مسلمون برعوا فى الطب

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,477
التفاعل
17,600 43 0
الرازي.. معجزة الطب عبر الأجيال

الدكتور راغب السرجاني​


لعله من العجيب أن يُذكر إنسان ما على أنه صورة من صور الحضارة؛ فقد تعودنا على وصف الحضارة على أنها نتاج أعمال كثيرة وأعداد كثر من البشر برعوا سويًا في الإبداع في مجال من مجالات الحياة: كالطب أو الهندسة أو المعمار أو غير ذلك..
ولكن الواقع أن الحضارة الإسلامية صنعت رجالاً ونساءً كانوا بحق صورًا رائعة من صور الحضارة.. بحيث تلتصق بهم كلمة الحضارة.. فإذا ذكروا فهذه هي الحضارة، وإن درست حياتهم فهذه دراسة للحضارة!!
وهذه عظمة الإسلام ولا شك.. الذي نقل البشر نقلة هائلة، حتى جعل بعض أتباعه يمثلون الحضارة بكل أبعادها.. ومن هؤلاء كان الرازي رحمه الله.. فهو لم يكن طبيبًا فحسب، ولا معلمًا فقط.. ولكنه أبدع كذلك في مجالات الأخلاق والقيم والدين.. كما أبدع ـ ولا شك في ذلك ـ في مجال الإنسانية.. حتى أصبح علمًا من أعلام الفضيلة كما كان علمًا من أعلام الطب.. لا شك أن هذا الرجل العظيم من أعظم صور الحضارة الإسلامية..

من هو "الرازي".. معجزة الطب عبر الأجيال؟!

إنه أبو بكر محمد بن زكريا الرازي.. وقد ولد في مدينة الري, وإليها نُسِب.. ومدينة الري تقع على بعد ستة كيلومترات جنوب شرقي طهران, وكان ميلاده في سنة 250هـ (864م)، وكان منذ طفولته محبًا للعلم والعلماء، فدرس في بلدته "الري" العلوم الشرعية والطبية والفلسفية، ولكن هذا لم يُشْبع نَهَمَه لطلب العلم؛ فلم تكن مدينة الري ـ على اتساعها وكثرة علمائها ـ بالمدينة التي تحوي علوم الأرض في ذلك الوقت.. ولذلك يمَّم الرازي وجهه شطر عاصمة العلم في العالم في ذلك الوقت, وهي "بغداد" عاصمة الخلافة العباسية، فذهب إليها في شبه بعثة علمية مكثفة، تعلم فيها علومًا كثيرة، ولكنه ركز اهتمامه في الأساس على الطب، وكان أستاذه الأول في هذا المجال هو "علي بن زين الطبري"، وهو صاحب أول موسوعة طبية عالمية (فردوس الحكمة)..
كما اهتمَّ أيضًا بالعلوم التي لها علاقة بالطب كعلم الكيمياء والأعشاب، وكذلك علم الفلسفة لكونه يحوي أراء الكثير من الفلاسفة اليونان والذين كانوا يتكلمون في الطب أيضًا.. وكان أستاذه الأول في الفلسفة هو "البلخي" وهكذا أنفق الرازي رحمه الله عدة سنوات من عمره في تعلم كل ما يقع تحت يديه من أمور الطب، حتى تفوق في هذا المجال تفوقًا ملموسًا.. ثم عاد الرازي رحمه الله بعد هذا التميز إلى الري, فتقلد منصب مدير مستشفى مدينة الري، وكان من المستشفيات المتقدمة في الإسلام، وذاعت شهرته، ونجح في علاج الكثير من الحالات المستعصية في زمانه، وسمع بأمره الكبير والصغير والقريب والبعيد.. حتى سمع به "عضد الدولة بن بويه" كبير الوزراء في الدولة العباسية, فاستقدمه إلى بغداد ليتولى منصب رئيس الأطباء في المستشفى العضدي، وهو أكبر مستشفى في العالم في ذلك الوقت، وكان يعمل به خمسون طبيبًا.. والحق أنه لم يكن مستشفىً فقط, بل كان جامعة علمية, وكليَّة للطب على أعلى مستوى.. وأصبح الرازي رحمه الله مرجعية علمية لا مثيل لها ليس في بغداد فقط، وإنما في العالم كله.. وليس على مدى سنوات معدودة.. ولكن لقرون متتالية!!

إنه الرازي رحمه الله.. معجزة الطب عبر الأجيال!!

ولعله من المهم جدًا أن نقف وقفة ونتساءل كيف وصل الرازي رحمه الله إلى هذا المجد.. وإلى هذه المكانة؟
لا بدَّ أن نعلم أن النجاح لا يأتي مصادفة، وأن التفوق لا يكون إلا بجهد وتعب وبذل وتضحية.. كما أن الإبداع لا يكون عشوائيًا أبدًا.. إنما يحتاج إلى تخطيط وتدريب ومهارة.. وهكذا كانت حياة الرازي رحمه الله..
لقد بحث الرازي رحمه الله عن العلم في كل مصادره، واجتهد قدر استطاعته في تحصيل كل ما يقع تحت يده من معلومات، ثم أتبع ذلك بتفكير عميق وتجارب متعددة ودراسة متأنية.. حتى بدأ يعدِّل في النظريات التي يقرؤها.. وأخذ ينقد ويحلل.. ثم وصل إلى الاختراع والإبداع..
لقد انتشر في زمان الرازي رحمه الله الطب اليوناني والفارسي والهندي والمصري نتيجة اجتهاد العلماء في ترجمة كتب تلك الأمم، فقرأها الرازي جميعًا، لكنه لم يكتف بالقراءة بل سلك مسلكًا رائعًا من أرقى مسالك العلم وهو لملاحظة والتجربة والاستنتاج..
لقد كان الطب اليوناني هو أهم طب في تلك الفترة، ولكنه كان يعتمد في الأساس على النظريات غير المجرَّبة.. وكان كل أطباء اليونان يعتمدون هذه الطريقة حتى عرفوا بفلاسفة الطب، فهم لم يُخضعوا نظرياتهم لواقع الحياة إلا قليلاً، ولا يُستثنى من ذلك كل أطباء اليونان حتى العمالقة منهم أمثال جالينوس وأبقراط!! ولكن الرازي رحمه الله قال كلمته المشهورة التي تعتبر الآن قانونًا من قوانين العلم بصفة عامة, والطب بصفة خاصة.. قال: "عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظرية تأييدًا لمشاهير العلماء..", فهو يذكر أنه ليس لعالم مشهور أو غير مشهور أن يقرر نظرية تتعارض مع المشاهدة الفعلية والتجربة الحقيقية والواقعة الحادثة، بل تُقَدَّم الملاحظة والتجربة؛ وبذلك يُبْنَى الاستنتاج على ضوء الحقائق لا الافتراضات الجدلية..
ما أروعه حقًا من مبدأ، وما أبدعها من طريقة!!..
ولذلك نجد أن الرازي كثيرًا ما انتقد آراء العلماء السابقين نتيجة تجاربه المتكررة، بل إنه ألَّف كتابًا خصِّيصًا للرد على جالينوس أعظم أطباء اليونان وسمَّى الكتاب "الشكوك على جالينوس", وذكر في هذا الكتاب الأخطاء التي وقع فيها جالينوس، والتصويب الذي قام هو به لهذه الأخطاء، وكيف وصل إلى هذه النتائج..
وكان الرازي رحمه الله حريصًا على سؤال المريض عن كل ما يتعلق بالمرض تقريبًا من قريب أو بعيد وكان يقول: "إن الطبيب ينبغي ألا يدع مساءلة المريض عن كل ما يمكن أن يقوله عن علته"، وهذه أول خطوة في التعامل مع المريض في الطب الحديث، وهي معرفة تاريخ المرض والأمور المحتملة التي قد تكون سبَّبت المرض، ثم يقوم الرازي رحمه الله بالكشف على المريض وقياس الحرارة والنبض، وإذا استلزم الأمر أن يدخل المريض المستشفى فإنه يضعه تحت الملاحظة الدقيقة المستمرة لتسجيل كل معلومة قد تكون مفيدة في كشف سبب المرض, أو في وصف العلاج.. وقد كان الرازي من الدقة إلى درجة أذهلت من قرأ تعليقاته على الحالات المرضية التي وصفها..
بل إن الرازي وصل إلى ما هو أروع من ذلك حيث أرسى دعائم الطب التجريبي على الحيوانات، فقد كان يجرب بعض الأدوية على القرود فإن أثبتت كفاءة وأمانًا جربها مع الإنسان، وهذا من أروع ما يكون، ومعظم الأدوية الآن لا يمكن إجازتها إلا بتجارب على الحيوانات كما كان يفعل الرازي رحمه الله..

ولقد كان من نتيجة هذا الأسلوب العلمي المتميز للرازي رحمه الله أن وصل إلى الكثير من النتائج المذهلة، وحققها سبقًا علميًا في كثير من الأمور..

• فالرازي هو أول مبتكر لخيوط الجراحة، وقد ابتكرها من أمعاء القطة، وقد ظلت تستعمل بعد وفاته لعدة قرون، ولم يتوقف الجراحون عن استعمالها إلا منذ سنوات معدودة في أواخر القرن العشرين عند اختراع أنواع أفضل من الخيوط، وهذه الخيوط هي المعروفة بخيوط أمعاء القط.. "cat gut"..
• والرازي رحمه الله هو أول من صنع مراهم الزئبق..
• وهو أول من فرق بين النزيف الوريدي والنزيف الشرياني، واستخدام الضغط بالأصابع لإيقاف النزف الوريدي، واستخدم الربط لإيقاف النزيف الشرياني، وهذا عين ما يستخدم الآن!!
• وهو أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون..
• وهو أول من استخدم الأفيون في علاج حالات السعال الجاف..
• وهو أول من أدخل المليِّنات في علم الصيدلة..
• وهو أول من اعتبر الحمَّى عرضًا لا مرضًا....

وكان رحمه الله يهتم بالتعليق على وصف البول ودم المريض للخروج منهما بمعلومات تفيده في العلاج..
كما نصح رحمه الله بتجنب الأدوية الكيميائية إذا كانت هناك فرصة للعلاج بالغذاء والأعشاب، وهو عين ما ينصح به الأطباء الآن..
ولم يكن الرازي رحمه الله مبدعًا في فرع واحد من فروع الطب، بل قدم شرحًا مفصلاً للأمراض الباطنية والأطفال والنساء والولادة والأمراض التناسلية والعيون والجراحة وغير ذلك..
وكان الرازي رحمه الله ذكيًا في غاية الذكاء، ومما يؤكد ذكاءه وسيلته في اختيار المكان المناسب لإنشاء مستشفى كبير في بغداد، فقد اختار أربعة أماكن تصلح لبناء المستشفى، ثم بدأ في المفاضلة بينها، وذلك بوضع قطعة لحم طازجة في الأماكن الأربعة.. ثم أخذ يتابع تعفُّن القطع الأربع، ثم حدد آخر القطع تعفنًا، واختار المكان الذي وُضعت فيه هذه القطعة لبناء المستشفى؛ لأنه أكثر الأماكن تميزًا بجو صحي، وهواء نقي يساعد على شفاء الأمراض..
ولم يكن الرازي رحمه الله مجرد طبيب يهتم بعلاج المرض، بل كان معلمًا عظيمًا يهتم بنشر العلم وتوريث الخبرة، وكان رحمه لله يدرس تلامذته الطب في المدرسة الطبية العظيمة في المستشفى العضدي ببغداد، وكان يعتمد في تدريسه على المنهجين: العلمي النظري، والتجريبي الإكلينيكي؛ فكان يدرس الكتب الطبية، وبعض المحاضرات، ويدير الحلقات العلمية، وفي ذات الوقت يمر مع طلبته على أسِرَّة المرضى.. يشرح لهم ويعلمهم وينقل لهم خبرته، وكان يُدرِّس لهم الطب في ثلاث سنوات، ويبدأ بالأمور النظرية ثم العملية، تمامًا كما يحدث في كليات الطب الآن، وكان في آخر السنوات الثلاث يعقد امتحانًا لطلبة الطب مكونًا من جزأين: الجزء الأول في التشريح، والثاني في الجانب العملي مع المرضى، ومن كان يفشل في الجانب الأول "التشريح" لا يدخل الامتحان الثاني، وهذا أيضًا ما نمارسه الآن في كليات الطب..
ولم يكن الرازي رحمه الله يكتفي فقط بالتدريس والتعليم والامتحانات لنقل العلم، بل اهتم بجانب آخر لا يقل أهمية عن هذه الجوانب وهو جانب التأليف، فكان رحمه الله مكثرًا من التأليف وتدوين المعلومات وكتابة الكتب الطبية حتى أحصى له ابن النديم في كتابه "الفهرست" 113 كتابًا و28 رسالة، وهذا عدد هائل خاصةً أنها جميعًا في مجال الطب..
ومن أعظم مؤلفات الرازي رحمه الله كتاب "الحاوي في علم التداوي" وهو موسوعة طبية شاملة لكافة المعلومات الطبية المعروفة حتى عصر الرازي، وقد جمع فيه رحمه الله كل الخبرات الإكلينيكية التي عرفها، وكل الحالات المستعصية التي عالجها، وتتجلى في هذا الكتاب مهارة الرازي رحمه الله ودقة ملاحظاته وغزارة علمه وقوة استنتاجه..
وقد ترجم هذا الكتاب إلى أكثر من لغة أوروبية، وطُبع لأول مرة في بريشيا بشمال إيطاليا سنة 891هـ (1486م) وهو أضخم كتاب طُبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، وكان مطبوعًا في 25 مجلدًا، وقد أعيدت طباعته مرارًا في البندقية بإيطاليا في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي), ويذكر المؤرخ "ماكس مايرهوف" أنه في عام 1500 ميلادية كان هناك خمس طبعات لكتاب الحاوي, مع عشرات الطبعات لأجزاء منه..
ومن كتبه أيضًا "المنصوري" قد سماه بهذا الاسم نسبة إلى المنصور بن إسحاق حاكم خراسان، وقد تناول فيه موضوعات طبية متعددة في الأمراض الباطنية والجراحة والعيون، وقد تعمَّد الرازي الاختصار في هذا الكتاب, فجاء في عشرة أجزاء!! لذلك رغب العلماء الأوروبيون في ترجمته عدة مرات إلى لغات مختلفة منها اللاتينية والإنجليزية والألمانية والعبرية! وقد تم نشره لأول مرة في ميلانو سنة 1481م ، وظل مرجعًا لأطباء أوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي.
ومن أروع كتبه كذلك كتاب "الجدري والحصبة" وفيه يتبين أن الرازي رحمه الله أول من فرق بين الجدري والحصبة، ودوَّن ملاحظات في غاية الأهمية والدقة للتفرقة بين المرضين، وقد أعيدت طباعة هذا الكتاب في أوروبا أربع مرات بين عامي( 903 : 1283هـ) (1498 : 1869م)..
ومن كتبه أيضًا كتاب "الأسرار في الكيمياء" والذي بقي مدة طويلة مرجعًا أساسيًّا في الكيمياء في مدارس الشرق والغرب.
ومن كتبه الهامة كذلك كتاب "الطب الروحاني" الذي ذكر فيه أن غايته من الكتاب هو إصلاح أخلاق النفس.. وحضَّ في كتابه هذا على تكريم العقل، وعلى قمع الهوى, ومخالفة الطباع السيئة, وتدريب النفس على ذلك..

وقد تميز الرازي رحمه الله بالأمانة العلمية التامة في كتاباته؛ فكان لا يذكر أمرًا من الأمور اكتشفه غيره إلا أشار إلى اسم المكتشف الأصلي، ولذلك حفلت كتبه بأسماء جالينوس وأبقراط وأرمانسوس وغيرهم، كما ذكر في كتبه المحدثين من الأطباء أمثال يحيى بن ماسويه وحنين بن إسحاق...
وكان الرازي رحمه الله يحض تلامذته على إتباع نهج الكتابة والتأليف، فكان يقول لهم: "إذا جمع الطالب أكبر قدر من الكتب وفهم ما فيها، فإن عليه أن يجعل لنفسه كتابًا يضمنه ما غفلت عنه الكتب التي قرأها".. فهو ينصح كل طلبته أن يسجلوا المعلومات التي يلحظونها في أثناء دراستهم وعلاجهم للمرضى - والتي لم تُذكر في الكتب السابقة - , وبذلك يستفيد اللاحقون بعلمهم وتأليفهم..
ولم يكن الرازي رحمه الله عالمًا فقط، بل كان إنسانًا خلوقًا من الدرجة الأولى، فقد اشتهر بالكرم والسخاء وكان بارًا بأصدقائه ومعارفه، عطوفًا على الفقراء وبخاصة المرضى، فكان ينفق عليهم من ماله الخاص، ويجري لهم أحيانًا الرواتب الثابتة!!.. وكان يوصي تلامذته أن يكون هدفهم هو إبراء المرضى أكثر من نيل الأجور منهم، ويوصيهم كذلك بأن يكون اهتمامهم بعلاج الفقراء تمامًا كاهتمامهم بعلاج الأمراء والأغنياء.. بل إنه من شدَّة اهتمامه بالفقراء ألف لهم كتابًا خاصًا سماه "طب الفقراء"، وصف فيه الأمراض المختلفة وأعراضها ثم وصف طرق علاجها عن طريق الأغذية والأعشاب الرخيصة بدلاً من الأدوية مرتفعة الثمن أو التراكيب النادرة..
ومن شدة اهتمامه رحمه الله بالأخلاق الحميدة ألف كتابًا خاصًا بهذا الأمر سماه "أخلاق الطبيب" يشرح فيه العلاقة الإنسانية بين الطبيب والمريض، وبين الطبيب والطبيب، وضمَّنه كذلك بعض النصائح للمرض في تعاملهم مع الأطباء..

هذا.. وقد اعترف القاصي والداني لأبي بكر الرازي رحمه الله بالفضل والمجد والعظمة والعلم والسبق، ولا نقصد بذلك المسلمين فقط، بل اهتم غير المسلمين أيضًا بإنجازات الرازي وابتكاراته؛ فنجد فضلاً عن ترجمة كتبه إلى اللغات الأوروبية وطبعها أكثر من مرة.. نجد إشارات لطيفة وأحداثًا عظيمة تشير إلى أهمية ذلك العالم الجليل، ومن ذلك أن الملك الفرنسي الشهير لويس الحادي عشر (والذي حكم من عام 1461م إلى 1483 م) قد دفع الذهب الغزير لينسخ له أطباؤه نسخة خاصة من كتاب "الحاوي" كي يكون مرجعًا لهم إذا أصابه مرض ما، ونجد أن الشاعر الإنجليزي القديم "جوفري تشوسر" قد ذكر الرازي بالمدح في إحدى قصائده المشهورة في كتابه "أقاصيص كونتربري"، ولعله من أوجه الفخار أيضًا أنه رغم تطور العلم وتعدد الفنون إلا أن جامعة بريستون الأمريكية ما زالت تطلق اسم الرازي على جناح من أكبر أجنحتها، كما تضع كلية الطب بجامعة باريس نصبًا تذكاريًا للرازي رحمه الله بالإضافة إلى صورته في شارع سان جيرمان بباريس..

لقد كان الرازي بحق صورة رائعة من صور الحضارة الإسلامية قلما تتكرر في التاريخ، لقد كان طبيبًا وعالمًا ومعلمًا وإنسانًا.. عاش حياته لخدمة الإسلام والعلم والبشرية، ومات عن عمر بلغ ستين عامًا، وكانت وفاته في شعبان 311هـ / (نوفمبر 923م)، ولكن يصعب أن نقول إنه مات، فالمرء يكتب له الخلود بقدر ما ينفع الناس، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما ذكر في الحديث الذي رواه الترمذي (وقال: حسن صحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..." ذكر منها: "..وعلم ينتفع به"..

والحمد لله الذي شرفنا بالإسلام..

مراجع البحث:

ـ الفهرست لابن النديم.
ـ عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
ـ وفيات الأعيان لابن خلكان.
- دراسات وشخصيات في الطب العربي... ماهر عبد القادر
- تاريخ الطب العربي.... التيجاني الماحي
- الرازي الطبيب... خـالد حربي
- أبو بكر الرازي، وأثره في الطب... كمال السامرائي
- تطور الفكر العلمي عند المسلمين....... محمد الصادق عفيفي
- الرواد في علم الطب........ د. علي عبد الله الدفاع
- مواقع الإنترنت: إسلام أون لاين، إسلام سـت... وغيرها

عن موقع قصة الإسلام
 
رد: الرازي.. معجزة الطب عبر الأجيال/د.راغب السرجاني

وكان الرازي رحمه الله ذكيًا في غاية الذكاء، ومما يؤكد ذكاءه وسيلته في اختيار المكان المناسب لإنشاء مستشفى كبير في بغداد، فقد اختار أربعة أماكن تصلح لبناء المستشفى، ثم بدأ في المفاضلة بينها، وذلك بوضع قطعة لحم طازجة في الأماكن الأربعة.. ثم أخذ يتابع تعفُّن القطع الأربع، ثم حدد آخر القطع تعفنًا، واختار المكان الذي وُضعت فيه هذه القطعة لبناء المستشفى؛ لأنه أكثر الأماكن تميزًا بجو صحي، وهواء نقي يساعد على شفاء الأمراض..

من علامات نبوغه
 
ابن زهر.. عبقرية طبية فريدة/د.راغب السرجاني

ابن زهر.. عبقرية طبية فريدة


الدكتور راغب السرجاني


في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش ظلمات من الجهل والتخلُّف، كان المسلمون في الأندلس يعيشون حياة الازدهار والرقي، وقد شهد القرن السادس الهجري الثاني عشر الميلادي تَقَدُّمًا فريدًا في كافَّة العلوم والمجالات، وخاصة علوم الفلك والطب والفلسفة، حتى غدا كل فيلسوف طبيبًا، وكل طبيب فيلسوفًا، وغدت بلاد المسلمين في الأندلس مقصد العلماء وطلاب العلم من وسط أوربا وجنوبها، ومن البقاع المتاخمة لبلاد الأندلس في ذلك الوقت.

وكان من بين هؤلاء النابغين -الذين كانت لهم آثار واضحة في علم الطب، وكانت أعمالهم مقصدًا للعلم والدراسة- عالمٌ أندلسي، ورث الطب عن والده، وورث ابنه الطب عنه، وهو أبو مروان عبد الملك بن زُهر الأندلسي، الذي يُعتبر أعظم معلِّم في الطب الإكلينيكي بعد الرازي، كما تَدِين له الجراحة بأول فكرة عن جراحة الجهاز التنفسي، كما أن له أبحاثًا كثيرة عن الأطعمة والأدوية والكسور، وغير ذلك الكثير.



نسبه ومكانة أسرته



وُلِدَ أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء، المعروف بابن زهر الأندلسي الإشبيلي الإيادي سنة (464-557هـ/ 1072-1162م)، وينتسب أبو مروان عبد الملك بن زهر إلى أسرة أندلسية لمعت في ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيمائية، بل أيضًا العلوم الشرعية الإسلامية؛ فكان جدُّه محمد بن مروان بن زهر (ت 422هـ/ 1031م) شيخ زمانه وعالم عصره، وهو أول مَن رفع من شأن هذه العائلة؛ فقد كان عالمًا فقيهًا جليلاً في بلاد الأندلس. ثم خلفه في العلم ابنه أبو مروان عبد الملك بن محمد بن زهر، الذي نبغ في الفقه إلاَّ أنه كان طموحًا فاشتغل بالطب؛ حيث رحل إلى القيروان فتتلمذ على يد كبار أطبائها، ثم رحل بعد ذلك إلى القاهرة فنال شهرة واسعة في مجال الطب، إلاَّ أنه عاد إلى إشبيلية حتى توفي سنة (471هـ/ 1078م)، فخلفه في الشهرة ابنه أبو العلاء، واسمه زهر بن عبد الملك بن محمد بن زهر، وقد ذاع صيته هو أيضًا في الطب مثل أبيه، وقد تدفَّق الطلاب عليه من كل حدبٍ وصوب؛ لشهرته وتبحُّره في العلوم الطبية، وقد قرَّبه إليه الأمير يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، وقد لزم بلاد الأندلس حتى وافاه الأجل سنة (525هـ/ 1131م)، وكان من مؤلفاته: كتاب الخواص، وكتاب مجريات الطب، وكتاب التذكرة، وكتاب الأدوية المفردة، وكتاب النكت، وغيرها من الكتب والرسائل. ثم جاء بعد ذلك الابن الذي نال شهرة أبيه وجدِّه، وملأ الدنيا بعلمه، إنه أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر، الذي يُعْتَبَرُ أول من خصَّص كل وقته في الطب[1].

فكانت أسرة بني زهر بذلك مفخرة الإنسانية؛ لما قَدَّمَتْ من مؤلفات ومبتكرات طبية أدهشت العلماء في الشرق والغرب, واشتهرت في جميع أنحاء المعمورة, وهو ما كان له أبعد الأثر في تشكيل كيان أبي مروان عبد الملك بن زهر العلمي، الذي ورث مهنة الطب من أبيه، وأورثها لأبنائه وأحفاده، وكان هو أفضل تلميذ لأمهر معلم.

هذا، ولم يكن ابن زهر بمعزل عن حُكَّام عصره (المرابطين)؛ فقد خدم الملثَّمِين، ونال من جهتهم من النعم والأموال شيئًا كثيرًا[2].



ابن زهر.. مؤلفات وإبداعات



ترك لنا ابن زهر ثروة علمية ناضجة، تنمُّ عن سعة أفقٍ وكثرة اطلاع، ولعل من أهم مؤلفاته كتابه (التيسير في المداواة والتدبير)، والذي يُعَدُّ من خير ما أَلَّف المسلمون في الطب العلمي؛ فقد تحرَّر فيه من كل ما تقيَّد به غيره من آراء نظرية، وأخذ فيه بما تُؤَدِّي إليه الملاحظة المباشرة، وفيه وصف التهاب التَّامُور، والتهاب الأذن الوسطى، وشلل البلعوم، كما وصف عملية استخراج الحصى من الكُلى، وفتح القصبة الهوائية[3].

وفي تأليف هذا الكتاب قصة مهمة توقفنا على ما كان بين علماء المسلمين من تعاون وتكامل، وما يمكن أن نسميه بـ "العمل في فريق"!

فإنه حين ألف ابن رشد كتابه (الكليات) -والتي تعود شهرته في الطب إليه، وقد جمع فيه النظريات العامة لعلم الطب، والمبادئ الأساسية لعلم الأمراض- رأى أنه في حاجة إلى كتاب آخر يكمله، ويكون مقصورًا على الجزئيات؛ لتكون جملة كتابيهما ككتاب كامل في صناعة الطب.. ومن ثَمّ قصد ابن رشد أبا زهر (شخصية الدراسة)، وكانت بينهما مودة، ورجاه بأن يقوم بهذه المهمة.

وقد تم له ما أراد، حيث ألف ابن زهر كتاب (التيسير في المداواة والتدبير)، وجاء موسوعة طبية عظيمة، ظهرت فيه براعة ابن زهر وتضلعه في الصناعة الطبية!

ولذلك نجد ابن رشد يقول في آخر كتابه (الكليات): "فهذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجز ما أمكننا وأبينه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء عرض من الأعراض الداخلة على عضو من الأعضاء، وهذا وإن لم يكن ضروريًّا؛ لأنه منطوٍ بالقوة فيما سلف من الأقاويل الكلية ففيه تتميم ما وارتياض؛ لأنَّا ننزل فيها إلى علاجات الأمراض بحسب عضو عضو، وهي الطريقة التي سلكها أصحاب الكنانيش (الدفاتر)، حتى نجمع في أقاويلنا هذه إلى الأشياء الكلية الأمور الجزئية؛ فإن هذه الصناعة أحق صناعة ينزل فيها إلى الأمور الجزئية ما أمكن، إلا أنا نؤخر هذا إلى وقت نكون فيه أشد فراغًا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك، فمن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء، وأحب أن ينظر بعد ذلك إلى الكنانيش، فأوفق الكنانيش له الكتاب الملقَّب بـ(التيسير)، الذي ألفه في زماننا هذا أبو مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته، فكان ذلك سبيلاً إلى خروجه"[4].

ومن هنا تظهر قيمة العمل الجماعي في الوقوف على ما هو أهم ومطلوب، ومِن ثَم تكميل النقص، وإثراء العلم، وتَقَدُّم الأمة!

وغير موسوعته التيسير أَلَّف ابن زهر كتاب (الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد)، والذي علَّق عليه أحد المستشرقين فقال: "إنه عبارة عن تذكرة لمن سبق له أن قرأ كتبًا أخرى في الطب، فالمؤلِّف لا يتكلَّم مع العموم، ولكن مع طبيب مثله، وقد أوضح بكيفية عملية التفريق بين الجذام، والبهاق، ومسألة العدوى، وقد تحدَّث ابن زهر في هذا الكتاب عن أطباء عصره، فذكر أنهم يختلفون في الاعتناء بالمرضى، وأن الناس يجهلون الطب؛ لأن الطبيب الذي يستشيره مريض من المرضى، يبادر فيصف له دواءً من الأدوية دون تمحيص للحالة في جميع خواصِّها"[5].

وأَلَّف ابن زهر أيضًا كتاب (الأغذية)، وقد أهداه لمحمد عبد المؤمن بن علي أمير دولة الموحدين، وألّف كذلك كتاب (الجامع في الأدوية والمعجونات)، و(تذكرة في أمر الدواء المسهل وكيفية أخذه)، وهو عبارة عن رسالة ألَّفها لابنه أبي بكر، وتعتبر أول ما تعلَّق بعلاج الأمراض، كما أن له تصانيف كثيرة تتعلَّق بالكُلى والبهاق والحصى[6].

وعلى هذا يُعَدُّ ابن زهر من الأطباء الذين كان لهم أثر واضح بما تركه من ثروة علمية كبيرة، ولم تكن إسهاماته في المجال النظري فقط، بل تَعَدَّت ذلك إلى الميدان العملي، رغم أنه كان يتحاشى إجراء العمليات الجراحية الكبرى بنفسه؛ لأن رؤية الجروح تثير في نفسه ضعفًا يصل إلى حالة الإغماء، ولكنه كان يسهم مساهمة فعَّالة في تحضير الأدوية[7].



ابن زهر.. منهج علمي وإنجازات عظيمة



في منهجه لدراسة الطب اعتمد ابن زهر على التجربة والتدقيق العلمي، وتوصَّل بذلك إلى أمراض لم تُدرس من قبلُ، وقد درس أمراض الرئة، وأجرى أول عملية في القصبة المؤدية إلى الرئة، ويعتبر ابن زهر من أوائل الأطباء الذين اهتمُّوا بدراسة الأمراض الموجودة في بيئة معينة، ويعتبر من أوائل الأطباء الذين بيَّنُوا قيمة العسل في الدواء والغذاء، وعلى الرغم من سعة معارفه، إلاَّ أن تخصُّصه في العلوم الطبية جعله يضيف أبحاثًا مهمة؛ منها ما يتعلَّق بالأمراض الباطنية والجلدية وأمراض الحمى والرأس؛ مما جعله فريدًا بين أقران عصره.



ويمكن تلخيص إنجازات ابن زهر في المجال الطبي فيما يلي:



1- كان يعتقد أن التجربة وحدها هي التي تُثْبِتُ الحقائق وتُذْهِبُ البواطل.

2- كان ينصح طلابه أن لا يأخذوا دائمًا ما يقرءونه على غيرهم محمل الثقة واليقين، بل لا بُدَّ من التجربة.

3- عالج حالات الشلل الذي يُصيب البلعوم.

4- أول من وصف خُرّاج الحيزوم والتهاب التامور الناشف والانسكابي، وكان دقيق الوصف للحوادث السريرية[8].

5- أول من أشار بعملية شقِّ الحجاب.

6- يعود له الفضل في إدخال المليِّنات بدل المسهلات الحادَّة.

ومن أهم ما يميِّز ابن زهر أنه لم يأخذ آراء الآخرين على أنها مسلمات غير قابلة للتعديل، فإن آراءه المخالفة لجالينوس -وخاصة آراءه التشريحية- لشاهدة على ذلك، وقد ساعدت هذه الآراء على التخلُّص من تهويمات الجالينوسية، ومن الخضوع المشين الذي طبع عصورًا برُمَّتِها بطابع الجمود المزري[9].

هذا، وقد تُرجمت كتب ابن زهر إلى اللاتينية، وخاصة كتابه (التيسير)؛ حيث تُرجم إلى اللاتينية سنة (895هـ/ 1490م)، وكان له أثر كبير على الطب الأوربي حتى القرن السابع عشر، كما تُرجم كتابه في الأغذية والأدوية.

وقد امتدح جورج سارتون أبا مروان بن زهر في كتابه (المدخل إلى تاريخ العلوم)، فقال: "إن أبا مروان تميَّز عن غيره في حقل الطب في شرق وغرب الدولة الإسلامية، بل إنه أعظم طبيب في عصره في العالم أجمع"[10].



وهكذا كان الطبيب الأندلسي ابن زُهر عبقرية فذَّة في مجال العلوم الطبية، وكان لأعماله وإسهاماته أثر كبير في تطور الطب في أوربا فيما بعد.



الهوامش



[1] انظر تفصيل ذلك عند ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/278-291.

[2] انظر المصدر السابق 3/286.

[3] انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص201.

[4] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء 3/319، 320.

[5] انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص201.

[6] انظر: ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/291.

[7] انظر: محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص202.

[8] انظر: الموسوعة العربية العالمية (الإصدار الرقمي الإلكتروني، 1425هـ/2004م).

[9] انظر: جلال مطهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص329.

[10] انظر: علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص283.


عن موقع قصة الإسلام
 
ابن سينا.. موسوعة العلم والعلوم/د.راغب السرجاني

ابن سينا.. موسوعة العلم والعلوم



الدكتور راغب السرجاني


برز في صرح الحضارة الإسلامية علماء أعلام وجهابذة عظام، عزَّ تاريخ الإنسانية في القديم والحديث أن يجود بمثلهم؛ ولا غَرْوَ فهم أعلام الحضارة، وهم صور رائعة تعكس سمو هذه الحضارة الإسلامية الإنسانية، حتى التصق اسمهم بها؛ فغدا ذِكْرهم ذِكْرًا لهذه الحضارة، وغدتْ دراسة حياتهم دراسة لها أيضًا.

ومن هؤلاء الأفذاذ الشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428هـ/ 1037م) الذي ظل لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب، وبقي كتابه (القانون) في الطب العمدة في تعليم هذا الفنِّ حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوربا[1]! ويُعَدُّ ابن سينا أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفًا صحيحًا، ووصف أسباب اليرقان[2]، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء[3].

وهو أبو علي الحسين بن عبد الله.. الملقب بالشيخ الرئيس، والمعروف عند الأوربيين باسم

(Avicenna)، وهو من أعظم علماء المسلمين، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين، وقد احتلَّ مكانًا سامقًا في الفكر والفلسفة والطب؛ فكان فيلسوفًا، وطبيبًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا.. بل إنه لم يترك جانبًا من جوانب العلوم النظرية أو التطبيقية إلاَّ وتعرَّض له، تعرُّض العالم المتخصِّص المحقِّق؛ حتى كانت له إسهاماته الفعالة وإبداعاته الفريدة في كل مجالات المعرفة والعلوم.



مولده وتعليمه



وُلِدَ ابن سينا قرب بخارى -في أوزبكستان حاليًا- سنة (370هـ/ 980م)، ونشأ نشأة علمية؛ حيث تعهَّده والده بالتعليم والتثقيف منذ طفولته، فأحضر له الأساتذة والمربِّين، حتى شبَّ ابن سينا الطفل محبًّا للقراءة والعلم، والاطلاع الواسع في شتى المعارف والعلوم، وقد بلغ فيها ما لم يبلغه غيره، وكل ذلك وهو دون العشرين سنة.

وقد قرأ ابن سينا كتاب إيساغوجي على الناتلي، ثم أحكم عليه علم المنطق، وإقليدس والمجسطي، وفاقه أضعافًا كثيرة؛ حتى أوضح له منها رموزًا وفهمه إشكالات لم يكن للناتلي يد بها، أمَّا تعلُّم الطب فقد تَعَلَّمَه في أقلِّ مدَّة، حتى فاق فيه الأوائل والأواخر -كما يُعَبِّر ابن خلِّكان- وأصبح فيه عديم القرين، فقيد المثل، وقد اختلف إليه فضلاء هذا الفنِّ وكبراؤه؛ يقرءون عليه أنواعه والمعالجات المقتبسة من التجربة، وسنُّه إذ ذاك نحو ست عشرة سنة[4].

وفي لفتة إنسانية فإن ابن سينا لما نبغ في الطب قام بعلاج المرضى تأدُّبًا وبالمجَّان، لا تكسُّبًا أو لجمع المال؛ وذلك حبًّا للخير والاستفادة بالعلم، وقد واتته فرصة عظيمة عندما نجح في علاج الأمير نوح بن منصور وهو في السابعة عشرة من عمره، ذلك الأمر الذي عجز عنه مشاهير الأطباء، فنال بذلك شهرة عظيمة، كما جعل أمراء هذا البيت يُنْعِمُون عليه، ويفتحون له دور كتبهم؛ ليعبَّ منها علمًا غزيرًا لم يتوفر ولم يتحصَّل لغيره، وعمره لم يأتِ بعدُ الثامنة عشرة[5]. وبعد العشرين من عمره انصرف ابن سينا إلى التأليف والكتابة والاشتغال بالفلسفة والطب، حتى إذا ما وصل إلى سن الثانية والعشرين كان أشهر أطباء عصره، وقد أسند إليه منصب رئيس وزراء شمس الدولة أمير ولاية همذان، ثم خدم الأمير علاء الدين في أصفهان، ولم يكن لاشتغاله بتدبير الدولة أي أثر على إنتاجه ودراساته[6].



ابن سينا.. منهج فريد


في بحوثه ودراساته كان لابن سينا منهج مغاير لِمَا كان عليه العلماء السابقون، وبخاصَّة علماء وأساطين الفكر اليوناني؛ فقد نزع إلى الاستقلال في الرأي، والتحرُّر من أي فكرة لا يُؤَدِّي إليها نظرٌ عقلي، وقد أدَّاه ذلك إلى ألاَّ يتقيَّد بآراء مَنْ سبقه، بل يبحث ويدرس ويُعمل العقل والمنطق والخبرة التي اكتسبها، فإن أوصلته هذه كلها إلى تلك الآراء الصحيحة أخذ بها، وإن أوصلته إلى غير ذلك نبذها وبيَّن فسادها.



وبذلك فإن ابن سينا خالف أرسطو وأفلاطون، وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من الآراء؛ فلم يتقيَّد بها، بل أخذ منها ما ينسجم مع تفكيره، وزاد على ذلك كله بقوله بأن: الفلاسفة يخطئون ويصيبون كسائر الناس، وهم ليسوا معصومين من الخطأ والزلل. وهو ما لم يجرؤ على التصريح به الفلاسفة والعلماء في تلك الأزمان[7].

وأكثر من ذلك أن ابن سينا جعل للتجربة مكانًا عظيمًا ومنزلة سامقة في دراساته وبحوثه، وبالأخصِّ الطبية منها، وقد توصَّل عن طريقها إلى ملاحظات دقيقة ونتائج جديدة مبتكرة، في تشخيص الأمراض واكتشاف العلاج وتحضير الأدوية، وفي ذلك يقول ابن سينا: "تعهَّدت المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب العلاجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصف"[8].

وإن هذا المنهج العلمي الذي يعتمد على التجربة هو الذي جعل ابن سينا ينأى بعلم الطب عن السحر والخرافة والشعوذة؛ حيث توصَّل إلى أنه لا بُدَّ أن يكون لكل مرض سبب.

أمَّا أروع ما يميِّز هذا المنهج فكان فيما تجلَّى من اتصال دائم بالله تعالى، وترى ذلك في حديثه حين يقول: "... فكل حُجَّة كنتُ أنظر فيها أُثبت مقدِّمات قياسية، وأُرَتِّبُها في تلك الظهور[9]، ثم نظرتُ فيما عساها تُنْتِج، وراعيتُ شروط مقدِّماته، حتى تحقّق لي حقيقة الحقّ في تلك المسألة، وكلما كنتُ أتحيَّر في مسألة ولم أكن أظفر بالحدِّ الأوسط في قياسٍ تردَّدْتُ إلى الجامع، وصلَّيْتُ وابتهلتُ إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق، وتيسَّر المتعسِّر"[10].



ابن سينا.. ابتكارات سبقت عصرها



استطاع الشيخ الرئيس ابن سينا -بفضل ما منَّ به الله تعالى عليه من العقل والعلم وسعة الاطّلاع والولع الشديد بالمعرفة- أن يُقَدِّم للإنسانية أعظم الخدمات والاكتشافات والابتكارات التي فاقت عصرها بالقياس إلى إمكانات ذلك العصر ومدى ما وصلت العلوم فيه آنذاك، وبالأخصِّ في جانب الطب؛ فإليه يرجع الفضل في اكتشاف العديد من الأمراض التي ما زالت منتشرة حتى الآن؛ إذ إنه أول من كشف عن طفيلة (الإنكلستوما)، وسماها في كتابه (القانون في الطب) في الفصل الخامس الخاص بالديدان المعوية: الدودة المستديرة، ووصفها بالتفصيل لأول مرة، وتحدَّث عن أعراض المرض الذي تُسَبِّبه[11].



وعن هذا الفتح الكبير كتب الأستاذ الدكتور محمد خليل عبد الخالق مقالاً في مجلة الرسالة، جاء فيه: "... قد كان لي الشرف في عام (1921م) أن قمت بفحص ما جاء في كتاب القانون في الطب، وتبيَّن لي أن الدودة المستديرة التي ذكرها ابن سينا هي ما نسميه الآن بالإنكلستوما، وقد أعاد (دوبيني) اكتشافها بإيطاليا عام (1838م)، أي بعد اكتشاف ابن سينا لها بتسعمائة سنة تقريبًا، ولقد أخذ جميع المؤلفين في علم الطفيليات بهذا الرأي في المؤلفات الحديثة، كما أخذت به مؤسسة (روكلفر) الأمريكية التي تعني بجمع كل ما كُتِبَ عن هذا المرض... ولذلك كتبتُ هذا ليطلع عليه الناس، ويُضيفوا إلى اكتشافات ابن سينا العديدة هذا الاكتشاف العظيم لمرض هو أكثر الأمراض انتشارًا في العالم الآن"[12].

ثم إنه تطرَّق إلى بعض أنواع الديدان الطفيلية التي تعيش بعيدًا عن القناة الهضمية؛ مثل: ديدان العين، التي تُفَضِّل منطقة العين، وديدان الفلاريا المسبِّبَة لداء الفيل، فتراه يقول عن الأخير: "هو زيادة في القدم وسائر الرِّجْل على نحو ما يعرض في عروض الدوالي فيغلظ القدم ويكثفه"[13].

كما أنه أول من وصف الالتهاب السحائي، وأول من فرَّق بين الشلل الناجم عن سبب داخلي في الدماغ والشلل الناتج عن سبب خارجي، ووصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، مخالفًا بذلك ما استقرَّ عليه أساطين الطب اليوناني القديم، فضلاً عن أنه أوَّل من فرَّق بين المغص المعوي والمغص الكلوي[14].

وكان ابن سينا صاحب الفضل في علاج القناة الدمعية بإدخال مسبار معقَّم فيها! وابن سينا هو الذي أوصى بتغليف الحبوب التي يتعاطاها المريض، وكشف في دقَّة بالغة عن أعراض حصاة المثانة السريرية، بعد أن أشار إلى اختلافها عن أعراض الحصاة الكُلوية، يقول الدكتور خير الله في كتابه الطب العربي: "ويصعب علينا في هذا العصر أن نُضيف شيئًا جديدًا إلى وصف ابن سينا لأعراض حصى المثانة السريرية"[15].

كما كان لابن سينا باع كبير في مجال الأمراض التناسلية؛ فوصف بدقَّة بعض أمراض النساء؛ مثل: الانسداد المهبلي, والإسقاط، والأورام الليفية. وتحدَّث عن الأمراض التي يمكن أن تُصيب النفساء؛ مثل: النزيف، واحتباس الدم، وما قد يسبِّبه من أورام وحميات حادَّة، وأشار إلى أن تَعَفُّن الرحم قد ينشأ من عسر الولادة أو موت الجنين، وهو ما لم يكن معروفًا من قبلُ. كما تعرَّض -أيضًا- للذكورة والأنوثة في الجنين, وعزاها إلى الرجل دون المرأة، وهو الأمر الذي أكَّده مؤخَّرًا العلم الحديث[16].

كما كشف ابن سينا -لأوَّل مرَّة أيضًا- طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة، وذكر أنها تنتقل عن طريق بعض الكائنات الحية الدقيقة في الماء والجو، وقال: "إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًّا لا تُرى بالعين المجرَّدة، وهي التي تسبِّب بعض الأمراض"[17]. وهو ما أكَّده (فان ليوتهوك) في القرن الثامن عشر والعلماء المتأخِّرُون من بعده، بعد اختراع المجهر.

ويُظهر ابن سينا براعة كبيرة ومقدرة فائقة في علم الجراحة؛ فقد ذكر عدَّة طرق لإيقاف النزيف؛ سواء بالربط، أو إدخال الفتائل، أو بالكي بالنار، أو بدواء كاوٍ، أو بضغط اللحم فوق العرق. كما تحدَّث عن كيفية التعامل مع السِّهام واستخراجها من الجروح، وحذَّر المعالجين من إصابة الشرايين أو الأعصاب عند إخراج السهام من الجروح، كما نبَّه إلى ضرورة أن يكون المعالج على معرفة تامَّة بالتشريح[18].

وإلى جانب كل ما سبق -وهناك غيره كثير- كان ابن سينا على دراية واسعة بطب العيون والأسنان, وكان واضحًا دقيقًا في تحديده للغاية والهدف من مداواة نخور الأسنان حين قال: "الغرض من علاج التآكل منع الزيادة على ما تآكل؛ وذلك بتنقية الجوهر الفاسد منه، وتحليل المادَّة المؤدِّية إلى ذلك...". ونلاحظ أن المبدأ الأساسي لمداواة الأسنان هو المحافظة عليها, وذلك بإعداد الحفرة إعدادًا فنيًّا ملائمًا مع رفع الأجزاء النخرة منها، ثم يعمد إلى ملئها بالمادَّة الحاشية المناسبة لتعويض الضياع المادي الذي تَعَرَّضَتْ له السنُّ؛ ممَّا يُعِيدها بالتالي إلى أداء وظيفتها من جديد[19].

ودرس ابن سينا الاضطرابات العصبية وتوصَّل إلى بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يرى أن العوامل النفسية والعقلية لها تأثير كبير على أعضاء الجسم ووظائفها[20].

وإضافةً إلى هذا فإن ابن سينا قد درس وعمل بحوثًا في الزمان والمكان، والحيز، والقوة والفراغ، وقال بأن: شعاع العين يأتي من الجسم المرئي إلى العين. وعمل تجارب عديدة في الوزن النوعي ووَحدة الوزن النوعي لمعادن كثيرة، كما بحث في الحركة وتناول الأمور المتعلِّقَة بها، وموضع الميل القسري والميل المعاون، وقد خرج الأستاذ مصطفى نظيف إلى أن دراسات ابن سينا في هذا المضمار -إضافةً إلى دراسات علماء مسلمين آخرين- قد ساهمت في التمهيد لبعض معاني علم الديناميكا الحديث، وأن ابن سينا مع بقية هؤلاء العلماء المسلمين قد أدركوا القسط الأوفر في المعنى المنصوص عليه في القانون الأول من قوانين نيوتن الثلاثة في الحركة، وأوردوا على ذلك نصوصًا صريحة[21].

ولابن سينا أيضًا بحوث نفيسة في المعادن وتكوين الجبال والحجارة، كانت لها مكانة خاصة في علم طبقات الأرض، وقد اعتمد عليها العلماء في أوربا، وبقيت معمولاً بها في جامعاتهم حتى القرن الثالث عشر للميلاد[22].

وقد تُرجمت كتب ابن سينا في الطب إلى اللاتينية ومعظم لغات العالم، وظلَّت حوالي ستة قرون المرجع العالمي في الطب، واستُخْدِمَتْ كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعًا، وظلَّت تدرس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر[23].

هذا، وبعد حياة مثمرة حافلة بالعطاء، وبعد أن باتت مؤلفاته وابتكاراته منهجًا يسير عليه الغرب لعديد من القرون في تدريس الطب، وبعد أن ترك بصماته الواضحة على نمو وتقدُّم الفكر والعلم.. توفي ابن سينا في همذان سنة (428هـ/ 1037م)، فرحمة الله عليه.



الهوامش :



[1] انظر: شوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص511.

[2] اليرقان: حالة مرضية تمنع الصفراء من بلوغ المِعَى بسهولة، فتختلط بالدم فتصفر بسبب ذلك الأنسجة. انظر: الزبيدي: تاج العروس، باب القاف فصل الهمزة مع الراء 25/8، والمعجم الوسيط ص1064.

[3] ابن خلكان: وفيات الأعيان 1/152، وشوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص511.

[4] ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/158.

[5] انظر: ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/74،75، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/158.

[6] للاستزادة من سيرته انظر المصادر السابقة، وقدري حافظ طوقان: علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص158، وعامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية ص120.

[7] قدري حافظ طوقان: علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص160.

[8] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/73.

[9] تلك الظهور: أي تلك الحالات والمشاهدات التي ينظرها.

[10] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/73، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/158.

[11] انظر: ابن سينا: القانون في الطب 4/186 وما بعدها.

[12] أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي للحضارة الإسلامية ومكانته في تاريخ العلم والحضارة ص180، 181.

[13] ابن سينا: القانون في الطب 4/428.

[14] انظر: عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية ص133.

[15] المصدر السابق ص134.

[16] راجع في ذلك: ابن سينا: القانون 2/586.

[17] علي بن عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية ص298.

[18] انظر: محمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين ص118.

[19] انظر: ابن سينا: القانون 1/192.

[20] علي بن نايف الشحود: الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل 5/311.

[21] انظر: قدري حافظ طوقان: علماء العرب وما أعطوه للحضارة ص163.

[22] المصدر السابق، الصفحة نفسها.

[23] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص490.







عن موقع قصة الإسلام
 
ابن الجزار القيرواني.. شيخ الطب

الدكتور راغب السرجاني

يعد ابن الجزار من أشهر فلاسفة وأطباء المسلمين في القرن الرابع الهجري، بل يمكن القول: إنه كان صاحب المكانة العلمية والشعبية في بلاد المغرب العربي على الإطلاق في ذلك الزمن العريق.

نسبه وتعليمه

وابن الجزار هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد القيرواني، وُلِدَ في القيروان، ولا يُعلم على وجه الدقَّة تاريخ مولده، وقد توفي بها نحو عام (400هـ/ 1010م)[1]، وقيل: توفي مقتولاً في الأندلس[2]. قال عنه الذهبي في (سير أعلام النبلاء): "ابن الجزار: الفيلسوف الباهر، شيخ الطب... اتصل بالدولة العبيدية (الفاطمية)، وكثرت أمواله وحشمته"[3].
وقد تتلمذ ابن الجزار على أبيه وعمه وكانا طبيبين حاذقين، كما تتلمذ على يد طبيب شهير في عصره هو إسحاق بن سليمان الإسرائيلي[4] الذي ترك مصر وذهب إلى القيروان، والتي عَلَتْ فيها مكانته الطبية والعلمية بين الخاصَّة والعامَّة، فتخرَّج على يديه واحد من أعظم أطباء الحضارة الإسلامية في شطرها الغربي، ونقصد بالطبع ابن الجزار القيرواني.

حادثة غريبة !

ومن الحوادث العظيمة التي حدثت مع ابن الجزار، والتي كادت أن تودي بحياته في فترة مبكرة من فترات ممارسته لمهنة الطب، ما ذكره المقريزي عن إصابة المنصور -وهو أمير تونس- بمرض عُضال بسبب البرد الشديد والثلوج، التي تعرَّض لها في إحدى أسفاره، فأراد أن يدخل الحمّام وهو في طريق عودته، لكن طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي -أستاذ ابن الجزار- نهاه عن ذلك، فكأن المنصور امتعض من فعل طبيبه ذلك، فقرَّر دخول الحمام؛ ففنيت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأخذ طبيبه يعالج المرض دون السهر، فاشتدَّ ذلك على المنصور، وقال لبعض خواصِّه: أما في القيروان طبيب غير إسحاق؟ فأُحضر إليه شاب من الأطباء يقال له: أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد بن الجزار، فجمع له أشياء مخدِّرة، وكلَّفه شمَّها، فنام، وخرج وهو مسرور بما فعله، فجاء إسحاق ليدخل على المنصور، فقيل له: إنه نائم. فقال: إن كان صنع له شيء ينام منه فقد مات. فدخلوا عليه فإذا هو ميت، فدفن في قصره. وأرادوا قتل ابن الجزار الذي صنع له المنوِّم، فقام معه إسحاق، وقال: لا ذنب له، إنما داواه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرَّفتموه؛ وذلك أنني في معالجته أقصدُ تقويةَ الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلمَّا عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات"[5]. ولا ريب أن هذه الحادثة كانت تجربة كبيرة لابن الجزار ليَجِدَّ في علم الطب، وقد كان.

مكانته العلمية والخلقية

ومما يُدلل على مكانة ابن الجزار العلمية، وأخلاقه السامقة المترفِّعَة عن كل تبذُّل، وجهده الدءوب في تحقيق الإنجازات الطبية والعلمية المتواصلة، ما أخبر به ابن أبي أصيبعة في (عيون الأنباء) إذ قال: "كان ابن الجزار من أهل الحفظ والتطلع والدراسة للطب وسائر العلوم، حَسَنَ الفهم لها، وقال سليمان بن حسَّان المعروف بابن جلجل: إن أحمد بن أبي خالد كان قد أخذ لنفسه مأخذًا عجيبًا في سمته وهديه وتعدده؛ ولم يُحفظ عنه بالقيروان زلَّة قط، ولا أخلدَ إلى لذَّة، وكان يشهد الجنائز والعرائس، ولا يأكل فيها؛ ولا يركب قط إلى أحد من رجال إفريقية، ولا إلى سلطانهم إلاَّ إلى أبي طالب عمِّ معدٍ (عم الأمير العُبيدي)، وكان له صديقًا قديمًا، فكان يركب إليه يوم جمعة لا غير، وكان ينهض في كل عام إلى رابطة على البحر المستنير، وهو موضع مرابطة مشهور البركة، مذكور في الأخبار، على ساحل البحر الرومي، فيكون هنالك طول أيام القيظ (الصيف)، ثم ينصرف إلى إفريقية، وكان قد وضع على باب داره سقيفة أقعد فيها غلامًا له يسمى برشيق، أعدَّ بين يديه جميع المعجونات والأشربة والأدوية، فإذا رأى القوارير بالغداة أمر بالجواز إلى الغلام، وأخذ الأدوية منه؛ نزاهة بنفسه أن يأخذ من أحد شيئًا"[6].
وهذا الفعل من ابن الجزار يُدلِّل على اعتماده على المنهج العلمي المتميز في الفصل بين الطب والصيدلة أثنـاء دراسـته لهمـا وأثناء علاجه للمرضى، الأمر الذي جعله يحـتل مرتبـة علميـة كبـيرة فـي المغـرب الإسـلامي كتلك المكانة التي احتلَّها الرازي في المشـرق الإسـلامي، بـل إن ابـن الجـزار قد فاق الرازي في تفريقه بين مكان العيادة للمرضى ومكـان صرف الأدوية؛ فكان له عيادته الخاصة التي فتحها في منزله ليفحص بها المرضى، أمـَّا صيدليتـه فقـد أقامهـا على باب داره وأقعد فيها غلامًا له -كما أخبر ابن أبي أصيبعة فيما سبق- وهذا الفصلُ من ابن الجزار بين الطب والصيدلة لم يكن ليقتصر على النواحي المهنية المتطلبة لذلك فحسب، بل يمكن أن نُضيف حسن أخلاقه، وترفُّعه عن الطلب وخاصة من الفقراء والنساء؛ لذلك لم يكن ابن الجزار يُعطي النساءَ الأدويةَ بصورةٍ مباشرة حتى لا يجبرهن على دفع قيمتها، أو لعله لم يكن يفعل ذلك مخافة النظر إليهن، والميل لهن، ومن ثََمَّ كان يُقعد غلامًا له ليعطي المرضى ما يحتاجونه من أدوية وغيرها؛ بِنَاءً على وصف ابن الجزار لها.

مصنفات ابن الجزار

صنف ابن الجزار القيرواني العديد من المصنفات والكتب المتنوعة، فله في كل بستان من المعرفة كتاب طيِّب الأثر، غزير المنفعة، ذكر الذهبي بعض مصنفاته فقال: "وله كتاب (زاد المسافر في علاج الأمراض)، وكتاب في الأدوية المفردة، وكتاب في الأدوية المركبة يعرف (بالبُغية)، وكتاب (العدة) وهو كتاب مطوَّل في الطب، و(رسالة النفس) وأقوال الأوائل فيها، وكتاب (طب الفقراء)، ورسالة في التحذير من إخراج الدم لغير حاجة، وكتاب الأسباب المولِّدة للوباء في مصر بطريق الحيلة في دفع ذلك، وكتاب المدخل إلى الطب سمَّاه (الوصول إلى الأصول)، وكتاب (أخبار الدولة وظهور المهدي بالمغرب"[7].
على أن أشهر كتب ابن الجزار كتاب (زاد المسافر) فقد بقي هذا الكتاب من المراجع المهمَّة للباحثين وطلاب العلوم الطبية طيلة عقود من الزمن، ويتكون هذا الكتاب من جزأين يحتويان على سبع مقالات، تختصُّ في معالجة أمراض الكبد، والكُلَى، وأعضاء التناسل، وأمراض الجلد، والحميات، ولدغ الهوام، وأذى السموم، كما أنه لم يُهمل جانب الأدوية؛ فقد تحدَّث كثيرًا في هذا الكتاب عن تركيب عدد من الأدوية وعن كيفية استعمالها[8].
ومن الجدير بالذكر أن كتاب (زاد المسافر) ما زال مخطوطًا، وهو في مجلدين، وتوجد منه نسخ في مكتبة الشعب بباريس، ودرسدن بألمانيا، ورنبور بالهند، وهافانا بهولندا، وفي المغرب: وخزانة الرباط برقم (1718 د). وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية واليونانية والإيطالية، ومن هذه الترجمات مخطوطات أقدمها في الفاتيكان[9].
والحقُّ أن كتاب (زاد المسافر) قد أُلِّف ليكون دليلاً طِبِّيًّا للمسافر إلى البلدان البعيدة التي لا يوجد بها طبيب، ثم وُجد أن هذا الكتاب غير مناسب للفقراء والمساكين، الذين قد يعجزون عن إدراك منافعه لفقرهم وقلـَّة طـاقتهم المادِّيَّـة عـن شـراء موادّ العلاج، فصنَّف لهم كتاب (طب الفقـراء والمساكين)؛ ليدلَّهم على طرق المداواة بالأدوية التي يسهل وجودها بأقلِّ ثمن وأيسر كلفـة، ثـم مـا لبث أن صنَّف كتابًا آخر عالج فيه الحالات التي تصيب المسنين والمعمِّرين وهـو كتـاب (طـب الشـيوخ وحفظ صحتهم).

الجانب الإنساني في مصنفاته

إن هذه المؤلفات وإن كانت مجهودات علمية بحتة إلا أن الجانب الإنساني فيها يبدو واضحًا وعميقًا؛ فالتفكير في تصنيف كتاب يكون دليلاً للمسافر لا يخلو من مسحة أخلاقية قدَّرَت حاجة المسافر المُلِحّة إذا مرض لدليل علاجي سريع إذا أصابه، أو أصاب أحدًا من المسافرين مرض أو جرح، أو ما يستدعي علاجًا ريثما يصلون إلى أقرب منزل أو يعثرون على طبيب أو مستشفى.
ثم اهتمامه أيضًا بأن يصنف للفقراء والمساكين دليلاً علاجيًّا، يستطيعون بما يملكون من الأموال القليلة أن يهتدوا إلى الدواء المناسب لكل حالة، بما يحفظ صحتهم دون أن يكلفهم ما لا يملكون. إنها نظرة نحتاج في عصرنا هذا أن يسلكها الأطباء، ومؤلفو الموسوعات الطبية، وكذلك مؤسسات وشركات إنتاج الأدوية.
ثم انتقاله ليؤلف في صحة المسنين والكهول كذلك، إنها أدلة على ما كان يتمتع به ابن الجزار القيرواني من حسٍّ إسلامي وإنساني عميق.
ولم ينس ابن الجزار الأطفال والصبيان من تصانيفه الطبية الرائعة، فألف كتابه القيم (سياسة الصبيان وتدبيرهم)، الذي بقي أمدًا طويلاً من المراجع الأصيلة والأساسية في علاج أمراض الأطفال، وقد نهج ابن الجزار في هذا الكتاب منهج الاختصاص في مجال طب الأطفال، وهذا الكتاب -كما ذكر عدد من مؤرخي العلوم الطبية- يحتوي على معارف علمية تتَّفق كثيرًا مع طب الأطفال المعاصر[10].
وكتاب (سياسة الصبيان وتدبيرهم) مُؤَلَّف من اثنين وعشرين بابًا، يبحث في تدبير شئون المَوْلُودِين في حالة الصحة والمرض، وقد حقَّقَه الحبيب الهيلة ونُشر في تونس عام (1399هـ/1979م)، ويضم معلومات في:
- صفات المرضعة وطعامها ولبنها.
- وفيما يعيب الطفل بحسب سنِّه من الأمراض؛ كالإسهال، ورطوبة الأذنين، والتهاب السُّرَّة ونتوئها، ونحو ذلك.
- ومعالجة السعفة في رأس الطفل، وورم اليافوخ، وانتفاخ البطن.
- وأبواب أخرى في داء الصرع عند الصبيان.
- والوجع عند خروج الأسنان.
- وقروح الفم عند الأطفال.
- وأسباب القيء.
- وفي الحيات والدود المتولدة في الأمعاء، وفي الحصى المتولدة في المثانة، وغير ذلك[11].
ومن المؤلفات المعروفة لابن الجزار القيرواني، كتابه (الاعتماد) وهو مصنف في الأدوية المفردة، وما زال هذا الكتاب مخطوطًا، وتوجد منه نسخ في الجزائر وتركيا والمتحف البريطاني، وقد ألفه بطلب من ملوك الفاطميين في تونس، إذ كانت هذه الأنحاء في تلك الفترة داخلة في دولة الفاطميين (العبيديين).
ومن مؤلفاته أيضًا كتاب (البُغية) وهو كتاب آخر في الصيدلة، غير أنه على خلاف كتاب (الاعتماد) يبحث في الأدوية المركبة، وليست الأدوية المفردة.
وكان رحمه الله موسوعيًّا، كتب في أكثر من علم، فإننا نجد من بين مؤلفاته كتبًا في علم التاريخ وعلم النفس، مثل (التعريف بصحيح التاريخ) الذي وصفه الزركلي في الأعلام بأنه "كبير"، وكتاب (دولة المهدي -العبيدي- وظهوره بالمغرب)، وكتاب (ذم إخراج الدم)، و(رسالة في النفس)، و(أسباب الوباء بمصر والحيلة في دفعه)، وغير ذلك[12].

ولعلنا في هذه الإطلالة السريعة قد تعرَّفنا على عالم نجيبٍ، وطبيب ذائع الشهرة من علماء وأطباء الحضارة الإسلامية، الذين كان لهم فضلهم وأثرهم الباقي حتى يومنا هذا في الحضارة الغربية قبل الإسلامية، والتي تَرجمت له العديد من الكتب والمصنفات، وجعلت كُتبه من المراجع الأساسية التي يهتدي إليها السائرون في دروب العلوم الطبية المتنوعة.

الهوامش :

[1] حاجي خليفة: كشف الظنون 1/81.
[2] الباباني: هدية العارفين 1/37.
[3] الذهبي: سير أعلام النبلاء 15/561.
[4] أبو يعقوب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، طبيب، بصير بالمنطق، من أهل مصر، ثم سكن القيروان، وخدم عبيد الله المهدي صاحب إفريقية بصناعة الطب، وعُمِّر طويلاً إلى أن نيف على مائة سنة، وهو أستاذ ابن الجزار القيرواني، توفي سنة (320هـ/ 932م). انظر: عمر كحالة: معجم المؤلفين 2/234.
[5] المقريزي: اتعاظ الحنفا ص25.
[6] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 1/322.
[7] الذهبي: تاريخ الإسلام 26/241.
[8] علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص251، 252.
[9] الزركلي: الأعلام 1/85
[10] علي الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص252.
[11] كمال السامرائي: مختصر تاريخ الطب العربي، نقلاً عن علي الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص252.
[12] الزركلي: الأعلام 1/85، 86.


عن موقع قصة الإسلام
 
علي بن العباس.. الطبيب البارع/د.راغب السرجاني

علي بن العباس.. الطبيب البارع

الدكتور راغب السرجاني

كما عرفنا الحضارة الإسلامية عظيمة وثرية بالعلم والعلوم والأعلام، ورائعة بما فيها من قيم أصيلة وإنسانيات خالدة، فإنها اليوم تُبرز لنا واحدًا من علمائها الأعلام الذين ذاع صيتهم في المجال الطبي شرقًا وغربًا، وهو علي بن العباس المجوسي[1]، الذي يُعدُّ رائدًا حقيقيًّا في النواحي التطبيقية والتنظيرية والأخلاقية في المجال الطبي.
فقد اشتهر علي بن العباس المجوسي باعتباره طبيبًا بارعًا في علاج الأمراض المتوطنة والمستعصية على العلاج لفترات طويلة، ولم يكن عليٌّ من أولئك الأطباء المفتقرين للنواحي العلمية النظرية أو التطبيقية، بل إن الذي جعله متفرِّدًا بين علماء عصره وحتى يومنا هذا هو إلمامه بكافَّة النواحي النظرية التي يحتاجها أي طبيب مثله من المعرفة والعلم والدراية بما كتبه الأولون في هذا الفنِّ؛ وبجانب ذلك سيره على ما يُسَمَّى في الواقع العلمي اليوم باسم (المنهج العلمي) القائم على التجربة والاستقصاء والملاحظات ومن ثَمَّ النتائج.

علي بن العباس.. المولد والنشأة

وُلِدَ علي بن العباس في منطقة الأهواز -شرقي إيران حاليًا- ولم يُعرف بالضبط تاريخ ميلاد، وقد ذكر بعضُ مَن ترجموا له ذكروا أنه كان حيًّا قبل عام (384هـ/ 994م)[2]، ومنهم من جزم بوفاته في هذا العام[3]، ومنهم من جعل وفاته في حدود عام (400 هـ/ 1010م)[4].
وقد ذكره القفطي في (أخبار العلماء) فقال: "علي بن العباس المجوسي، طبيب فاضل كامل، فارسي الأصل، يُعرف بابن المجوسي، قرأ عَلَى شيخ فارسي يُعرف بابن ماهر، وطالع هو واجتهد لنفسه، ووقف على تصانيف المتقدِّمِينَ، وصنف للملك عضد الدولة فناخسرو بن بويه كُنَّاشه[5] المسمَّى بالملَكِي، وهو كتاب جليل، وكُنَّاش نبيل اشتمل على علم الطبِّ وعمله، حسن الترتيب"[6].

علي بن العباس.. وكامل الصناعة الطبية

اشتهر علي بن العباس بكتابه المسمى (كامل الصناعة الطبية الضرورية) والمشهور باسم (الملكي)، فإنه يُعدُّ من أبرز مصنفاته وأشهرها على الإطلاق، وقد قال عنه ابن أبي أصيبعة: "صنفه للملك عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة أبي علي حسن بن بويه الديلمي، وهو كتاب جليل مشتمل على أجزاء الصناعة الطبية؛ علمها وعملها"[7].
يقول علي بن العباس في أول كتابه هذا مشيرًا إلى الدافع إلى تأليفه وبيان أهميته: "أحببت أن أُصَنِّف لخزانته كتابًا كاملاً في صناعة الطب". ثم قال: "وما سمعته فهو: (الملكي) كامل الصناعة الطبية، وهو جامع كامل لكل ما يحتاج إليه المتطبِّب"[8].
وما أن ظهر هذا الكتاب حتى قوبل بالاستحسان، ومال الناس إلى دراسته، يوضِّح ذلك القفطي فيقول: "مال الناس إليه في وقته، ولزموا درسه إلى أن ظهر كتاب القانون لابن سينا، فمالوا إليه، وتركوا الملكي بعضَ التَّرْك، والملكي في العمل أبلغ، والقانون فِي العلم أثبت"[9].
ولعل جملة القفطي: "الملكي في العمل أبلغ، والقانون في العلم أثبت"، توضِّح الأهمية الواقعية والتجريبية لكتاب (كامل الصناعة الطبية) بين العامة والخاصة، وأن هذا الكتاب يختلف عن (القانون) لابن سينا؛ لأن مؤلفه اعتمد فيه على مشاهداته العلمية في المستشفيات، لا على مجرَّد الدراسة النظرية، ويظهر ذلك في مقالتي الكتاب الأولى والثانية، والمشتملتين على فصول رائعة في التشريح، فكانت مرجعًا لعلم التشريح في سالرنو بإيطاليا مدة من الزمن[10].
ويتكوَّن كتاب (كامل الصناعة الطبية) من جزأين متكاملين؛ كل منهما يحتوي على عشر مقالات؛ فالمقالة الأولى من الجزء الأول تتناول الأمور العامة وأمزجة الأعضاء، والثانية والثالثة تختصَّان في تشريح وظائف الأعضاء، والرابعة تهتمُّ في ذكر القوى والأفعال والأرواح، والخامسة تشمل الأمور التي ليست طبيعية، والسادسة في الأمراض والأعراض، والسابعة في الدلائل العامة على الأمراض والعلل، والثامنة في الاستدلال على الأمراض الظاهرة للحسِّ وأسبابها وعلاماتها، والتاسعة تحوي ذكر الدلائل وأسبابها وعلاماتها. وأما الجزء الثاني فيشتمل على كلٍّ من: المقالة الأولى في الصحة العامة، والثانية في الأدوية، والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة: خصَّصها لعلاج الأمراض ومداواتها، والتاسعة للجراحة، وأما العاشرة فهي لصنع المعجَّنات والدهونات والأشربة والأكحال وغيرها[11].
وقد وصفت زيجريد هونكه كتاب علي بن العباس بقولها: "كل ما تمناه الرازي وحال المرض والعمى ثم الموت دون إبرازه إلى حيز الوجود حَقَّقَه علي بن العباس في أكمل صورة، وجاء كتابه تحفة علمية رائعة، جمعت بين عمق كتاب (الحاوي) وتماسك كتاب (المنصوري)... وكان كتابًا ملكيًّا بالفعل كعنوانه: (الكتاب الملكي)، وما يزال يستحق إعجابنا وتقديرنا حتى العصر الذي نعيش فيه"[12].
وقال فليب حتي عن هذا الكتاب أيضًا: "كتاب جليل، وكُنَّاش نبيل، اشتمل على علم الطب وعمله، وكانت أفضل أقسامه القسم الذي يبحث في علم الأغذية الصحية وعلم العقاقير الطبية"[13].

علي بن العباس.. ومنهج نقدي متميز

مما يُدلِّل على مقدرة علي بن العباس العقلية الفاحصة لكل ما قرأه واطَّلع عليه، ومما يُدلل أيضًا على تبحُّره ومكانته الفائقة في المجال الطبي، وكذلك على منهجه الذي اعتمد عليه إزاء الدراسات السابقة عليه، أنه قد انتقد كثيرًا من المؤلفين السابقين عليه، وخاصة ما ألَّفه اليونانيون في هذا المجال، ولم يكن هذا الانتقاد منطلِقًا من التشفِّي لكل ما كتبه القدماء، بل كان انتقادًا بالأدلة العلمية الصحيحة والعقلية المقبولة في كتابه القيِّم (الملكي).
وهذا الأمر تُثبته وتنقله المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) عن علي بن العباس، حيث تنقل عنه أنه قال: "إني لم أجد بين مخطوطات قدامى الأطباء ومحدثيهم كتابًا واحدًا كاملاً يحوي كل ما هو ضروري لتعلُّم فنِّ الطب؛ فأبقراط يكتب باختصار، وأكثر تعابيره غامضة بحاجة إلى تعليق... كما وضع جالينوس عدة كتب لا يحوي كل منها إلاَّ قسمًا من فنِّ الشفاء، ولكن مؤلفاته طويلة النفس، وكثيرة الترديد، ولم أجد كتابًا واحدًا له يصلح كل الصلاح للدراسة... وأما أنا فإني سأعالج في كتابي كل ما يلزم للحفاظ على الصحة وشفاء الأمراض، والمستلزمات التي يجب على كل طبيب قدير مستقيم أن يعرفها"[14].

علي بن العباس.. إنجازات وإسهامات

في صدد إنجازات وإسهامات علي بن العباس ومكانته العلمية الفريدة، كانت تعليقات زيجريد هونكه، والتي ذكرت ما تفرَّد به عن أسلافه من أطباء اليونان والمسلمين؛ فقالت: "وقد قال أبقراط ومن جاء بعده: بأن الطفل في جوف الأم يتحرَّك بنفسه تلقائيًّا، ويخرج بواسطة من هذه الحركة من الرحم، فجاء علي بن العباس ليكون أول من قال بحركة الرحم المولِّدة التي تدفع بالثمرة (الجنين) إلى الخروج بواسطة انقباض عضلاته"[15].
وتقصد هونكه أن علي بن العباس قد أثبت أن الطفل في الولادة لا يخرج من تلقاء نفسه كما كان يُعتقد قبل ذلك، بل يخرج بفعل تقلصات عضلية داخل الرحم.
وإضافةً إلى ذلك كتب علي بن العباس عن الخرَّاج في رحم الأم، وفي حلقه، وعن سرطان الجوف الداخلي، وغيرها من التوصيفات المرضية التي توجد داخل أمعاء الإنسان، أو رحم الأمهات، وقد أشار في كتابه (الملكي) إلى ضرورة العمل في المستشفيات لمن أراد أن يكون طبيبًا ناجحًا[16].

ولعَلَّ علي بن العباس المجوسي -كما يذكر الدكتور عامر النجار- من أوائل من أشاروا إلى وجود صلات بين الشرايين والأوردة؛ وفي ذلك إرهاصة متواضعة إلى وجود الأوعية الشعرية، كما يشتمل كتابه (الملكي) على ملاحظات إكلينيكية قد تكون متواضعة في زماننا هذا، لكنها كانت أكثر قيمة بالنسبة لعصره ووقته[17].
هذا، وقد تناقل مؤرخو العلوم الطبية بكل إعجاب النزعات العلمية والأخلاقية عند علي بن العباس؛ فمنها على سبيل المثال ما يلي:
1- يجب الاعتماد على تقويم صحة المريض؛ إذ (الوقاية خير من العلاج).
2- يلزم أن يُعَالَج العليل بالغذاء قبل اللجوء إلى الأدوية.
3- ينبغي التركيز على الأدوية المفردة وتجنب المركبة قدر الإمكان.
4- عدم تناول الأدوية الغريبة المجهولة.
5- النبض رسول لا يكذب، ومنادٍ أخرس يُخبر عن أشياء خفية بحركاته الظاهرة.
6- القلب والعروق الضوارب تتحرك كلها حركة واحدة، على مثال واحد في زمن واحد.
7- يعتبر أول من أشار إلى صعوبة شفاء المريض بالسل الرئوي بسبب حركة الرئة.
8- أوصى باستعمال القسطرة[18] لإخراج البول من المثانة.
9- عالج بنجاح الغدد اللمفاوية (الدرني).
10- عالج أم الدم "الأنورسما" جراحيًّا.
11- وصف علاجًا لكل من الخلوع والكسور والتجبير.
12- وصف علاجًا لالتهاب اللوزتين.
13- بحث عن التقيد بتقاليد الصنعة وآدابها.
14- تواتر عنه أنه قال: "الطبيب والمريض والمرض ثلاثة، فمتى كان المريض يقبل من الطبيب ما يصف له ويتوقَّى ما ينهاه عنه، كان الطبيب والمريض محاربين للمرض، واثنان على واحد يغلبانه ويهزمانه، وإن كان المريض لا يقبل من الطبيب ما يصفه له ويتبع شهواته، كان المرض والمريض محاربين للطبيب، وواحد لا يقوى على محاربة اثنين".
15- ينصح الأطباء أن لا يكون هدفهم طلب المال بل الأجر والثواب، وألا يُعطوا دواءً قتالاً ولا يصفوه، ولا يدلُّوا عليه أو ينطقوا به، ولا دواء للنساء لإسقاط الأجنة، وأن يكون الطبيب رقيق الكلام، طاهرًا، بعيدًا عن كل نجس وفجور، وبعيدًا عن اللهو وشرب النبيذ، صافي النية في نظراته للنساء، وأن لا يُفشي سرًّا، وأن يكون رحيمًا وعفيفًا مع الفقراء.
16- يحثُّ الأطباء على تَذَكُّر الأعراض التي تعتري المريض.
17- كما يحثُّ الطبيب على ضرورة مداولة أمور المرضى مع زملائه وأساتذته حذّاق الأطباء[19].

علي بن العباس.. الأثر والتأثير

كغيره من علماء المسلمين في الحضارة الإسلامية، كان لعلي بن العباس صدًى كبير في الأوساط والمحافل العلمية والدولية، وكان له أثر عظيم على سير النهضة والحضارة الأوربية.
وإن كتابه (الملكي) ليُعدُّ من أوائل الكتب المترجمة من العربية إلى اللاتينية؛ فقد ترجمه قسطنطين الإفريقي (1020 - 1087م) عميد مدرسة الطب في سالرنو الإيطالية، والغريب أنه نسبه إلى نفسه. وقد انتشر هذا الكتاب في الغرب انتشارًا مذهلاً، وصار كتابًا منهجيًّا في جميع المدارس الطبية وقتئذٍ، كما تُرجم الكتاب مرَّة أخرى بواسطة باحث معروف هو إتيان الأنطاكي، وذلك في عام (521هـ/ 1127م)، الذي شكَّ في مقدرة قسطنطين الإفريقي على إنتاج مثل هذا العمل، فبحث عن مصدر هذا العمل، ومِن ثَم نسبه إلى صاحبه[20].

وهكذا كان علي بن العباس شعلة وهَّاجة في سماء الحضارة الطبية، وكان له دوره الذي لا يُنْكَر في مسيرة الحضارة الإسلامية الإنسانية.

الهوامش
________________________________________
[1] عُرِفَ بهذه النسبة إلى أحد أجداده، الذي كان يدين بالمجوسية.
[2] عمر كحالة: معجم المؤلفين 7/116.
[3] حاجي خليفة: كشف الظنون 2/1380.
[4] الزركلي: الأعلام 4/297.
[5] الكُنَّاش والكُنَّاشة: أوراق تجعل كالدفتر يقيَّد فيها الفوائد والشوارد للضبط.
[6] القفطي: أخبار العلماء ص155، 156.
[7] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 1/223.
[8] انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/1380.
[9] القفطي: أخبار العلماء ص156.
[10] انظر: عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية ص117.
[11] انظر: حاجي خليفة: كشف الظنون 2/1380، وعلي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص246، 247.
[12] زيجريد هونكه: شمس العرب ص285.
[13] فليب حتي وآخرون: تاريخ العرب 2/685.
[14] زيجريد هونكه: شمس العرب ص284، 285.
[15] المصدر السابق ص271.
[16] انظر: عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية ص119.
[17] المصدر السابق ص118.
[18] القسطرة: أنبوبة من المطاط تدخل في مجرى البول لتفرغ المثانة. انظر: المعجم الوسيط ص734.
[19] علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص248، 249.
[20] المصدر السابق ص249، 250.

عن موقع قصة الإسلام
 
السموءل بن يحيى المغربي.. الطبيب المتوقد/د.راغب السرجاني

السموءل بن يحيى المغربي.. الطبيب المتوقد

الدكتور راغب السرجاني​


نسبه وتعليمه

هو صموئيل بن يهوذا بن آبون، يهودي وابن لأحد الأحبار الكبار من اليهود، وكذلك كانت أُمُّه، وكعادة العرب في التعريب فقد سماه والده (السموءل).

طبيب أنجبته شجرة الحضارة الإسلامية، نبغ في علوم كثيرة؛ منها: الجبر، والطب، والهندسة، وغيرها، ويتَّفق المترجمون لحياته على أنه وُلِدَ بالمغرب، وتوفي بالشرق الإسلامي في مدينة (مراغة) من أرض أذربيجان عام (570هـ/ 1174م)، كما يذكرون أنه مات شابًّا، بما يُهَيِّئ لنا أن نتوقَّع أن مولده كان من بعد العقد الثاني من القرن السادس الهجري.

وفي سيرته الذاتية يحكي السموءل أن أباه هو الحبر اليهودي -يهوذا بن آبون- أعلم أهل زمانه بعلوم التوراة، وأقدرهم على التوسع والإنشاء[1]. كما كانت أمه متبحِّرة في علوم التوراة والعبرية كذلك؛ فهي سليلة أبٍ من العلماء باليهودية، ويمتدُّ نسبها إلى السبط الذي منه موسى عليه السلام[2].

فهو إذن سليل بيت يهودي عريق في العلم، ثم هو طفل أتى بعد انتظار طويل؛ فكان الولد الذي أفرغ فيه أبواه خلاصة علمهما وتربيتهما، إلى الحدِّ الذي أكمل فيه العلم باللغة العبرية وبعلوم التوراة عندما كان في الثالثة عشرة من عمره[3].

وبعد اطمئنان الأب إلى هذا الوعي بالتوراة وعلومها، انتقل السموءل إلى تَشَرُّب باقي العلوم، فتعلَّم الحساب الهندي والزيجات (وهي الجداول الفلكية)، فأحكم هذيْن العلمين في أقل من سنة -كما يروي- ثم تعلَّم الحساب الديواني، وعلم المساحة، والجبر، والمقابلة، والهندسة.

ومن اللافت للنظر أننا نجد لروايته مع الطب طعمًا خاصًّا، فهو منذ أن بدأ تعلُّمه وهو يأخذ ما عند الشيوخ، ثم يتعلَّم الطب إلى جوارها، فبدأ تعلُّم الطب على يد الشيخ الأستاذ أبي الحسن الدسكري، ثم صار يتأمَّل ويشاهد ما يتَّفق من الأعمال الصناعية في الطب، والمعالجات التي يعالجها خاله أبو الفتوح بن البصري. وكان السموءل إذا رأى أنه أكمل إتقان علم من العلوم، ينتقل إلى تعلم غيره، لكنه -كما يبدو من سيرته- يبدو حريصًا على أن يَذْكر ويُذَكِّر القارئ لسيرته، أنه في تلك الفترة لا يقطع القراءة في الطب ومشاهدة علاج الأمراض. وحين يقصّ خبر رحلته العلمية إلى مصر يعود فيذكرنا كذلك أن الطب كان هو عمله وشغله بموازاة دراسة غيره من العلوم، فيقول: "وأنا في خلال ذلك (يقصد دراسة الجبر والهندسة) متشاغل بالطب".

اهتمامه بالطب وإنجازاته

إننا نلمح في حياة السموءل اهتمامًا خاصًّا بالطب؛ فهو إذ يتحدَّث عن شغفه بالعلوم الهندسية والرياضية يقول: "وكان بي من الشغف بهذه العلوم، والعشق لها ما يلهيني عن المطعم والمشرب إذا فكرت ببعضها". ثم ينقطع لها ليحلَّ معضلاتها، ويَرُدَّ على أربابها ممن سبقوه، ويُحَقِّق إنجازات ضخمة في التعديل على إقليدس[4] في الهندسة، حتى يقول: "وحلّلت جميع تلك الكتب (كتب الهندسة) وشرحتها، ورددت على من أخطأ من واضعيها، وأظهرت أغلاط مصنفيها، وعزمت على ما عجزوا عن تصحيحه وتحقيقه، وأزريت على إقليدس في ترتيب أشكال كتابه بحيث أمكنني إذا غيرت نظام أشكاله، أن استغني عن عدة منها لا يبقى إليها حاجة بعد أن كان كتاب إقليدس مُعجزًا لسائر المهندسين، إذ لم يحدثوا أنفسهم بتغيير نظام أشكاله، ولا بالاستغناء عن بعضها، كل ذلك في هذه السنة، أعني الثامنة عشرة من مولدي. واتصلت تصانيفي في هذه العلوم منذ تلك السنة وإلى الآن، وفتح الله عَلَيَّ كثيرًا ممَّا ارْتُجَّ[5] على مَن سبقني من الحكماء المبرَّزين"[6].

ويروي القفطي في (إخبار العلماء) هذا النبوغ فيذكر أنه "قرأ فنون الحكمة وقام بالعلوم الرياضية وأحكم أصولها وفوائدها ونوادرها وَكَانَ عدديًّا هندسيًّا حقيقيًّا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مصنفات رأيت منها كتاب المثلث القائم الزاوية، وَقَدْ أحسن فِي تمثيله وتشكيله وعدة صوره ومبلغ مساحة كل صورة منها، صنفه لرجلٍ من أهل حلب يدعي الشرف، وصنف منبرًا فِي مساحة أجسام الجواهر المختلطة لاستخراج مقدار مجهولها"[7].
وفي خضمِّ هذه الإنجازات كان يحقق إنجازاته في علم الطب، فيقول: "وفي خلال ذلك ليس لي مكسب إلاَّ بصناعة الطب، وكان لي منها أوفر حظٍّ؛ إذ أعطاني الله من التأييد فيها ما عرفت به كل مرض يقبل العلاج من الأمراض التي لا علاج لها، فما عالجت مريضًا إلاَّ وعُوفِيَ، وما كرهت علاج مريض إلاَّ وعجز عن علاجه سائر الأطباء، وكفُّوا عن تدبيره (أي: توقفوا عن المحاولة)، فالحمد لله على جزيل نعمته وفضله".

وكان السموءل صاحب مدرسة طبية متفردة، سار عليها أولاده من بعده، كما يذكر القفطي في ترجمته.
وكان للسموءل باعٌ كذلك في علم الصيدلة، فإنّ رحلاته الكثيرة من المغرب الإسلامي إلى المشرق، أطلعته على مؤلفات جديدة لعلماء الأمصار ممن قبله ومن معاصريه على طول تلك الرقعة الواسعة للعالم الإسلامي، فلم تفلتها عقلية السموءل المتوقدة التحليلية، فصنعت منها أنواعًا جديدة من الأدوية، كان أبرزها هذا الدواء الذي سماه "المُخَلِّص ذا القوة النافذة"، ولنسمعه يروي فيقول: "واتَّضح لي بعد مطالعة ما طالعته من الكتب التي بالعراق والشام وأذربيجان[8] وكوهستان[9]، الطريقَ إلى استخراج علوم كثيرة، واختراع أدوية لم أعرف أني سُبقت إليها؛ مثل: الدردياق الذي وسمته بالمخلِّص ذي القوة النافذة، وهو يُبرئ من عدَّة أمراض عسيرة في بعض يوم، وغيرها من الأدوية التي رَكَّبتها، ممَّا فيه منافع وشفاء للناس بإذن الله تعالى"[10].
وهكذا، نبغ السموءل في كل هذه العلوم، وظلَّ الطب صُلب عمله، وأحد فروع نبوغه، حتى عمل طبيبًا لبيت البهلون، وهم أمراء أذربيجان في ذلك الوقت[11].
ومن العلوم التي شُغِف بها وأحبَّها وتوفَّر عليها أيضًا علم التاريخ، وكان ما عرفه واكتسبه من تاريخ الوزراء والكتاب هو الذي أكسبه بلاغة وفصاحة وبيانًا، ومنذ تلك اللحظة "شاهدت المعجزة التي لا تباريها الفصاحة الآدمية في القرآن، فعلمت صحة إعجازه"[12].

رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وقصة إسلامه

وبعقله هذا الوقَّاد دخل من علم التاريخ إلى التفكير فيما نسميه اليوم علم مقارنة الأديان: الإسلام واليهودية والمقارنة بينهما، يقول: "راجعت نفسي في اختلاف الناس في الأديان والمذاهب". واهتدى -بعد فترات من الحيرة الفكرية- إلى الإيمان بالإسلام وخلع اليهودية، ثم أعقب هذا فترة من الحيرة "الاجتماعية" إن جاز التعبير، في إشهار هذا الإسلام، وظلَّ في هذه الحال سنينًا تتوَّق نفسه لأن يُسْلِمَ، ولكنه لا يجرؤ على هذا القرار خشيةَ أن يَفجع به أباه، فظلَّ متردِّدًا حتى باعدت الأسفار بينه وبين أبيه، ثم حسم الأمر عنده رؤيا رآها في المنام للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فأسلم من صبح هذا اليوم.
يحكي السموءل قصة إسلامه فيقول بعد سرد المقدمات التي أفضت به إلى التصديق بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم : "فمكثت برهة أعتقد ذلك، من غير أن ألتزم الفرائض الإسلامية؛ مراقبة لأبي، وذلك أنه كان شديد الحب لي، قليل الصبر عني، كثير البر بي، وكان قد أحسن تربيتي... فمكثت مدة طويلة لا يُفتح عليَّ وجه الهداية، ولا تنحل عني هذه الشبهة، وهي مراقبة أبي، إلى أن حالت الأسفار بيني وبينه، وبَعُدت داري عن داره، وأنا مقيم على مراقبته، والتذمم من أن أفجعه بنفسي.
وحان وقت الهداية وجاءتني الموعظة الإلهية، برؤيتي للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ليلة الجمعة، تاسع ذي الحجة، سنة ثمانٍ وخمسين وخمسمائة، وكان ذلك (بمراغة) من أذربيجان"[13]... ثم مضى السموءل يحكي رؤياه.

استيعاب إسلامي

وهكذا، وبعد أن كان السموءل بن يهوذا، اليهودي المغربي، جنديًّا في كتيبة الحضارة الإسلامية، ودليلاً في كتابها، وحرفًا من تاريخها، يشهد بأنها الحضارة الإنسانية المتفوقة التي لم تلتبس بأي حساسيات تجاه الأعراق والأجناس والألوان واللغات، بل احتضنت كل هؤلاء في كنفها، وأرخت عليهم جميعًا ظلالها، واستوعبت كل هذه الطاقات المختلفة المناهل والمشارب، ووفرت لهم فرص الصعود والتعلم والنبوغ، بل والعمل في قصور الأمراء وبيوت الملوك، نقول: بعد أن كان السموءل دليلاً يشهد لهذا، انتقل من جندي في كتيبة الحضارة الإسلامية ليكون جنديًّا في كتيبة الإسلام نفسه، فيكون دليلاً للعقول المتقدة يثبت أن هذا الدين هو الدين الحق.
إن هذا الاستيعاب الذي تميزت به الحضارة الإسلامية، كان عنصرًا من إسهاماتها في الحضارة الإنسانية، تلك الإسهامات التي شرحتها بتوسع في كتابي (ماذا قدم المسلمون للعالم)، وهذا العنصر هو الذي لم تستوعبه الحضارة الغربية إلا مؤخرًا، فلم تستوعبه حتى في أوائل عصور ازدهارها العسكري ثم الحضاري، وقد سمعنا مؤخرًا كيف صعد مواطن ملوّن من أصل إفريقي إلى أكبر موقع في الولايات المتحدة ليكون رئيسًا لها، ثم كيف يعيِّن بعدئذ مستشارة مسلمة محجبة لشئون العالم الإسلامي، وكذلك اختياره لعالم الكيمياء المصري المسلم أحمد زويل ليكون ضمن فريقه الاستشاري العلمي الخاص، وكثير ممن يجهلون تاريخنا يعيِّروننا بهذا وكأنه اكتشاف أمريكي خالص لم يسبق أن تقدم به أحدٌ قبلهم، فضلاً عن أن يكون هؤلاء هم المسلمون أيام عزتهم الحضارية، حين صنعوا الحضارة الإنسانية التي لا تفرق بين لون ولون، ولا فضل فيها لأحدٍ على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح.

ونعود بعد هذا الاستطراد إلى قصة عالمنا السموءل، إذ انطلق بعد أن أشهر إسلامه (يوم الجمعة التاسع من ذي الحجة عام 558هـ/ 1162م)، وهو الإشهار الذي ارتجَّت له المراغة، وضجّ المسجد في صلاة الجمعة بالصلاة على النبي فرحة بإسلامه، ثم كانت الخطبة في مدحه والثناء عليه، وهو ما يدلُّنا على أن إسلام السموءل كان بعد نبوغه وذيوع أمره، خاصة أنه مات بعد اثتني عشرة سنة عام (570هـ/ 1174م).

إفحام اليهود وذكاؤه المتوقد

وألَّف السموءل بعدئذ كتابه (بذل المجهود في إفحام اليهود)، وهو الكتاب الذي صار مرجعًا في الردِّ على اليهود إلى يومنا هذا، وهو فريد في بابه، ردَّ فيه على اليهود بطريقتهم، وكيف لا وهو ابن حَبْر لم يكن في زمانه مثله، وأُمُّه من النجيبات العالمات، وهما معًا اهتمَّا بتعليمه علومَ التوراة، ولم يتركاه يتعلَّم شيئًا حتى استكملها، وذاع الكتاب وانتشر في حياته، وكانت له مناظرات كثيرة قوية[14].
ويصفه الصفدي بقوله: "وكان يتوقَّد ذكاءً"[15]. وهو الوصف الذي يُقَرِّره الذهبي[16]، وعامة المترجمين يُقَدِّمُون نبوغه في الرياضة والجبر والحساب، ويغلب عليه أن يُعرف بهذا، ولربما كُنَّا لم نعرف بما حقَّقه من نبوغ طبي لو لم يكتب سيرته بنفسه، فنتبيّن منها هذا الشغف والحرص والنبوغ الطبي، فقد ترك السموءل تراثًا علميًّا كبيرًا، وهذا ليس بمستغرب مع مَن كان في مثل ذهنه وموسوعيته؛ فقد بلغت مصنفاته خمسة وثمانين مصنَّفًا ما بين كتاب ورسالة ومقال[17]، ومن أهم كتبه في الطب كتاب (المفيد الأوسط في الطب) صنَّفه ببغداد للوزير مؤيد الدين أبي إسماعيل الحسين بن محمد بن الحسن بن علي سنة (564هـ/ 1169م)، وفي غير الطب: كتاب (الباهر في الجبر)، وألَّفه في التاسعة عشرة من عمره، وكتاب (إعجاز المهندسين)، وكتاب (القوامي في الحساب الهندي)، و(المثلث القائم الزاوية)، و(المنبر في مساحة أجسام الجواهر المختلطة لاستخراج مقدار مجهولها)، وغيرها[18].

االهوامش :

[1] السموءل بن يحيى: إفحام اليهود وقصة إسلام السموءل ورؤياه النبي ص46.
[2] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[3] السابق نفسه ص47.
[4] إقليدس (325 ق.م - 265 ق.م) هو رياضي يوناني، يعدّ مؤسس علم الهندسة، وصاحب المسلمات التي نسبت إليه وعرفت بمسلمات إقليدس، وأشهر كتبه كتاب الأصول.
[5] ارتُجَّ: أُغْلِق وأشكل وأُبْهِم. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة (رتج) 2/279.
[6] السموءل بن يحيى: إفحام اليهود وقصة إسلام السموءل ورؤياه النبي ص50.
[7] القفطي: إخبار العلماء بأخبار الحكماء ص142.
[8] أذربيحان: شمال غرب إيران حاليًا، وليست الجمهورية المعروفة التي انفصلت عن الاتحاد السوفيتي.
[9] مدينة تقع في مقاطعة كرمان بإيران حاليًا.
[10] السموءل بن يحيى: إفحام اليهود وقصة إسلام السموءل ورؤياه النبي ص51.
[11] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 3/155.
[12] السموءل بن يحيى: إفحام اليهود وقصة إسلام السموءل ورؤياه النبي ص54.
[13] المصدر السابق ص59.
[14] انظر التفاصيل: السموءل بن يحيى: إفحام اليهود وقصة إسلام السموءل ورؤياه النبي.
[15] الصفدي: الوافي بالوفيات 15/276.
[16] الذهبي: تاريخ الإسلام 40/329.
[17] علي عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية في العلوم ص89.
[18] المصدر السابق، الصفحة نفسها.


عن موقع قصة الإسلام
 
رد: السموءل بن يحيى المغربي.. الطبيب المتوقد/د.راغب السرجاني

ما شاء الله,ان شاء الله يعود الزمن الذي كانت فيه الأمة تفحم اليهود و احبارهم
مشكور على الموضوع
 
رد: السموءل بن يحيى المغربي.. الطبيب المتوقد/د.راغب السرجاني

شكرا جزيلا اخ نبيل على الموضوع
انا جذبني عنوان الموضوع وضننته على الشاعر الكبير والمشهور السمؤال فقلت ممكن يكون طبيب ونحن لم نعرفه الا بشعره الجميل فقط
لكن عند قرائتي للموضوع اكتشفته انه غيره
على حال هو لا ينكر لليهود نبوغهم في شتى العلوم ومنها الطب انا سمعت انو يستعملون الشعوذة والسحر كثير في طبهم والله اعلم
 
عودة
أعلى