهي مناطق الموصل والجزيرة والشام ، ولن يلتفت إلى مناطق الصراعات السلجوقية والعباسية ، وهي مناطق بغداد ووسط العراق وفارس وغيرها ، وخاصةً أن وَحْدة الموصل والجزيرة والشام قادرة بإذن الله على فعل شيء ذي قيمة مع الصليبيين ، ومن أدرانا ؟! فلعل هذا الجهد من عماد الدين زنكي يستكمله غيره فيوسِّع دوائر الوحدة ، ويعزُّ الأمة أكثر وأكثر ، ولقد كان مُلْك طغرل بك أو ألب أرسلان صغيرًا جدًّا بالقياس إلى مُلْك الإبن ملكشاه ، ولكن هكذا دومًا الأمور ، تنمو بتدرج !!


ثم في النهاية ، إنَّ عماد الدين زنكي يعمل لله كما تدل على ذلك الشواهد الكثيرة التي ذكرناها قبل ذلك وهذا الذي يعمل لله لن يضيِّعه الله ، ولو لم ير ثمار عمله ؛ فإن الله يحفظ له أجرها يوم القيامة ، وهذا منتهى آمال المؤمنين .


لقد كانت هذه هي الأفكار التي جالت في ذهن البطل عماد الدين زنكي ، وهذه هي الرؤية التي بَصُرها بعد جَهْدٍ عميق ، وبعد فتنة إستمرت حتى الآن ثلاث سنوات ، ولا يعلم أحد إلا الله متى ستنتهي .


وعلى ذلك فقد بدأ عماد الدين زنكي في سياسته الجديدة فورًا ، وهي سياسة تلطيف العَلاقات دون وعد صريح بالوقوف إلى جانب طرف دون طرف .


وبدأ عماد الدين زنكي بالخليفة المسترشد بالله ، خاصةً أنه كان هناك صدام مع هذا الخليفة منذ سنتين يوم أنْ كان عماد الدين زنكي مناصرًا للملك مسعود ؛ وأرسل عماد الدين زنكي الهدايا للخليفة ، بل وأرسل إبنه الأكبر سيف الدين غازي ليؤكِّد طاعته للخليفة وولاءَه له وتقديره لمكانته ، فإطمأنت بذلك نفس الخليفة ، وتبادل مع عماد الدين زنكي الهدايا .


وفي مطلع سنة 529هـ ، وبينما عماد الدين زنكي رحمه الله يرتِّب أوراقه ليرى كيفية التعامل مع الوضع الجديد للسلاطين ؛ حيث كان طغرل على كرسيِّ السلطنة منذ عدة أشهر ، وصل نبأ عجيب ! لقد تُوفِّي طغرل فجأةً في المحرم من هذه السنة وهو في السادسة والعشرين من عمره ! وهكذا تحرَّك الملك مسعود بسرعة ، وجمع الأعوان ، وإعتلى كرسي السلطنة !


لقد خلا الجو لمسعود ليكون السلطان الجديد ، خاصةً أن داود بن محمود قد ضعفت قوته جدًّا بعد قتل أتابكه (مربِّيه) آقسنقر الأحمديلي ، ويقال أنَّ الذي قتله هو مسعود عن طريق الباطنيَّة .. كما أن السلطان سنجر قد شعر بعدم إمكانية الخوض في صراع فارس والعراق بعد موت مرشَّحه للسلطنة الملك طغرل ، أما سلجوقشاه فكانت قوَّته أضعف من الجميع .


وهكذا وصل السلطان مسعود إلى الحكم لا لكونه مستحقًّا ، ولكن لخلوِّ الساحة من الآخرين ، وكان من الواضح أن الدولة السلجوقيَّة في نزعها الأخير !


في نفس هذا الوقت وصلت إلى عماد الدين زنكي إستغاثة عجيبة من دمشق ! لقد أرسل زعيمها الفاسد شمس الملوك إسماعيل بن بوري إستغاثة إلى عماد الدين زنكي يطلب منه أن يأتي ويتسلَّم مدينة دمشق ! وأصل الحكاية أن شمس الملوك إسماعيل أظهر من الفساد ما لا يُتوقع ، حتى إنَّه قتل أخاه سونج بالجوع ! حيث حبسه في بيتٍ وتركه عدَّة أيام حتى مات من الجوع . ثم إنه بدأ يُصادر أموال الناس ، وينهب أملاكهم ، حتى إنه لم يكن يتردد عن نهب الحقير من الأشياء ، وكان لا يمتنع عن سرقة أموال الفقراء ، فضجَّ الناس كلهم أجمعون ، وإعترض عليه بعض الأعوان فقتلهم ، ثم أظهر عدم التردُّد في قتل كل معارض ؛ مما أحدث إضطرابًا عنيفًا في دمشق ، وحتى وصل الأمر إلى أن شمس الملوك إسماعيل صار يخاف على نفسه تمامًا ، وتوقع إنتقامًا قريبًا من الناس ، وبدأ يخشى حتى من أشدِّ مقربيه ، وشعر أنه سيُقتل بين لحظة وأخرى ؛ وهذا دفعه إلى الإستغاثة بعماد الدين زنكي الرجل الأول في العالم الإسلامي آنذاك ، وعرض عليه أن يتسلم المدينة في نظير حمايته، بل إنه هدَّد من شدة خوفه أنه إن لم يأت مسرعًا فإنه سوف يسلِّم المدينة إلى الصليبيين !


وجد عماد الدين زنكي أن هذه فرصة ثمينة لضمِّ دمشق إلى مملكته ، وتوجه فورًا من الموصل إلى مدينة دمشق ، غير أنه في طريقه إليها وجد فرصة سانحة لضم مدينة الرَّقَّة إلى كيانه الموحَّد .. ومدينة الرقة هي مدينة من مدن إقليم الجزيرة ، وهي قريبة من حرَّان ، وتقع شرق الفرات ، وأفلح فعلاً في ضم المدينة ، ولكن هذا عطَّله قليلاً ، فوصل إلى دمشق متأخرًا نسبيًّا ، فوجد أن شمس الملوك إسماعيل قد قُتل ، وقد جاءته مؤامرة القتل من حيث لا يحتسب ! حيث إن الذي دبَّرت محاولة قتله هي : أمُّه !! وهذا من أعجب الأمور في التاريخ حيث تسعى أمٌّ إلى التآمر لقتل إبنها الملك ؛ وذلك لأنه من شدة فساده كان يدبِّر لقتل أمِّه ، فسارعت هي بقتله ! فلما قُتِل شمس الملوك تولى من بعده أخوه شهاب الدين محمود بن بوري ، وإتفق أهل دمشق على طاعته .


حاصر عماد الدين زنكي دمشق محاولاً ضمها ، لكنها إستعصت عليه ، وأصرت على عدم الانضمام لوَحْدة المسلمين ، وتحصن أهلها في الحصون المختلفة ، وتولى الدفاع عن دمشق شخصية عسكرية خطيرة سيكون لها شأن في تاريخ دمشق ، وهو معين الدين أَنُر ، وهو من مماليك طغتكين أمير دمشق الراحل ، وكان معين الدين أنر رجلاً عسكريًّا فذًّا ، غير أنه كان نفعيًّا إلى أكبر درجة ، ولم يكن يمانع من إستخدام أي وسيلة لتثبيت قدمه في منصبه ، وسوف يصل الأمر معه إلى التعاون المباشر مع الصليبيين .


في هذه الأثناء حدثت تطورات ساخنة في العراق حيث راودت الخليفة المسترشد بالله الأحلام في الإستقلال عن الدولة السلجوقية ، خاصةً بعد أن أغراه الملك داود بن محمود بالإتحاد معه لحرب عمِّه السلطان مسعود ؛ فجهَّز الخليفة جيوشه وبدأ يستعد لحرب مباشرة مع السلطان الجديد مسعود !


وعلى الساحة الشاميَّة وجد عماد الدين زنكي أن فرصة إسقاط دمشق ضعيفة جدًّا ، وأنه في ظل الأوضاع المتقلبة التي تعاني منها الأمة الإسلامية لن يستطيع أن يمكث طويلاً أمام أسوار دمشق .. ثم إنه وجد أن حماة الآن قد خلت من الحاميات القوية نظرًا لسحب معظم الطاقة العسكرية التي كانت بها إلى دمشق لمواجهة الأوضاع الجديدة هناك ، وكان قد مرَّ بنا أن شمس الملوك إسماعيل ضم حماة إلى دمشق في أثناء الصراعات الدائرة في العراق ، وذلك منذ ثلاث سنوات ومن هنا فإن عماد الدين زنكي إستغل الفرصة ، وترك دمشق الحصينة ، وتوجه إلى مدينة حماة ، وإستطاع أن يعيد امتلاكها ، وتوجه منها إلى حمص ، وحاصرها كذلك ، إلا أن حمص الحصينة قاومت بقيادة قريش بن خيرخان ، وبالتالي تعذَّر عليه ضم هذه المدينة المهمَّة ، فعاد منها إلى حلب .


في غضون هذه الأحداث وصلت الأخبار بالصدام المؤسف بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود في العاشر من رمضان سنة (529هـ) يونيو 1135م ، وكان النصر حليفًا للسلطان مسعود ، وتم أسر الخليفة المسترشد بالله ، ولم يُقتل في هذه المعركة أي إنسان ! وتم التحفُّظ على الخليفة في همذان ، وهي المقر الرئيسي للسلطان مسعود .


كانت نتيجة مؤسفة جدًّا للخليفة العباسي ، وإضطر الخليفة إلى قبول الصلح المذل مع السلطان مسعود ؛ إذ كان الصلح يقضي بأن يدفع الخليفة مبلغ أربعمائة ألف دينار للسلطان مسعود ، وأن لا يعود لتجميع العساكر أبدًا ، وأن لا يخرج من داره ، فضلاً عن إقرار السلطان مسعود في كرسيِّ السلطنة !


قَبِل الخليفة الوضع الجديد ، وبينما هو يتأهب للرحيل والعودة إلى بغداد حدث أمرٌ أشد أسفًا من كل ما سبق ؛ إذ دخل عليه أربعة وعشرون رجلاً من الباطنيَّة في خيمته وقطَّعوه إربًا !! وكان ذلك في السابع عشر من ذي القعدة من سنة 529هـ .


ترامت الأنباء أن السلطان مسعود هو الذي حضَّ على قتل الخليفة ؛ لأنه لم يكن يأمن له حتى بعد إقراره ببنود الصلح القاسية ، ومع ذلك فقد بويع لإبنه أبي جعفر المنصور الملقَّب بالراشد بالله ، لكن كان من الواضح أن المنطقة أصبحت على مِرْجَلٍ يغلي بعنفٍ ، خاصةً أن السلطان مسعود لم يكتف بذلك ، بل توجَّه لحرب إبن أخيه داود بن محمود ، الذي كان قد تحالف مع المسترشد بالله ضدَّه !


كان عماد الدين زنكي في أثناء هذه الكوارث مشغولاً بما هو أهم وأعظم ، فقد توجه إلى حلب وذلك بعد ضم حماة ، وفشله في ضم حمص ، وهناك بدأ يخطِّط للهجوم على أنطاكية مستغلاًّ حالة الإضطراب العسكري هناك ، خاصةً وهو يعلم أنها الآن تحت الحكم المباشر للأميرة المتهورة أليس ! ولكي يضمن عماد الدين زنكي رحمه الله أن لا تصل نجدة إلى إمارة أنطاكية من إمارة الرها القريبة ، أرسل أمير حلب سوار ليهاجم مدن تلِّ باشر وعَيْنتاب وعَزاز ، وبذلك قطع طرق الإتصال بين الرها وأنطاكية ، وشعل جيوش الرها بنفسها ، فلا تصبح لها فرصة في التوجُّه إلى أنطاكية .


بعد هذا التخطيط بدأ عماد الدين زنكي رحمه الله في مهاجمة الحصون والقلاع الواقعة في أطراف إمارة أنطاكية ، وكذلك المدن الإسلامية المحتلة في هذه المنطقة ، وبعد عدة معارك متتالية إستطاع بطلنا أن يحرر كفرطاب ومعرَّة النعمان وزردنا ، فكانت هذه الإنتصارات بمنزلة البَلْسم على الجروح الإسلاميَّة الكثيرة في هذه الفترة !


أثارت هذه الانتصارات المتكررة إنتباه الجميع ، سواء من الصليبيين أو من المسلمين !

فعلى الصعيد الصليبي ألقت هذه الإنتصارات الرعب في قلب أليس أميرة أنطاكية ، فلجأت إلى رعونة جديدة ! فلقد أرسلت الأميرة أليس إلى إمبراطور الدولة البيزنطية تعرض عليه زواج إبنتها كونستانس من إبن الإمبراطور يوحنا ألكسيوس كومنين ، وبالتالي الإشراف المباشر من الدولة البيزنطية الأرثوذكسية على أنطاكية الكاثوليكية !

وكانت خطوة هزت الصليبيين من الأعماق ، فهم يحاولون دفع الدولة البيزنطية عن أنطاكية منذ ما يقرب من أربعين سنة ، ثم في لحظة واحدة ستُضيِّع هذه الأميرة الطائشة كل جهود الصليبيين ! ثار الصليبيون في أنطاكية بشدة ، وتراسلوا مع الملك فولك الأنجوي الذي لم يجد حلاًّ إلا أن يزوِّج الأميرة الصغيرة كونستانس - التي لم تبلغ العاشرة بعدُ - من شخصية موالية له ، وتصلح أن تقود إمارة أنطاكية ، ووقع إختياره على الأمير ريموند بواتييه ، وهو أحد أبناء الأمير وليم التاسع دوق أكويتانيا ، وكان أميرًا فرنسيًّا يعيش في بلاط هنري الأول ملك إنجلترا في ذلك الوقت ، فإستدعاه على عجل ، وجاء الأمير ريموند بواتييه ، وتزوج من كونستانس ، وصار بذلك أميرًا لأنطاكية ، وكان هذا الأمير من القوة بحيث أعاد من جديد تنظيم الأوضاع داخل أنطاكية ، وبالتالي عُزلت الأميرة المتمردة أليس عن الأحداث ، فآثرت أن تذهب إلى اللاذقية ، حيث ماتت هناك بعد قليل !


كان هذا على الصعيد الصليبي ..

أما على الصعيد الإسلامي فإنَّ إنتصارات عماد الدين زنكي أثارت ردود فعل متباينة في العالم الإسلامي ، فبينما تلقَّت الشعوب الإسلامية ، وكذلك العلماء والفقهاء والصالحون من أبناء الأمة هذه الأخبار بالفرح والسرور ، وإزدياد الأمل في الخروج من الأزمة ، إذا بآخرين يتلقون هذه الأنباء بقلق بالغ وعصبية زائدة !


لقد شعر السلطان مسعود بالقلق الشديد من إانتصارات البطل عماد الدين زنكي ، وتنامى عنده القلق من أكثر من وجه :


أولاً : كان عماد الدين زنكي على علاقة طيبة بالخليفة المسترشد في أيامه الأخيرة ، وقد يثور لحادث قتله ، خاصةً أن عموم الناس يتناقلون أن السلطان مسعود هو الذي دفع الباطنية لقتل الخليفة .

ثانيًا : هذه الإنتصارات المتتالية رفعت عماد الدين زنكي جدًّا في عيون المسلمين فصار أثقل من كل السلاطين ، ولا يستبعد أبدًا أن يستقل عماد الدين زنكي بكل المناطق التي يحكمها ، وقد إستقل غيره قبل ذلك بمدنهم مع أنهم أضعف منه جدًّا ؛ فهذه دمشق يحكمها أولاد طغتكين ، وهذه حمص يحكمها أولاد خيرخان ، وهذه شيزر يحكمها أولاد منقذ ، وهكذا .

ثالثًا : المشروع التوحيدي الذي يقوم به عماد الدين زنكي واضح للجميع ، فهو قد نجح في ضم الموصل إلى حلب إلى حماة ، فضلاً عن عدد كبير من مدن الجزيرة ، وأقام علاقات قوية مع الأكراد ، وكذلك مع حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ، وهو زعيم الأراتقة ، ولا يستبعد أن يستمر عماد الدين زنكي في مشروعه التوحيدي هذا على حساب بقيَّة المدن الإسلامية ، وقد يصل الأمر إلى التوجُّه إلى بغداد ذاتها ، أو إلى أرض فارس حيث معاقل السلاجقة .

رابعًا : أعداء السلطان مسعود كُثُر ، وعلى رأسهم إبن أخيه داود بن محمود وأخوه سلجوقشاه ، وكذلك عمه السلطان سنجر ، فماذا يحدث لو تحالف أحد هؤلاء مع عماد الدين زنكي ضد السلطان مسعود ؟!

هذه الأسباب مجتمعة جعلت السلطان مسعود يفكر في فعل خبيث غير متوقع من رجل يُوصف بحسن الخُلُق ، وهو أخذ القرار الآثم بقتل عماد الدين زنكي !!!


إنه لن يكتفي بعزله ، حيث سيظل موجودًا على الساحة كأقوى منافس له ، ولكنه سيستريح منه نهائيًّا بقتله ، غير عابئٍ بأحلام المسلمين ، ولا جهاد الصليبيين ، ولا توحيد الأمة الإسلامية !


إنها النظرة الأنانية البحتة التي نرى الكون كله يدور حول مركز السلطان ، وبالتالي فهو يريد تسخير كل الأحداث لخدمته هو شخصيًّا ، مهما كانت النتائج .


ومع هذا التدبير الخبيث إلا أن الله كان رحيمًا بعباده ؛ لقد جعل الله نجاة عماد الدين زنكي في رجل عجيب ما توقَّع أحدٌ أن يأتي خير من ورائه !


إنه دُبَيْس بن صَدَقة !


إنه هذا الزعيم الشيعي الفاسد الذي إستنقذه عماد الدين زنكي قبل ذلك بعدة سنوات من أسر بوري بن طغتكين له ، وعامله بالحسنى ، وقرَّبه وأكرمه ، فحفظ الجميل لعماد الدين زنكي ! لقد كان هذا الرجل في بلاط السلطان مسعود حيث كان منضمًّا إليه في حرب الخليفة ؛ لأننا نعرف مدى الصراع الذي كان بين دبيس والخليفة المسترشد بالله .


ثم إنه إطَّلع على هذه النية الفاسدة من السلطان مسعود ، وعرف أن تدبير جريمة القتل سيكون عن طريق إستدعاء عماد الدين زنكي إلى بلاط السلطان في همذان ، ثم إغتياله على حين غِرَّة ؛ فأسرع بإرسال رسالة عاجلة إلى عماد الدين زنكي يخبره بالمؤامرة ، ويحذِّره من القدوم على بلاط السلطان !


وسبحان الله ! فقد علم السلطان مسعود أن دبيس بن صدقة هو الذي كشف مؤامرته ، وضيَّع فرصة إغتيال عماد الدين زنكي رحمه الله ، فقام بقتل دبيس بن صدقة على الفور ! وهنا قال عماد الدين زنكي كلمته المشهورة : "
فديناه بالمال ، ففدانا بالروح!" .

لقد كانت هذه إرادة الله أن يحفظ حياة عماد الدين زنكي عدة سنوات أخرى ؛ لأنه سبحانه كان يدَّخره لأعمال أخرى جليلة .


ومع حدوث مثل هذا الموقف المقزز ، وتعرض عماد الدين زنكي وهو في أوج نشاطه في جهاد الصليبيين لطعنة في ظهره إلا أنه ظل مهتمًّا بمشروعه الجهادي ، ولم يُرِدْ لنفسه أن تغوص قدمه في الصراعات الدنيوية التي يشعلها السلاطين بينهم وبين بعضهم البعض ، ومع ذلك فتعرضه هو شخصيًّا إلى محاولة إغتيال سيدفعه دفعًا على عدم إهمال الأحداث ، وإلى محاولة دفع الضرر دون الإنغماس في مشاكلهم المركَّبة !


إن الوضع في العراق الآن ملتهب جدًّا ؛ لقد بويع للراشد بالله إبن المسترشد بالله شريطة ألاَّ يُجهِّز الجيوش ، وألاَّ يحارب السلطان مسعود ، ولكن كان من الصعب على الخليفة الجديد أن يتجاهل قول الجميع بأن الذي دفع الباطنية لقتل أبيه هو السلطان مسعود ، إضافةً إلى إجتماع كثير من الأمراء الذي خشوا من عنف السلطان مسعود على ترك مسعود والتوجُّه للخليفة الراشد بالله ، وكذلك فعل الملوك داود بن محمود الذي يبحث عن سلطنته الضائعة !! لقد قرر هؤلاء جميعًا أن يقاتلوا السلطان مسعود من جديد ، وعليه فقد تجمعت قوتهم في بغداد بينما كان السلطان مسعود في همذان !


=====

يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

بارك الله فيك اخي ابو البراء علي هذا الموضوع , اتمنى ان تستمر مازال الشوق مستمر لتكملة هذه القصة الملحمية الرائعه .........

وبصراحه كاتب هذا الكتاب يستحق الاحترم اسلوبه شيق وممتع في السرد
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

قرأ عماد الدين زنكي هذه الأحداث ، فقرر أن يكون قريبًا دون أن يغرق في مستنقع الصراع ، وعليه فقد إقترب إلى الموصل ليكون على أهبة الاستعداد إذا جدَّ جديد ، بينما أعلن بوضوح أنه في صفِّ الراشد بالله ، ولم يكن يستطيع أحد أن ينكر هذا الولاء الجديد للخليفة بعد معرفة مؤامرة السلطان مسعود لقتل البطل عماد الدين زنكي .

دارت المعارك في بغداد بين جيش الخليفة الراشد بالله وأعوانه من الأمراء وكذلك داود بن محمود ، وبين السلطان مسعود ، وكانت الغلبة في هذه المعارك للسلطان مسعود الذي دخل بغداد عنوة ، وإضطر الخليفة الراشد بالله أن يهرب في إتجاه الشمال حيث إستقبله عماد الدين زنكي في الموصل ترقبًا لما يحدث في بغداد .

إجتمع السلطان مسعود مع أعيان العباسيين في بغداد ، وكان يريد أن يخلع الخليفة الراشد بالله ؛ لأنه خالف الاتفاق المعقود بينهما على عدم قتال السلطان ، وأن يضع خليفة غيره يجتمع عليه الناس ، وفي ذات الوقت يطيع السلطان مسعود ، ومن ثَمَّ لا يتجدد الصراع ..

وقد وقع إختيار العباسيين - وأقرهم السلطان مسعود - على رجل فاضل محبوب له سيرة حسنة ، ويحب العدل ، ومن ثَمَّ تهدأ الأمور في البلاد ، وكان هذا الرجل هو أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله ، وهو أخو الخليفة المقتول المسترشد بالله ، وعمّ الخليفة المخلوع الراشد بالله ، وقد لُقِّب بعد خلافته بلقب "المقتفي لأمر الله" ، وإستقر له الأمر بعد ذلك أكثر من أربعٍ وعشرين سنة ، ومن ثَمَّ هدأت أمور بغداد كثيرًا ، وكان هذا الأمر في أواخر سنة 530هـ (ذي الحجة 530هـ\ سبتمبر 1136م) .

أما البطل عماد الدين زنكي ، فإنه لم يجعل هذه الأحداث الساخنة تلهيه عن أهدافه الكبرى ؛ ولذلك فعلى الرغم من إنتصار مسعود وتمكُّنه من السلطنة إلا أن عماد الدين زنكي لم يُشغِل نفسه لا كثيرًا ولا قليلاً بالإنتقام لنفسه من مسعود الذي كان يدبر قتله ، مع أن قوته العسكرية ومكانته في قلوب الناس كانت تمكنه من الإنتقام من السلطان مسعود ، إلا أنه لم يكن يريد أن يتشتت في معارك جانبية ، وكان يريد ألا ينسى دومًا القضيتين العظيمتين في حياته ، وهما :
وحدة المسلمين ، وجهاد الصليبيين .

وعلى هذا فقد عمل عماد الدين زنكي في هذه الفترة ، في أواخر 530هـ وأوائل 531هـ في أربعة محاور رئيسية وهي :


المحور الأول : إقامة علاقات طيبة مع الخليفة المقتفي بالله ؛ لضمان عدم حدوث قلاقل مع الكيان العباسي ، وإن لم يكن بالقوة المخوِّفة ، لكن كان من الواضح من سير الأحداث أن المسلمين ما زالوا يهتمون برأي الخليفة وتزكيته حتى مع ضعفه ، إضافةً إلى ما إشتهر به الخليفة الجديد من حُسْن السيرة والعدل وحبِّ الناس له .

المحور الثاني : توسيع الإمارة الزنكية في إتجاه الجزيرة بالتعاون مع حسام الدين تمرتاش ، وقد قام الحليفان عماد الدين زنكي وحسام الدين تمرتاش بالهجوم المشترك على جبل جور ومنطقة السيوان ، وهذه مناطق تقع في شمال ديار بكر ، مما يعني التوسع الكبير في أراضي الجزيرة ، وهذا دفع المقاومين لهذا المشروع التوحيدي أن يهدءوا كثيرًا ، ومن ثَمَّ إستقرت الأوضاع جدًّا في مناطق الجزيرة ، وهذا أعطى فرصة لعماد الدين زنكي للتفرغ للصليبيين .

المحور الثالث : هو مدينة حمص ، التي تمثِّل عقبة في طريق دمشق ، وكذلك تمثل نقطة ضعف في ظهر عماد الدين زنكي إذا أراد الهجوم على أنطاكية أو طرابلس ، ومن ثَمَّ كرر عماد الدين زنكي محاولاته في حصار المدينة ، ولكنه لم ينجح في فتحها ، إلا أن هذه المحاولات هزَّت صاحبها قريش بن خيرخان فإضطر إلى تسليم المدينة لشهاب الدين محمود صاحب دمشق ؛ ليساعده في الدفاع عنها ضد عماد الدين زنكي ، وعندها وضع شهاب الدين عليها أقوى أمرائه وأصلبهم معين الدين أَنُر .

المحور الرابع : وهو أهم المحاور ، وهو محور الصليبيين ، وقد حرص عماد الدين زنكي على ألا يتركهم يأخذون فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم ، فكان دائم المباغتة لهم ، ومن ذلك ما فعلوه في منطقة اللاذقية من نصر عظيم على القوات الصليبية وتدمير كبير لحصونهم هناك ، وقتل عدد كبير من جنودهم ، وكذلك أسر أكثر من سبعة آلاف صليبي دفعة واحدة ، مع أخذ ما لا يقدر من الغنائم ، ويكفي أن الدواب المغنومة كانت أكثر من مائة ألف رأس من الخيول والبغال والحمير والبقر والغنم ! هذا سوى الأقمشة والحليِّ والبضائع مما يخرج - كما يقول إبن الأثير - عن الحد !

لقد كان نصرًا عظيمًا حقًّا أعاد للمسلمين الكثير من الثقة ، وكان ذلك في شهر شعبان سنة 530هـ .


ومع كون عماد الدين زنكي مشغولاً في هذه المحاور مجتمعة إلا أنه حرص على تأمين ظهره تحسُّبًا من أي غدر من ناحية السلطان مسعود ، وهذا دفعه إلى ضم مدينة دقوقا ، وهي مدينة تقع بين مدينتي إربل وبغداد ، أي أنها تقع في جنوب شرق الموصل ، وبذلك تصبح مدينة تفصل بينه وبين أملاك السلطان مسعود ، ليكتشف تحركاته قبل أن يباغت في الموصل ، وكان ضم هذه المدينة في أوائل سنة 531هـ .

ثم إن الله مهَّد لعماد الدين زنكي بإضعاف قوة الصليبيين عن طريق حملة قام بها أحد زعماء جيش دمشق وإسمه بزواش ، حيث أراد أن يقوم بشيء مثل الذي يقوم به عماد الدين زنكي ، مع أن الدمشقيين كانوا لا يمانعون إذا إقتضت الحاجة أن يتعاونوا مع الصليبيين ! وسنرى قريبًا مثالاً لهذا التعاون ، لكن الذي حدث أن هذا القائد أخذ فرقة من جيشه ، وساعده كثيرٌ من التركمان من المنطقة ومن ديار بكر ، وقاوموا بإغارة سريعة على إمارة طرابلس ، فخرج لهم بونز بن برترام أمير طرابلس ، ودار قتال كبير حقق فيه المسلمون نصرًا كبيرًا بجوار قلعة الصنجيل التي أسَّسها ريمون الرابع جَدُّ بونز ، وحدثت مفاجأة في هذا القتال إذ قُتِل بونز بن برترام أمير طرابلس ! كما أسر عدد كبير من جنوده ، هذا فضلاً عن الغنائم الوفيرة .

لقد سرت روح الجهاد التي نفثها عماد الدين زنكي في الأمة حتى تحرك جيش لم يعقد أبدًا على الجهاد في هذه الفترة ليحقق هذا الإنجاز الكبير ، ويُضعِف بذلك من قوة إمارة طرابلس جدًّا ، بل ومن قوة الصليبيين جميعًا .

وقد تولى حكم إمارة طرابلس بعد قتل أميرها إبنه ريمون الثاني ، ليبدأ حكمه بأزمة عسكرية وسياسية كبيرة .. وقد تمت هذه المعركة في رجب من سنة 531هـ\ مارس 1137م .

ولقد كانت هذه المعركة السابقة عجيبة في تاريخ الصراع الإسلامي- الصليبي ؛ وذلك لأن قواد دمشق في ذلك الوقت يقتربون من الصليبيين ، بل ويتراسلون معهم للدفاع المشترك ضد عماد الدين زنكي ! مما يوحي أن هذه المعركة كانت محاولة فردية من أحد الفرق العسكرية الدمشقية قوَّاها وجود عدد كبير من المتطوعين التركمان مما أحدث هذا الأثر الكبير .. لكن للأسف مع حدوث هذا النصر الكبير ، وهذه النتائج المؤثرة إلا أن علاقة التعاون بين دمشق والصليبيين لم تنقطع حتى بعد هذه المعركة ! مما يؤكد على أن هذا الصدام لم يكن يمثِّل توجهًا عسكريًّا للحكومة الدمشقية في هذا الوقت .

ويؤكد على ذلك ما حدث في الشهر التالي مباشرة ، أي في شهر شعبان سنة 531هـ عندما حَصَر عماد الدين زنكي مدينة حمص ، فقاومه بشدة أميرها معين الدين أَنُر ، ولما شعر بأن مقاومته قد تنهار أسرع بالإستنجاد بأمراء الصليبيين ، فجاءت نجدة صليبية على رأسها ملك بيت المقدس نفسه فولك الأنجوي ، بل وكان فيها أيضًا ريمون الثاني الذي قُتل أبوه منذ أيام على أيدي الدمشقيين ! وهكذا واجهت القوات الحمصية الدمشقية الصليبية المشتركة جيوش عماد الدين زنكي مما أجبره على رفع الحصار عن حمص ، لكنَّ هذا الموقف أعطاه - وأعطى المسلمين جميعًا - رؤية واضحة عن طبيعة معين الدين أنر وشهاب الدين محمود .. وهذه المواقف - على بشاعتها - تكشف الأوراق ، وتوضِّح الخبايا وليس من شكٍّ أن الزعيم المسلم الذي تؤيده قوى الاحتلال هو زعيم عميل لا إخلاص عنده للقضية ، ولا يعمل إلا لنفسه ، وليس من أمل فيه لنصر المسلمين .

غير أن عماد الدين زنكي وجد قدوم الصليبيين إلى هذه المنطقة المتقدمة في الشام فرصة لقتالهم ، خاصةً أن جيش طرابلس القريب قد تعرض لهزيمة قريبة ، وقتل زعيمه الخبير بونز بن برترام ، كما أن فولك يأتي من أماكن بعيدة ، وقد يكون من الصعب عليه أن ينسحب إلى مكان آمن ؛ ولهذا قرر عماد الدين زنكي أن يستدرج الجيوش الصليبية للحرب بعيدًا عن أسوار حمص ، وفي نفس الوقت فإنه كان يريد أن يضغط على الصليبيين ليختاروا طريق الحرب معه ، ولا يفكروا بتجنُّب القتال والعودة لإماراتهم ، فماذا يفعل ؟!

لقد قرر عماد الدين زنكي أن يهاجم مَعْلمًا مهمًّا من معالم الصليبيين المهمة ، والذي سيضطرون إضطرارًا إلى الدفاع عنه ، ومن ثَمَّ قتال عماد الدين زنكي .. وكان هذا المَعْلم هو حصن بعرين (بارين) الضخم على المنحدرات الشرقية لتلال النصيرية ، والذي يحرس المنفذ المؤدِّي إلى منطقة البقيعة .

إن هذا الحصن له أهمية بالغة حيث إن الذي سيسيطر عليه سيشرف تمامًا على حوض نهر العاصي ، وبذلك سيمنع الإتصالات بين إمارة أنطاكية في الشمال ، وإمارة طرابلس ومملكة بيت المقدس في الجنوب ، كما أنه يشرف إشرافًا مباشرًا على حمص وحماة .

وهكذا إقتربت فعلاً الجيوش الصليبية لحماية حصن بارين المهم ، الذي كان مملوكًا في هذا الوقت للصليبيين ، وبه عدد كبير من الجنود الصليبيين .

وفي الساحات المجاورة لهذا الحصن ، وفي شهر شوال سنة 531هـ\ يونيو سنة 1137م ، دارت موقعة شهيرة من مواقع الإسلام ..
إنها موقعة حصن بارين !!

إنها موقعة يشترك فيها رأسان مهمان من رءوس الصليبيين : الملك فولك الأنجوي ملك بيت المقدس ، والأمير ريمون الثاني أمير طرابلس .. ودار القتال شديدًا عنيفًا ، وتساقط القتلى هنا وهناك ، وإرتفعت سحب الغبار تغطِّي كل شيء ، ثم ما لبث الغبار أن إنقشع ليُسفِر عن النتيجة الحاسمة ! , لقد إنتصر المسلمون نصرًا مبينًا !

لقد قُتل معظم الجيش الصليبي ، وأُسر معظم الذي بقي على قيد الحياة ، وكان الأمير ريمون الثاني من أولئك الذين أسروا ، أما الملك فولك الأنجوي فقد فرَّ هاربًا في فرقة من جيش إلى حصن بعرين المجاور ، ثم أسرع الملك فولك الأنجوي بإرسال رسالة إستغاثة عاجلة يطلب فيها من الأمير ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، ومن الأمير جوسلين الثاني أمير الرها أن يأتيا بسرعة على رأس جيوشهما لنجدة الجنود المحاصَرين في قلعة بارين الحصينة .

وأسرع عماد الدين زنكي رحمه الله ، وحاصر الحصن حصارًا محكمًا ، فمنع عنه كل شيء ، وضبط الطرق المؤدية إليه تمام الضبط ، حتى إنقطع الملك فولك تمامًا عن العالم الخارجي ، وما عاد مدركًا لما يحدث في الخارج .

أخذت المجانيق الإسلامية تقصف الحصن الضخم لَيْلَ نهار ، وقد بدا واضحًا أن المسألة مسألة وقت ، وأن الجيوش الصليبية المحصورة ليست عندها النية أن تخرج لحرب المسلمين إلا إذا جاءت لها نجدة كبيرة .

وبينما عماد الدين زنكي رحمه الله يحاصر الحصن العملاق وصلت الأخبار بتحرك جيش الرها وأنطاكية في إتجاه حصن بارين ، بل ظهرت بوادر مفاجئة بتحرك جيوش الدولة البيزنطية صوب المنطقة ، وهذا للمرة الأولى منذ بداية الحروب الصليبية !

لقد كان الموقف صعبًا حقيقةً ؛ لأن جيوش الدولة البيزنطية كبيرة ، وإذا إشتركت مع الجيوش الصليبية فقد يُحصر عماد الدين زنكي بينهم وبين الصليبيين الموجودين في حصن بارين ، وهذا قد يُضيِّع مكاسب الإنتصار السابق .

أما لماذا تدخلت الدولة البيزنطية فذلك لسببين :

أما السبب الأول فهو تحرك القساوسة والرهبان فورًا بعد حصر الملك فولك في حصن بارين ، وذلك من إمارتي الرها وأنطاكية إلى البلاط البيزنطي ، وناشدوا الإمبراطور البيزنطي التدخل لنجدة الجيش الصليبي المحصور في حصن بارين ، ذاكرين له أنه إذا قتل الملك فولك فالطريق إلى بيت المقدس سيكون مفتوحًا للمسلمين .

وأما السبب الثاني فهو غضب الإمبراطور البيزنطي من زواج الأميرة كونستانس إبنة الأميرة أليس من ريموند بواتييه ، وذلك بعد أن عرضت الأميرة أليس زواج إبنتها على إبن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، إذ كيف يُعرض الزواج على إبن الإمبراطور ثم يُرغب في غيره ، مع الأخذ في الإعتبار طبعًا أن هذا الزواج كان سيضع أنطاكية تحت الإشراف البيزنطي المباشر .

وهكذا تطورت الأحداث لتنذر بمشكلة قد يقع فيها عماد الدين زنكي والمسلمون !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!

لقد إستغل عماد الدين زنكي رحمه الله فرصة إنقطاع الأخبار عن الملك فولك الأنجوي ، وشدد جدًّا من قصف الحصن ، على أمل أن يطلب الملك فولك التسليم بأيِّ شروط ، فتنتهي مشكلة حصن بارين قبل قدوم القوات النصرانية المشتركة .. وقد حدث فعلاً ما توقع البطل عماد الدين زنكي ، وأرسل الملك فولك يطلب التفاوض من أجل فك الحصار !
لقد كان الله مع الجيش المسلم .

وليس الذي حدث هذا أمرًا غريبًا ؛ فالله دومًا ينصر من نصره ، يقول تعالى : (
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) .

ووافق عماد الدين زنكي على التفاوض السريع ، وهو يمنع في كل ذلك أي أخبار من الوصول إلى الملك فولك ، ليتم الأمر على ما يريد عماد الدين زنكي .. ووصل الطرفان فعلاً إلى إتفاق ، حيث سيخرج الصليبيون من داخل الحصن آمنين ، ويطلق سراح الأمير ريمون الثاني ، وذلك في نظير أن يسلَّم حصن بارين الخطير للمسلمين ، ويدفع الملك فولك مبلغ خمسين ألف دينار ذهبية .

وتم فعلاً تنفيذ الإتفاق، وتسلم المسلمون الحصن المهم ، وإحتفظوا بعدد كبير من الأسرى ، وأطلق سراح الملك فولك ومن معه من جنود في داخل الحصن ، وكذلك الأمير ريمون الثاني .

لقد أفلحت خطة عماد الدين زنكي ، وندم الملك فولك ندمًا شديدًا بعد أن علم بتجمُّع الجيوش النصرانية ، لكن لم يكن هناك حلٌ آخر أمامه .

وقبل أن نذكر ما فعلته الجيوش البيزنطية والصليبية نعلِّق على ما فعله عماد الدين زنكي رحمه الله مع المسلمين بعد تحرير بعض المناطق المجاورة للحصن ، فلقد جاء المسلمون الذين حُرِّرت أراضيهم يطلبونها ، وذكرنا قبل ذلك في موضع آخر من الكتاب أنه وزَّع الأراضي على كل من كان معه إثبات بملكية الأرض ، وذلك خلافًا للمذهب الحنفي الذي يتبعه ؛ لأنه رأى أن ملاك الأراضي سيضيع حقهم دون ذنب منهم ، غير أنه بقيت مجموعة من الملاك تطلب أرضها ، لكنها - للأسف - فقدت أوراق ملكية هذه الأرض في أثناء الهروب من البلاد عند إحتلالها ، فلم تدرِ ماذا تفعل حيث ستضيع عليها الأراضي ، وفي نفس الوقت فعماد الدين زنكي لا يستطيع تسليم أرض إلى إنسان دون دليل ؛ خشية أن يكون مدعيًا ، ثم يظهر بعد ذلك المالك الحقيقي للأرض ، مع ملاحظة أن هذه الأراضي إحتلت منذ حوالي أربعين سنة !

وإنهمك بطلنا في المشكلة مع كثرة الهموم التي عليه ، إلا أنه كان حزينًا لحيرة الناس ، وللأزمة التي وقعوا فيها .. ثم إنه فجأة وجد حلاًّ للموقف ، إذ سرعان ما إنتفض قائلاً : "
إطلبوا دفاتر حلب ، وكل من عليه خراج على مِلْكٍ يسلم إليه !" .

لقد أمر عماد الدين زنكي بفتح دفاتر تحصيل الخراج على هذه الأراضي ، وهذه الأراضي كانت تابعة لمملكة حلب ، فكان أصحابها إذا سددوا الخراج عنها إلى ملك حلب دُوِّن ذلك في الدفاتر ، فإذا كان إسمه مدونًا عن أرض معينة فلا شك أنه كان يملكها !

ونجحت الفكرة ، وتسلم الجميع أراضيه ، ويعلِّق إبن الأثير على هذا العمل فيقول :
"وهذا من أحسن الأفعال وأعدلها !" .

إنه لشيء عظيم حقًّا أن يسعى الحاكم إلى إيصال كل حق إلى مستحقيه ، حتى لو كلفه هذا جهدًا ووقتًا ، وحتى لو كان هذا سيأتي على حساب الدولة ؛ إذ إن الأراضي المجهولة كانت ستضم إلى بيت مال المسلمين ، وإنه لشيء عظيم حقًّا أن يشغل عماد الدين زنكي نفسه بهذه القضايا ، مع أن الجيوش الصليبية والبيزنطية على الأبواب ، لكنه كان على يقين أن الله ينصره لهذا العدل الذي يسعى إلى تطبيقه ، فرحمه الله رحمه واسعة !

ماذا فعل الجيش البيزنطي ؟!


لقد كان هدف الجيش البيزنطي الرئيسي هو البحث عن مصالحه ! ولم تكن عنده الدوافع أبدًا لإنقاذ الملك فولك ، أو الإهتمام بأمره ، فالصراع بين البيزنطيين والصليبيين محتدم من أول أيام الحملة الصليبية ؛ ولذلك فعين الإمبراطور يوحنا كومنين كانت في المقام الأول على أنطاكية وما حولها من أملاك بيزنطية قديمة ، وأهمها إقليم قليقية وما فيه من مدن عريقة كالمصيصة وأذنة وطرسوس ، والتي كانت في هذا التوقيت تحت سيطرة الأمير الأرمني ليون .

ومن هنا فإن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين لم يكن من همِّه الإسراع إلى منطقة حصن بارين لإستعادة الحصن من المسلمين ، ولكنه توجه بجيش كثيف إلى إقليم قليقية أولاً ، ودُهِش الأرمن من القوات البيزنطية التي لم تظهر في هذه المناطق منذ عشرات السنين ، وكان الذي دفع الإمبراطور البيزنطي إلى هذه الجرأة إحساسه أن الجيوش الصليبية تمر بأزمة كبيرة نتيجة إضطرابات الحكم المتكررة في أنطاكية ، ونتيجة ضربات عماد الدين زنكي الموجعة ؛ ولهذا أراد أن ينتهز الفرصة التي قد لا تتكرر بسهولة .

إستطاع الإمبراطور البيزنطي بسهولة أن يحتل المدن الكبيرة في إقليم قليقية ، وهرب الأمير الأرمني ليون إلى جبال طوروس ، ولم تكن هناك مقاومة تُذكر ، وهذا شجَّع الإمبراطور يوحنا كومنين أن يتوجه بجيوشه إلى أنطاكية ذاتها ، ثم ضرب حولها الحصار المحكم ؛ مما أرعب أميرها الجديد ريموند بواتييه !

وجد الأمير بواتييه أن القوات الصليبية الآن ممزقة بعد إنتصارات عماد الدين زنكي ، وكلا القائدين الملك فولك والأمير ريمون الثاني مشغول بهمومه ، كما أن الأمير جوسلين الثاني يتلقَّى ضربات أمير حلب سوار ، وهكذا لن يكون أمامه إلا أحد حلَّيْنِ : إما أن يقاوم الإمبراطور البيزنطي عسكريًّا ، وإما أن يتفاوض معه ويحصل منه على أي شيء .

وجد الأمير ريموند بواتييه أن قوته ضعيفة جدًّا بالقياس إلى قوة الإمبراطور البيزنطي ، ورأى أنه لو قاوم عسكريًّا ثم سقطت المدينة فإنه سيفقد كل شيء ، وقد يفقد حياته في الصراع ؛ فآثر لذلك أن يتفاوض مع الإمبراطور الكبير .

وتمت المفاوضات بين الطرفين ، ووصلوا إلى خطة واسعة شاملة فيها خطورة كبيرة على المسلمين ..
وكانت بنود الاتفاقية تشمل الآتي :

أولاً : تسليم أنطاكية إلى الإمبراطور البيزنطي .

ثانيًا : تتحد القوتان الصليبية والبيزنطية لضرب عماد الدين زنكي .

ثالثًا : يتم تكوين إمارة بديلة للأمير ريموند بواتييه، وتكون هذه الإمارة في شرق أنطاكية، وتكون قاعدتها مدينة حلب ، وتضم عدة مدن أخرى مهمة في المنطقة مثل حماة التابعة لعماد الدين زنكي الآن ، كما تنتزع شيزر من بني منقذ وتضم إلى نفس الإمارة ، كذلك تنزع حمص من إمارة دمشق حيث ستمثِّل الحدود الجنوبية لهذه الإمارة الجديدة .

رابعًا : يبقى الأمير ريموند بواتييه على إمارة أنطاكية مؤقتًا حتى صيف العام القادم (أي صيف 1138م) عندما يبدأ الطرفان في تنفيذ الاتفاق بالتعاون العسكري ، على أن تُرفع أعلام الدولة البيزنطية فوق أنطاكية من الآن دلالةً على التبعية .

كانت هذه هي بنود الاتفاقية الخطيرة التي وافق عليها الطرفان ، إضافةً إلى أنهم حصلوا كذلك على موافقة الملك فولك الأنجوي على هذا المشروع .

كان هذا المشروع يحقِّق - إذا تم بحذافيره - أطماع كل فريق ؛ فالإمبراطور البيزنطي سيسترد أنطاكية حُلم البيزنطيين ، وسيضرب القوة الإسلامية في أعماقها ، وليس هذا فقط ، فالإمارة الجديدة المزمع قيامها ستكون فاصلاً بين أنطاكية وبين المسلمين ، وهكذا سيتكفل الصليبيون بالدفاع عن إمارة أنطاكية .

أما ريموند بواتييه فكل ما يهمه هو أن يكون أميرًا ، فهو أصلاً لم يتعب مطلقًا في إنشاء هذه الإمارة ، بل جاء إليها من أوربا منذ سنتين فقط ، ثم إن البديل الذي يطرحه الإمبراطور البيزنطي أفضل كثيرًا ، فلا شك أن إمارة تضم مدنًا كحلب وحمص وشيزر وحماة ستكون إمارة قوية وعظيمة .

وهكذا وافق الطرفان راضين على هذه النتيجة ، وكذلك أقرها فولك الأنجوي ، ولا يخفى علينا أن هذا كان على غير رغبة النورمانيين الذين أنشئوا الإمارة الصليبية ، خاصةً أن الذين أخذوا القرار سواء ريموند بواتييه أو فولك الأنجوي من الفرنسيين وليسوا من الإيطاليين .

ولقد حاول الإمبراطور البيزنطي أن يخادع عماد الدين زنكي رحمه الله ، فأرسل له رسالة يبرر فيها دخوله للأراضي المجاورة لأنطاكية ، بأنه ما دخل إلى بلاد المسلمين إلا لحرب الأرمن ، وأنه لا ينوي بذلك قتاله ، لكنَّ هذا الرد لم يكن مقنعًا لعماد الدين زنكي ، ورأى أن عزة دولته تقتضي أن يأخذ ردَّ فعل مناسب ، ولم يجد القائد العزيز عماد الدين زنكي ردًّا يناسب التعدي على حدود الدولة الإسلامية إلا الحل العسكري ، وعليه فقد أرسل سرية من جيشه بقيادة أمير حلب سوار لمهاجمة الجيش البيزنطي ..

وبالفعل إستطاع سوار أن يقتل عددًا كبيرًا من الجنود البيزنطيين ، وأن يأسر مجموعة أخرى ، مع أنه قوته كانت أصغر بكثير من قوة الجيش البيزنطي , ومع هذه الإهانة المباشرة للقوات البيزنطية إلا أن الإمبراطور لم يُرِدْ أن يدخل في مستنقع الحرب مع المسلمين ، خاصةً وقد سمع الكثير عن بطلنا عماد الدين زنكي ! ولهذا غضَّ الإمبراطور البيزنطي الطرف عن هذه الخسائر ، وإنطلق عائدًا إلى بلاده ليجهِّز عدَّة أكبر إستعدادًا لحرب كبيرة في العام القادم !

ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الإتفاقيات الصليبية البيزنطية لم تعلن في ذلك الوقت ، ولم يعلم بها عماد الدين زنكي في حينها ، ولكنه أدرك أن تعاونًا ما سيكون بين الدولة البيزنطية والصليبيين ، وذلك بعد رؤية الأعلام البيزنطية فوق أسوار إمارة أنطاكية دون إعتراض يذكر من الصليبيين ؛ ولهذا أمر عماد الدين زنكي بزيادة الإحتراز لتأمين الحدود الشمالية لإمارته والملاصقة لآسيا الصغرى ، حيث يسيطر البيزنطيون الآن على إقليم قليقية ، ويحتفظون هناك بحامية بيزنطية قوية .

ولا يخفى علينا أن هذه الإنتصارات التي حققها عماد الدين زنكي ، وهذا التفاعل القوي مع التعديات الصليبية والبيزنطية ، وضعت بطلنا في الصدارة المطلقة لقوَّاد المسلمين في هذا العصر ، خاصةً أن هذا المجد الكبير ، وهذه العزة الواضحة تأتي في وقت ظهرت فيه أطماع السلاطين والأمراء والزعماء الآخرين بشكل واضح ، وليس أدل على ضعف هؤلاء الزعماء من هذه الأحداث الدامية التي شهدتها أرض العراق وفارس في نفس الوقت الذي كان بطلنا عماد الدين زنكي يسعى لتوحيد المسلمين لجهاد الصليبيين والبيزنطيين .. وكانت الإشتباكات ما زالت دائرة في فارس والعراق بين السلطان مسعود وإبن أخيه الملك داود بن محمود ، على الرغم من كل الأحداث الكبرى التي رأيناها في أرض الشام !

أما بالنسبة لعماد الدين زنكي فهو كان يشعر أن الصليبيين بالإشتراك مع البيزنطيين يدبِّرون لشيء كبير في أرض الشام ؛ لذلك حاول البطل عماد الدين زنكي أن يسيطر على عدة حصون ومدن أخرى في منطقة الشام تسهِّل له قتال الأعداد عند إجتماعهم ..

توجه عماد الدين زنكي إلى مدينة بعلبك اللبنانية ليحاول فتحها إلا أنها إستعصت عليه لحصانتها ، وكانت بعلبك تابعة لإمارة دمشق ، فعرض صاحبها أن يهادنه في مقابل مبلغ من المال يدفعه لعماد الدين زنكي ، فقَبِل عماد الدين زنكي ذلك ليحيِّد صفها ، وينطلق إلى غيرها .. وكان رحمه الله حاسمًا في قراراته وأفعاله ، لا يعاند في البقاء محاصِرًا لمكان يقرب إلى تقديره أنه لا يُفتح .

إنتقل عماد الدين زنكي رحمه الله من بعلبك إلى حصن المجدل ، فإستطاع بعد جهد أن يفتحه وأن يضمه إلى إمارته ، وكان تابعًا كذلك لإمارة دمشق ، ثم إنتقل منه إلى إحدى الأملاك الأخرى لنفس الإمارة وهي مدينة بانياس ، فدخلت بسهولة في طاعته ، وكانت هذه الأحداث في أوائل سنة (532هـ) أواخر 1137م .

بعد هذه السيطرة الميدانية على معظم المناطق التابعة لإمارة دمشق لم يعُدْ أمام عماد الدين زنكي ليضم دمشق إلا أن يسيطر على حمص لأنها في الطريق بين حماة ودمشق ؛ ولذلك فقد توجه عماد الدين زنكي مباشرة إلى حصار حمص ، ولكن حمص أصرت على المقاومة وطال الحصار حتى كاد أهل حمص يفتحون الأبواب ، لولا ورود الأخبار بأمر خطير دَهِم المسلمين في هذا التوقيت !

لقد وصلت إلى أرض الشام جيوش الإمبراطورية البيزنطية الهائلة ، وعلى رأسها الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، وقد جاءت تقصد مدينة حلب ذاتها وذلك لتنفيذ الإتفاق الذي عُقِد في السنة الماضية بينهم وبين الأمير ريموند بوتييه أمير أنطاكية .

كانت الأخبار مفزعة ؛ لأن سقوط حلب يهدم المشروع التوحيدي للأمة من أساسه ، ويعيدنا من جديد لنقطة الصفر .. وعلى ذلك فقد أمر عماد الدين زنكي أمير حلب سوار - وكان معه في حصار حمص - أن يترك الحصار ، وأن يتوجه من فوره إلى مدينة حلب ليرفع من درجة إستعدادها ، وليقوِّي تحصيناتها ، ويعمِّق خنادقها ، ويطمئن أهلها أن المسلمين قادمون .. وكانت هذه الأحداث في شهر رجب (532هـ) إبريل 1138م .

وبمجرد نزول الجيش البيزنطي إلى أرض المسلمين إنضمَّ له أمير أنطاكية ريموند بواتييه ، وكذلك أمير الرها جوسلين الثاني ، إضافةً إلى كتيبة من الداوية ، وإتجهت هذه الجيوش المجتمعة إلى مدينة البلاط ، وإحتلتها عنوة ، ثم توجهت إلى مدينة بزاغة (وهي مدينة إسلامية حصينة تابعة لإمارة حلب) ، وقد أصرَّ الإمبراطور البيزنطي على إسقاطها لوجودها على الطريق الواصل بين حلب وآسيا الصغرى ، وظل الحصار مدة سبعة أيام ثم تواصلت الرسل بين الطرفين ، وإتفقوا على أن تفتح المدينة أبوابها في نظير إعطاء الأمان لكل أهلها، وفتحت المدينة بالفعل أبوابها ، ولكن الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين غدر بالمسلمين ، وأمر بمذبحة رهيبة في المدنيين من أهل بزاعة ، وقتل منهم خمسة آلاف وثمانمائة مسلم ومسلمة ، وأخذ الباقين كأسرى وسبايا ، وفرَّ بعض السكان إلى المغارات في الجبال ، فأشعل الإمبراطور البيزنطي النيران في مداخل المغارات ليموت المسلمون في داخلها مختنقين ! وكان سقوط بزاغة في 25 من رجب 532هـ .

لقد كان غدرًا مشينًا من الإمبراطور الكبير !!


ومع ذلك فإن هذا الحصار لمدينة بزاغة ، وهذا الوقت الذي أُنفق في قتل المسلمين وأسرهم ، أعطى الفرصة الكافية لمدينة حلب أن ترفع من درجة إستعدادها إلى الدرجة القصوى ، وأن تتهيأ للجيوش القادمة تمام التهيُّؤ ، وبذلك ضاع عنصر المفاجأة من الإمبراطور البيزنطي ، الذي توجه بعد سقوط بُزَاعة إلى مدينة حلب .

ماذا يفعل عماد الدين زنكي رحمه الله إزاء هذا الموقف العصيب ؟!

تعالَوْا نستمتع بالأداء الراقي لعماد الدين زنكي في هذه المشكلة المعقَّدة ، وندرس معًا منهجه في مواجهة هذه الأزمة الطارئة ، وكيف كانت نظرته شمولية للأحداث ، وكيف كانت رؤيته لمسرح العمليات رؤية عبقرية موفَّقة !

أولاً : تقوية تحصينات حلب إلى أقصى درجة ، وإعادة أميرها الشجاع سوار إليها لتَقْوَى نفوس أهلها به .

ثانيًا : ترك حامية صغيرة من جيشه حول حمص تناوش حاميتها ؛ لكي لا تخرج هذه الحامية فتضرب عماد الدين زنكي في ظهره .

ثالثًا : تقدم عماد الدين زنكي بجيشه الرئيسي ، ليقف به في موقف متوسط في الشام ، في منطقة سَلَمْيَة إلى الشمال الشرقي من حمص ، وذلك حتى تكون حركة سريعة إلى أيِّ نقطة في شمال الشام حسب تحركات الجيش البيزنطي .

رابعًا : أرسل عماد الدين زنكي رسالة عجيبة نادرة من نوعها ، تدل في مضمونها على التجرُّد الشديد لله ، وعلى الفقه الواسع لهموم الأمة الإسلامية .

لقد أرسل بطلنا رسالة إلى السلطان مسعود - وكان في بغداد آنذاك - يستحثه على إرسال جيش كبير لنجدة المسلمين في حلب والشام .. وهذا يحمل دلالات كبيرة مهمة ، فالبطل عماد الدين زنكي يتناسى في لحظة خلافاته مع السلطان مسعود من أجل مصلحة المسلمين ، ويتناسى أن السلطان مسعودًا كان يدبِّر منذ سنتين مؤامرة لإغتياله ، ويتناسى أن السلطان مسعودًا مشغولٌ منذ سبع سنوات - أي منذ وفاة السلطان محمود سنة 525هـ - في صراعات دنيوية لا وزن لها .. إنه يتناسى كل هذه الأمور ليضم قوته إلى قوة السلطان مسعود لدفع الخطر عن المسلمين .

وليس هذا فقط ! بل إن القاضي كمال الدين الشهرزوري ذكر في منتهى الصراحة لعماد الدين زنكي أن السلطان مسعودًا إذا جاء بجيشه إلى الشام فإنه سيضمها إلى أملاكه هو ، وستضيع زعامة عماد الدين زنكي ، فردَّ عماد الدين زنكي ردًّا عجيبًا إذ قال :
"إن هذا العدو قد طمع في البلاد ، وإن أخذ حلب لم يبق في الشام إسلام ، وعلى كل حال فالمسلمون أولى بها من الكفار !" .

إن هذه الروح العجيبة ، وهذا التجرد الجميل لمن أقوى أسباب نصر عماد الدين زنكي ، وشتَّان بين رجل يعمل لله ، وآخر يعمل لنفسه ومصالحه .

وهكذا أرسل عماد الدين زنكي وفدًا إلى بغداد لإستنهاض السلطان مسعود لنصرة المسلمين ، وجعل على رأس هذا الوفد القاضي كمال الدين الشهرزوري بنفسه .

خامسًا : رسالة أخرى عجيبة أرسلها البطل المتجرد عماد الدين زنكي رحمه الله ! وكانت هذه الرسالة إلى خصمه اللدود في أرض الجزيرة ركن الدولة داود بن سقمان الأرتقي ! فعلى الرغم من الصدمات التي حدثت بين الفريقين في غضون السنوات العشر السابقة إلا أن عماد الدين زنكي يرى أن الظروف الحالية تحتِّم عليه أن يتناسى كل الصراعات القديمة ، وأن يعمل على توحيد المسلمين في كيان واحد قادر على مواجهة الجموع الهائلة للبيزنطيين والصليبيين .

سادسًا : رسالة ثالثة مهمة أرسلها عماد الدين زنكي تدل على فقه عسكري دقيق للموقف ، فلقد أرسل رسالة سريعة إلى زعماء المسلمين في آسيا الصغرى وهم : السلطان مسعود بن قلج أرسلان زعيم السلاجقة الروم ، ومحمد بن غازي الدانشمندي زعيم بني الدانشمند يدعوهم للتوحُّد والهجوم على المدن الإسلامية المحتلة من البيزنطيين في آسيا الصغرى ؛ وذلك لدفع الإمبراطور البيزنطي إلى العودة إلى آسيا الصغرى لدفع خطر المسلمين هناك .

لقد كان تخطيطًا بارعًا رائعًا ، يدل على عقلية عسكرية متميزة .


ماذا حدث على أرض الواقع ؟!

لقد نزلت القوات النصرانية البيزنطية والصليبية حول أسوار مدينة حلب في 6 من شعبان سنة 532هـ ، ففوجئت بالإستحكامات العسكرية القوية التي جهَّزها الجيش المسلم هناك ؛ فالخنادق كثيرة وعميقة ، والأسوار عالية وسميكة ، والجيش المسلم متحفِّز ، والسهام تنهال على الجيوش النصرانية من كل مكان ، مما منع النصارى من الإقتراب من المدينة .

ولم يكتفِ المسلمون بذلك ، بل أخرج الأمير المسلم البطل سوار عدة سرايا من الجيش المسلم تقابل بعض الفرق المحاصِرة ، فأخذتهم على حين غِرَّة ، وقُتِل من الصليبيين والبيزنطيين خلق كثير ، بل إن أحد كبار قساوستهم قُتل في أثناء هذه المعارك مما أزعجهم إزعاجًا شديدًا .

لقد وجد الإمبراطور البيزنطي أن حلب - بجيشها الشجاع وتحصيناتها المنيعة - حُلم بعيد المنال ! وهذا دفعه إلى أن يقرِّر فجأةً ، وبعد ثلاثة أيام فقط ، أن يرفع الحصار تمامًا عن مدينة حلب الباسلة !!

لقد عجزت الجيوش العملاقة أن تكسر إرادة المسلمين في حلب ، ولعلنا نتذكر صبر الصليبيين على حصار أنطاكية قبل ذلك بأكثر من أربعين سنة ، حيث صبروا على الحصار سبعة أشهر كاملة حتى سقطت المدينة ، أما الآن فالجيوش النصرانية أضعاف الجيوش التي كانت تحاصِر أنطاكية ، ومع ذلك لم يصبروا !!

ما السر في ذلك ؟!

إن السر لا يكمن في طبيعة الجيوش النصرانية أو أعدادها ، إنما يكمن في الأساس في طبيعة الجيش المسلم وقوته ؛ فالمسلمون المحصورون في حلب مختلفون تمام الإختلاف عن المسلمين الذين حُصِروا قبل ذلك في أنطاكية ، فقد ظهرت في هذه الأزمة نتيجة التربية الإيمانية والجهادية والعلمية والعسكرية التي بذل فيها عماد الدين زنكي الأوقات ، وسخَّر من أجلها طاقات الأمراء والعلماء ، فأفرزت هذا الجيش المسلم القوي ، وهذا الشعب المسلم الصابر .

وترك الإمبراطور البيزنطي حلب يائسًا ، وإتجه إلى حصن الأثارب غرب حلب ، وكانت به حامية إسلامية بسيطة ، فآثرت أن تنسحب لأن إحتمال هلكتها قريب ، وبالتالي إمتلك الإمبراطور البيزنطي حصن الأثارب ، ووضع فيه أسرى وسبايا مدينة بزاغة ، الذين كان الإمبراطور يستصحبهم معه في طريقه ، ثم وضع معهم حامية بيزنطية ، وأكمل طريقه غربًا وجنوبًا حيث إحتل معرَّة النعمان وكفرطاب ، ويَمَّم وجهه تجاه شيزر !

ورأت الحامية الإسلامية في حلب أن الجيوش النصرانية قد رحلت عن المدينة ، فأرسلوا خلفهم العيون لتعرف مسارهم .. وأدرك الأمير سوار أمير حلب أن البيزنطيين تركوا الأسرى والسبايا المسلمين في حصن الأثارب ، وتركوا معهم حامية بيزنطية صغيرة ، فإنتهز الفرصة ، وخرج من حلب مسرعًا في فرقة من جيشه ، وحاصر حصن الأثارب ، ثم ما لبث أن أسقطه وقتل عددًا من جنود الحامية البيزنطية وأسر الباقي ، وحرَّر كل الأسرى والسبايا المسلمين ، وعاد بهم جميعًا إلى حلب !

وإرتفعت معنويات المسلمين إلى السماء ، ووصلت الأخبار إلى جيش عماد الدين زنكي المرابض عند سَلَمْيَة ، فازداد إصراره على الجهاد ، وقويت نفوس الجند ، وشعروا جميعًا بمعيَّة الله لهم .

أما الإمبراطور البيزنطي فقد آثر أن يتجه إلى شيزر لأنها إلى الآن إمارة مستقلة ، وعلى رأسها سلطان بن منقذ ، وهي ليست تابعة لعماد الدين زنكي ، وبالتالي فإن الإمبراطور البيزنطي سيواجه إمارة ضعيفة نسبيًّا دون أن يستثير غضب الزعيم العنيد عماد الدين زنكي !

هكذا ظنَّ الإمبراطور البيزنطي ، ولكن الواقع كذَّب ظنونه !


لقد أرسل سلطان بن منقذ - مع رغبته الشديدة في الإحتفاظ بإستقلاله عن عماد الدين زنكي - رسالة إستغاثة عاجلة إلى عماد الدين زنكي ، فلم يتردد عماد الدين زنكي لحظة ، بل توجه بقوته الرئيسية فورًا لإنقاذ شيزر ، وعبر نهر القويق (وهو أحد روافد نهر الفرات) ، وتجاوز مدينة حماة التابعة له ، فجعلها في ظهره ليحتمي بحصونها إذا حدث تفوق للجيش البيزنطي ، ثم تقدم في إتجاه شيزر حتى عسكر في منتصف الطريق بين شيزر وحماة ، وأرسل العيون الاستخباراتية لتنقل له الأخبار .

جاءت الأخبار بعد قليل أن الجيوش النصرانية تخرج عن حد الإحصاء ، وأنها أضعاف جيش عماد الدين زنكي ، وأن البيزنطيين والصليبيين قد نصبوا ثمانية عشر منجنيقًا حول شيزر ، هذا إضافةً إلى آلات الحصار الضخمة ، وأن أعلام الجيوش النصرانية تشمل قوات الدولة البيزنطية وإمارة أنطاكية وإمارة الرها ، إضافةً إلى كتيبة الداوية !

علم عماد الدين زنكي من هذه الأخبار أن قتال هذه الجموع الهائلة قتالاً مفتوحًا أمرٌ غير مأمون ؛ ولذلك عزم عماد الدين زنكي على إتِّباع سياسة أخرى في القتال ، تضمن له نتائج أفضل ..
فماذا فعل بطلنا الموهوب ؟!

لقد قرر أن يعمل في وقت واحد على عدة محاور :


المحور الأول : حرب الإستنزاف
وقد إستخدم عماد الدين زنكي هذا الأسلوب لكي يتجنب الصدام مع القوة النصرانية بكاملها ، فكان يُرسِل فرقة كبيرة من جيوشه تقترب من شيزر ، فإذا رآها النصارى إقتربوا منها ليقاتلوها ، فينسحب عماد الدين زنكي تدريجيًّا ليبعدهم عن القوة الرئيسية المحاصِرة لشيزر ، ثم يصطدم بهم فيقتل منهم ويأسر ! وظل يتبع هذا الأسلوب حتى أرهق الجيوش النصرانية دون أن يعطيها فرصة لقتاله قتالاً مفتوحًا .

المحور الثاني : قطع التموين عن الجيوش النصرانية


حيث أرسل فرقًا من جيشه تحاصِر الطرق خلف الجيش النصراني ، وبذلك تمنعه من تحصيل المواد والمؤن بشكل ثابت ؛ مما يؤدي مع مرور الوقت إلى ضائقة قد تمنع من إمكانية الجيش على الصبر فترة طويلة .

المحور الثالث : محور الحرب النفسية


لقد راسل عماد الدين زنكي القوات المتحالفة ، وأظهر لهم أن قوته ضخمة وكبيرة ، وقال لهم في سخرية :
"إنكم قد تحصنتم مني بهذه الجبال ، فإخرجوا عنها إلى الصحراء حتى نلتقي ، فإن ظفرتم أخذتم شيزر ، وإن ظفرنا بكم أرحتُ المسلمين من شرِّكم !" .

ولقد كان عماد الدين زنكي يعلم أن قوته أضعف من قوتهم ، ولم يكن له رغبة في خروجهم ، ولكنه كان بهذه الكلمات يحطمهم نفسيًّا ، ويشعرهم أن قوته أكبر من قوتهم ، وأنه واثق تمام الثقة من نفسه وجيشه ، وكان هذا - ولا شك - ليرهبهم ، وقد ظهرت هذه الرهبة بوضوح في كلمات الإمبراطور البيزنطي عندما أشار عليه بعض قادة الصليبيين أن يخرج لقتال عماد الدين زنكي ، فقال في جزعٍ : "
أتظنون أنه ليس من العسكر إلا ما ترون ؟ إنما يريد أنكم تلقونه ، فيجيء إليه من نجدات المسلمين ما لا حدَّ عليه" .. وهكذا أدَّى هذا الإستفزاز إلى إرهاب الإمبراطور البيزنطي ، ومنعه من التفكير في التقدم جنوبًا .

المحور الرابع : فك الإتحاد بين قوات التحالف !

وقد قام عماد الدين زنكي في هذا الصدد بعمل رائع إذ أرسل خطابات إلى زعماء القوات الصليبية يُعلِمهم أن الإمبراطور البيزنطي إذا إستولى على حصن واحد بالشام أخذ البلاد التي بأيديهم منه .. ولا شك أن هذا الكلام وقع موقعه من الصليبيين لسابق العهد بسياسة الدولة البيزنطية ، وذكَّرهم هذا بالصراع الطويل ، والمنافسة المستمرة التي كانت بين الإمبراطور ألكسيوس كومنين أبي الإمبراطور يوحنا كومنين ، وبين أسلافهم من زعماء الحملة الصليبية .

ولم يكتفِ عماد الدين زنكي بذلك ، إنما أرسل رسالة إلى الإمبراطور البيزنطي نفسه يخبره أن الصليبيين في بلاد الشام خائفون منه ، فلو فارق مكانه تخلَّوا عنه ! وكانت هذه الكلمات تؤثر أيضًا في الإمبراطور البيزنطي ؛ لأن تاريخ الصليبيين يشهد أنهم أخذوا أنطاكية ومدن إقليم قليقية على خلاف معاهدة القسطنطينية القديمة ، مما يوحي أن الصليبيين قد يغدروا به إذا تم لهم الإنتصار !

وهكذا ألقى عماد الدين زنكي الشك في قلوب المتحالفين ، حتى صار كل طرف على وجل من الطرف الآخر ، وهكذا فترت عزيمة الطرفين على إكمال القتال .

بهذه الخطة المتوازنة جدًّا بدأ البيزنطيون يتململون من البقاء في الحصار الطويل حول شيزر ، خاصةً أن المدينة حصينة جدًّا ، وقد يتطلب إسقاطها عدة أسابيع أو أشهر , وهكذا وصل الجيش النصراني إلى حالة من التردد وخيبة الأمل ، خاصةً بعد تزايد أعداد القتلى والأسرى في جيوشهم دون نصر واضح يحققونه .

ثم إن الله أراد أن يعجِّل برحيل القوات البيزنطية ،
وذلك عن طريق حدوث أربعة أمور في وقت متزامن ، كان لها أكبر الأثر في تغيير إستراتيجية الجيوش النصرانية :

أما الأمر الأول فهو وصول الأخبار بإستجابة ركن الدولة داود بن سقمان لنداء عماد الدين زنكي ، وقدومه على رأس خمسين ألف تركماني دفعة واحدة ! وقد حرص عماد الدين زنكي على إيصال هذه الأخبار للجيش النصراني ليزيد من هزيمته النفسية .

وأما الأمر الثاني فهو وصول الأخبار أيضًا بإتحاد جيش سلاجقة الروم والدانشمنديين وهجومهم على مدينة أذنة في إقليم قليقية ، وهذه المدينة كانت قد دخلت تحت سيطرة الدولة البيزنطية ، ومن ثَمَّ فهذا يعني أن الدولة البيزنطية بدلاً من أن تزيد أملاكها ، فإنها ستفقد منها أجزاء مهمة .

وأما الأمر الثالث فهو صراع داخلي نشأ بين قواد الصليبيين ريموند بواتييه وجوسلين الثاني ! فقد كان كلٌّ منهما يكره الآخر ويخاف من إزدياد نفوذه ، فكان جوسلين الثاني يرى أن وجود ريمون بواتييه في شيزر وحلب إذا نجح الجيش البيزنطي في إسقاطهما سوف يضيِّق عليه حريته ، حيث سيفصل بينه وبين مملكة بيت المقدس الراعية للجميع .. وعلى الجانب الآخر فإن ريموند بواتييه كان في شكٍّ كبير أن تستقر الأمور لصالحه إذا تكوَّنت هذه الإمارة المزعومة ؛ لأنه يرى أن الجيوش الضخمة لم تفلح في التقدم خطوة في إحتلال حلب أو شيزر ، فكيف سيكون الحال إذا رحلت جيوش الإمبراطورية البيزنطية ! وهذه الهواجس عند جوسلين الثاني وريموند بواتييه قادت إلى نزاع بين الطرفين وخصام ، إضافةً إلى أن جوسلين الثاني قام بالوشاية بين ريموند بواتييه والإمبراطور البيزنطي مما أدَّى إلى فتور العَلاقة بينهما .

أما الأمر الرابع والأخير ,
فهو قدوم عرض من أمير شيزر إلى الإمبراطور البيزنطي يعرض عليه مبلغًا كبيرًا من المال يعوِّضه عن نفقات الحرب على أن يسحب قوَّاته فورًا ، ويرفع الحصار عن شيزر ! وهكذا أخذ الإمبراطور البيزنطي يُقَلِّب الأمر في ذهنه من جديد ، ووقع في حيرة شديدة فيما يجب أن يفعله ، فإستمرار القتال قد يؤدِّي إلى هلكة له ولجيشه ، والإنسحاب ضربة كبيرة لكرامته ، فماذا يفعل ؟

لا شك أن أفكارًا كثيرة تضاربت في عقله ، ولا شك أنه قد أخذ يجمع النقطة إلى جوار النقطة ، والحدث إلى جوار الحدث ليخرج في النهاية بقرار .

ولنتجول معًا في عقل الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين !


أولاً : حصار شيزر إستمر حتى هذه اللحظة ثلاثة أسابيع دون أي تقدم .

ثانيًا : مدينة شيزر مدينة ثرية جدًّا ، وتموينها الداخلي كثير جدًّا ، وعليه فهي تستطيع المطاولة في الحصار فترة طويلة جدًّا .

ثالثًا : القوات البيزنطية فَقَدت حتى الآن أعدادًا كثيرة من الجنود ما بين قتيل وأسير ، سواء حول أسوار حلب ، أو في حصن الأثارب ، أو حول أسوار شيزر ، أو في المعارك المتكررة مع عماد الدين زنكي . وفي نفس الوقت فالقوات البيزنطية فقدت الأسرى المسلمين الذين أسرتهم من بُزَاغة ، حيث حرَّرهم الأمير سوار من حصن الأثارب ، وهذا يعني أن القوات البيزنطية خسرت دون مكسب !

رابعًا : قائد الجيوش الإسلامية عماد الدين زنكي ، قائدٌ عنيد مجاهد لا تلين له قناة ، وصبور لا تفتر له عزيمة ، ومحترف يتقن كل فنون الحرب ، ولا يبدو مطلقًا أنه يقبل بالهزيمة !

خامسًا : القوات الصليبية المساعدة له قوات ضعيفة ، وصراعاتها الداخلية كثيرة ، ولا يوجد عنصر الثقة المتبادلة بين الطرفين أبدًا .

سادسًا : مدينة أذنة على وشك الضياع ، ولا يقف الأمر عند مصيبة ضياعها ، ولكن قد يتطور الأمر إلى إغلاق طريق العودة على الجيوش البيزنطية ، وبذلك تحصر الجيوش البيزنطية بين سلاجقة الروم والدانشمنديين من ناحية ، وبين عماد الدين زنكي من ناحية أخرى .

سابعًا : الإمبراطور السابق رومانوس الرابع لم يقدِّر هذه الحسابات العسكرية ، ومن ثَمَّ خاض موقعة قديمة مع البطل الإسلامي السابق ألب أرسلان ، وهي موقعة ملاذكرد سنة (463هـ) 1070م ، وكانت نتيجتها كارثة على الإمبراطور البيزنطي وعلى الدولة البيزنطية بكاملها ، فهل يكرِّر يوحنا كومنين الخطأ الذي وقع فيه الإمبراطور السابق ، أن ينجو بنفسه وبجيشه ؟!

ثامنًا : كل هذه التطورات الخطيرة تحدث من جيش عماد الدين زنكي فقط ، فماذا لو جاء جيش الأراتقة التركماني ، وقوامه - كما نقل الجواسيس - خمسون ألف مقاتل ؟! لا شك أن القوات البيزنطية ستوضع عندها في مأزقٍ خطير !

تاسعًا : وصلت الأنباء أيضًا أن عماد الدين زنكي أرسل مبعوثًا إلى السلطان مسعود سلطان السلاجقة العظام ! فماذا لو جاء جيش كثيف من بغداد يقوده السلطان مسعود حفيد السلطان ألب أرسلان الذي سَحَق قبل ذلك بتسعة وستين عامًا جيشَ الدولة البيزنطية ؟!

عاشرًا : إذا إنسحب الإمبراطور البيزنطي دون أي نتيجة فقد يتعرض للوم كبير في البلاط البيزنطي قد يؤثِّر في منصبه ، أما الآن فأمامه فرصة كبيرة أن يحقِّق شيئًا ، وذلك أن يقبل بالمبلغ الضخم الذي سيدفعه أمير شيزر تعويضًا عن نفقات الحرب الباهظة ، كما أنه سيترك حامية في مدينتي بزاغة وكفرطاب لتُصبِحا قواعد متقدمة للجيش البيزنطي في أرض الشام ، وسوف يعود الإمبراطور البيزنطي مسرعًا إلى مدينة أذنة ليحميها من السلاجقة الروم والدانشمنديين ، وقد يحقق إنتصارًا عليهما يرفع قليلاً من أسهمه ، ويعوِّضه عن حملته الفاشلة إلى بلاد الشام !

إذن بإستعراض هذه الأمور العشرة التي جالت في ذهن الإمبراطور ندرك أن التحليل المنطقي ، والتفكير السليم يقضيان بأن يأخذ الإمبراطور البيزنطي القرار الجريء بالإنسحاب الفوري من حوله أسوار شيزر ، قابلاً بالطرح الذي قدمه أمير المدينة ، وذلك قبل أن يفقد كل شيء ، ولا يجد حتى هذا الطرح أمامه !

وهذا هو الذي حدث بالفعل ! وأعلن الإمبراطور البيزنطي الكبير إنسحابه وجميع القوات المتحالفة من حول مدينة شيزر بعد ثلاثة وعشرين يومًا من الحصار !

لقد أعلن الإمبراطور البيزنطي بوضوح فشله في كسر الإرادة الإسلامية ! لقد كان نصرًا خالدًا حقًّا ! لقد رحلت الآلاف المؤلفة من قوات التحالف البيزنطي الصليبي لتنجو بنفسها من أَتُّون المسلمين المحرق ! لقد رحلوا وهم لا يلوون على شيء ! رحلوا رحيلاً مخزيًا مشينًا ! لم ينظروا فيه إلى هيبتهم أو مكانتهم أو تاريخهم أو حتى مستقبلهم .

لقد كان يومًا من أيام الله المشهورة ، سمع به العالم أجمع ، وتكلم عنه المسلمون والنصارى ، ولفت أنظار المؤرخين الغربيين والشرقيين ، وصار علامة محفورة في أذهان أجيال وأجيال .

كانت هذه الأحداث في شهر رمضان 532هـ\ مايو 1138م ، أي بعد أقل من سنة على موقعة فتح بارين التي إنتصر فيها عماد الدين زنكي على جيوش إمارة طرابلس المتحدة مع مملكة بيت المقدس .. وهكذا صار عماد الدين زنكي بلا جدال البطل الإسلامي الأول ، ولم يكن أحد يستطيع إنكار هذه الحقيقة حتى لو كان في داخله يرفضها ، وصار لفظ "الدولة الزنكية" مقبولاً جدًّا ، فهذه هي الدولة الأولى بلا منازع في عالم الإسلام .

أما بطلنا الحبيب فلم يكتفِ بهروب القوات النصرانية بهذه الطريقة المشينة ، إنما تحرك في خطوات سريعة ، ليثبت للجميع أنه لم يتنفَّس الصعداء لأن الجيوش البيزنطية والصليبية رحلت ، بل هم الذين يجب أن يتنفسوا الصعداء لنجاتهم بحياتهم من أيدي المسلمين !

ماذا فعل بطلنا العظيم ؟!


أولاً :
أسرع عماد الدين زنكي رحمه الله بجيشه خلف الجيش البيزنطي يطارده ، وإستطاع أن يصطدم مع مؤخرة الجيش البيزنطي ، وأن يقتل ويأسر ويغنم ، مما جعل البيزنطيين يُسرِعون الخُطَا في إتجاه بلادهم .

ثانيًا :
تحرك عماد الدين زنكي بسرعة ليسيطر على آلات الحصار الثقيلة التي كان ينصبها البيزنطيون حول أسوار حلب ، فهذه آلات متطورة الصنع باهظة التكاليف ، وهي غنيمة عظيمة غالية .. وإستطاع بالفعل أن يستولي على معظمها ، وإضطر البيزنطيون إلى حرق البقية لعدم مقدرتهم على الحركة السريعة وهم يجرون هذه الآلات الضخمة .

ثالثًا : أرسل عماد الدين زنكي سرية بقيادة صاحبه صلاح الدين الياغيسياني لإعادة فتح كفرطاب ، وإخراج الحامية البيزنطية منها .. وأفلح صلاح الدين الياغيسياني في ذلك في نفس الشهر الذي رحلت فيه القوات البيزنطية ، أي في رمضان سنة 532هـ .

رابعًا : فعل عماد الدين زنكي ما هو أعظم من ذلك ، إذ إستغل هذا النصر الكبير، وتحرك حركة مفاجئة في إتجاه حصن عرقة ، وهو من الحصون التابعة لإمارة طرابلس ، وإستطاع بعد حصار طويل وقصف مستمر أن يُسقِط الحصن ، وأن يأسر مَن به من الصليبيين .

وكانت حركة في منتهى الذكاء منه ، إذ كان المتوقع أن يهاجم إمارتي أنطاكية والرها إنتقامًا من زعيميهما اللذين شاركا الإمبراطور البيزنطي في الحملة ، إلا أنه هاجم إمارة طرابلس التي لم تكن مستعدة لهذا الهجوم المباغت .

خامسًا : لم ينس عماد الدين زنكي قضية توحيد الأمة ، ومن ثَمَّ فبمجرد رحيل القوات البيزنطية ، وأثناء رمضان سنة 532هـ ، عاد عماد الدين زنكي بسرعة إلى حصار حمص آملاً أن يفلح في إسقاطها , وهكذا لم يترك عماد الدين زنكي فترة في حياته للراحة حتى بعد هذا الجهد الكبير الذي بُذِل حول أسوار شيزر .

لكن في هذه المرة التي حاصر فيها عماد الدين زنكي رحمه الله مدينة حمص ، فكر أن يأخذها بطريقة أخرى توفِّر عليه كثيرًا من العناء ، وقد تفتح الباب لضم مدن أخرى في المستقبل ! لقد فكر عماد الدين زنكي أن يتزوج زواجًا سياسيًّا مهمًّا يكفل له التقرب من حاكم دمشق شهاب الدين محمود بن بوري ، وهكذا طلب عماد الدين زنكي الزواج من صفوة الملك زمرد خاتون أم شهاب الدين محمود في مقابل أن يأخذ مدينة حمص !

وقد يتساءل أحدٌ : كيف يتزوج ثم يأخذ حمص بدلاً من أن يُعطِي هو شيئًا ؟! فنقول أنه - ولا شك - قد دفع الكثير من أمور المهر والهدايا الثمينة إلا أنه يطلب حمص في مقابل الشرف الكبير الذي تناله مَن تتزوج من عماد الدين زنكي رحمه الله !

فعماد الدين زنكي الآن يحكم أكبر إمارة في العالم الإسلامي ، ثم إنه البطل المغوار الذي يحقق الإنتصارات المتتالية على الصليبيين والبيزنطيين , ولا شك أن الإرتباط بهذا الرجل شرف ما بعده شرف .

وقد تم لعماد الدين زنكي ما أراد فعلاً ، ووافق شهاب الدين محمود على هذا الزواج ، وتم فعلاً في نفس الشهر أيضًا ، أي في شهر رمضان 532هـ ، وهكذا دخلت حمص في إمارة عماد الدين زنكي !

وقبل أن نترك الأحداث في هذه الفترة نريد أن نعرف ماذا تم في أمر الإستغاثة التي أرسلها عماد الدين زنكي إلى السلطان مسعود السلجوقي في بغداد ، والتي حملها القاضي كمال الدين الشهرزوري !

لقد وصل كمال الدين إلى بغداد بسرعة ، وإلتقى بالسلطان مسعود ، وعرَّفه عاقبة التواني عن نصرة المسلمين في أرض الشام ، وخوَّفه بما يفهمه من أمور ضياع الملك والسلطان ، فأخبره أن البيزنطيين إذا ملكوا حلب فإنهم سينحدرون مع نهر الفرات إلى بغداد نفسها , فتحتل عاصمة الخلافة !

ماذا كان ردُّ فعل السلطان السلجوقي مسعود ؟! يقول إبن الأثير رحمه الله : "
فلم يجد عنده حركة !!" .. أي أن السلطان قابل الأمر ببرود شديد ، وكأنه جمادٌ لا روح فيه ! فلم يُبْدِ أي إنفعال ، ولم يظهر عليه أي تأثُّر ، وكأن القضية لا تعنيه بالمرَّة !

خرج القاضي كمال الدين الشهرزوري محبطًا من عند السلطان مسعود ، ولكنه فكر أن يمارس عليه ضغطًا يحرِّك حميَّته ! لقد أمر كمال الدين أحد أصحابه أن يمضي إلى جامع القصر ، وهو الجامع الذي يصلي فيه الخليفة ، وأن يأخذ معه مجموعة من الأعوان ، ثم بمجرد صعود الخطيب إلى المنبر يقوم هذا الرجل ، ويقوم معه أصحابه فيصيحون جميعًا :
"واإسلاماه ، وادِينَ محمَّداه" ، ثم يشق ثيابه ، ويلقي عمامته ، ثم يخرج إلى دار السلطان يستغيث ويستغيث معه الناس .

ثم وضع كمال الدين رجلاً آخر يقوم بنفس الفعل في مسجد السلطان ، ليتبعه الجميع بعد ذلك إلى دار السلطان أيضًا .

لقد كانت خطة لإثارة الجماهير في بغداد ، لتضغط شعبيًّا على السلطان ، وذلك بصورة تخيفه من حدوث إنقلاب عليه ، وهذا - لا شك - سيثير السلطان ، خاصةً والصراع ما زال مستمرًّا مع إبن أخيه داود بن محمود حول كرسيِّ السلطنة ، وقد يصطاد الملك داود في الماء العكر ، ويحرِّك الناس لجهاد الصليبيين ، وهذا سيسبِّب حرجًا كبيرًا للسلطان مسعود !

ونجحت الخطة ، وتحركت الجماهير الغاضبة تصيح :
واإسلاماه ، وامحمداه .. وكانت مظاهرة ضخمة أرعبت السلطان ، وصاح من فوره : إحضروا لي إبن الشهرزوري ! فأُحضر له ، فقال السلطان : "أي فتنة أثرت ؟!" فردَّ كمال الدين : "ما فعلت شيئًا ، أنا كنت في بيتي ، وإنما الناس يغارون للدين والإسلام ويخافون عاقبة هذا التواني" .. فقال السلطان مضطرًّا : "إخرجْ إلى الناس ففرِّقهم عنَّا ، وإحضرْ غدًا وإخترْ من العسكر ما تريد !" .

فخرج كمال الدين الشهرزوري إلى الناس ، وسكَّنهم وعرَّفهم أن السلطان سيجهز الجنود لنجدة المسلمين في الشام .. وفي الغد ذهب كمال الدين الشهرزوري إلى السلطان فوجده قد جهَّز جموعًا عظيمة من الجند ، لدرجة أن كمال الدين خاف من هذه الجموع الكبيرة ، وتوقع أن السلطان ينوي أن يضم الشام إلى أملاكه بعد أن يحارب البيزنطيين والصليبيين ، فأرسل كمال الدين الشهرزوري بسرعة إلى نصير الدين بن جقر أمير الموصل يستشيره ، ولم يرسل لعماد الدين زنكي لبُعد المسافة ، فقال نصير الدين : "
البلاد لا شك مأخوذة ، فلأن يأخذها المسلمون خير من أن يأخذها الكافرون !" .

لقد كان نصير الدين يتمتع بنفس الرؤية التي عند عماد الدين زنكي ، فأجاب بنفس الكلمات التي أجاب بها عماد الدين زنكي عندما إعترض عليه الناس حين فكَّر في إستقدام السلطان مسعود .

وهكذا تجهزت الجيوش وأوشكت على الرحيل ، إلا أنه في الوقت الذي كادت أن تتحرك فيه وصلت رسالة عاجلة من عماد الدين زنكي يخبر فيها كمال الدين الشهرزوري برحيل الإمبراطور البيزنطي ، وبإنتصار المسلمين ، ومن ثَمَّ فلا داعي لحركة الجيوش من بغداد إلى حلب !

وبهذا تكون الأمور - بفضل الله - قد سارت لصالح عماد الدين زنكي ، ولم يضطر إلى الدخول في مواجهة قد تكون مؤسفة مع جيوش السلطان مسعود .

وإزاء هذا الوضع الجديد ، وقد ذاع صيت عماد الدين زنكي في كل مكان ، وإعترف الجميع بفضله وجهده ، وصار له الدعاء على كل منابر المسلمين ، فكر السلطان مسعود فيما يجب أن يفعله مع عماد الدين زنكي ! إنه لا يستطيع الآن أن يهاجمه أو يأمره بشيء يغضبه ؛ لأن عموم جمهور المسلمين سيقف مع عماد الدين زنكي لا شك ؛ ولذلك فكر السلطان مسعود في إحتواء عماد الدين زنكي، والتعامل معه كقائد كبير من قواده ، وبالتالي أرسل له فورًا التشريفات والخلع ، وهنَّأه بالنصر الكبير ، وبالإنجاز الذي حققه للمسلمين ، وعامله كأمير من أمرائه التابعين له ، لا كقائد دولة منفصلة عنه ، وقَبِل عماد الدين زنكي هذا الأسلوب ، فهو لم يكن يريد أن يدخل في صراعات لا معنى لها ، إنما كان يريد أن يفرِّغ كل جهده لتوحيد المسلمين ، ولإخراج الصليبيين من الأرض الإسلامية .

وهكذا إنتهت سنة 532هـ نهاية سعيدة على المسلمين ، بعد أن وضحت الرؤية لعموم الناس ، وأضحى هناك أمل كبير في إخراج الصليبيين بعد أن عرف المسلمون طريق الوحدة والجهاد .

وقبل أن نترك هذه السنة المتميزة في تاريخ هذه الفترة نشير إلى حدث مهم شهدته هذه السنة ، ولم يلفت أنظار الناس آنذاك ، وإن كان أثره في المسلمين - بل على العالم - بعد ذلك سيصبح كبيرًا جدًّا .. وهذا الحدث هو ميلاد البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي ! ومن عجيب الأمور أن صلاح الدين الأيوبي وُلِد في اليوم الذي عُزِل فيه أبوه نجم الدين أيوب من قيادة قلعة تكريت بعد خلاف حدث بينه وبين رئيس الشرطة في بغداد مجاهد الدين بهروز ، لدرجة أن أباه في بادئ الأمر كان يتشاءم منه ؛ لأنه ولد في اليوم الذي فقد فيه علمه ! ولم يكن يدرك أن صلاح الدنيا والدين سيكون في حياة هذا الوليد !

ولقد رحل نجم الدين أيوب ومعه أخوه أسد الدين شيركوه من تكريت إلى إمارة الموصل ليكونا في خدمة البطل عماد الدين زنكي ، وقد مر بنا قبل ذلك أن نجم الدين أيوب كان قد ساعد عماد الدين زنكي في عبور دجلة سنة 526هـ عند هزيمة عماد الدين زنكي من الخليفة المسترشد ، وقد قدَّم نجم الدين أيوب يومها العون كله لعماد الدين زنكي ، وآواه في القلعة عدة أيام ؛ ولذلك عندما وقعت له هذه الأزمة فكر في اللجوء إلى عماد الدين زنكي كي يجد العون عنده .. وقد كان عماد الدين زنكي عند حسن ظن نجم الدين أيوب ، فأحسن إستقباله ، وأقطعه بعض الإقطاعات ليختبر مهارته في القيادة ؛ تمهيدًا لتوليته منصبًا أكبر إذا أثبت كفاءته , وهكذا توطدت العَلاقة بين عماد الدين زنكي ونجم الدين أيوب ، وهذا هو الذي سيجعل العلاقة بعد ذلك قوية بين ابن عماد الدين زنكي وهو نور الدين محمود ، وبين صلاح الدين الأيوبي إبن نجم الدين أيوب .. فسبحان الذي يُسيِّر الكون بحكمته !

======
يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- عماد الدين زنكي وفتح الرها

مع عظمة الإنتصارات السابقة ، ومع تقدم المسلمين الواضح في قصة صراعهم مع الصليبيين ، إلا أن هذا التقدم الإسلامي كان يعيبه أمران ، وكان هذان العيبان لا يغيبان عن عماد الدين زنكي رحمه الله .

أما العيب الأول : فإن المعارك الإسلامية حتي الآن كانت في الأساس ردود أفعال ، بمعني أن الهجوم غالبًا ما يأتي من قِبَل الصليبيين أو البيزنطيين ، ثم يسرع عماد الدين زنكي بالرد بما هو مناسب .. ومع أن ردود عماد الدين زنكي كانت دائمًا قوية إلا أن هذه إستراتيجية غير آمنة ؛ حيث إن المهاجِم يباغت عدوه بما لا يتوقع ، ويختار أرض المعركة وزمانها، وقد يتعرض المسلمون حينها لظروف تمنع من الرد المناسب ، وكان عماد الدين زنكي يسعي للتغلب علي هذا العيب ، وأن يكون هو البادئ بالتخطيط والهجوم ، إلا أن هجمات الصليبيين المتوالية كانت تضيِّع عليه هذه الفرصة .

وأما العيب الثاني : فكون القوات الإسلامية تهاجم الإمارات الصليبية مجتمعة دون التركيز علي إمارة معينة ، وهذا يضع كل الإمارات في حالة إستنفار ، وفي نفس الوقت لا يُحدِث أثرًا كبيرًا ؛ حيث يشتِّت الجهود ، ويُضيِّع الطاقات ، ولا يحرِّر في النهاية إلا حصنًا أو مدينة ، بينما تبقي الإمارة صلبة مقاومة للإنهيار .

ولتلافي هذين العيبين رأي عماد الدين زنكي أن يوفر جهده فترة معينة من الزمن ، يهتم فيها بإعداد جيش قوي متماسك ومتناسق ، ويوحِّد إمارته بشكل أقوي ، ويضم إليها ما يلزم من أجزاء تسهِّل عليه مهمة جهاد الصليبيين ، وقد كانت هذه المرحلة التي تمر بها إمارة عماد الدين زنكي مناسبة لهذه الأفكار ، حيث خرج عماد الدين زنكي من الأحداث السابقة قويًّا مرهوبًا ، وبالتالي فلا يُتوقع من الإمارات الصليبية أن تغزو أو تثير غضبه .. كما أن جانب السلطان مسعود أصبح إلي حدٍّ كبير مأمونًا ، حيث أرسل التشريفات إلي عماد الدين زنكي ، وأقرَّ بإمارته وزعامته علي قطاع كبير من الدولة الإسلامية .

ولم يكن أمام عماد الدين زنكي إلا أن يحدِّد الإمارة الصليبية التي ينبغي أن يركِّز جهوده لحربها بغية إسقاطها بالكُلِّيَّة ، ثم يشرع في تمهيد الأمر لذلك ، ولو أخذ هذا الأمر عدة سنوات .

وبإستقرار الوضع الذي وصلت إليه الإمارات الصليبية المختلفة في هذا الوقت ، وجد عماد الدين زنكي أنه ينبغي أن يوجِّه جهوده ويكثِّفها لإسقاط إمارة الرها دون غيرها !

أما لماذا الرها دون بقية الإمارات ، فهذا لأسبابٍ :

أولاً : إمارة الرها هي أقرب الإمارات لقوات عماد الدين زنكي ، وبالتالي فإن حركة الجيوش الإسلامية إليها ستكون أسهل ، وإذا حدث - لا قدر الله - هزيمة للجيش الإسلامي فإنه سيجد حصونًا ومدنًا قريبة يستطيع أن يلوذ بها ، ومن ثَمَّ فإن فرصة تأمين القوات الإسلامية أعلي في حرب هذه الإمارة من غيرها .

ثانيًا : إمارة الرها هي أشد الإمارات خطورةً علي إمارة عماد الدين زنكي ، فهي قريبة جدًّا من الموصل وحلب وكل مدن إقليم الجزيرة ، وبالتالي فخروج الجيوش الإسلامية من حصونها لتهديد أمن القري والمدن الإسلامية يمثِّل إحتمالاً كبيرًا واردًا .. كما أن عماد الدين زنكي لا يستطيع أن ينطلق لحرب أنطاكية أو طرابلس ويترك خلف ظهره هذه الإمارة الصليبية الحصينة ؛ فقد تقطع عليه طريق العودة ، أو تهاجمه من ظهره ، ولا يخفي خطورة ذلك علي الجيش المسلم .

ثالثًا : إمارة الرها غير مستقرة ، حيث إن تركيبتها السكانية تجعل أحوالها مضطربة ، وكذلك تاريخها يشهد بعدم الإستقرار ؛ فإمارة الرها تعتمد علي الأرمن في حياتها .. ومع كون الأرمن نصاري مثل الصليبيين إلا أنهم كانوا يبغضونهم أشدَّ البغض ، والتاريخ يشير إلي أكثر من مذبحة إرتكبها الصليبيون الكاثوليك في حق الأرمن ؛ مما جعلهم في وجلٍ دائم من الصليبيين , وقد حدث في تاريخهم أكثر من مرة أن تراسلوا مع المسلمين ليخرجوهم من أزمتهم مع الصليبيين ؛ ولذا فأوضاع هذه الإمارة الداخلية قد تسهِّل علي عماد الدين زنكي مهمته ..

رابعًا : علي رأس إمارة الرها جوسلين الثاني ، وهو أضعف الأمراء الصليبيين الآن ، ولم يكن علي كفاءة أبيه مطلقًا ، ولم يكن يُؤثِر القتال والنزال ، ولعل الهجوم علي إمارته يكون أسهل من غيره .

خامسًا : إمارة الرها إمارة داخلية ، أي أنها بعيدة عن ساحل البحر الأبيض المتوسط ، وبالتالي فإنها تفتقر إلي الإمدادات البحرية من السفن الإيطالية التي طالما نجدت الإمارات البحرية كأنطاكية ، وطرابلس ، ومملكة بيت المقدس .

سادسًا : الهجوم علي إمارة الرها لن يستثير الإمبراطورية البيزنطية لبُعدها عن حدودها ، ولقلة طمعها فيها ، بينما لو هجم عماد الدين زنكي علي إمارة أنطاكية لحرَّك ذلك جيوش الدولة البيزنطية التي تشعر أن لها حقًّا في هذه الإمارة بشكل خاص .

لهذه الأسباب فإن فرصة إسقاط المسلمين لهذه الإمارة أقرب من غيرها ، وعليه فيجب تكثيف الجهد لتحقيق هذا الهدف ، ولا مانع من الإنتظار عدة سنوات ليصبح العمل متقنًا ، وتصبح فرصة نجاحه أفضل .

ولا شك أن الإنتظار لا يعني أنها فترة سكون بلا عمل ، لكنها فترة إعداد وتجهيز ، والهدف في آخرها واضح ، وهذا الذي جعل الخطوات في هذه الفترة كلها تصبُّ في مصلحة واحدة .

ولقد رأي عماد الدين زنكي رحمه الله أن عليه أن يعمل في محورين رئيسيين :

المحور الأول : هو تمهيد أرض الجزيرة ليومٍ تُهَاجَم فيه إمارة الرها .

فأرض الجزيرة بها تجمعات تركمانية كثيرة ، والأوضاع فيها غير مستقرة ، والتعاون الذي بين عماد الدين زنكي وحسام الدين تمرتاش تعاون ضعيف غير مبنيٍّ إلا علي خوف حسام الدين تمرتاش من قوة عماد الدين زنكي أو طمعه في عطاياه ، والأحلاف التي من هذا النوع كثيرًا ما تسقط وتتهاوي عند تعارض المصالح .. كما أن ركن الدولة داود وإن كان قد وعد بالقدوم علي رأس خمسين ألفًا نجدةً لشيزر ، إلا أنه متصلب الرأي جدًّا ، وحارب عماد الدين زنكي قبل ذلك مرارًا ، وله أتباع وأعوان، ولا يستبعد أبدًا أن يُحدِث مشاكل مستقبلية .

وبالنسبة لعماد الدين زنكي فإنه لا يستطيع أن يفتح الرها بينما أحوال الجزيرة مضطربة ؛ لأنه لكي يتجه للرها لا بد أن يعبر الجزيرة ، ولو ضغط عليه الصليبيون فلا بد أن تكون له قاعدة قوية يرجع إليها آمنًا ؛ ولهذا فإستقرار الجزيرة أمرٌ حتمي لفتح الرها .

المحور الثاني : محاولة ضم مدينة دمشق .

فمدينة دمشق هي أهم مدن الشام مطلقًا ، ومن أحصنهم عسكريًّا ، ومن أكثرهم كثافة للسكان ، ومن أغناهم ثروة في المال والسلاح ، كما أنها بموقعها الإستراتيجي جدًّا تشرف علي عدة محاور في غاية الأهمية ؛ فهي قريبة جدًّا من عدة مدن إسلامية محتلة مثل بيروت وصيدا وعكا وطبرية ، كما أنها قريبة من إمارة طرابلس ، وكذلك هي في الطريق إلي بيت المقدس ، وهي تشرف علي الطريق بين بيت المقدس في الجنوب ، وإمارات الشمال طرابلس وأنطاكية والرها ؛ ولهذا فضم دمشق يعتبر خطوة كبيرة في طريق وَحْدة صلبة تهدف إلي تكوين قوة حقيقية قادرة علي دَحْر الصليبيين وطردهم من بلاد المسلمين .

كان هذان المحوران هما الشغل الشاغل لعماد الدين زنكي في هذه الفترة ، وقد وجَّه إليهما قوته في خلال السنوات الخمس التي أعقبت رحيل القوات البيزنطية عن أرض المسلمين .

وكما توقع عماد الدين زنكي فقد حدثت بعض المشاكل والإضطرابات من حسام الدين تمرتاش الذي لم يقنع بالمنح التي يعطيها له عماد الدين زنكي ، وشعر أن عماد الدين زنكي بعد إنتصاراته الكثيرة سيصبح الزعيم الأوحد ، وبذلك ستضيع أحلام حسام الدين تمرتاش في الطريق ؛ ولهذا قام حسام الدين تمرتاش بخطوة جريئة خطيرة ، وهي التراسل مع الأمير أبي بكر نائب عماد الدين زنكي علي نصيبين لتحفيزه علي الإنقلاب علي عماد الدين زنكي ، وبالفعل خرج الأمير أبو بكر علي عماد الدين زنكي مما سبَّب حرجًا بالغًا .

ولا ننسي أن نصيبين كانت من أملاك حسام الدين تمرتاش قبل أن يضمها عماد الدين زنكي لدولته سنة 524هـ ، ولكن عماد الدين زنكي إستطاع أن يسيطر علي الأمور في نصيبين ، ومع ذلك إستطاع الأمير أبو بكر أن يهرب إلي حسام الدين تمرتاش ، وهنا طلب عماد الدين زنكي تسليم الأمير أبي بكر ، فرفض حسام الدين تمرتاش ، ودارت مفاوضات طويلة ومنازعات بين الطرفين ، ومع ذلك أصرَّ حسام الدين تمرتاش علي عدم تسليم الأمير أبي بكر لعماد الدين زنكي ، فإضطر عماد الدين زنكي إلي التلويح بالحلِّ العسكري ضد الحليف حسام الدين تمرتاش ؛ فلجأ حسام الدين إلي حلٍّ وسط حيث سلَّم الأمير أبا بكر إلي السلطان مسعود علي إعتباره سلطة أعلي ، غير أن السلطان مسعود رأي أن وضع عماد الدين زنكي الآن لا يسمح بأيِّ نوع من المساومات ، وأن أي نزاع بين الطرفين قد لا يكون في مصلحة السلطان مسعود ؛ ولذلك سلَّم السلطان مسعود الأمير أبا بكر إلي عماد الدين زنكي كدليلٍ علي العلاقات الودية بين الطرفين ! وكانت هذه الأحداث في سنة 533هـ .

إنتهت مشكلة نصيبين والأمير أبي بكر ، لكن أدرك عماد الدين زنكي خطورة الوضع في بلاد الجزيرة ، ومع ذلك فإن عماد الدين زنكي لم يؤثر الإصطدام مع حسام الدين تمرتاش ، بل لجأ إلي التسكين والعتاب ، وجرت الأمور في صالحه إذ حدث أن هجم ركن الدولة داود بن سقمان علي بعض أملاك حسام الدين تمرتاش مما إضطره إلي اللجوء إلي عماد الدين زنكي ، الذي قَبِل بدوره أن يتم الصلح بينه وبين حسام الدين تمرتاش ليعود الحلف إلي سابق عهده ، ولتبقي المشكلة الرئيسية في المنطقة هي مشكلة ركن الدولة داود بن سقمان .

وفي نفس السنة هدأت الأمور بفضل الله في مدينة حرَّان ، حيث كانت قد شهدت قبل ذلك إنقلابًا هي الأخري علي يد أحد أتباع عماد الدين زنكي ، وهو سوتكين الكرجي ، إلا أنه مات فجأةً في سنة 533هـ لتعود المدينة بسلام إلي طاعة عماد الدين زنكي .

وبينما تتجه الأمور نحو الإستقرار النسبي في أرض الجزيرة ، إذا بالأحداث تتطور فجأة في دمشق !

لقد مر بنا أن عماد الدين زنكي تزوج أم حاكم دمشق شهاب الدين محمود ، التي كان لها كلمة مسموعة في بلاط دمشق ؛ ليسهل عليه ضم دمشق بعد ذلك بجهود سياسية ، إلا أن الأخبار أتت في شوال 533هـ بمقتل شهاب الدين محمود علي يد أحد رجاله ! وقد يكون وراء هذه المؤامرة معين الدولة أَنُر قائد الجيش ، وأقوي الشخصيات المؤثِّرة في دمشق .

ويؤيِّد ذلك أن معين الدين أنر نصَّب علي الحكم أخًا غير شقيق لشهاب الدين محمود ، وهو جمال الدين محمد بن بوري ، وهو من أمٍّ أخري غير صفوة الملك زمرد خاتون زوجة عماد الدين زنكي ؛ وبذلك يضمن معين الدين أنر أن الأمور كلها تكون في يده ، ويُبعِد بذلك زمرد خاتون عن التحكُّم في دمشق ، ويبعد بالتالي زوجها عماد الدين زنكي عن الوصول لأسرار الحكم في دمشق .. كما أن الزعيم الجديد الضعيف جدًّا جمال الدين محمد سيجعل كل الأمور في يد معين الدين أنر ، وبذلك تصبح له السلطة الفعلية في دمشق .

وقد حدث لمعين الدين أنر ما يتمني ، وسلَّم له جمال الدين محمد كل مقاليد الأمور في دمشق ، بل وأقطعه مدينة بعلبك المهمة ، التي تسيطر علي الطريق المؤدية إلي دمشق من شمالها ، وهي المدينة الوحيدة الآن في شمال دمشق ، والتي لم تدخل بعدُ في حكم عماد الدين زنكي ، ولو سقطت أصبح الطريق مفتوحًا إلي دمشق .

وصلت هذه الأخبار المزعجة إلي عماد الدين زنكي ، والتي قوَّضت أحلامه في السيطرة السياسية علي دمشق ، وكان عماد الدين زنكي آنذاك في الموصل ، وبعدها بقليل تسلَّم رسالة أخري من حلب من زوجته زمرد خاتون تطلب منه فيها أن يتوجه إلي دمشق ؛ لينتقم لمقتل إبنها شهاب الدين محمود ، ويقيم الحد علي قاتله .. وتزامن أيضًا مع وصول هذه الرسالة ، وصول بهرام شاه بن بوري ، وهو أخو جمال الدين محمد بن بوري زعيم دمشق الجديد ، وقد وصل إلي الموصل يطلب من عماد الدين زنكي مساعدته للوصول إلي الحكم هناك علي أن يكون مواليًا له !

جمَّع عماد الدين زنكي هذه النقاط إلي جوار بعضها البعض ، ووجد أن عليه ألا يضيِّع وقته ، فأخذ جيشه في ذي القعدة 533هـ\ يوليو 1139م وتوجه فورًا إلي دمشق ! , وجد عماد الدين زنكي وهو في طريقه إلي دمشق أن حصار دمشق دون إسقاط بعلبك سيمثِّل خطورة حقيقية علي جيشه ؛ إذ قد يُحصر بين حامية بعلبك وجيش دمشق ، وعلي ذلك فقد غيَّر عماد الدين زنكي من وجهته ، وإتجه إلي بعلبك حيث ضرب عليها الحصار إبتداءً من يوم 20 من ذي الحجة 533هـ ، ونَصَب حولها أربعة عشر منجنيقًا ، ودعا أهلها للتسليم دون قتال إلا أن أهلها رفضوا ، ومن ثَمَّ بدأت المجانيق تقصف ليلَ نهار ، وضرب الحصار المحكم حول المدينة وهي تقاوم ، وإستمر حصاره لها أكثر من أربعين يومًا متصلة ، ثم سقطت المدينة أخيرًا ، ودخلها عماد الدين زنكي في صفر 534هـ\ أكتوبر 1139م .. وبذلك إستطاع عماد الدين زنكي أن يسيطر علي كل المدن الشمالية التابعة لإمارة دمشق ، وهي مدن بعلبك وحمص وحماة وبانياس والمجدل .

ظل عماد الدين زنكي في بعلبك شهرًا كاملاً يُنظِّم أمورها الإدارية ، ويُقوِّي من تحصينها بعد القصف المتوالي الذي أصابها خلال الحصار السابق ، ثم أقطعها لنجم الدين أيوب ( والد صلاح الدين الأيوبي) .

وقبل أن يتحرك عماد الدين زنكي إلي دمشق آثر أن يحاول محاولات سلمية قبل الحصار العسكري ، فعسكر بجيشه في سهل البقاع ، ثم أرسل إلي جمال الدين محمد بن بوري زعيم دمشق يعرض عليه التفاهم والتعاون ، فيُسلِّم دمشق إلي عماد الدين زنكي في مقابل أن يعطيه عماد الدين زنكي مدينتي حمص وبعلبك ، لكن هذا العرض لم يجد قبولاً عند جمال الدين محمد ولا عند رجال حكومته ، وعلي رأسهم بالطبع معين الدولة أنر ، ومن ثَمَّ توجه عماد الدين زنكي بقوته العسكرية وحاصر دمشق في ربيع أول 534هـ\ نوفمبر 1139م .

كان الحصار حول دمشق محكمًا ، ودارت عدة إشتباكات بين الطرفين علي مدار عدة أشهر متصلة ، وكاد جمال الدين محمد يقبلُ بالتسليم لولا إصرار معين الدين أنر علي المقاومة ، وتأزم الموقف جدًّا في داخل دمشق نتيجة الحصار الطويل ، ثم حدثت مفاجأة في شعبان 534هـ\ مارس 1140م إذ تُوُفِّي جمال الدين محمد زعيم دمشق فجأةً ، وحدث صراع داخلي في دمشق بين الورثة علي الحكم ، وكانت بوادر فرصة لعماد الدين زنكي للتدخل العسكري ، إلا أن معين الدين أنر أسرع بوضع مجير الدين أبق بن محمد ، وهو إبن الحاكم المُتوفَّي جمال الدين محمد .. وهكذا إستمرت المقاومة الدمشقية العنيفة مما أرهق عماد الدين زنكي الذي ظل محاصِرًا لدمشق حتي الآن لمدة تزيد علي ستة أشهر متصلة ، ومع ذلك فإنه لم يرفع الحصار آملاً في إنهيار الحالة الاقتصادية للمدينة ، وهذا قد يدفعهم للإستسلام .

وإزاء هذا الحصار المحكم لجأ معين الدين أنر إلي وسيلة جديدة لدفع عماد الدين زنكي إلي ترك المدينة ، ورفع الحصار , وكانت هذه الوسيلة في غاية البشاعة ، وتُظهِر لنا بوضوح طبيعة هذا الرجل ، وطبيعة الحاكم مجير الدين أبق ، وكذلك طبيعة الشعب الذي تعاطف مع هذا الإجراء ! لقد أرسل معين الدين أنر إلي مملكة بيت المقدس يستعين بملكها فولك الأنجوي ، ويطلب منه القدوم بجيش صليبي كبير لحرب عماد الدين زنكي ويُحذِّره من أن عماد الدين زنكي إذا إستولي علي دمشق فإن هذا قد يُهدِّد أمن مملكة بيت المقدس !!

إنظر إلي معين الدين أنر كيف يحافظ علي أمن الصليبيين في فلسطين !

ثم إنه يشجِّع الملك فولك الأنجوي ويغريه بعدة مغريات تُسهِّل عليه قرار الحرب ! ما هذه المغريات ؟!

أولاً : سيتكفل معين الدين أنر بالنفقات الشهرية للحملة الصليبية ، والتي قدَّرها معين الدين أنر بعشرين ألف دينار ذهبية تُدفع للملك فولك الأنجوي !

ثانيًا : تشترك القوات الصليبية مع القوات الدمشقية في "تحرير" مدينة بانياس من عماد الدين زنكي ، ثم يقوم معين الدين أنر بإعطائها إلي الصليبيين علي سبيل "الهدية"!

ثالثًا : لكي يضمن الملك فولك الأنجوي أن معين الدين أنر لن يخلف وعدًا من وعوده ، فإنه علي إستعداد أن يُسلِّم الملك فولك عددًا من الأمراء المسلمين كرهائن يحتفظ بها الملك فولك لحين إنتهاء المعارك ، ورحيل عماد الدين زنكي ، وتسلُّم الهديَّة وهي مدينة بانياس !

لقد وصل المسلمون في دمشق في هذه الفترة إلي حالة مزرية جدًّا دفعتهم إلي إرتكاب موبقات كبيرة غير مفهومة ، ودفعتهم إلي المخاطرة بكل شيء في سبيل عدم التعاون مع عماد الدين زنكي ، ولو كان الثمن هو التعاون المباشر والصريح مع الصليبيين !

لقد صار البقاء في كرسيِّ الحكم هو الهدف مهما كان الثمن !

ووجد الملك فولك الأنجوي أن هذه فرصة لا تعوَّض لضرب عدة أهداف بخطوة واحدة ! فهو سينتقم لكبريائه ، ويردُّ إعتباره من عماد الدين زنكي الذي إنتصر عليه منذ ثلاث سنوات في موقعة حصن بارين .. وفي نفس الوقت فهو سيضرب القوة الإسلامية الرئيسية ، وسيساعده في ذلك جيش قوي هو الجيش الدمشقي !

وسوف يأخذ الملك فولك فوق ذلك مدينة بانياس ذات الموقع المهم جدًّا علي الطريق الساحلي غرب الشام .. ثم إن هذه بداية علاقة توادّ مهمة مع مدينة دمشق قد تسهِّل له مستقبلاً إحتلال المدينة ، أو علي الأقل تأمين الحدود الشمالية لمملكة بيت المقدس ، حيث ستصبح مدينة دمشق كالحاجز بينه وبين قوات المسلمين في حلب والموصل .

لقد كانت فرصة ذهبية لم يضيِّعها الملك فولك الأنجوي !

وجاءت الجيوش الصليبية مسرعةً ، وشعر عماد الدين زنكي بالخطر الشديد ؛ إذ إنه لو حُصِر بينها وبين الجيش الدمشقي فإنَّ هذا قد يعرِّضه لكارثة عسكرية ؛ ولهذا قرَّر عماد الدين زنكي أن يرفع الحصار بسرعة ، وأن يتَّجه بجيوشه إلي إقليم حَوْرَان ليقابل جيش الصليبيين بمفرده قبل أن يتَّحد مع الدمشقيين .

كان الملك فولك يتقدَّم في حذرٍ ، وعَلِمَ بتقدُّم عماد الدين زنكي إلي إقليم حَوْرَان ، فإنتظر الملك فولك عند بحيرة طبرية ، وخشي أن يواجه عماد الدين زنكي بمفرده ؛ فأرسل معين الدين أنر رسالة إستغاثة جديدة إلي ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، فجاء علي رأس جيشٍ لينقذ المدينة المحاصَرة دمشق !!

ووجد عماد الدين زنكي أن هذه القوَّات المجتمعة ستمثِّل خطرًا كبيرًا علي جيوشه ، فإنسحب إلي حمص ثم منها إلي الموصل .. ومن الجدير بالذكر أن معين الدين أنر أخذ فرقة من جيشه وحاصر مدينة بانياس حتي أسقطها ، وذلك بعد قتال شديد مع حاميتها التابعة لعماد الدين زنكي ، ثم بعد أن أسقطها سلَّمها لقمةً سائغةً للملك فولك الأنجوي تنفيذًا للإتفاق الذي بينهما !!

فيا عجبًا لهذا الزمن الذي يبذل فيه مسلم وقته وجهده ودمه "لتحرير" بلدمسلم من حكم المسلمين ، ثم يقوم بإهدائه لأصدقائه من الصليبيين !

وعاد عماد الدين زنكي رحمه الله بخيبة أمل كبيرة من مأساة هذا البلد الإسلامي الكبير , وواقع الأمر أن دمشق ظلَّت لفترة طويلة من الزمن - من أوَّل قصَّة الحروب الصليبية وطيلة حياة عماد الدين زنكي ، وكذلك بعده - عائقًا منيعًا لمشروع الوَحْدة الإسلامية ، ولم تُحَلّ مشكلتُهَا الإنفصالية إلاَّ مؤخَّرًا في عهد البطل الإسلامي الشهير نور الدين محمود رحمه الله .

عاد عماد الدين زنكي إلي الموصل فوجد أن هناك مشكلة أخري تفجَّرت ، وهي أن أحد القادة التركمان - وكان إسمه قفجاق بن أرسلان تاش التركماني - قد تمركز في مدينة شهرزور شرق الموصل ، وجمع حوله عددًا هائلاً من الأنصار ، وصار مهدِّدًا بصورة مباشرة لمعقل عماد الدين زنكي في الموصل .. ومما زاد من خطورته أنه كان علي عَلاقة طيبة جدًّا بالسلطان مسعود ؛ فخاف عماد الدين زنكي أن يتلقَّي أوامر سرِّيَّة من السلطان مسعود بغزو الموصل ، ومن ثَمَّ فقد إنطلق عماد الدين زنكي من فوره إلي هذه المنطقة ، وكانت واقعةً بين الجبال وفي منتهي الحصانة ، وإقتتل معهم عماد الدين قتالاً شديدًا ، ثم كتب اللهُ له النصر ، وفرَّ جنود قفجاق في كل ناحية ، وإنطلق عماد الدين زنكي لحصار القلاع والحصون في المنطقة فأسقطوها جميعًا ، وسيطر عماد الدين زنكي علي كل المحاور في هذه الجبال سيطرة تامَّة؛ ومع ذلك فقد قام عماد الدين زنكي بما لا يُتوقَّع في مثل هذه الظروف ، فقد أعطي الأمان لقفجاق ، ووعده وعدًا حسنًا إن هو عاد إليه .

وبالفعل عاد قفجاق إلي عماد الدين زنكي ، فأكرمه عماد الدين وولاَّه المناطق التي كانت معه قبل ذلك ، وجعله تابعًا له ، وقد حَفِظ قفجاق هذا الجميل لعماد الدين زنكي ولأولاده من بعده ، ودخل في خدمة آل زنكي ، وظلَّ هو وأولاده أوفياء علي العهد إلي ما بعد سنة ستمائة من الهجرة ! أي أكثر من ستين سنة بعد هذا الحدث .. فإنظر إلي جميل صُنْع عماد الدين زنكي ، وكيف رسَّخ الأمن في ربوع المنطقة بعفوٍ جميل ، وسياسة حسنة .

وفي سنة 535هـ\ 1140م قام ركن الدولة داود بن سقمان بالهجوم علي مدينة مَيَّافارقِين التابعة لحسام الدين تمرتاش ، الذي إستغاث بدوره بعماد الدين زنكي ، فأسرع عماد الدين زنكي وهجم علي بعض أملاك ركن الدولة داود في أماكن أخري ؛ وذلك لتخفيف الضغط علي مَيَّافارقِين ، وإختار عماد الدين زنكي أن يهجم علي قلعة بهمرد القريبة من حصن كيفا ، وكان هذا الإختيار ذكيًّا بارعًا ؛ حيث كان يقود القلعة قرا أرسلان بن داود ، إضافةً إلي قرب القلعة من حصن كيفا ، وهذا أزعج داود بن سقمان جدًّا ؛ لخوفه أوَّلاً علي إبنه المحاصَر في قلعة بهمرد ، ولخوفه ثانيًا علي أهمِّ معاقله وعقر داره حصن كيفا القريبة من قلعة بهمرد ، وهذا الخوف دفعه إلي رفع الحصار عن ميَّافارقين والتوجُّه إلي قلعة بهمرد ، ولكن عماد الدين زنكي كان قد حقَّق الإنتصار بالفعل، ومَلَك قلعة بهمرد المهمَّة ، وهذا أدَّي إلي إستقرار وضعه ؛ حيث خشي داود بن سقمان أن يدخل في صدام مباشر مع عماد الدين زنكي .

وفي سنة 536هـ\ 1141م إستطاع عماد الدين زنكي أن يضمَّ آمد إلي حكمه ، وأن يُدْخِل أبا منصور إيكلدي حاكمها في طاعته ، ومن ثَمَّ ترسَّخت أقدامه بشكل أكبر في ديار الجزيرة ؛ ولكن هذه السيطرة أقلقت حسام الدين تمرتاش من جديد ، فأظهر التمرُّد ، ومدَّ خطوط التفاهم مع خصمه ركن الدولة داود بن سقمان ؛ ليعقد حلفًا مشتركًا بعد عداء عدَّة سنوات !

لقد كانت أرض الجزيرة فعلاً تموج بالفتن والأهواء !

لجأ عماد الدين زنكي إلي الطرق السياسيَّة لتفتيت هذا الحلف المعادي ، فتراسل مع ركن الدولة داود بن سقمان ، وعرض عليه أن يتحالف معه هو ويترك حسام الدين تمرتاش ، وقد فكَّر داود في الأمر ، فوجد أن عماد الدين زنكي أقوي كثيرًا من حسام الدين تمرتاش ، وأن البلاد ستئُول إليه بالقوَّة إن أصرَّ علي الصدام ، وأن عماد الدين زنكي لم يغدر في حلفه السابق مع حسام الدين تمرتاش ، بل أعطاه عدَّة قلاع وحصون كهدايا وهبات ، وأن الغدر أتي من حسام الدين تمرتاش في حقِّ عماد الدين زنكي ، وقد يأتي منه مرَّةً أخري في حقِّ داود نفسه .. وهكذا إجتمعت العوامل في ذهن داود بن سقمان علي الموافقة علي فكِّ تحالفه مع حسام الدين تمرتاش ، والتحالفِ مع عماد الدين زنكي !

وهكذا إزدادت قوَّة عماد الدين زنكي بينما وجد حسام الدين تمرتاش نفسه وحيدًا في أرض الجزيرة !! ولم يكتفِ عماد الدين زنكي بذلك بل توسَّع جنوبًا وضمَّ مدينة الحَدِيثَة ثم عانة ، وبذلك صارت سيطرته علي منطقة الجزيرة أقوي وأعظم .

إستغلَّ عماد الدين زنكي إستقرار الأوضاع وقوَّة مركزه ، فأسرع في سنة 537هـ\ 1142م بإنفاذ حملة واسعة تهدف إلي السيطرة علي عدَّة حصون في أقاصي ديار بكر وفي أعالي الجزيرة ، فسيطر علي أماكنَ لم يَصِلْ إليها قبل ذلك أحدٌ من السلاجقة أو غيرهم ، فضمَّ طَنْزَة وأسعرد وحِيزَان ، وكذلك ضمَّ عدَّة حصون مثل : الدوق ، ومطليس ، وبانسبة ، وذي القرنين ،وترك في هذه المدن والحصون مَنْ يحفظها من رجاله ، وبذلك وصل الإستقرار في منطقة الجزيرة إلي درجة لم يَصِلْ إليها قبل ذلك .. ويمكن القول أن الطريق الآن أصبح مفتوحًا بشكل آمن إلي إمارة الرها ، اللهم إلا من بلاد حسام الدين تمرتاش ، الذي أدرك عماد الدين زنكي أنه ضعيف ، وأن ضعفه هذا سيمنعه من إعتراض طريق عماد الدين زنكي إذا أراد غزو الرها .

ولم تكن هذه التحرُّكات الثابتة في أرض الجزيرة لتُلْهِيَ عماد الدين زنكي عن متابعة الأمن في إمارته الواسعة ، فكان بالمرصاد لكل محاولة تهدف إلي إثارة الفتنة أو زعزعة الأمن ؛ فمن ذلك صرامته في التعامل مع ثورة قامت عليه في مناطق الأكراد الهكارية شرق الموصل ، وذلك حين مات زعيمهم أبو الهيجاء الهكاري الذي كان مواليًا لعماد الدين زنكي ، فقام من بعده نائبه باو ألارجي ، وأحدث صراعًا في المنطقة يخرج به عن سيطرة عماد الدين زنكي ، فعاد إليه عماد الدين زنكي مسرعًا ، وإصطدم معه ، وإنتصر عليه ، وملك مركزهم الرئيسي ، وهو قلعة آشب ، وضمَّ إليها عدَّة قلاع أخري في المنطقة .

ومن مظاهر يقظته كذلك أنه تعرَّض لهجوم صليبي في بعض المناطق القريبة من حلب ، فقامت الحامية الحلبية بالتصدِّي لهذا الهجوم ، وقتلتْ من الصليبيين سبعمائة ، وظفرت بالكثير من الغنائم .

وعندما ظهرت بعض الإضطرابات في مناطق الأكراد المهرانية - وهم يقطنون في عدد من القلاع في المنطقة الجبلية المتاخمة لجزيرة إبن عمر ، وأهمها قلعة كواشي - تصدَّي لهم عماد الدين زنكي ، وأخضعهم بكل حسم ، ومن ثَمَّ عاد الأمن والأمان لربوع دولته كلها .

وهكذا في نهاية سنة 537هـ وبداية سنة 538هـ كانت أمور عماد الدين زنكي قد إستقرَّت كثيرًا ، وصار من الممكن له أن يقوم بخطوات عملية ، وبخطَّة واضحة تهدف إلي غزو الإمارة العتيدة : الرها !

لقد مرَّت حتي الآن خمس سنوات - منذ سنة 533 وإلي سنة 538هـ - لم يحدث فيها صدام يُذكر مع الصليبيين ، ولكنها لم تكن سنواتٍ خاملةً ، بل كان فيها إعداد متَّصل ، وتنظيم مستمرٌّ ، وما غابت قضية جهاد الصليبيين عن ذهن عماد الدين زنكي أبدًا ، بل لم تغبْ قضية إمارة الرها بالذات عن تفكير البطل الجليل عماد الدين زنكي ، فكان الأمر كما ذكر إبن القلانسيّ رحمه الله في كتابه (ذيل تاريخ دمشق) : "فكان ذِكْر هذه المدينة جائلاً في خلده ، وأمرها ماثلاً في خاطره وقلبه" .

وبدأ عماد الدين زنكي يرتِّب أوراقه ، ويُعِدُّ عُدَّته ، ويرسم خطَّته ؛ لينظِّم هجومًا شاملاً علي إمارة الرها ، وبينما هو في هذا الإعداد إذ بالأحداث تتكاثف في سنة 538هـ\ 1143م لتُمَهِّد الطريق لعماد الدين زنكي لينفِّذ خطَّته !

ولا يقولنَّ أحدٌ أن هذه مصادفة عجيبة! فإن الأمور تجري بالمقادير ، ولقد رأي اللهُ الإخلاصَ في قلب عماد الدين زنكي ، والإتقان في عمله ، فساعده في أحواله ، ويسَّر له أمور ه، خاصَّةً وهو يكافِح من أجل قضية إسلامية ، ومهمة شرعية ، هي من أعظم المهامِّ مطلقًا ، وهي مهمَّة تحرير بلاد المسلمين من الأعداء العاصبين .

وتعالَوْا نرصد بعض الحوادث التي تمَّت في سنة 538هـ وأوائل سنة 539هـ (1143- 1144م) ، والتي فتحت طريق عماد الدين زنكي إلي الرها !

أولاً : تُوُفِّيَ في سنة 538هـ\ 1143م الإمبراطور البيزنطي يوحنا كومنين ، وتولَّي من بعده ابنه مانويل كومنين. ولا شكَّ أن الأزمة التي حدثت بوفاة يوحنا كومنين - الذي حكم إمبراطوريته خمسة وعشرين عامًا كاملة - كانت أزمة كبيرة ، وإضطر مانويل أن يصرف كل جهوده لتنظيم الأمور الداخلية في الإمبراطورية ؛ وهذا أخرج الإمبراطورية الكبيرة من معادلة الصراع ، فلم يكن عندها الوقت أو القوَّة للتدخُّل لصالح إمارة الرها ، وكانت هذه نقطة مهمَّة ؛ لأننا رأينا قبل ذلك تحالفًا بيزنطيًّا صليبيًّا في سنة 532هـ ، أي منذ ستِّ سنوات فقط ، وكان جوسلين الثاني أمير الرها مشارِكًا في هذا التحالف ، ولا شكَّ أن تحالفًا كهذا كان من الممكن أن يُعَطِّل خطط عماد الدين زنكي لغزو الرها، لكنَّ الله سلَّم .

ثانيًا : نتيجة وفاة الإمبراطور يوحنا كومنين طمع ريموند بواتييه أمير أنطاكية في إقليم قليقية ، والذي سيطرت عليه الإمبراطورية البيزنطية أثناء حملتها علي المنطقة سنة 532هـ ، وبالتالي تقدَّم ريموند بواتييه بقوَّاته وإحتلَّ إقليم قليقية .. وهذا - لا شكَّ - أغضب الإمبراطورية البيزنطية ؛ لينشأ بينها وبين أمير أنطاكية صراع ونزاع حول هذا الإقليم ، وهذا النزاع الخطير صرف ذهن ريموند بواتييه تمامًا عن إمارة الرها ، وبالتالي فَقَدت إمارة الرها مناصرة أقرب الإمارات الصليبية إليها .

ثالثًا : تُوُفِّيَ فجأةً الملك فولك الأنجوي ملك بيت المقدس علي إثر جراحة أُصيب بها في رحلة صيد ! وترك ولدين صغيرين هما : بلدوين الثالث وكان عمره ثلاثة عشر عامًا ، وعموري أو إيموري وكان عمره سبع سنوات فقط .. وهكذا وُضِع الطفل بلدوين الثالث علي كرسيِّ المملكة ، وتولَّت أمُّه ميلزاند بنت بلدوين الثاني - وهي الزوجة الخائنة التي تحدَّثنا عنها قبل ذلك - منصبَ الوصاية علي الحكم !

وبذلك صارت الأمور في يد هذه المرأة ، وهي تحكم باسم الطفل بلدوين الثالث .. ولا شكَّ أن هذا الإضطراب أضعف كثيرًا من هيبة مملكة بيت المقدس ، وتفرَّق شمل الإمارات الصليبية ؛ حيث كان من المعتاد أن يقوم ملك بيت المقدس بتجميع جهودهم ، وفكِّ نزاعاتهم وحلِّها ، أمَّا الآن فالزعماء العسكريُّون أمثال ريموند بواتييه وجوسلين الثاني لن يستمعوا لقول امرأة ، ولا لحُكْم طفلٍ !

رابعًا : نشب صراع معلن بين الأمير جوسلين الثاني أمير الرها والأمير ريموند بواتييه أمير أنطاكية ، واللذان كانا علي درجة كبيرة من العداء والكراهية والغيرة ، وكان التنافس بينهما شديدًا علي أملاك المسلمين المتوسطة بينهما ، وكان الذي يكتم هذا الصراع وينهيه وجود الملك فولك كسلطة أعلي لكلِّ الصليبيين في بلاد المسلمين ، أمَّا عند وفاة الملك فولك فلم يعد هناك مَنْ يفكُّ إشتباك الأميرين ، ومن ثَمَّ أصبح الاختلاف بينهما صريحًا معلنًا .

خامسًا : تُوُفِّيَ فجأة أيضًا ركن الدولة داود بن سقمان ، الزعيم الأرتقي الخطير ، وهو وإن كان محالفًا لعماد الدين زنكي في أيامه الأخيرة إلاَّ أنه شخصيَّة غير مأمونة ، وبالتالي فقد ينقلب علي عماد الدين زنكي في أية لحظة ، وقد يضرب عماد الدين زنكي في ظهره ، ولم يكن يمانع في التحالف مع الصليبيين إذا لزم الأمر للدفاع عن أملاكه وحصونه .. وقد تولَّي من بعده إبنه قرا أرسلان بن داود ، وكان علي خلافِ أبيه تمامًا ، فكان مفتقرًا للحكمة السياسية ، والقدرة القتالية التي كان يتمتع بها أبوه ، بل إنه وفي أيام حكمه الأولي قرَّر التحالف مع جوسلين الثاني أمير الرها ، وهذا وإن كان يبدو خطيرًا إلاَّ أنه كشف أوراقه مبكِّرًا ، وأعطي عماد الدين زنكي المبرِّر الكافي لضربه ، وللهجوم علي بلاده ، وكان هذا أمرًا سهلاً بالنسبة لعماد الدين زنكي ؛ وذلك لقلَّة خبرة قرا أرسلان ، وضعف تأثيره علي جنوده .

وهكذا تضافرت هذه الأحداث مجتمعة علي عزل إمارة الرها ؛ حيث إنها فقدت العون من إمارة أنطاكية ومن مملكة بيت المقدس ، كما فقدته من الإمبراطورية البيزنطية ، وإضافةً إلي ذلك فقد فَقَدت أرض الجزيرة شخصيَّة عنيدة ، هي شخصية ركن الدولة داود بن سقمان ، وبذلك خارت قوَّتها أمام البطل عماد الدين زنكي !!

وها قد صار الطريق إلي الرها مفتوحًا !

نظر عماد الدين زنكي نظرة عسكرية إلي إمارة الرها فوجد أنها قد قُطِّعَت أوصالها من الأعوان نتيجة وفاة الإمبراطور يوحنا كومنين والملك فولك الأنجوي ، ونتيجة صراعها مع إمارة أنطاكية ، ولم يبقَ لها من اتِّصال إلاَّ مع الأراتقة في أرض الجزيرة عن طريق أميرهم الجديد قرا أرسلان ابن داود ، فأراد عماد الدين زنكي أن يقطع هذا الاتصال ليعزل إمارة الرها نهائيًّا عن العالم المحيط ؛ وبالتالي يسهل عليه ضربها بعد ذلك .. ولهذا قام عماد الدين زنكي في نفس السنة في 538هـ\ 1143م بحملة عسكرية تهدف إلي إسقاط الحصون الصليبية الواقعة في إقليم شبختان - وهو من أقاليم الجزيرة ، وهو الإقليم الفاصل بين حدود إمارة الرها وبين أملاك قرا أرسلان - وبذلك يعزل الحليفين عن بعضهما البعض .. وبالفعل نجح عماد الدين زنكي في إسقاط عدَّة حصون صليبية في هذا الإقليم ، منها : جملين ، والموزر ، وتل موزن ، وغيرها ؛ وبذلك حقَّق ما يريد ، وصارت إمارة الرها معزولة عُزْلَة تامَّة ، ولم يَعُدْ أمام عماد الدين زنكي إلاَّ أن يتوجَّه إليها بجيشه .

وبينما هو في هذا التوقيت يجهِّز نفسه للمهمَّة الكبري إذ جاءته الأخبار بمفاجأة مفزعة كادت تغيِّر كل خططه ، وتفسد عليه كل إعداده !

لقد جاءت الأخبار من بغداد أن السلطان مسعودًا السلجوقي يتجهَّز لغزو عماد الدين زنكي وإنتزاع الإمارة منه !

في هذا التوقيت يُريد السلطان مسعود أن يقاتل عماد الدين زنكي !! إنه - ولا شكَّ - مصابٌ بعدَّة أمراض نفسيَّة وأخلاقيَّة ! إنه مصاب بمرض الحَوَل السياسي ؛ فلا يعرف إلي أين يجب أن يوجِّه حربه ، وإلي أي طريقٍ ينبغي أن يسير بجيوشه !

وهو - في نفس الوقت - مصاب بضعف شديد في الدين ، فلا يمانِع من أن يفكَّ وَحْدة المسلمين في هذا التوقيت العصيب ، ولا يتردَّد في إرتكاب أمر يُشفِي غليل الصليبيين ، ويُتعِس المسلمين !

وهو أيضًا مصاب بإنهيار في الأخلاق فيُقبِل علي ضرب مجاهد في ظهره ، ويُسرِع في نصب كمين لجيوش المؤمنين !

إنها كارثة بكلِّ المقاييس !

ماذا يفعل عماد الدين زنكي إزاء هذا الموقف الرهيب ؟!

هل يتجاهل أمره ويتَّجه إلي الرها بعد أن أصبح مسرح العمليات جاهزًا ، أم أن هذا سيجعل ظهره مكشوفًا للسلطان مسعود ؛ فيهجم عليه ويضيع كل شيء ؟

أم هل يقاتل السلطانَ مسعودًا ، ويُضيِّع فرصة فتح الرها التي ظلَّ يُعِدُّ لها من أول أيام حكمه (أي منذ ثمانية عشر عامًا)؟!

لقد وضعه السلطان مسعود في مأزق خطير !

ولماذا فعل ذلك السلطان مسعود ؟!

لقد شعر السلطان مسعود أن الأرض تتناقص من حوله ، وشعر أيضًا أن هيبته قد قلَّت ، وصارت كلها لعماد الدين زنكي ، وأحسَّ أن أمراء الأطراف الذين يتبعونه قد بدءوا يثورون عليه ، ويخرجون عن طوعه ، وتوقَّع أن خروجهم هذا بتحريض من عماد الدين زنكي ليُضعِف من قوَّة السلطان .

وإزاء تمسُّك السلطان مسعود بحكمه وأملاكه وسلطته نسي قضية الصليبيين ، وتجاهل هموم المسلمين ، وسعي لأمرٍ لا يُسعِد أحدًا إلاَّ هو والصليبيين والشيطان ! فكانت هذه الكارثة !
وفكَّر عماد الدين رحمه الله ، وفكَّر ..

ثم وصل إلي ما ينبغي عمله في هذا الموقف !

إن الحلَّ الأمثل هو شراء رضا السلطان مسعود بأيِّ ثمن ، ولو كان التواضع له ، وإظهار الإمتثال الكامل لسلطانه ، مع أن الجميع يري أن عماد الدين زنكي أقوي ألف مرَّة من السلطان مسعود ، لكن عماد الدين زنكي ليس عنده وقت يضيِّعه في معاركَ جانبيةٍ ، كما أنه لا يسعي للقبٍ أو تشريف ، إنما يريد جهاد الصليبيين لله ? ، ولا يريد أن يشغله عن ذلك شاغل ، أيًّا كان هذا الشاغل .

لقد جاءت الأخبار إلي عماد الدين زنكي بهذا الأمر ، ثم ما لبث سيف الدين غازي بن عماد الدين زنكي أن جاء من بغداد هاربًا ؛ ليبلغ أباه بالأخبار الجديدة ، وكان عماد الدين زنكي قد ترك ولده الأكبر سيف الدين غازي في خدمة السلطان مسعود طيلة السنوات السابقة ، وكان هذا أمرًا سياسيًّا حكيمًا منه ؛ إذ به يتقرَّب إلي السلطان ليأمن شرَّه ، وهو في نفس الوقت ينقل الأخبار إلي أبيه عماد الدين زنكي .. فلمَّا عَلِمَ سيف الدين غازي بهذه التطورات هرب من السلطان ، وأسرع إلي أبيه بالموصل ليحذِّره ، ولكن عماد الدين زنكي فعل أمرًا عجيبًا ! إذ رفض أن يقابل إبنه ، وردَّه إلي السلطان ، وأرسل معه رسولاً من قِبَلِه يقول للسلطان : " إن ولدي هرب خوفًا من السلطان ، لمَّا رأي تغيُّره عليَّ ، وقد أعدْتُه إلي الخدمة ، ولم أجتمع به ؛ فإنه مملوكك ، والبلاد لك" !!

فكما يقول إبن الأثير : " فحلَّ ذلك من السلطان محلاًّ عظيمًا !" .

لقد تأثَّر السلطان تأثُّرًا بالغًا بهذا الموقف ، وسواء فَقِهَ الموقف علي أنه رضوخ حقيقي للسلطان ، أو فهمه علي أنه خدعة سياسية ، فإنه ما كان يستطيع إزاء هذا الموقف أن يستمرَّ في عزمه علي القتال ، خاصَّةً وهو يعلم قوَّة عماد الدين زنكي وسلطته ، إضافةً إلي أن ردَّ فعل عموم المسلمين لن يرحم السلطان مسعودًا ؛ لأنه فَقَدَ مُبَرِّر القتال بإظهار عماد الدين زنكي طاعته له !

وهكذا توقف السلطان مسعود عن مخطَّطه ، ونجا عماد الدين زنكي من هذه الكارثة ، ومن ثَمَّ يَمَّم وجهه شطر الرها !

كان عماد الدين زنكي واقعيًّا ، ويعلم أن حصون الرها منيعة جدًّا ، ويعلم أيضًا أن جوسلين الثاني وجيشه قادرون علي صدِّ هجمته إن تحصنوا بهذه الحصون المحكمة ، والتجارب السابقة للزعماء المسلمين علي مدار الخمسين سنة السابقة تؤكِّد ذلك ؛ وعليه فكانت خطة عماد الدين زنكي تهدف في الأساس إلي مباغتة الرها في الوقت الذي تخلو فيه المدينة من قائدها وجيشه .. لكن هل ينتظر عماد الدين زنكي إلي أن تأتي مثل هذه الفرصة ؟! إن هذا قد يتطلب وقتًا طويلاً ، وهو لا يدري ماذا تحمل له الأيام القادمة ! إن عليه أن يدفع جوسلين الثاني للخروج من حصونه ، ولكن دون أن يستفزه ؛ لأنه لا يميل للقتال أصلاً ، بل يؤثر الرفاهية والأمان .

ماذا يفعل عماد الدين زنكي ؟!

لقد قرر عماد الدين زنكي أن يتظاهر بأنه سيهاجم بعض حصون قرا أرسلان بن داود ، الذي يحالف جوسلين الثاني في هذا الوقت ، وسيتوجه بجيشه إلي هذه المنطقة القريبة من الرها ، وسيشيع في الأجواء أن هناك فرقًا مساعدة له ستأتي من حلب ؛ ليشجِّع جوسلين الثاني لأن يخرج من حصونه لقطع الطريق علي المعونة الحلبية ، فإذا خرج جوسلين الثاني من الرها ، وإبتعد عنها ، غيَّر عماد الدين زنكي من وجهته ، وترك مناطق الأراتقة وإتجه مباشرة إلي الرها فضرب حولها الحصار ، وعندها قد تكون هناك فرصة لإسقاط المدينة !

كان هذا هو الجهد البشري الذي بذله عماد الدين زنكي ، وكان من الممكن أن يوجد له ألف عائق يعوقه ، ويمنعه من النجاح !! كان من الممكن أن يشك جوسلين الثاني في الأمر فلا يخرج ، وكان من الممكن أن يتجاهل نصرة حليفه عمدًا ، وكان من الممكن لقرا أرسلان أن يعطِّل سير عماد الدين زنكي فلا يصل إلي الرها في الوقت المناسب ، وكان من الممكن أشياء أخري كثيرة ؛ لكنَّ الله لم يُرِدْ لكل هذه العوائق أن تحدث ، إنما أراد الله للنصر أن ينزل علي المؤمنين ، فدبَّر المواقف التي تقود إليه ، وأزال العوائق التي تمنع من الوصول إليه ؛ لتسير الأمور كلها نحو وجهة يريدها ، ونحو هدفٍ يرضي عنه .

إنه تدبيرُ ربِّ العالمين : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

اخي ابو البراء جعل الله لك في كل حرف حسنة

تقبل تحياتي الاخوية على هذا الجهد الكبير ونحن بانتظار بقية القصة فلا تتاخر علينا
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

- إسترداد الرها !

وفي أواخر شهر ربيع الثاني من سنة (539هـ) نوفمبر 1144م ، خرج عماد الدين زنكي بجيش كثيف من الموصل متوجِّهًا صوب الرها ، وقد أمر جميع الأمراء والجنود ألا يتخلفوا عن هذه الموقعة المهمَّة ، فخرجوا جميعًا ..

لقد خرج بالجيش الذي بذل عمره في إعداده ، وتوجه بجيشه هذا إلى مدينة آمد التابعة للأراتقة ؛ ليُوهِم جوسلين الثاني وعيونه أنه لا يريد الرها ولا يفكر فيها , وقد إنطلت الخدعة على جوسلين الثاني ، خاصةً أن عماد الدين زنكي كان مشغولاً طوال السنوات الست السابقة في معاركه في أرض الجزيرة مع الأراتقة ، فلا جديد في الحدث ..

وكما رتَّب عماد الدين زنكي تمامًا خرج جوسلين الثاني في جيشه ، وإتجه جنوبًا ليقطع الإمدادات العسكرية الإسلامية القادمة من حلب ، وبسرعة نقلت عيون عماد الدين زنكي الأخبار إلى عماد الدين زنكي ، فغيَّر من إتجاهه في لحظات ، وإتجه إلى الرها من طريق وأرسل حاجبه صلاح الدين الياغيسياني من طريق آخر ، وكان هذا الإنفصال ليشتِّت عيون الصليبيين إذا رصدت التحركات ! وكانت حركة الجيش في معظمها في الليل ، وكانت الليلة التي إقتربوا فيها من الرها شديدة المطر ، وبردها قارسًا ، لكن ذلك لم يمنعهم من التقدم ، إنما منع عيون الصليبيين من رصد الأمور .

وإنقشع الظلام وظهر نور الصبح ليوم 28 من ربيع الثاني 539هـ \ 25 من نوفمبر 1144م ، ومع نور الصبح إكتشف الصليبيون في داخل المدينة أن الجيوش الإسلامية تحيط بها من كل جانب !

وصلت الأخبار المفزعة إلى جوسلين الثاني بعد فوات الأوان ، فخشي أن يعود إلى الرها فيصطدم بالقوات الإسلامية الكثيفة ، فقرر أن يذهب إلى مدينة تلِّ باشر التابعة له ، والتي يفصلها عن مدينة الرها نهر الفرات ؛ وذلك كي يكون قريبًا من الأحداث ، ويدرك التطورات أولاً بأول ، ولكنه في نفس الوقت محميٌّ بعائق مائي كبير هو نهر الفرات ، يعطيه الوقت الكافي للهرب إن لزم الأمر !

ثم إن جوسلين الثاني أرسل رسائل إستغاثة عاجلة إلى أنطاكية على الرغم من الخلاف بينه وبين ريموند بواتييه ، وكذلك إلى مملكة بيت المقدس إلى الملكة ميلزاند على الرغم من ضعفها ، وبُعد المسافة بينهما .

أما بالنسبة لريموند بواتييه فقد رفض أن يساعد جوسلين الثاني متعلِّلاً بإنشغاله في حربه في إقليم قليقية ضد الدولة البيزنطية ، وأما الملكة ميلزاند فقد أرسلت قوة عسكرية عاجلة على رأسها فيليب أمير نابلس ، وأليناند بورس أمير الجليل ، غير أن المسافة الطويلة جعلتهم يصلون بعد فوات الأوان !

أما عماد الدين زنكي فقد حرَّكت هجمته الجهادية الروح في عموم المسلمين ، فتقدَّم معه الآلاف من المتطوعة من شمال العراق ، حتى صار عدد جيشه يخرج عن الإحصاء ، وأغلق عماد الدين زنكي بإحكام كل الطرق المؤدية للرُّها ؛ حتى يمنع أي فرصة إغاثة للمدينة ، ونَصَب البطل المغوار آلات الحصار الضخمة حول الأسوار ، ومنها عدَّة عشرات من المجانيق ، وبدأ القصف الفوري للمدينة ، ولم يتوقف هذا القصف لحظة واحدة طيلة أيام الحصار .

وشعر الصليبيون داخل المدينة بالخطر الشديد ؛ فجوسلين قد أخذ معه معظم القادة اللامعين ، ولم يعد هناك من يمتلك المؤهلات العسكرية لهذه المهمَّة الشاقة .. وإزاء هذا الموقف تقدم الأساقفة النصارى لقيادة المقاومة ، وكان على رأسهم بالطبع الأسقف الكاثوليكي هيو الثاني ، وكان معه الأسقف الأرمني يوحنا ، والأسقف اليعقوبيُّ باسيل ، ويبدو أن عماد الدين زنكي كانت له عيون في داخل المدينة ، فوصلت إليه هذه الأخبار ، فأراد أن يفرِّق هذه التجمعات النصرانية ، فراسل أساقفة النصارى الشرقيين : اليعاقبة والأرمن ، وعرض عليهما التسليم مقابل الأمان ، وقد رفضا في البداية ، ولكنهما مالا في النهاية إلى التسليم ، إلا أن الأسقف الكاثوليكي هيو الثاني أصرَّ على المقاومة ، وأجبرهما على إكمال المهمة العسكرية .

وبدأت المدينة تدخل في مرحلة حرجة جدًّا حيث قلَّت المؤن والأغذية ، ولم يكن هناك أي فرصة لوصول جوسلين الثاني ، أو لإختراق الإستحكامات العسكرية الدقيقة التي نَصَبها عماد الدين زنكي في كل المحاور المؤدية للمدينة .

وكان مع عماد الدين زنكي فرقة متخصصة في هدم الأسوار إسمها فرقة النقَّابين ، أي الذين يُنقِّبون الأسوار ، فتقدمت هذه الفرقة ، وبدأت تمارس عملها بنشاط ، وهي تحت حماية القصف المستمر من المجانيق الإسلامية .. ومع مرور الوقت بدأت تظهر تباشير النجاح ، وبرغم المقاومة الشرسة إلا أن أحد أجزاء السور بدأت تتأثَّر ، وضاعف المجاهدون من جهدهم ، ولم يتوقف العمل لحظة ، ولم يتوان أحد مطلقًا عن بذل كل الطاقة .

وفي يوم 26 من جمادى الآخرة 539هـ\ 23 من ديسمبر 1144م ، وبعد ثمانية وعشرين يومًا كاملة من الحصار ، أَذِن الله لجزءٍ من السور أن ينهار !

وإشتعل الحماس في الجيش المسلم ، وعلت صيحات التكبير من كل مكان ، وإنهمرت جموع المسلمين إلى الجزء المنهار من السور ، وإنحدروا كالسيل داخل المدينة الحصينة ، وسرعان ما فُتحت الأبواب من الداخل ، ودخلت الجيوش الكثيفة يتقدمها البطل الفذُّ عماد الدين زنكي لترتطم الجيوش الإسلامية بالحامية الصليبية المرابضة داخل المدينة ، وكان أول مَن حمل على الصليبيين هو عماد الدين زنكي نفسه ! وسرعان ما إحتدم الصراع في كل مكان ، وعمَّت الفوضى أرجاء المدينة ، وإرتفعت سحب الغبار في كل مكان ، وسالت الشوارع بالدماء ، وتناثرت الأشلاء ، وسيطر المسلمون في لحظات على الأبراج والأسوار والأبواب ، وكذلك على كل المحاور في داخل المدينة ، وسقط القتلى من الصليبيين بالآلاف ، وألقى الله الرعب في قلوبهم ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ) .

وسقط الأسقف هيو الثاني صريعًا تحت الأقدام ، وبسقوطه إنهارت معنويات الصليبيين تمامًا ، فلاذوا بالفرار إلى القلعة الموجودة في داخل المدينة وإنطلق الجنود المسلمون في كل مكان يملئون أيديهم من الثروات الضخمة ، والسبي الكثير ، والغنائم التي لا تُحصى ، وإنطلقت فرقة إسلامية قوية لحصار القلعة ، وما هو إلا يومان وسقطت القلعة ، وقَتَل عماد الدين زنكي مَن كان فيها من الصليبيين ، بينما أبقى على الأرمن واليعاقبة .

لقد كان يومًا من أيام الله ..

وكان يومًا من أيام الإسلام المشهودة !

وعندما ظهر تفوق المسلمين الواضح ، وإستتبت الأمور لعماد الدين زنكي أصدر أمره فورًا بوقف عمليات القتل ، وتأمين الجميع إلا الصليبيين العسكريين ، فإنهم كانوا يُقتلون ، وأُخذت النساء والأطفال سبيًا .

أما الأرمن واليعاقبة فقد أصدر عماد الدين زنكي عفوًا عامًّا عنهم ، مع أنهم كانوا يشتركون مع الصليبيين في الدفاع عن المدينة ، إلا أنه قدَّر ظروفهم ، وأدرك أنهم قُهِروا على ذلك ، فسامحهم وعذرهم !

ثم أعرب عماد الدين زنكي عن سياسته تجاه هذا البلد المهم بعد فتحه ، فقال : "إن ذلك البلد لا يجوز في السياسة تخريب مثله" ؛ فعماد الدين زنكي رأى أن الرها مدينة عظيمة لا ينبغي أن يدمِّرها ويتركها خاويةً على عروشها ، ولكن عليه أن يحافظ عليها ويحميها , وفي سبيل ذلك قرر عماد الدين زنكي عدة قرارات هي من أروع القرارات الإنسانية التي من الممكن أن يتخذها فاتحٌ أو منتصر !

أولاً : منع الإعتداءات على أملاك الأرمن واليعاقبة .

ثانيًا : على كل الجنود المسلمين أن يُعيدوا إلى الأرمن واليعاقبة (وهم النصارى الشرقيون الذين يعيشون في البلد منذ عشرات السنين ، أي سكان البلد الأصليين) كُلَّ ما أخذوه من أموال أو غنائم أو سبي أو غيره .. فأعاد الجنود كل ما أخذوه ، وعادت البلد إلى الحال التي كانت عليه قبل الفتح الإسلامي !

ثالثًا : إطلاق الحرية الدينية لهم ، وعدم المساس مطلقًا بكنائسهم .

رابعًا : إعطاء الأرمن واليعاقبة صورة من الحكم الذاتي لتصريف أحوالهم داخل المدينة دون الرجوع للمسلمين ، على أن تكون تبعيتهم للحكومة الإسلامية .

خامسًا : تخصيص الأساقفة بالعطف والرعاية وإسداء الهدايا ؛ فهؤلاء هم الذين يقودون شعوبهم .

سادسًا : دعوة الأرمن الذين هجروا البلد نتيجة إضطهاد الصليبيين إلى العودة مرة ثانية إلى الرها للعيش في أمانٍ في ظل الحكم الإسلامي .

وهكذا بهذه السياسة الحكيمة ، وبهذه الروح المتسامحة إستقرت الأوضاع في مدينة الرها ، وعادت إلى أيدي المسلمين بعد أكثر من خمسين سنة كاملة ، وعادت بهيئتها التي كانت عليها قبل أن يمتلكها الصليبيون ، وذلك كمدينة ذات طابع نصراني تحت حكم إسلامي .

لقد كان نصرًا خالدًا حقًّا تَوَّج الله به جَهْد البطل القدير عماد الدين زنكي ، ويكفي في وصف هذا النصر ما ذكره إبن الأثير في كتابه (الباهر) حين قال : " لم ينتفع المسلمون بمثله ، وطار في الآفاق ذكرُه ، وطاف بها نشره ، وسارت به الرفاق ، وإمتلأ به المحافل في الآفاق ، وكان هذا فتح الفتوح حقًّا ، وأشبههم ببدر صدقًا ..." .

ولم يكتف عماد الدين زنكي رحمه الله بإسقاط مدينة الرها ، بل أسرع إلى كل الحصون المجاورة والتابعة لإمارة الرها فأسقطها في الحال ، وكان أهمها حصن مدينة سروج الذي سقط في رجب 539هـ\ يناير 1145م ، وبعد أقل من شهرٍ من سقوط الرها .

وبذلك لم يبق في إمارة الرها إلا بعض المدن الصغيرة غرب الفرات وأهمها تل باشر التي يتمركز فيها جوسلين الثاني ، مما يعني تقريبًا إنهيار الإمارة الصليبية التي كانت أول الإمارات الصليبية تأسيسًا ، فأصبحت كذلك أولها سقوطًا !

ولا شك أن نصرًا مجيدًا كهذا كان له من الآثار ما لا يحصى ، ونستطيع أن نرصد من هذه الآثار ما يلي :

أولاً : إرتفعت الروح المعنوية للمسلمين إرتفاعًا هائلاً ، ليس في إمارة عماد الدين زنكي فقط ، ولكن في كل ربوع الدنيا ، وأقيمت الإحتفالات ، ونُظِمت الأشعار ، وشغلت هذه الإنتصارات كل الخطباء ؛ فهذه لم تكن آمالاً بالنصر ، أو وعودًا بالنجاح ، ولكنها كانت نتائجَ حقيقية ، وآثارًا ملموسة .

ثانيًا : في المقابل حدثت صدمة نفسيَّة هائلة للصليبيين ، فلم يكن جوسلين الثاني يتوقع أبدًا أن تسقط حصون الرها المنيعة ، وكان يتخيل أنها حملة ككل الحملات التي حدثت على مدار السنوات السابقة ، وهذا شلَّ حركته تمامًا ، فما جَرُؤ على التقدُّم بجيشه للدفاع عن المدينة .

ولا شك أن هذا ترك في نفسه وفي نفوس أصحابه وأمرائه ، رواسبَ عميقة ستؤثِّر جدًّا على تصرفاتهم مستقبلاً .. كما أننا لم نلاحظ أي جهود من الإمارات الصليبية الأخرى لإستعادة هذه الإمارة العتيدة ، مما يؤكِّد على إحباطهم التام من إمكانية النصر .

ثالثًا : دخل المسلمون بعد هذا الفتح المبين مرحلة التوازن مع الصليبيين ، ففي خلال السنوات الخمسين السابقة ، كانت قوة الصليبيين دائمًا أعلى ، وحتى عندما كان المسلمون يحقِّقون نصرًا ، فإنهم كانوا يحققونه على بعض الجيوش والأفراد ، ثم يعود كل فريق إلى مدنه وأملاكه دون أن يفقد منها شيئًا ، وحتى عندما كان يحدث أن يحرِّر المسلمون حصنًا أو مدينة كان سرعان ما يسترده الصليبيون ، أما الآن فقد توازنت القوى ، وأصبح للمسلمين القدرة على الوقوف وجهًا لوجه مع الصليبيين ، وتغيرت الإستراتيجية من مجرَّد الدفاع عند حدوث هجوم إلى إستخدام مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع .

رابعًا : أيقظت هذه الهزيمة المريعة للصليبيين أوربا الغربية ، بعد أن كانوا قد اطمأنُّوا إلى أحوال الصليبيين في الشرق ، وبدأت تظهر فيها دعوات لإنقاذ الصليبيين في الإمارات الصليبية ، بل وأرسلت الملكة ميلزاند رسالة إستغاثة إلى البابا في روما تستنهض فيه الهمَّة لجمع نجدة كبيرة للصليبيين .. وهذه الحركة الأوربية ستكون نواة للحملة الصليبية الثانية بعد ذلك بسنوات قليلة .

خامسًا : غيَّر هذا النصر من سياسة إمارة أنطاكية تجاه الإمبراطورية البيزنطية ، فبعد أن تجرَّأ ريموند بواتييه وإحتل إقليم قليقية ، وَجَد نفسه الآن وحيدًا أمام القوة الإسلامية الجديدة ؛ وهذا دفعه إلى بدء مباحثات مع الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين يعرض عليه التعاون ضد المسلمين ، وهذا سيسحب الإمبراطورية البيزنطية مرة أخرى إلى حلبة الصراع بين المسلمين والنصارى .

سادسًا : سكنت تمامًا بعد هذا النصر العظيم محاولات السلطان مسعود لإقصاء عماد الدين زنكي عن الحكم والإمارة ، فقد أدرك حجمه بالقياس إلى حجم البطل الكبير ، وعَلِم أن أي محاولة لإقصائه لن تقبل البتَّة من عموم المسلمين ؛ ومن ثَمَّ فقد ظلت العلاقات طيبة إلى آخر عهد عماد الدين زنكي .

سابعًا : هزَّ هذا النصر الكبير مشاعر الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله ، وكان رجلاً تقيًّا حسن الخُلُق ، فما تردد أن يُرسِل التشريفات الكثيرة لعماد الدين زنكي ، بل وأنعم عليه بعددٍ من الألقاب لم يكن من المعتاد أن تُعطى للأمراء والقادة ؛ مما أضفى على عماد الدين زنكي شكلاً جديدًا .. وهذه الألقاب مثل الملك العادل ، وركن الإسلام ، والأمير المظفر ، وعمدة السلاطين ، وزعيم جيوش المسلمين ، وملك الأمراء ! وكانت هذه الألقاب كلها تُوحي بالاستقلالية والزعامة ، وعدم التبعية لأحد ، وكانت تضع فوق أكتاف عماد الدين زنكي مسئوليات كبيرة إلى جوار المسئوليات التي يحملها .

ثامنًا : كانت هذه الإنتصارات ، وهذه المواقف من السلطان مسعود والخليفة المقتفي إيذانًا بميلاد الدولة الزنكيَّة ، التي يصبح فيها عماد الدين زنكي بمنزلة المؤسِّس الذي يتوارث أولاده من بعده الحكم في دولته ، والتي تَدِين كثيرٌ من العائلات والقبائل لهم بالولاء ، والذين تصبح لهم القيادة والريادة للعالم الإسلامي كله بعد ذلك ، ولتتسلم بذلك الدولة الزنكية الرايةَ من الدولة السلجوقية ، ويتحقق قول ربِّنا سبحانه وتعالى : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) .

تاسعًا : هدأت حركة الأراتقة تمامًا في أرض الجزيرة بعد هذا النصر ، ولم نسمع أي إعتراض من قرا أرسلان بن داود ، ولا من حسام الدين تمرتاش ، مع أنهما لم يُعلِنا الإنضمام تحت لواء عماد الدين زنكي ، ولكن النصر المهيب الذي تحقق أشعر كل منهما بحجمه ، فقَنِع بما يملك منتظرًا ما تأتي به الأيام !

عاشرًا : من الناحية العسكرية فإن هذا النصر طهَّر كل الطرق بين الموصل والشام من الصليبيين ، وفتح العراق بكل إمكانياته على ساحة الصراع الإسلامي الصليبي ، وصار إنتقال الجنود من العراق وفارس إلى الشام آمنًا ، هذا فضلاً عن الإضافة الإقتصادية الهائلة التي تمتعت بها الدولة الإسلامية بدخول مناطق الرها الثرية في دائرة حكمها .، وكذلك إرتفاع حالة الأمن إلى أعلى درجاتها بعد أن أصبح وادي الفرات بكامله واديًا إسلاميًّا !

فهذه كانت بعض الآثار التي ترتبت على نصر الرها ، وعلى سقوط الإمارة الصليبية التي كثيرًا ما دوَّخت المسلمين ، ولكن لا بد لكل ظالمٍ من نهاية ، ولا بد لكل ليلٍ من فجر ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ .

=====
يتبع .
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

رااااااااااااااااااااااااااااااائع

مستمتع جدا و متابع بشغف !!

بانتظار القادم على أحر من الجمر
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

الله يبارك فيك أخى الكريم بصراحه انا من فترة طويله وانا بحاول اعرف تفاصيل الحقبه اللى تمت فيها الحملات الصليبية على العالم الإسلامى وبالفعل موضوعك غنى و مثرى بكل الأحداث والتفاصيل الممكنه 0جزاك الله عنا خير الجزاء انت و مؤلف الكتاب0فى إنتظار البقية
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

السلام عليكم يا ابا البراء ... في الواقع لاول مرة ادخل الى هذا الموضوع والذي كنت ابحث عنه بشغف لاكثر من 5 سنوات بصيغة محددة وقد وجدتها هنا ... عن جد خليتني (( احشش )) هههههههههه بارك الله فيك ولكل وعليك وفي ذرتك الى يوم الدين وسلمت يمينك وجمجمتك الذهبية
واي تقييم في حقك سيكون قليل بكل تأكيد تقبل تحياتي واعجابي الكبير اخي العزيز وبارك الله فيك
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

موضوع رائع و احلى ما فيه السرد الممتع
تقيم ++++++++++++
و اتمنا ان تكمل موضوعك و تتحدث تحديدا عن ابن البطل عماد الدين .نور الدين زنكي
الذي اذاق الصليبيين اشد مما اذاقهم ابوه
 
رد: قصة الحروب الصليبية ! - Story of the Crusades .

موضوع راااااااااااااااااائع وننتظر البقية
 
الموضوع رائع و لو كنت عرفت يا أبا البراء أنك لم تكمله ما كنت بدأت:eek::mad::confused:
 
عودة
أعلى