تركيا من أتاتورك الى أردوغان

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة الأولى) ـ دولة واحدة .. وهويات متعددة

«الدولة الأبدية» في مهب رياح الشرق الأوسط .. والصراع بين العلمانيين والإسلاميين




تركيا في مهب رياح داخلية وأقليمية (« الشرق الأوسط»)

اسطنبول: منال لطفي
في تركيا دولة واحدة وهويات عديدة. أهل اسطنبول، غير أنقرة، غير قونيا، غير أزمير، غير ديار بكر، غير ماردين، غير بورصة، غير إزميت. لكل مدينة ومنطقة في هذه الدولة المعقدة جغرافيا وتاريخيا شخصيتها وهويتها، والكل فخور جدا بخصائصه. وإذا أردت أن تفهم الاتراك يجب أن تبدأ من مسلمة ان الاتراك شعب فخور جدا. ليس فخورا بإسلامه فقط وبحضارته فقط او بمعماره وتاريخه وفنه واقتصاده وديمقراطيته وانفتاحه الثقافي والاجتماعي وتوجهه نحو اوروبا فقط. هو فخور بكل هذه الاشياء دون ان يعطي لأي منها الأفضلية. اسطنبول هي «قلب» تركيا وعاصمة تاريخها كله، فهي كانت عاصمة الدولة العثمانية (1299- 1922)، وقبل ذلك كانت بتسميتها الأولى القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية. وهي حاليا عاصمة الاقتصاد والاعلام والسينما والفن والموسيقي والعمارة. والأتراك مختالون بها وهي مدينة مختالة بنفسها، وبموقعها الاستراتيجي النادر فهي تضع قدما في اسيا وقدما في أوروبا، ويقسمها مضيق البوسفور الذي يفصل البحر الأسود عن بحر مرمرة، وبالتالي أينما وليت وجهك ترى البحر في كل مكان.
مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا وأبوها الروحي، من حبه لاسطنبول وخوفه عليها، قرر ان يحميها من محاولات القوى الكبرى للاستيلاء عليها، فاختار أنقرة عاصمة بدلا منها، وكان هو ومساعدوه في حال حزن عندما وضع امامه خريطة تركيا، ثم نظر ووضع خطا بالقلم عند أنقرة لتكون هي العاصمة الجديدة. أنقرة باتت «العقل»، العاصمة الرسمية ومركز الوزارات ومؤسسات الحكم. أما ديار بكر فتحولت من مجرد مدينة في جنوب شرقي تركيا الى «العاصمة السياسية للأكراد» في العالم. وعلى الشمال منها مدينة «تونسيلي» التي قصفت بالصواريخ على يد الجيش التركي عام 1938 من اجل قمع تمرد أهالي المدينة، ومنذ ذلك الحين أصبحت المدينة مركزا لليسار التركي، ومنها خرجت الحركات اليسارية بكل أشكالها وأطيافها، كما خرج منها أبرز الكتاب اليساريين في تركيا. على الجانب الاخر، مدينة أزمير، التي تعد رمزا للعلمانية والحياة على الطريقة الغربية والتحديث. واذا كانت هناك مدينة تركية واحدة يمكن ان تعبر عن «الاسلام المحافظ»، فإن قونيا هي هذه المدينة. فسمعة اهالي قونيا أنهم متدينيون حريصون على ممارسة شعائر دينهم. اما المدينة نفسها، فإنها مشهورة بكونها معقل نفوذ للحركات والأحزاب الاسلامية. في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، كانت المدينة معقل حركة نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاة وأول رئيس وزراء اسلامي في تاريخ تركيا. وفي السنوات الاخيرة، أثبتت قونيا مرة اخرى انها معقل للمحافظين، اذ ان 65% من سكانها صوتوا لصالح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية في يوليو (تموز) الماضي. وهي مدينة مولانا جلال الدين الرومي الذي خرجت من افكاره التصوفية طريقة «المولوية» إحدى أهم الطرق الدينية في تركيا، والذي أثر في فهم الأتراك للإسلام كما لم يفعل احد من قبله او بعده، ففي منازل الاتراك ومتاجرهم ومؤسساتهم الخاصة ستجد دائما اشعار الرومي معلقة على أحد الحوائط، وأكثرها شعبية بيته الشعري الذي يلخص كل فلسفته في التسامح وقبول الآخر والاحتفال بالتنوع «تعالى.. تعالى.. بغض النظر عن من انت». الكثير من الاتراك عندما تتحدث اليهم يقولون لك: من غير الرومي لم يكن لتركيا بكل هذه الاعراق والطوائف والديانات ان تتعايش معا بكل هذا القدر من الانسجام. فبحكم امتداد الدولة العثمانية على 3 قارات، تتنوع أعراق تركيا بين الاتراك الذين يشكلون نحو 70% من السكان، والأكراد الذين يشكلون نحو 20% من السكان، والأرمن والتركمان والاشوريين واليونانيين والالبانيين والبوسنيين والبلغار والجورجيين والشركس والشيشان والعرب وغيرهم من الأعراق. ومع ان لكل مدينة تركية وإثنية أو عرق هوية خاصة بها، الا ان الجميع في النهاية أتراك. لكن الأتراك عندما يتحدثون عن أنفسهم لا يقولون إنهم أتراك بل «أهل الأناضول» أو «الاناضوليين». فالأناضول هي شبه الجزيرة الجبلية بغرب اسيا التي تشكل معظم اراضي الدولة التركية وتسمى «آسيا الصغرى»، وهي المركز الذي هاجر اليه الاتراك الأوائل وكونوا دولتهم. كان يكفي تركيا تركيبتها الجغرافية المعقدة والثرية والتي جلبت لها على مر التاريخ خيرات وويلات كثيرة. فهي تقع بين آسيا وأوروبا (97% من أراضيها في آسيا و3% في أوروبا). في جنوبها العراق وسورية والبحر المتوسط، وفي غربها بحر ايجة واليونان وبلغاريا، وفي شرقها جورجيا وإيران وأرمينيا وأذربيجان، وفي شمالها البحر الأسود، أي تحدها 8 دول، لكل دولة تأثيرها الاستراتيجي على تركيا بحسب المصالح والعلاقات، كما تحدها 3 بحار، من كل بحر يأتي أعداء وأصدقاء. كان يكفي تركيا التعامل مع خصوصية كونها ايضا موزعة الهوية بين اوروبا من جهة والاسلام والشرق من جهة اخرى. لكن تركيا الجمهورية التي ولدت من رحم الحرب والصراع الدولي للاستيلاء عليها خلال السنوات الاخيرة من عمر الدولة العثمانية اعتادت على الازمات. فلم يكن مفجعا ان تستيقظ خلال الاشهر الماضية على نزاع مفتوح بين العلمانيين والاسلاميين على هوية الجمهورية (مقترحات لبس الحجاب وتخصيص مساجد صغيرة في المؤسسات الحكومية للصلاة مثلا). كما لم يكن مفاجئا ان تجد نفسها في مواجهة مفتوحة داخليا (مع الاكراد) وخارجيا (مع اميركا والعراق والمجتمع الدولي) بسبب خططها للدخول الى شمال العراق لتصفية معاقل حزب العمال الكردستاني. هذه الازمات الداخلية والخارجية تجعل تركيا اليوم في مهب رياح الشرق الاوسط، ومهب اوروبا، ومهب اميركا ومهب اسيا. لكن لا يخشى الاتراك المواجهات، كما يعرفون مقدار تأثيرهم. وعندما يتعلق الأمر بالمصالح القومية التركية، لا ينتظر الأتراك سماع ما تريده او تفضله اميركا او غيرها من القوى الدولية او الاقليمية. المزاج اليوم في تركيا مزاج تحد ومواجهة، فهناك شعور بأن تركيا في وضع داخلي واقليمي ودولي صعب، وهي لن تقف متفرجة على احتمال انفصال أكراد العراق بدولة مستقلة مثلا، ولن تسمح بأن تظل قواعد حزب العمال الكردستاني موجودة في شمال العراق بدون تدخل عسكري اميركي او عراقي واضح للتصدي لهم. ولا يخشى الاتراك غضب اميركا. «نحن لا تهمنا اميركا. اذا قررنا الدخول لشمال العراق لمصالح تركيا العليا سنفعل هذا. الاتراك لا يهمهم استياء اميركا»، يقول أكرم دومانلي رئيس تحرير صحيفة «زمان» التركية لـ «الشرق الاوسط». ويتخوف الاتراك من ان في هذا المناخ الاقليمي المفتوح على كل الاحتمالات، بما في ذلك تحول ايران الى قوى عظمى في المنطقة اذا ما طورت اسلحة نووية «في هذه الحالة ستكون تركيا من الخاسرين الكبار، ان لم تكن الخاسر الأكبر»، كما قال لـ«الشرق الأوسط» سيرهات اركمين الباحث في معهد «اسام» التركي للأبحاث الاستراتيجية. وفي خضم هذه التطورات الاقليمية والدولية ينظر الأتراك للتاريخ طويلا، ويعطون اهتماما خاصا للطريقة الاستثنائية التي تطوروا بها كأمة وكدولة. ويقول المفكر التركي شريف ماردين لـ «الشرق الاوسط» في هذا الصدد: «عندما يفكر المرء في كل الظواهر في تركيا.. عليه ان يفكر في ماض صاغ خصوصية تركيا، وجعلها استثناء عما حولها». فمثلا مفهوم الدولة كان حاضرا لدى العثمانيين منذ القرن 13 إذ أن أنها سميت «دولت عالية عثمانية»، أما شعارها فكان «دولت أبد مدت» أي «الدولة الابدية». وبالتالي اذ يشعر الأتراك بخطر على مصالحهم لا يشعرون بخطر على وجودهم. فتاريخهم يحميهم، فأتراك تركيا اليوم تعود اصولهم الى العرق التركي الغزى او الاوغوز، وهؤلاء يعتبرون اجداد الأتراك الجنوب غربيين الذي يضم أتراك تركيا وقبرص والبلقان واليونان وبلغاريا وتركمانستان وايران، ويعتبر الأتراك الاوغز مؤسسو امبراطوريات كبيرة منها السلجوقية والعثمانية والصفوية. وقد اعتبرت الدولة العثمانية نفسها امتدادا للامبراطورية البيزنطية الرومانية. فعندما فتح محمد الفاتح القسطنطينية في 29 مايو (أيار) 1453 وسقطت الامبراطورية الرومانية، اعتبر محمد الفاتح الدولة العثمانية وثقافتها وتقاليدها مزيجا بين الاسلام وبين الثقافة الرومانية، وبالتالي تميزت الدولة العثمانية بتنوع عرقي ولغوي وديني كبير منذ بدايتها الاولى، كما تميزت بإعطاء الأقليات الدينية والعرقية حرية في تنظيم شؤونهم بعيدا عن التدخلات المركزية. ولمدة 6 قرون كانت الدولة العثمانية موزعة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا بين الشرق والغرب. والمكون الغربي في ثقافتها اصيل وجزء حقيقي من تكوينها. وبينما لم يحتك العرب بالغرب الا بوصفهم مستعمرين، احتك الاتراك بالغرب لستة قرون بوصفهم حكاما لهم، ومن هنا شعور الاتراك بالفخر وشعورهم بالأهمية. فهم يعرفون ان دورهم وتأثيرهم في الشرق الأوسط مهم جدا للغرب ولاميركا، ومهم لدول المنطقة. كما يعرف الأتراك حجم الضغوط عليهم، «تركيا هي الدولة المهمة للغرب ولاميركا في الشرق الاوسط .. اذا خسروا تركيا، خسروا كل شيء»، كما قال نجم الدين اربكان, أبو الاسلام السياسي التركي لـ «الشرق الاوسط». وبالتالي تتجه أعين القوى الإقليمية والدولية الى تركيا اليوم. اما قرارات تركيا فتصنع في مدينتين تتقاسمان السلطة والنفوذ، فالقرارات السياسية تصدر من العاصمة الرسمية أنقرة. فيما القرارات الاقتصادية تصدر من اسطنبول, العاصمة الاقتصادية.

اسطنبول تنفتح على «ميدان تقسيم» الذي اسس عام 1928 للاحتفال بإقامة الجمهورية التركية، كما تنفتح على «مدرسة جلطة سراى» التاريخية، مدرسة النخبة منذ الدولة العثمانية وحتى اليوم. هي اذا مدينة القوى الاقتصادية والاعلامية والثقافية.

وفي وسط المدينة التاريخي جامع محمد الفاتح وآيا صوفيا والمسجد الأزرق. يحب الاتراك اسطنبول وأي تركي مولود في اسطنبول يبدأ اولا بعبارة «انا اسطنبولي». واسطنبول هي بابل العصرية، ففي «شارع استقلال» اكبر شوارعهــا تسمع عبــارات بالعربي والعبري والانجليزي والايطالي والاسباني والياباني والصيني والتركي والفارسي في الوقت نفسه. وعلى المحلات التجارية تجد لافتات صغيرة مكتوب عليها: لدينا متحدثين بالعربية، او متحدثين بالفرنسية او بالفارسية، ودائما بالعربي عبارة «لدينا مقاسات اكس لارج». «ميدان تقسيم» هو «شانزليزيه» اسطنبول فيه كل المحلات التجارية الراقية، والمكتبات والمقاهي والمطاعم والفنادق. وعندما تسير في الميدان، الذي لا يهدأ ولا ينام، تسمع الموسيقى من كل اتجاه، فالمحلات والمكتبات ترفع اصوات الموسيقى داخلها لجذب السائحين، بينما يقف دائما عدد من الشباب الذي ربما لم يعثر على عمل يعزف الموسيقى بالجيتار أو بالناي، ولن تعدم مشاهدة شباب يأخذهم الجذل يرقصون في الميدان. ولهذا يهرب الفنانون والكتاب والصحافيون والموسيقيون والرسامون الى اسطنبول. «هذه مدينة بوهيمية جميلة. يكفى الموسيقى، لن تجدي مكانا على الارض تصدح فيه كل هذه الموسيقى في وقت واحد»، تقول اديبة سوزان احدى نائبات حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي. وتوضح سوزان، التي كانت ترتدي سترة زرقاء أنيقة ولا ترتدي الحجاب، لـ «الشرق الاوسط»: «اسطنبول هي المدينة التي تعبر عن كل تركيا. الانفتاح والتاريخ جنبا الى جنب».

وتتميز اسطنبول بجدرانها البيزنطية وكنائسها التي تعود لفترة الامبراطورية الرومانية، كما تمتاز بمساجدها العثمانية وقصور السلاطين العثمانيين، وبناطحات السحاب التي بنيت حديثا، ففي المدينة عصور وأزمنة كثيرة تتعايش كلها جنبا الى جنب، وبالتالي الى جانب ناطحات السحاب، تجد المتسولين والكلاب والقطط الضالة بكثرة في شوارعها.

والمساجد القديمة في اسطنبول هي التي تعطيها مذاقها كعاصمة اسلامية، ففي الواقع لم تبن اي مساجد كبيرة في اسطنبول منذ الحرب العالمية الثانية، ويوجد في اسطنبول 2500 مسجد، اي بمعدل مسجد لكل 4 آلاف شخص. أما الكنائس الارذوكسية فهى كثيرة بسبب الوجود اليوناني والأرمني الذي تناقص خلال العقود الماضية من أكثر من 300 الف الى عدة آلاف فقط الآن. وبالنسبة للاتراك فإن اسطنبول هى المثال الذي يتطلع اليه باقي السكان، فيقال «أكل اسطنبول»، و«فاكهة اسطنبول»، و«أزياء اسطنبول»، و«محلات اسطنبول»، و«طريقة كلام اهالي اسطنبول»، حتى باتت كلمة «اسطنبولي» وصفا لكل ما هو جيد وراقي المستوى.

واسطنبول، أكبر المدن التركية، عدد سكانها يزيد على 14 مليون نسمة، وهذا العدد ربما لن يرتفع كثيرا خلال السنوات القليلة المقبلة، اذ ان الصناعات بدأت تنتقل من اسطنبول الى مدن أخرى، على رأسها ازمير. وهي عاصمة السينما والفن والمسارح والموسيقى والرواية والانتاج الثقافي الشعبوي والنخبوي، وعاصمة السياحة والاقتصاد. ففيها 13% من سكان تركيا، و21% من سكان الحضر، و11% من اليد العاملة، و30% من الاستثمارات الصناعية، و40% من حجم التجارة، و21% من الناتج القومي التركي. على الرغم من الجمال الطبيعي الذي تتميز به اسطنبول، إلا أنها مدينة قاسية، والحياة فيها صعبة على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، فمتوسط الاسعار فيها يزيد بنحو 4 مرات عن متوسط الاسعار في أنقرة. والحياة الاجتماعية فيها غربية الطابع، فالناس تشتكي من انتشار مفاهيم الأنانية والفردية، وضعف الروابط العائلية، وارتفاع نسبة الجريمة ربما بسبب كونها ملتقى العمالة الوافدة من المدن التركية الفقيرة. ولذلك وبالرغم من كونها أكثر المدن كوزموبوليتانية، الا ان فيها «غيتوهات»، من الاكراد وباقي المهاجرين الذين يأتون اليها.

واحيانا يشتكي اهالى اسطنبول من ان أنقرة بسبب تمركز البيروقراطية والوزارات المختلفة فيها اخذت الكثير من حصة اسطنبول المالية، وأن هذا سبب الفقر في أحيائها والعشوائيات التي ما زال الكثير منها موجودا حتى الان بالرغم من كل المحاولات. فعندما تم اقرار انقرة كعاصمة عام 1923، كانت اسطنبول في حالة سيئة، وبنيتها التحتية متعبة ومرهقة من الحرب. وخلال حكم اتاتورك وبسبب الانهماك في حرب الاستقلال، ثم الانهماك في بناء الدولة التركية الحديثة لم تبن في اسطنبول الا منطقة سكنية حول المنطقة التي عاش فيه اتاتورك، بخلاف هذا ظلت المدينة كما بناها العثمانيون بكل بنيتها التحتية. وظل الوضع هكذا خلال الاربعينيات، فبسبب الحرب العالمية الثانية، لم يتم الانفاق على البنية التحتية، ولم تتغير اوضاع المدينة الا في الخمسينيات، عندما تزايدت هجرة الاتراك من القرى المختلفة الى اسطنبول، فاتسع حجم البناء والتعمير والمساكن العشوائية التي بناها المهاجرون والتي يطلق عليها «جيشكوندو» اي «أقيمت في الليل» لأن المهاجرين كانوا لابد ان يضعوا سقوفا على بيوتهم العشوائية خلال 48 ساعة، والا كان من حق السلطات المحلية ازالة هذه المباني بدون أمر قضائي. ولان السياسيين كانوا حريصين على أصوات المهاجرين في الانتخابات، فقد أحجموا عن هدم المباني العشوائية، وبدلا من ذلك مدوها بالمياه والكهرباء، وساعد انتشار مافيا الأراضي الذين كانوا يستولون على أراض تتبع للدولة ويبيعونها للمهاجرين على انتشار العشوائيات. وحاولت الحكومات العديدة في تركيا إيلاء اسطنبول الاهتمام المناسب، وكثيرا ما تردد ان عمدة اسطنبول السابق، ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، قال ان خدمة المدينة وسكانها «نوع من العبادة». لكن المدينة ايضا «كعب أخيل» البلد ونقطة ضعفه، فالعشوائيات كانت في السبعينات والثمانينيات سببا في الكثير من المشاكل السياسية والاجتماعية، وفي التسعينيات خرج منها اسلاميون متشددون وآخرون أكثر اعتدالا مثل اردوغان، لكنها تظل نقطة حساسة. في عام 1960 ارتفع عدد سكان المدينة الى مليون ونصف وقام عدنان مندريس باول تحسينات كبرى في اسطنبول، وتم بناء اول جسر على مضيق البوسفور والذي انتهى العمل منه 1973. ووصفت احزاب اليسار ساعتها بناء الجسر بأنه اهدار للمال العام، لكن الحقيقة هي أن الجسر أدي الى تنمية الجزء الأسيوي من اسطنبول والذي يعيش فيه ثلث سكان المدينة، وكان مهملا وفقيرا مقارنة بالجزء الذي يقع في الجانب الاوروبي. التحولات في اسطنبول التي بدأها مندريس اخذت دفعة خلال حكم تورغوت اوزال الذي انتخب رئيسا للوزراء عام 1983 وعمدة المدينة النشط آنذاك بدر الدين دالان الذي ازال كل ورش العمل من منطقة الخليج الذهبي على البوسفور، وبدأ مهمة تطهير المنطقة وتوسيع الساحل وبناء طرق جديدة على البوسفور، كما بنى جسرا ثانيا يربط بين ضفتيه. بعد دالان تم انتخاب نور الدين زوزان كعمدة، وبدأ العمل في مشروع مترو الانفاق. واسطنبول مدينة ملوثة بسبب عدد سكانها الكبير، الا انه في التسعينيات دخل الغاز الطبيعي الذي يأتي من روسيا عبر البلقان المدينة، مما أدى الى تحسين نظافتها، فهناك مليون ونصف المليون سيارة، ونصف مليون اتوبيس وشاحنة ودراجة بخارية تسير في الشوارع يوميا.

ويعتمد اقتصاد اسطنبول على الخدمات، فهي المركز الرئيسي للبنوك والشركات، وبسبب هذا تعد المدينة مركز جذب كبير للمهاجرين بشكل دائم او للمسافرين بشكل دوري، فمحطة الباصات الرئيسية في اسطنبول والتي تقع على الخليج الذهبي سجلت عام 2002 حوالي 80 الف مسافر في اليوم، فالباصات لا تربط اسطنبول بباقي المدن التركية، بل اسطنبول بالبلقان وروسيا وعدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق واوروبا والشرق الاوسط. وتعد السياحة سببا اساسيا لكون اسطنبول مركزا للسفر، ففي صيف 2002 مثلا مر على اسطنبول 20 مليون مسافر. أما العاصمة أنقرة فهى تعيش على هاجس عبارة «اجمل شيء في أنقرة هو ان تخرج منها»، وهي عبارة للشاعر التركي يحيى كمال قالها معبرا عن شعوره حيال انقرة في السنوات الاولى بعد اختيارها عاصمة، ففي ذلك الوقت كان بها فندق واحد جيد هو «أنقرة بالاس» وكان بها مطعم واحد جيد هو كاربش، الذي كان جنود الحلفاء يأكلون فيه، وملهى ليلي واحد جيد هو «ثريا». اليوم في انقرة افضل فنادق الخمسة نجوم وافضل المطاعم بسبب وجود كل السفارات فيها، والمؤسسات الحكومية. لكن هناك اشياء لا يشتريها المال ومنها التاريخ، فمليارات الدولارات التي انفقت على انقرة من اجل بنائها وبناء بنيتها التحتية، جعلت منها مدينة حديثة نظيفة، لكنها ظلت مدينة بلا تاريخ طويل، وفي نظر الكثيرين بلا روح. ففي وسط انقرة ستقع عينك على ما يعتبره الاتراك واحدا من اهم معالمها التاريخية وهو مبني البرلمان القديم الذي اسسه اتاتورك وشهد اعلان الجمهورية 1923. في أنقرة مقر الحكومة ومقرات الوزارات، والبرلمان والجيش والسفارات الاجنبية ويزورها 10 الاف شخص كل يوم لانهاء معاملات مع الحكومة. لكن المجال الذي تتقدم فيه انقرة هو استضافة الجامعات. ففيها 6 جامعات 4 حكومية و2 خاصة وتضم 140 الف طالب جامعي اي 9% من الطلاب في تركيا ومن افضل الجامعات فيها جامعة «الشرق الاوسط التكنولوجية» وهي جامعة تستخدم اللغة الانجليزية، و«جامعة بيلكنت» الخاصة وأدى وجود طلاب الى زيادة المكتبات والمقاهي والمطاعم في منطقة كيزيلاي وينيشهر بوسط انقرة. في عام 1940 ومع اجراء اول تعداد سكاني كان عدد سكان انقرة 188 الفا، واعتقد هرمان جانسين المهندس الألماني الذي اختاره اتاتورك بنفسه للتخطيط لانقرة كعاصمة ان عدد سكان انقرة يمكن ان يرتفع الى 300 الف في غضون خمسين عاما لكن عام 1980 كان عدد سكان المدينة وصل الى مليونين و200 الف وبحلول عام 2000 وصل عدد السكان الى 3 ملايين و200 الف لتصبح ثاني اكبر مدينة في تركيا. وتعتمد انقرة على شبكة مواصلات من القطارات الحديثة التي تعمل وسط المدينة (انقري) والعربات واخيرا الجسور التي سهلت عدم اختناق الطرق، والمترو الذي يسير من غرب المدينة الى شرقها ومحطتة الاساسية بوسط انقرة في «كيزيلاي». ويحب اهالي انقرة ان يقال عنهم انهم اطيب واهدأ واكثر تحضرا من اهالي اسطنبول لكن أنقرة مملة ايضا. ويطبق الاتراك والاجانب عبارة: «اجمل شيء في انقرة هو ان تغادرها»، فما ان ينهي السياسيون والدبلوماسيون فترة خدمتهم، حتى يتوجهون الى اسطنبول رغم تلوثها وازدحامها. وللمفارقة، فإن تركيا اليوم التي تنقسم حول نفسها في الكثير من القضايا، يتفق ابناؤها سواء كانوا علمانيين او اسلاميين على أنهم جميعا «كماليون»، فالجميع يريد تركيا عضوا في الاتحاد الاوروبي. تركيا دولة عصرية حديثة، متسامحة، ومنفتحة على ماضيها وحاضرها، امة متعلمة، فالتعليم شيء مهم جدا لدى الاتراك, لكنهم يختلفون على كيفية تحقيق ذلك.
 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة الثالثة) ـ أبو الإسلام السياسي التركي.. الذي لا يتعب

أربكان لـ«الشرق الاوسط»: حزب العدالة والتنمية خلع رداءه الإسلامي منذ أن وصل إلى السلطة



أسطنبول: منال لطفي
نجم الدين اربكان أول رئيس وزراء اسلامي في تاريخ تركيا ليس مجرد زعيم سياسي بين انصاره، بل زعيم روحي وديني كذلك. زائروه من أعضاء حزبه وأنصاره ينحنون عندما يصافحونه ويقبلون يده 3 مرات. هذا الرجل الذي يبلغ من العمر81 عاما، والذي لا يستطيع ان يمشي او يقف بمفرده بسبب مشاكل في فقرات العمود الفقري، ودائما برفقته مساعدين يمسكانه من اليمين واليسار، ذهنه ما زال حاضرا، ويستطيع الكلام لساعات بدون ان تبدو عليه أثار التعب. في الانتخابات الماضية لف اربكان المدن التركية وخطب لساعات في اطار حملة حزب السعادة الاسلامي. وما زالت اثار الهندسة الميكانيكية المهنة التي تركها اربكان للسياسة بعد ان طور محركات ديزل جلبت له شهرة كبيرة، حاضرة في طريقة كلامه. فهو يقسم كل شيء الى أرقام. 5 عوامل ساهمت في فوز حزب العدالة والتنمية، 4 اسباب ادت لاطاحتنا من الحكومة.
لكن وبينما يشعر الكثير من الاتراك بالتفاؤل بسبب النجاحات الاقتصادية لحكومة رجب طيب اردوغان، يرى الكثير من الاسلاميين الاتراك الذين لا يتفقون مع حكومة حزب العدالة ان سياسات اردوغان تخدم الاغنياء وليس الفقراء. ففي عام 2002 كان في تركيا 3 أسر فقط تمتلك كل منها نحو مليار دولار، في عام 2007 ارتفع هذا العدد الى 26 أسرة. ويشعر اربكان بقلق وتشاؤم إزاء مستقبل الاقتصاد التركي بسبب سياسات اردوغان الذي وصفه بأنه «تلميذ فاشل هرب من المدرسة من الباب الخلفي»، ولا يبدو اربكان سعيدا ابدا بتلميذه اردوغان، الذي يتصل بين الحين والآخر ليطمئن على صحته، ويقول «ان هذه الاتصالات لا تعني شيئا». ووجه اربكان اللوم الى «الشرق الاوسط»، وقال إنها ساعدت على تلميع صورة اردوغان في العالم العربي والاسلامي، وعندما ردت الصحيفة اننا نلتزم الحياد، وان الكثير من قراء «الشرق الاوسط» يعتزون باربكان وتجربته خلال رئاسته للوزراء في تركيا، رد اربكان ضاحكا: «صحيفة الشرق الاوسط مثل الشعب التركي تحبنا، لكنها تدعم حزب العدالة والتنمية».

40 عاما وأكثر قضاها اربكان في السياسة التركية لم تأخذ شيئا من حيويته، وهو لا يفكر في التقاعد الان، بل في الانتخابات المقبلة. اما ما يدفع اربكان للتحرك بكل طاقته فهو شعور عميق بالقلق والخوف على مستقبل تركيا. يرى اربكان، وهناك كثيرون مثله في تركيا، ان انهيار الدولة العثمانية كان مؤامرة غربية، ساعد فيها ابناء تركيا من المتغربين المعجبين بالغرب. لكن المشكلة ان اربكان لا يرى ان المؤامرة الغربية على تركيا (دولة الخلافة الاسلامية) انتهت «لان معركة الغرب مع الاسلام لم تنته». وما يريده اربكان ليس تطبيق الشريعة الاسلامية، فهذا كما يرى لم يكن ابدا هدفا له اولوية، بل تحرير تركيا من هيمنة اميركا والصهيونية العالمية. ويبدو من كثرة تكراره كلمة «صهيونية» ان اربكان من انصار نظرية المؤامرة، لكنه حقيقة يقول انه ليس من انصارها بل من ضحاياها، مستشهدا بالطريقة التي اسقطه بها الجيش التركي من رئاسة الحكومة، وهى خطوة يقول اربكان انها تمت بتخطيط من «الصهيونية». وهنا نص الحوار الذي اجرته «الشرق الاوسط» مع اربكان في منزله على بحر ايجه:

* كيف حقق حزب العدالة والتنمية النتيجة الكبيرة التي حققها؟

ـ تركيا دولة كبيرة بها 75 مليون نسمة، وهي مفتاح استراتيجي في العالم، ودخلها الوطني من بين الاعلى في العالم الاسلامي. وانطلاقا من هذه النقطة، فأن نتائج الانتخابات لا تخص تركيا وحدها، بل تخص العالم كله. الانتخابات الاخيرة كانت هامة، وتقييم نتائج هذه الانتخابات أكثر اهمية. ارقام الانتخابات معروفة، لكن ما هي الرسالة وراء هذه الأرقام. ما هي الحقيقة؟ الحقيقة هي ان الانتخابات التركية كانت مثل العاصفة، فقد كانت هناك عاصفة، والاتراك في تصويتهم تأثروا بالعاصفة التي كانت تعصف بدولتهم. هذه العاصفة التي احاطت بالانتخابات يمكن تلخصيها في 5 عوامل. اولا: موقف رئيس الجمهورية السابق احمد نجدت سيزر. فقد وقف سيزر قبل الانتخابات موقفا سلبيا ضد الحجاب، وقال ان هناك اماكن عامة لا يجب ان يكون بها محجبات، وهذا الكلام الذي قاله يخالف العلمانية بمعناها الصحيح، ففهم الرئيس السابق للعلمانية، يعارض حقوق الانسان. طبعا هذا الموقف السلبي من الحجاب الذي انبثق من فهم غير صحيح للعلمانية، تأثر به بصمت الشعب التركي تأثرا كبيرا، لكن انفجر موقف الشعب في الانتخابات البرلمانية.

العامل الثاني هو عندما آن أوان انتخابات رئاسة الجمهورية، بعض المجموعات، قالت إن الرئيس الذي سينتخب يلزم الا تكون زوجته محجبة. هذا الموقف بدوره اثار الكثير من الامتعاض في أوساط الاتراك، وكانت نتائج الانتخابات البرلمانية رد فعل ضد هذا التيار.

العامل الثالث الذي يمكن في ضوئه فهم نتائج الانتخابات الأخيرة، هو إنذار الجيش مساء 17 ابريل (نيسان) على الانترنت ضد الحكومة. اثار البيان استياء لدى الاتراك، فهناك قضايا مهمة، هناك قضية قبرص، التحقت قبرص بالاتحاد الاوروبي لكن الجيش لم يتحدث حول هذه القضية، هناك التطورات الاخيرة في منطقة الشرق الاوسط، مثل العراق وأنشطة حزب العمال الكردستاني، الجيش لم يصدر بيانات حول هذه القضايا. كذلك في تركيا، هناك خلايا تنظم عمليات ارهابية، تسفر كل فترة عن قتل مدنيين، لم يصدر الجيش بيانا حول هذه العمليات الارهابية. اما بيان الجيش ليلة 17 ابريل، فكان محتواه ان هناك خطرا على العلمانية، لانه كان هناك احتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وشاركت في الاحتفال بنات صغار محجبات، وكأن هناك خطرا على علمانية الدولة بسبب هذا. العامل الرابع، قرار اللجنة القانونية للدراسات العليا التي تشرف على كل الجامعات التركية بإغلاق مدارس الأئمة والخطباء ومدارس تحفيظ القرآن. موقف اللجنة السلبي هذا سبب ردة فعل شعبية غاضبة.

اما العامل الخامس فكان موقف رئيس حزب المعارضة حزب الشعب الجمهوري دنيز بايكال السلبي من حزب العدالة والتنمية، والاتهامات المتكررة التي وجهها الى الحزب بأنه ضد العلمانية، وهو ما دفع الشعب للتعاطف مع الحزب الحاكم، كما انه عني بالنسبة الى غالبية الاتراك انه اذا جاء حزب الشعب المعارض الى الحكم، فأنه سيشدد الخناق على ممارسات الناس. هذه الاجواء جعلت الشعب قنبلة مهيأة للانفجار. كما انه قبل الانتخابات مباشرة نظم حزب الشعب الجمهوري المعارض مظاهرات شارك فيها 3 ملايين من الذين يرون ان العلمانية في خطر، وبعضهم كان يردد الموت للشريعة. الكثيرون من الاتراك شاهدوا في هذه المظاهرات ضد حزب العدالة والتنمية تسونامي ضد الاسلام والمسلمين يتزعمها الحزب المعارض، والرد عليها للدفاع عن الدين، هو التصويت لحزب العدالة والتنمية. كذلك رأى الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية ان تشديد الهجمات من قبل المعارضة العلمانية ضد حزب العدالة والتنمية بهدف الاطاحة به هو تدخل ضد تصويت الشعب، والكثيرين من الاتراك لم يرقهم هذا السلوك. هناك بين الاتراك من لم يرد التصويت لحزب العدالة والتنمية، بسبب اغراق تركيا في الديون، والبطالة ومستويات الفقر وسوء الادارة والحكم، وسياساته الخارجية، خصوصا علاقته مع اسرائيل. لكن الانتخابات لم تأت في سياق عادي، بل جاءت في اطار تسونامي ضد حزب العدالة والتنمية سببه حزب المعارضة الرئيسي في البلاد وآخرون.

ماذا كانت خيارات الشعب التركي للرد على هذا التهديد؟ كانت هناك خيارات قليلة من بينها حزب السعادة، لكن حزب السعادة كان قد حصل في الانتخابات الماضية على 3% فقط، فلم يكن لديه فرصة حقيقية في هذه الانتخابات، فيما حزب العدالة حصل في الانتخابات الماضية على 34%، من الاصوات. الأتراك الذين يصوتون عادة لحزب السعادة، خافوا ان تذهب اصواتهم بلا طائل اذا صوتوا لنا، وبالتالي صوتوا لحزب العدالة. كل الاتراك الذين رأوا في موجة التسونامي العلمانية خطرا على الدين وخيارات الشعب صوتوا لحزب العدالة والتنمية. هذا هو معنى نتيجة الانتخابات الاخيرة، وهي ليست لها علاقة بسياسات حزب العدالة والتنمية، بل بالاجواء الاستثنائية في البلاد قبل الانتخابات.

* هل ترى ان تصويت الاتراك لحزب العدالة والتنمية كان قرارا صائبا؟

ـ 50% من قرار الشعب التركي صحيح لانه لم تكن هناك خيارات اخرى امامه، و50% خطأ. فالشعب ولانه اراد ان يحمي نفسه من التسونامي، تجاهل ان حزب العدالة والتنمية هو نفسه مسؤول عن هذا التسونامي. حزب العدالة والتنمية خلع رداءه الديني منذ وصل للسلطة قبل 5 سنوات، وقادة الحزب قالوا ذلك علانية ولم ينفوه، فبعد منع الدروس القرآنية واغلاق مدارس الائمة والخطباء، وللوفاء بشروط الانضمام للاتحاد الاوروبي، ألغوا قانونا كان يجرم الزنا. كما غيرت حكومة حزب العدالة والتنمية الآيات القرآنية في المدارس الرسمية، وألغوا «غير المغضوب عليهم ولا الضالين» من سورة الفاتحة في الترجمة التركية للقرآن، اى لم يترجموها اصلا، ولم يترجموا معانيها لكي لا يغضب اليهود (غير المغضوب عليهم) والمسيحيون (الضالين). كما ان حزب العدالة والتنمية اعطى اهتماما كبيرا جدا لعلاقاته مع اوروبا واميركا، وقالوا ان الاتحاد الاسلامي غير ممكن، وان اتجاه تركيا هو لاوروبا. حكومة اردوغان تكرر هذا الخطاب منذ 5 سنوات. فكيف سينشأ الجيل الجديد؟ الاعلام والكتابات الصحافية تسمم أفكار الشعب. باختصار تصويت الاتراك لحزب العدالة والتنمية كان تصويت كراهية وليس حب، كراهية للبديل (التطرف العلماني) وليس حبا في حزب العدالة.

* قلتم ان حزب العدالة فاز في الانتخابات لانه كان بديل التطرف العلماني، وان تصويت الاتراك له تصويت كراهية وليس حب. لكن ماذا عن حزبكم انتم، حزب السعادة، لماذا لم يحصل سوى على 2.5%. وهل كان الخطاب السياسي للحزب أكثر تعقيدا في لغته وأفكاره من فهم رجل الشارع العادي، اذ انكم ركزتم على تأثير سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على الاقتصاد التركي؟

ـ لا أعتقد ان خطاب حزب السعادة كان معقدا، أعتقد ان الاتراك فهموا خطاب وافكار حزب السعادة، والكثير من الاتراك كانوا متعاطفين معنا، ويرون ان برنامجنا السياسي هو الاصلح. لكن التسونامي السياسي كان اكبر من قدرته على اى اختيار آخر غير حزب العدالة، بسبب الخوف من فوز حزب الشعب الجمهوري العلماني. ليست هذه هي المرة الاولى التي يصوت فيها الاتراك بهذا المنطق. فقبل 30 عاما، قبل الانقلاب العسكري عام 1980، كان هناك حزب يميني اسمه حزب العدالة، وكنا ضده في حزب السلامة الوطني الاسلامي وكنا نحاول ان نشرح للناس مخاطر سياساته على تركيا، لكن هناك اياد غربية لها مصالح في تركيا تتدخل في شؤوننا بما يخدم مصالحها، ومع ان الكثير من الاتراك كانوا يؤيدون سياسات حزب السلامة الوطني، الا ان غالبية الاتراك صوتوا ايضا لحزب العدالة اليميني لانهم كانوا يخشون ايضا من البديل اليساري المتطرف. انذاك نحن في حزب السلامة الوطني قلنا ان الفرق بين الحزب اليساري الشيوعي والحزب اليميني ان الشيوعيين منهجهم هو اجراء العملية الجراحية بدون مخدر، فيما الحزب اليميني يخدر قبل العملية الجراحية، فلا تشعر بشيء، وبعد ان تفيق من المخدر تجد ان اليمنيين اخذوا اكثر من الشيوعيين. خسر حزب السلامة الوطني، لكنه لم ييأس وعدنا للساحة وفوزنا بحزب الفضيلة عام 1997 في الانتخابات وشكلنا الحكومة. والان نفس اللعبة تتكرر، لكننا ايضا نأمل ان يحمل لنا المستقبل نفس النجاح الذي حققناه في السابق، وننجح مرة اخرى في الفوز بالانتخابات.

* اردوغان كان احد اعضاء حزب الرفاه وخرج منه وشكل مع عبد الله غل حزب العدالة والتنمية، فهل تعتبرونه هرب من مدرستكم؟ وهل ترون انه نجح ام فشل؟

ـ نعم اردوغان تلميذ فاشل هرب من الباب الخلفي للمدرسة. هو اتى للمدرسة، لكن لم يستمع للدرس. وبالرغم من انه درس في مدارس دينية، الا ان اعماله لا تدل على هذا، فهو يقول ان تمدن المسلمين لا يمكن ان ينافس تمدن الغرب، بينما الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول الدين يعلو ولا يعلى عليه. هل الذي لديه علم يمكن ان يقول مثل هذا الكلام؟. اردوغان يتقرب من الاتحاد الاوروبي، ويلبي ما يطلب منه ويقول في الوقت نفسه ان الاتحاد الاسلامي غير ممكن. هل هذا شيء معقول؟ هل نحن نخدم الاسلام ام الصهاينة؟. وبما ان صحيفة «الشرق الاوسط» معنا الان اريد ان ارسل عبرها رسالة بما لها من حجم وهي ان صحيفة «الشرق الاوسط» تدافع عن حزب العدالة والتنمية، وتدعمه بما تنشره حوله. (ردت «الشرق الاوسط» على اربكان موضحة اننا لا ننحاز الى احد، واننا نشرنا انتقادات على لسان مواطنين اتراك لاردوغان بسبب تقاربه من اسرائيل واميركا وسياساته الاقتصادية، وان هناك بين قراء «الشرق الاوسط» من يعتز باربكان وتجربته خلال رئاسته للوزراء في تركيا. فرد اربكان ضاحكا: صحيفة «الشرق الاوسط» مثل الشعب التركي تحبنا، لكنها تدعم حزب العدالة والتنمية.. الاكاديميون والمثقفون في العالم الاسلامي والعربي كلهم يقرأون صحيفة «الشرق الأوسط»، وعندما أقرأ أنا صحيفة «الشرق الاوسط» أفاجأ بأنه ليس هناك تمييز بين حزب السعادة وحزب العدالة والتنمية. على اخواننا في «الشرق الاوسط»، الا يخلطوا بين الحق والباطل.

* حقيقة هناك نقص في المعلومات حول طبيعة العلاقة بينكم وبين اردوغان، والفرق في سياسات حزب السعادة وحزب العدالة والتنمية، والاعتقاد الذي كان سائدا حتى وقت قريب هو ان تجربة اردوغان في الحكم استكمالا لتجربة حكم الاسلاميين على يديكم عام 1997 خلال حكم حزب الرفاه.

ـ حزب العدالة والتنمية لم يسر على نفس خطواتنا، وحتى الان لم يظهر ان عندهم فهم لما يحدث. الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول: «أتقوا فراسة المؤمن، فأنه ينظر بنور الله». على حزب العدالة والتنمية ان تكون لديه فراسة. الاسلام ليس دين مذهبي، بل هو دين العقل والفهم والوعي. لذلك ينبغي ان نفهم الاسلام فهما صحيحا. في جميع الكليات الشرعية الموجودة في العالم الاسلامي هناك شيئان ناقصان: تأسيس كلية مختصة بكيفة تطبيق الشريعة بحيث تتلائم مع هذا العصر. وكلية اخرى تتخصص في فهم الاسلام بشكل صحيح، فالمسلم يجب ان يعي ويفهم الاسلام فهما جيدا. لا تتخذوا اليهود او النصاري اولياء. اي شخص يذهب الى اليهود ويجعلهم اولياء له، كيف يكون مسلما صحيحا؟ مشكلة الوعي هذه موجودة في كل العالم الاسلامي.

* هل يمكن ان تخبرنا اكثر حول الدوافع التي جعلت اردوغان ينشق عن حزب الرفاه ويشكل حزبا جديدا منافسا لكم؟

ـ كلنا يعرف مؤسس اسرائيل ثيودور هرتزل وحاييم نعوم المفكر والناشط اليهودي وزبيجنيو بيرجنسكي مستشار الأمن القومي الاميركي الأسبق. ماذا يقول بيرجنسكي؟ يقول: عندما ننظر للعالم الاسلامي. نجد نوعين أهل الدنيا وأهل الدين: نحن نريد اضعاف اهل الدين، والتعاون مع اهل الدنيا. تسألون لماذا أسس اردوغان حزبا جديدا وأنفصل عنا؟ اجابتي هي كلام بيرجنسكي. طيب اردوغان لم يؤسس حزبا بمبادرة منه، بل اعطي اوامر بتأسيس حزب. لماذا اصبح اردوغان ألعوبة في هذا المشروع؟ لانه لديه ضعف ازاء الموقع والمال والرئاسة والمنصب.

* ما هي نوع العلاقة الان بينكم وبين السيد اردوغان؟ هل ما زالت بينكم اتصالات مثلا؟

ـ طيب يتصل بي في بعض الأحيان بالتليفون ليسأل عن صحتي لكن هذا لا يعني شيئا. فكيف انت وكيف حالك لا يهم. المهم هو عودة الوعي الاسلامي الحقيقي.

* إذا انتم لستم راضين عن سياسات السيد اردوغان؟

ـ انا لست راضيا عن تصرفاته وسلوكه وعن الطريق الذي يسير فيه. نحن نشتكي لانه يدفع الشعب التركي نحو مشاكل كبيرة. لسنا راضين عن ولائه وكونه شريكا للصهاينة في بعض البرامج. لماذا ارسل طيب اردوغان قوات تركية الى لبنان، في اطار قوات الامم المتحدة لحفظ السلام في لبنان؟ من اجل تجريد حزب الله من الأسلحة.

* لماذا لا تحاولون التحدث مع السيد اردوغان حول اختلافاتكم معه، ففي النهاية اى ضرر سيصيب كل الاسلاميين الاتراك؟

ـ هناك مقولة مفادها انه اذا قدر الله قدرا على شيء، فأن الله يأخذ العقل ولا تفيد النصيحة. نحن نصحنا كثيرا، لكن لا فائدة.

* مرت 10 سنوات منذ اطاحة حكومة الرفاه بزعامتكم.. هل اعدتم تقييم الاسباب والدوافع التي ادت بالجيش التركي الى اطاحتكم؟

ـ السبب واضح.. الدوائر الصهيونية العالمية هى السبب وراء اطاحتنا. لدى اليهود حلم بناء الدولة المزعومة بين النيل والفرات. الحرب العالمية الاولى نشبت من اجل اقامة الدولة الاسرائيلية الكبرى بين النيل والفرات، وارادت القوى الصهيونية الاستيلاء على اسطنبول من اجل تأسيس هذه الدولة الاسرائيلية. وكان الاستيلاء على اسطنبول ان تم كان سيكون بداية هذه الدولة. ماذا حصل؟ اتوا بـ600 سفينة و600 الف جندي وفشلوا. لكن تأسيس دولة يهودية بين النيل والفرات جزء اساسي من معتقدات اليهود، وهم لن يغيروا هذه الفكرة ابدا. خلال 80 عاما عملت القوى الصهيونية على ابعاد الاتراك عن دينهم، وحصارهم اقتصاديا. عام 1990 ماذا حدث؟ أنهارت الشيوعية، وأصبحت الولايات المتحدة هي القوى العظمى الوحيدة واميركا في يد اليهود. بعد غياب الاتحاد السوفياتي، عاد الحلم اليهودي من جديد لتأسيس دولة من النيل للفرات. ماذا فعلوا؟ خلال احد اجتماعات حلف شمال الاطلنطي (الناتو) عام 1990 قالت مارغريت تاتشر: نحن اسسنا الناتو لمواجهة السوفيات. الان السوفيات انتهوا. فهل نلغي الناتو؟ ولان الفكر الذي ليس له عدو لا يمكن ان يبقى حيا. كان لا بد من ايجاد عدو جديد بدلا من الاتحاد السوفياتي. قالت تاتشر ان العدو موجود وهو الاسلام. خلال هذه الاجواء ظهرت حكومة الرفاه في تركيا. ما سأقوله الان أنقله مما قاله بيرجنسكي فهو قال: ما دام حزب الرفاه في السلطة في تركيا لن يمكننا تحقيق اهدافنا، لا بد من حل حزب الرفاه. كيف نقضي على حكومة الرفاه؟ الخارجية الاميركية لا تريد سيطرة الجيش التركي على السلطة بدلا من الحكومة المنتخبة. فماذا فعلوا؟ نظروا للحزب الثاني الذي يشكل الحكومة الائتلافية معنا وهو حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيلر، وهددوا 50 نائبا من حزب الطريق القويم بأنهم اذا ساندوا الحكومة الائتلافية بين الرفاه والطريق القويم، فأنهم يعرضون تركيا لتدخل عسكري من قبل الجيش كما حدث عام 1980 في انقلاب كنعان افرين. شريكتنا في الحكومة تشيلر جاءت وقالت لى: 50 نائبا من حزبي لا يؤيدون الائتلاف معك. نحن في مأزق ولا بد من انتخابات جديدة، وبعد الانتخابات يمكن ان نسير في خطتنا للحكومة الائتلافية من جديد. نحن في اتفاقنا المبدأي مع تشيلر قلنا اننا اذا اضطررنا بسبب اى ازمة الى انتخابات مبكرة، فسنغير رئيس الوزراء، بمعنى ان اتنازل أنا لتصبح هى رئيسة للوزراء. وصوتنا في البرلمان بغالبية 251 نائبا على قرار بإجراء الانتخابات خلال 3 أشهر. لكن ما حدث بعد ذلك كان مخالفا لمبادئ الديمقراطية. فنحن كان معنا 291 نائبا في البرلمان، لكن خلال الازمة اعطي حق تشكيل الحكومة الى مسعود يلماظ الذي كان حزبه اقلية في البرلمان.

* لماذا تعتقد ان الدوائر الصهيونية كانت مستاءة منك؟ ما هي السياسات التي اتخذتها وأزعجتهم؟

ـ نحن في الاشهر التي قضيناها في الحكومة حققنا 3 اشياء. أولا: تركنا صندوق النقد الدولي وقلنا لهم اننا لا نريد تطبيق برامجهم الاقتصادية. ثانيا: وضعنا ميزانية تجعل مصاريف الدولة ومواردها متوازنة، وهذا لم يتحقق قبلنا ابدا. ثالثا: أسسنا تحالف الدول الثماني الاسلامية. (تركيا وباكستان واندونيسيا ومصر ونيجيريا وماليزيا وبنغلاديش وايران. وكانت فكرة إنشاء تلك المجموعة التي تأسست وصدر ميثاقها خلال قمة عقدت في اسطنبول في يوليو (تموز) عام 1997 بعدما تبنتها حكومة اربكان خلال فترة حكم حزب الرفاه). وكان هدفنا تغيير تركيبة النظام الدولي التي تسيطر عليها قوى، ليست بينها قوى اسلامية. تحالف القوى الثماني كان نواة وبداية تأسيس «صوت» للعالم الاسلامي في شؤون العالم، لخلق مجتمع دولي أكثر عدالة، لكن هذا لم يعجب الكثير من القوى العالمية واليهودية. دائما ما اقول للأتراك: لماذا لا تفهموني قبل اليهود؟ اليهود ادركوا التأثيرات المحتملة لتحالف الدول الثماني وتحركوا ضده لمنعه، لكن في العالم الاسلامي لم يكن هناك ادراك للنتائج الهائلة التي يمكن ان تترتب على هذا التحالف.

* بعد اطاحتكم من الحكم. ما هي المشاعر التي مررتم بها؟ حزن ام شعور بالخيانة، خصوصا أن هناك رجال اعمال أتراكا وقفوا ضد حكومتكم؟

ـ طبعا شعرنا بالحزن والخديعة، لكننا واثقون في اهمية ما نقوم له. بعض رجال الاعمال وقفوا ضدنا لاننا عندما وضعنا ميزانيتنا للدولة اردنا ميزانية عادلة، فرجال الاعمال كانوا يضعون اموالهم في البنوك ويحصلون على نسب فائدة كبيرة جدا واعفاءات كثيرة من قبل الدولة تكلفنا عشرات المليارات دولار. في الميزانية اخذنا 10 مليارات دولار من رجال الأعمال وخصصناها لاحتياجات الطبقات الفقيرة، وهذا لم يرض الكثيرين.

* تحدثتم حول المخاوف على مستقبل العالم الاسلامي.. نسألكم سؤال الساعة: هل تعتقدون ان إيران يمكن ان تتعرض لهجوم اميركي؟

ـ طبعا هناك خطر حقيقي على ايران، فجورج بوش محافظ ديني يرى الاسلام كعدو، هو يرى ايران خطرا. اي شيء اسلامي بالنسبة له يشكل خطرا، ايران وتركيا وغيرهما.

* تركيا ايضا في خطر؟

ـ ليس هذا فقط، تركيا تواجه اكبر خطر. فتركيا بالنسبة لاميركا اهم دولة في المنطقة، اذا تحالفت تركيا مع العالم الاسلامي خسرت اميركا كل شيء. لهذا تحارب اميركا واليهود المد الاسلامي، ولهذا يجب على العالم الاسلامي ان يعزز تعاونه.

* البعض يقول ان الجيش التركي بات أضعف امام حكومة حزب العدالة المنتخبة بأصوات 46% من الاتراك، هل تعتقد هذا؟

ـ لا.. الجيش ليس ضعيفا الان. الجيش ما زال اقوى المؤسسات في تركيا.

* كيف ترى تجارب الاسلام السياسي في العالم العربي؟

ـ لكل تجربة خصوصيتها. تجارب الاسلام السياسي في المنطقة تهدف الى انهاء سيطرة اليسار والرأسمالية علينا. وهذا مطلوب.

* لكن هناك تجارب اسلامية كانت شمولية ولم تعتمد اساليب الديمقراطية. فكيف تقيمها؟

ـ لا يمكن ان تكون هناك حكومة اسلامية شمولية.

* لكن عدم اجراء انتخابات مثلا ليس من الديمقراطية؟

ـ اي حكومة لا بد ان تستمد شرعيتها من الشعب، الغاء الانتخابات والغاء الشعب غير صحيح ولا يتلاءم مع الاسلام.

* اخيرا هل يسعدكم لقب «أبو الإسلام السياسي في تركيا»؟

ـ استغفر الله. نحن لا نهتم بالالقاب. نحن نريد العدالة لجميع المسلمين وجميع البشر. فالاسلام دين المحبة والرحمة. وهدفنا سعادة الـ6 مليارات انسان على وجه الارض وليس المسلمين فقط.


 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة الثانية): حرب الأشقاء.. وخلافات الإسلاميين

إسلاميون أتراك يرون أن تجربة أردوغان «سرقت» تجربتهم ثم «شوهتها».. وأضرت الإسلام السياسي في تركيا


الأوضاع الاقتصادية في تركيا مثار خلاف بين حزب العدالة وأحزاب المعارضة (أ.ب)

اسطنبول: منال لطفي
«فزنا لأننا قدمنا أفضل تصورات للاقتصاد التركي، وليس لأننا حزب إسلامي، نحن لا نصف انفسنا على أننا حزب اسلامي. وحزب العدالة ليست لديه أصلا فكرة أسلمة تركيا»، قالت اديبة سوزان النائبة عن حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي ووراءها صورة كمال اتاتورك على حائط مكتبها، وعلى الحائط الاخر في المكتب صورة رجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي وزعيم حزب العدالة. وتابعت سوزان وهي تضبط شعرها القصير المرتب بعناية، وهي واحدة من نائبات كثيرات للعدالة غير محجبات،: «بحكم أن مكتبي مكتب حكومي يجب أن أضع صورة أتاتورك. لكن حتى اذا لم أكن مضطرة بحكم القوانين، كنت سأضع صورته، فأنا أحترمه كثيرا لما فعله لتركيا» ثم أضافت لـ«الشرق الاوسط»: «علينا الان ان نتحرك للأمام.. ما زالت لدينا الكثير من المهمات». بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية، ذو الجذور الاسلامية، على الحكومة والبرلمان والرئاسة في تركيا، كان العلمانيون في حالة غضب واضح، يريدون ان يفهموا لماذا فاز حزب العدالة بـ46% من الاصوات. اجتمعت لجان في حزب الشعب الجمهوري، الحزب الذي أسسه اتاتورك، لمناقشة نتيجة الانتخابات، والتحضير للانتخابات المحلية بعد عام ونصف العام. ودعا البعض الى استقالة دينز بايكال زعيم الحزب. بعد ذلك استقال رئيس الحزب الديمقراطي التركي محمد اغار، ليبحث الحزب عن زعيم جديد واستراتيجية جديدة. لكن بينما كان كل هذا الغضب علنيا ومفتوحا، كان هناك فصيل سياسي واحد في حالة غضب مكتوم، لكنه غضب مجروح ايضا. هذا الفصيل يمثل الاسلاميين الاتراك الذين خرجوا من عباءة نجم الدين اربكان، الذي ولدت على يديه تجربة الاسلام السياسي في تركيا قبل نحو 30 عاما من خلال أحزاب «السلامة الوطني» و«الرفاه» و«الفضيلة» و«السعادة». اربكان وغيره من الاسلاميين الاتراك الذين ينضوون الان تحت راية حزبي السعادة والفضيلة يشعرون بالخديعة، يشعرون ان تجربة حزب العدالة والتنمية «سرقت» تجربتهم، ثم «شوهتها». وبالتالي فإن أشد الانتقادات لأردوغان لا تأتي من الاحزاب العلمانية، بل من الاحزاب الاسلامية في تركيا، التى ترى ان حزب العدالة نجح بطريقة ما في فصل نفسه عن تجربة باقي الاحزاب الاسلامية في تركيا، وتصوير نفسه على انه «تجربة جديدة.. بنفس جديد معتدل».
وتقول اويا اكجونينش أحدى القيادات البارزة في «حزب السعادة» الاسلامي، الذي تشكل بعد حل حزب الفضيلة الاسلامي في هذا الصدد: «بطريقة ما استطاع حزب العدالة باستخدام الكثير من الدعاية، فصل نفسه عن تجربة حزب الفضيلة، والتركيز على أنه حزب جديد وتجربة جديدة وأفكار جديدة. ظلوا يرددون: نحن حزب جديد مختلف في كل وسائل الاعلام وفي خطابهم السياسي، وبدا هذا جذابا جدا للكثير من الاتراك». وتابعت اكجونينش لـ«الشرق الأوسط»: «عندما يقولون انهم مختلفون سياسيا، فهذا صحيح، لانهم تركوا الآيديولوجية التي جعلت حزب الفضيلة مهما، ووجوده ضروريا. وباتوا حزبا (سياسيا شعبويا) عاديا مثل الكثير من الاحزاب السياسية في العالم. انتهجوا سياسات شعبوية من اجل الحصول على اصوات الناس. لكن في الحقيقة ليس هناك شيء جديد فيما يطرحونه. كانت وراءهم آلة دعائية هائلة، واستخدموا كل الاساليب الممكنة من اجل التأثير على الاتراك. على سبيل المثال يتم تصوير طيب اردوغان في دعايتهم على انه يستطيع تحقيق المعجزات، اردوغان اعرفه من حزب الفضيلة وهو شخص عادي معروف بحبه للعب كرة القدم، تعلم في مدرسة دينية، وتدرج في حزب الفضيلة، وانتخب عمدة لاسطنبول، والحزب كله كان وراءه وساعده على النجاح والتقدم، لكنه وصل الى نقطة ظن فيها انه الحزب، وان الحزب هو. وعندما وجد معارضة من داخل قيادات في الحزب، بدأ يظهر عداء لقيادات الفضيلة. ثم صور الامر على انه تنافس بين الجيل الجديد في الحزب، وبين المحافظين. وساعدت الظروف على بيع هذه الصورة، ففي التسعينيات انتخب توني بلير في بريطانيا وبيل كلينتون في اميركا وكلاهما صغير السن. اردوغان استفاد من هذا المناخ وقرر الانشقاق عن حزب الفضيلة وتأسيس حزب جديد. وتم تصوير الامر ساعتها على ان اردوغان «الاكثر اعتدالا» يغادر حزب الفضيلة «الاكثر محافظة»، لكن طبعا الامر ليس هكذا. الحقيقة هي ان حزبي الفضيلة والسعادة حزبان للطبقة الوسطى والفقراء. فهما يتخذان السياسات التي يمكن ان تساعد الاتراك العاديين فيما يتعلق بالتعليم مثلا او السياسات الاقتصادية ومحاربة الفساد، بينما حزب العدالة حزب رجال الاعمال والاثرياء، فهم اكثر من استفاد من سياساته، كما ان هناك من عناصره من هو ليس بعيدا عن الفساد. فوز اردوغان ليس نصرا للاسلاميين. فشعاراتهم وان ظهر فيها شيء اسلامي، إلا انهم عمليا يعملون مع اميركا ويخدمون الاغنياء ويقدمون للفقراء الفتات». لكن اكجونينش لا تنفي ان حزب السعادة الذي استخدم أجندة انتخابية تركز على مهاجمة صندوق النقد الدولي، وتحذر من تأثير سياساته على الطبقة الوسطى التركية، كان معقدا على فهم رجل الشارع في تركيا.

ويحذر اسلاميون اتراك اخرون من ان وصف حزب العدالة في الكثير من وسائل الاعلام المحلية والدولية بـ«الاسلامي» ساعد الحزب كثيرا، بالرغم من ان الحزب نفسه حريص على نزع وصف «اسلامي» عن اسمه «حزب العدالة لا يرى في عيون الكثير من الاتراك على انه حزب اسلامي. فهو حزب مؤيد لاميركا، مؤيد لاوروبا، وليبرالي في سياساته الاقتصادية. الكثير من مؤسسي الحزب جاؤوا من جذور اسلامية، ولهذا نجحوا بسهولة في التواصل مع الاتراك. لكن سياسات الحزب وآيديولوجيته ومواثيقه الاساسية ونشاطاته خلال خمس سنوات في السلطة تركز على علاقات جيدة مع اوروبا ومع اميركا واسرائيل. وبالتالي لا حزب العدالة نفسه او المحللون السياسيون الذين يتابعون مساره يقبلون وصفه بـ«الاسلامي»، كما يقول نعمان كورتوليمش نائب رئيس الشؤون السياسية في حزب الفضيلة. ويوضح كورتوليمش ان سبب الانتصارات الانتخابية التي حققها العدالة تعود الى ان تركيا في ظل استقطاب سياسي غير مسبوق تحولت الى ما يشبه ساحة لمباراة كرة قدم بين فريقين معاديين، وان ضعف الاحزاب السياسية عموما في تركيا منذ انقلاب الجيش عام 1980، وغياب قواعد اجتماعية لها، زادا من ازمة السياسة التركية. ويضيف لـ«الشرق الاوسط»: «كان هناك استقطاب سياسي غير مسبوق. فريق مستقطب نحو الديمقراطية والحرية، وفريق اخر نحو الحفاظ على مبادئ الجمهورية التركية العلمانية. ولهذا لم يحدث اي نقاش حقيقي طوال فترة الانتخابات حول القضايا الحقيقة التي تعني غالبية الشعب التركي مثل الفقر ومشاكل المدن والبطالة والتضخم والازدحام، كذلك لم تناقش مشاكل السياسة الخارجية التي تعني تركيا مثل الشرق الاوسط. وسائل الاعلام وعدد من السياسيين والاقتصاديين البارزين نجحوا في ان يجعلوا النقاش حول الانتخابات يتمحور حول الصراع المفترض بين فريقين او جناحين، احدهما يمثل الحداثة والاخر يمثل المحافظة الدينية. كان الامر اشبه بمباراة لكرة القدم، وتصويت الناس في الانتخابات كان مثل تشجيع فريق كرة على فريق آخر، خصوصا بعد تحذير الجيش يوم 27 ابريل (نيسان) الماضي في بيان على الانترنت لحزب العدالة بخصوص اختيار الحزب لعبد الله غل لرئاسة الجمهورية، وهو البيان الانترنتي الذي سمى في تركيا مجازا (انقلاب عسكري ما بعد حداثي)، لانه لم يحدث بالدبابات، بل الانترنت. هذا التحذير خلق شعورا بين غالبية الاتراك ان الجيش لا ينبغي ان يتدخل في السياسة». ولكن، وفيما ترى تيارات اسلامية تركية حزب العدالة وتجربة اردوغان بمثابة هزيمة للمعنى الحقيقي للاسلام السياسي، او «طعنة غربية» للاسلام السياسي التركي، بعد تجربة اربكان في الحكم، ترى الاحزاب العلمانية التركية ان حزب العدالة يتسلل خطوة خطوة بالخطاب المعتدل الليبرالي الذي يطرحه، وأنه حقيقة يخفي «أجندة اسلامية» بهدف أسلمة تركيا. وتقول ميروى بيتيك جوربوز مسؤولة العلاقات الخارجية بحزب الشعب الجمهوري «هناك دائما خطر.. فتركيا هي الدولة الاسلامية الوحيدة التي تنتهج العلمانية. لدينا ميراث قوي جدا للعلمانية في تركيا. ولا يمكننا القول ان 46% من الأتراك الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية يريدون دولة دينية في تركيا. اذا سألهم أحد ما اذا كانوا يرغبون في ان تتحول تركيا الى دولة دينية، بمعنى نظام حكم اسلامي، فإنني لا أعتقد ان الـ 46% كلهم سيقولون نعم. لكننا رأينا أشياء تثير القلق. فمثلا اردوغان قال يوما ان الديمقراطية ليست غاية، بل وسيلة. نحن لدينا شكوكنا في حقيقة حزب العدالة والتنمية. نحن رأينا لافتات سياسية لحزب العدالة والتنمية في بعض القرى والمدن تقول: يمكنك ان تضرب زوجتك. لكن لا تضربها على وجهها. هذا شيء لا يمكننا فهمه في تركيا». وتتخوف ميروى بيتيك جوربوز من ان حزب العدالة يغطي على اجندته الحقيقية بإظهار ان علاقاته مع اميركا واسرائيل استراتيجية. وتتابع: «رئيس الوزراء اردوغان قال حول بعض التغييرات الاسلامية ان الوقت ما زال مبكرا عليها. اي ليس الان. آية الله الخميني بعد 14 عاما في المنفى بباريس، عاد الى إيران بعد انتصار الثورة الإيرانية، وخطوة خطوة غيّر كل شيء. هذا ما حدث في إيران. نحن نعيش في وضع جغرافي استراتيجي خطير جدا. جيراننا ليسوا المانيا واسبانيا. لدينا في تركيا بنية دولة قوية. اذا اراد العدالة تغيير الدولة فلا بد من هدم النظام القائم خطوة خطوة، ثم اعادة بناء شيء جديد. وجهة نظري الشخصية هي ان علاقات اردوغان مع اميركا واسرائيل مرحلية. هذه ليست علاقات بين مصطفى كمال أتاتورك وحبيب بورقيبة (بورقيبة كان متأثرا جدا بتجربة أتاتورك في تركيا، وقال ان تجربته ألهمته كثيرا). هذا شيء اخر، ولا أعتقد ان علاقات العدالة مع اميركا واسرائيل ستستمر طولا. فتح الله كولن (زعيم ديني تركي بارز) وعبد الله غل واردوغان كانوا يقولون خلال فترات طويلة من حياتهم السياسية ان اسرائيل هي ممثلة الصهيونية التي تكره المسلمين. وان اميركا هي الشيطان الأكبر، واسرائيل هي الشيطان الأصغر. فكيف خلال فترة عامين او 3 أعوام فقط يصبحون حلفاء سياسيين؟». ويتهم اسلاميون مثل اكجونينش من حزب السعادة، المعارضة العلمانية في تركيا بالمساهمة في فوز حزب العدالة بمهاجمة كل ما هو اسلامي. وتتابع «هناك فصيل صغير داخل حزب الشعب الجمهوري، كلما رأى سيدة محجبة.. فزع وصرخ وقال إنها تهديد للدولة. قبل الانتخابات بقليل نشرت الصحف ان مستشفى حكوميا رفض علاج سيدة مسنة ترتدي الحجاب، وطلب منها أن تخلعه اولا، فرفضت. الناس تعبت من هذه التصرفات، وكان هذا هو رد الفعل». إلا ان ميروى بيتيك جوربوز تنفي ان يكون العلمانيون تصرفوا كـ«فاشيين» في التصدي لكل شيء يصدر عن حزب العدالة. وتقول «دعمنا في البرلمان كل القوانين الاصلاحية التي اتخذها حزب العدالة والتنمية للوفاء بمعايير الانضمام للاتحاد الاوروبي ومن بينها توسيع حريات الرأي والتعبير. لكننا احيانا لاحظنا وجود مواد في هذه التشريعات الجديدة لا علاقة لها بالاتحاد الاوروبي. على سبيل المثال ارادوا ان يسمحوا بتخصيص مساجد للصلاة في المؤسسات الحكومية، وهذا شيء لا يمكنك ان تفعله في تركيا. فعندما تفعل هذا تصبح هذه الاماكن الفناء الخلفي لبعض الطرق الدينية. نحن لدينا مساجد في كل مكان. فلماذا تخصيص مساجد في المؤسسات الحكومية؟ هل تريدون بناء فناء خلفي لطريقتكم الدينية. قانون تجريم الزنا، اذا لم نعارضه بالطريقة العنيفة التي عارضناه بها لكان البرلمان مرره. هل سمعتم عن قانون الخط الاحمر؟ قبل عامين صاغوا قانونا يمنع على الناس شرب الكحوليات بموجب القانون في مناطق معينة من اسطنبول تحاط بخط احمر. انا لا أقول انه ينبغي على كل الناس ان تشرب، هذا ليس هو الموضوع. لكنك لا يمكنك ان تقسم بين الناس على اساس اختياراتهم الشخصية اذا اردنا ان نطبق معنى الديمقراطية. ومع اننا استأنفنا لدى المحكمة الدستورية التركية ورفضت القانون، الا ان ما يقلقنا ان حزب العدالة يسير خطوة خطوة». وبين النقيضين، اي حزب العدالة والتنمية من ناحية وحزب الشعب الجمهوري من ناحية اخرى، تعاني باقي الاحزاب السياسية التركية من مشكلة توصيل صوتها للناس. فهي احزاب اصغر حجما، واقلها ثراء، وبعضها يعاني ازمة زعامة، بل ويتأرجح بين أفكار اليمين واليسار. ويقول اوباهان اوبا اوغلو رئيس اللجنة التكنولوجية في الحزب الديمقراطي التركي ان هذه الاحزاب الصغيرة ظلمت ايضا بسبب غياب القضايا المهمة عن الساحة السياسية، لصالح الاستقطاب الآيديولوجي. ويوضح لـ«الشرق الأوسط»: «اكثر حزبين استفادا من الازمة الحالية حول هوية الدولة هما العدالة والشعب الجمهوري. استفادا واشعلا الاستقطاب السياسي في تركيا. الشارع التركي في الواقع يمكن ان يحل معضلة كونه علمانيا ومسلما في الوقت ذاته». ويبدو هذا الكلام صحيحا الى حد كبير، فالكثير من الاتراك لم يصوتوا بسبب الاجندة الدينية او العلمانية لهذا الحزب او ذاك. الغالبية صوتت طمعا في تحسين اوضاعها الاقتصادية. الكثير من الاتراك في الاحياء الفقيرة من أنقرة قالوا لـ«الشرق الاوسط» انهم صوتوا للحزب الذي وزع زيتا للتدفئة او طعاما او ملابس للشتاء. وقال حسن وهو تركي في العقد الخامس من العمر كان يجلس في مقهى مع ثلاثة اشخاص اخرين كلهم بلا عمل لـ«الشرق الاوسط»: «ابني يعمل وزوجتي تعمل ومع هذا لا يكفينا ما نحصل عليه. كنت اعمل ثم فصلت، الان اذا كان هناك اي عمل، اي عمل من اي نوع، سآخذه فورا. اي شيء». وتلاحظ اكجونينش أنه «خلال الحملة الانتخابية استغل حزب العدالة كل شيء، توزيع طعام على الفقراء في الاحياء المعدمة والعشوائيات، توزيع مخصصات الشتاء للفقراء مبكرا. الانتخابات كانت في يوليو وهو شهر حار في تركيا، ومع ذلك وزعت مخصصات الشتاء بشكل مبكر، ووزع زيت التدفئة مجانا وكأن رسالة الحزب للناس (اعتني بي.. أعتني بك). المال لعب دورا كبيرا في هذه الانتخابات وفي شراء اصوات الناس». ومع ان الكثير من رجال الاعمال الاتراك يعترفون بان سياسات اردوغان الاقتصادية ادت الى الحد من التضخم والبطالة، وساعدت على جذب رؤوس الاموال والاستثمارات الاجنبية، الا ان البعض الاخر يرى ان سياسات حزب العدالة ساعدت البعض وليس الكل. فمثلا المهن التقليدية عانت من تباطؤ النمو. ويقول مصطفى اوزافار وهو تاجر مصوغات ذهبية في بازار إسطنبول انه شخصيا لم يستفد من هذه السياسات، موضحا لـ«الشرق الاوسط»: «كنت في ايام ابيع كيلو او كيلوين من الذهب يوميا. حاليا تمر علي ايام ابيع 200 جرام فقط». ومن دواعي قلق الكثير من الأتراك من غير الداعمين لحكومة حزب العدالة والتنمية تأثيرات هذه السياسات الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد. وتقول ميروى بيتيك جوربوز من حزب الشعب الجمهوري، ان معدلات زيادة الاستثمارات الاجنبية في تركيا ليست دلالة على تحسن في اداء الاقتصاد التركي، بل إن سببها الأساسي هو نسبة الفائدة الكبيرة التي تعطيها الدولة التركية لروؤس الاموال الوافدة، وان نسبة الفائدة العالية هذه ستكون سببا في أزمة اقتصادية. وتضيف لـ«الشرق الاوسط»: «اذا كان لديك 100 الف جنيه استرليني فما هو معدل الفائدة الذي يمكن ان تحصل عليه في بريطانيا خلال عام؟ 5% على الأكثر. في تركيا اذا أتيت بـ100 الف جنية استرليني فإن معدل الفائدة هو 17%.. وبالتالي لا يجب على أصحاب رؤوس الاموال ان يستثمروا في اي شيء. يكفي فقط ان يأتوا بهذه الاموال، ويضعوها في أحد البنوك، ويأخذوا نسبة الفائدة الكبيرة جدا هذه، حتى النقطة التي يستطيعون بعدها، بالارباح التي حققوها، شراء هذا البنك. هذا هو الوضع في تركيا. ولهذا تأتي الاستثمارات الاجنبية الينا. انا أستطيع تفهم موقف المستثمرين الدوليين. ولو كنت مكانهم، ربما فعلت الشيء نفسه. لكن ما من عاقل يستطيع ان يسمي هذا استقرارا اقتصاديا. هذا استقرار اقتصادي قصير العمر. فنحن الان لا نواجه صعوبات في السيولة المالية، لكن هذه الصعوبات ستأتي لاحقا». ويتندر البعض في تركيا على قصة يخت ابن رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان. فابن اردوغان، الذي تخرج من الجامعة منذ سنوات قليلة، يعمل الان في مجلس إدارة احدى الشركات الكبرى في تركيا، وقبل فترة أصبح لديه يخت. الصحف التركية تحدثت كثيرا عن اليخت وكيف يمكن لشاب صغير ان يمتلك يختا في هذه الفترة القصيرة. وبسبب الضجة التي أثارها موضوع اليخت اضطر اردوغان للتعليق على الموضوع بقوله «لا ادري لماذا كل هذا الكلام حول اليخت. هذا اليخت صغير جدا». ضحك سينان تافشان، وهو صحافي تركي يعمل مراسلا لصحيفة «نيكاي» اليابانية وهو يروي لـ«الشرق الاوسط» هذه القصة، موضحا ان إحدى مشاكل تركيا هي الفساد، وحتى حكومة اردوغان لم تنج من الانتقادات فيما يتعلق بهذه القضية الحساسة، لكن يعتقد الكثير من الأتراك ان سجل حكومة اردوغان أفضل من غيره في موضوع التصدي للفساد. «اردوغان رجل تقي لا يمكن ان يكون فاسدا. هذه الاخبار البسيطة تأخذها الصحف وتضخمها لمصالح البعض» كما قال تاجر تركي في بازار اسطنبول لـ«الشرق الاوسط». هناك خوف في تركيا على مستقبل الديمقراطية، فالاحزاب التركية الحالية ضعيفة بطريقة او بأخرى، وأكثرها ضعفا هي الاحزاب الليبرالية واليسارية والقومية التي ادت الانقلابات العسكرية العديدة في تركيا الى تفكيكها. وتقول ميروى بيتيك جوربوز «حتى 1946 كان حزب الشعب الجمهوري هو الحزب الوحيد في تركيا. عام 1946 نحن أقررنا تطبيق التعددية الحزبية في تركيا. لكن مذاك مرت تركيا بـ3 انقلاب عسكرية. في كل مرة كان يتم اتهام حزب الشعب الجمهوري بأنه وراء انقلاب الجيش. لكن في الحقيقة حزب الشعب الجمهوري هو الذي دفع ثمن هذه الانقلابات العسكرية. فالانقلابات العسكرية اضرت باليسار والاحزاب الديمقراطية الاشتراكية والمثقفين، وهذه أزمة معقدة. نحن العلمانيون في حزب الشعب الجمهوري، حزب اتاتورك، كنا دائما نتهم بأننا حزب الجيش والدولة، لكن كلما حدث انقلاب عسكري دفعنا نحن الثمن. على سبيل المثال في انقلاب 1980 على يد كنعان افرين، كان حزب الشعب الجمهوري أول حزب حظر، ورئيس الحزب سجن ومنع من ممارسة السياسة لمدة 7 سنوات. إذا كنا حزب الجيش في تركيا، لماذا يحظروننا؟ انا لا ارى اننا حزب الجيش، وهذه الانقلابات العسكرية اضرتنا واضرت اليسار كله والديمقراطيين الاشتراكيين. وللأسف بسبب سمعة الاتحاد السوفياتي السابق لدى اهل الاناضول، فإن اليسار كله كان إلحادا. وليس من السهل اقناع الناس بغير ذلك. اكثر نسبة حصل عليها اي حزب يساري في تركيا كانت 30%، وبالتالي كان اليسار دوما في حكومات ائتلافية. لكن هذه المعركة لم تنته، فهناك انتخابات محلية في تركيا خلال عام ونصف العام، ثم انتخابات البرلمان. ستكون هناك دائما انتخابات. نريد ان نكون في الحكومة. الناس لم تعد تهتم بالآيديولوجيات، الناس اليوم تهتم فقط بمن يمكن ان يدير البلاد بشكل أفضل. وعلينا، وهذا ربما اعتراف، ان نحل مشاكلنا داخل حزبنا. ليست لدينا مشكلة فيما يتعلق بالسياسات التي نقرها، بل لدينا مشكلة في طريقة تطبيق هذه السياسات. لهذا لم ننجح حتى الان. سنأخذ وقتا لكن ليس هناك مشكلة في هذا. نحن لسنا حزب العدالة والتنمية.. (عمره 6 سنوات) نحن اقدم حزب في تركيا، سيأتي ويذهب أناس والحزب سيبقى».

 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة الرابعة) ـ مساجد تركيا .. بين الرجال والنساء

450 واعظة دينية ومساعدات للمفتي ومدرسات في المدارس القرآنية.. ينافسن الرجال على السلطة الدينية



أسطنبول: منال لطفي
لم يتصور الكثير من الأتراك انه سيأتي يوم يدخلون فيه المسجد ليجدوا سيدة تجلس في مكان "إمام الجامع" تعطي درسا دينيا وحولها عشرات المستمعين من الرجال والنساء. لكن هذا ما حدث، فاليوم في تركيا يوجد أكثر من 450 واعظة دينية تعطين دروسهن الدينية في المساجد، وتتقاسمن السلطة الدينية مع الرجال. لم يكن الكل سعيدا بهذا القرار، ولا بقرار مديرية الشؤون الدينية في تركيا، التي تتبع لرئاسة الوزراء، بتعيين نساء في منصب مساعد المفتي، أملا في تعيين أول مفتية تركية قريبا، وأملا في تعيين سيدة تؤم الصلاة يوما ما، لكن الاجواء، كما يقول البعض، ليست مهيأة بعد. أي بمعنى آخر: كل شيء إلا إمامة الصلاة. المصابون بالصدمة بسبب تعيين النساء في منصب واعظ بالمسجد، ومنصب مساعد أو نائب للمفتي يرددون ان "المساجد للرجال"، لكن المدافعين عن هذه التغييرات التي حدثت في تركيا خلال الخمس سنوات الماضية يقولون إن هذه التغييرات جزء من حيوية "الإسلام التركي"، موضحين أن الإسلام في تركيا "يستجيب لاحتياجات المجتمع، وللتطورات اليومية وان قصر السلطة الدينية على الرجال فقط ليس له ما يبرره اسلاميا". أما الناشطات في الحركة النسائية التركية فيقلن "نحن تعلمنا الإسلام دوما عبر الرجال، سواء الأب أو الزوج أو المدرس في المدرسة أو الإمام في الجامع، نادرا ما تعطى النساء فرصة لتعليم الإسلام، مع ان الكثيرات منهن يعرفن شؤون الدين مثلما يعرفها الرجال". عندما تسأل أي تركي حول العامل الأساسي الذي يجعل الإسلام التركي له هوية مميزة عن الإسلام في باقي الدول الإسلامية، تكون الاجابة غالبا ان الإسلام عندما دخل تركيا أثر وتأثر فورا بثقافة الأتراك وتاريخهم وطبيعة دولتهم، وان عملية التأثير والتأثر هذه لم تقف أو تتجمد. فعندما قرر مصطفي كمال اتاتورك، بعد ثورة الاصلاحات الدستورية، وضع كل شؤون الدين تحت سيطرة الدولة، بما في ذلك التعليم الديني، وحتى المدارس القرآنية في القري الصغيرة، رسخ في الثقافة التركية الحديثة فكرة ان الدين مسألة شخصية، ليس له علاقة بالدولة، أو بالمؤسسات الحكومية والرسمية، وأنه لا ينبغي أن يستغل لخدمة أهداف أي فئات أو جماعات. وبسبب القواعد الصارمة التي وضعها أتاتورك، لا يمكن ان تجد رجل دين تركياً او خطيبا أو إمام جامع يصدر فتوى تتناقض مع الخطوط الحمراء في الدستور والقوانين التركية. فتعددية الزوجات ممنوعة بأمر القانون، وان كانت موجودة على استحياء في بعض القرى النائية. "التعدد ممنوع قانونيا، لكن إسلاميا أيضا تعدد الزوجات ليس شيئا محبذا، فهو له شروط معينة، من بينها المعاملة العادلة وشروط أخرى تجعله صعبا جدا وغير مستحب"، كما يقول الشيخ محسن كورتولموس إمام وخطيب أحد مساجد أسطنبول لـ"الشرق الأوسط".
أما الحجاب، فمسألة شخصية، إلا انه ممنوع في المؤسسات الحكومية. الكثير من رجال الدين الاتراك يقولون هذا يحمي الدولة والإسلام من الاستغلال، ويدافعون عن انه لا تناقض بين ما جاء في الدستور التركي وبين صحيح الإسلام. هذا ما يتعلمه الطلبة الأتراك في المدارس والكليات الدينية التي عادت تدريجيا للحياة في تركيا بعدما ألغى أتاتورك كل اشكال التعليم الديني خلال العشرينيات من القرن الماضي. عادت المدارس والكليات الدينية على خلفية إجراء أول انتخابات ديمقراطية في تركيا عام 1950، فطمعا في أصوات الناخبين، أعادت حكومة حزب الشعب الجمهوري، حزب أتاتورك، الإعتبار للتعليم الديني قبيل الإنتخابات مباشرة في محاولة فاشلة لتفادى الهزيمة أمام المعارضة الليبرالية. وكان من القرارات التي إتخذتها الحكومة آنذاك السماح بالدروس الدينية في المدارس الابتدائية، اذا تقدم الأبوان بطلب رسمي لتعليم أبنائهما الدين الإسلامي، لكن لاحقا عدل القانون لتكون مادة الدين حصة مدرسية عادية يستثنى منها فقط من يطلب أبواه ألا يحصل عليها، وبالتالي اصبح تدريس الدين عموميا في كل مدارس تركيا. وفي نفس هذه الفترة بدأت تتسع بسرعة المدارس الاسلامية، ولكي تسير وفقا لنفس الفلسفة التعليمية في تركيا، صنفت السلطات المدراس الإسلامية على انها "وظيفية" أي بهدف تخريج الدعاة وأئمة المساجد والمفتين، وسمح للنساء بالانضمام اليها، على الرغم من انه في ذلك الوقت لم يكن سمح للنساء بعد بالعمل كمفتيات أو دعاة دينيين. وكان الانضمام للمدارس الإسلامية يبدأ في المرحلة الثانوية، لكن بعد ذلك بات من المرحلة الاعدادية حيث كان الطلاب يدرسون قواعد اللغة العربية والقرآن الكريم، والاحاديث والفقه. أما أول كلية لعلوم الدين فأفتتحت عام 1950 في أنقرة. في البداية شجع الجيش هذه المدارس الإسلامية على أساس أنها ستحمي الجيش وتركيا من أي مد شيوعي خلال سنوات الحرب الباردة. وبعد انقلاب 12 سبتمبر(آيلول) 1980 اعتبرت دروس الثقافة الدينية في المدارس كلها عموما اجبارية. لكن بعد فوز حزب الرفاه الإسلامي بالانتخابات عام 1996 وتشكيل زعيمه نجم الدين اربكان الحكومة، شعرالجيش بالقلق والتهديد. وكان أول شئ فعله الجيش بعد اطاحة حكومة اربكان عام 1997، هو اغلاق مدارس التعليم الديني في المرحلة الاعدادية، وذلك بالغاء المرحلة الاعدادية برمتها، ومد مرحلة التعليم الابتدائي الالزامية من 5 الى 8 سنوات. اما في المدارس الثانوية الدينية الوظيفية الخاصة بتخريج الدعاة والمفتين فتم التضييق عليها عبر قبول عدد من الطلبة يلبي فقط احتياجات تعيين ائمة جوامع وواعظين. كما تم تشديد القيود على الدروس القرآنية للأطفال، واصبح الحصول على رخصة للدروس القرأنية صعبا جدا. وللتحكم في الجامعات قررت السلطات بعد انقلاب عام 1980، اخضاع كل الجامعات للمجلس الأعلى للتعليم، وتشديد الرقابة على الأنشطة الطلابية، كما تم منع تأسيس أي جامعات إسلامية، والتحكم في كل المناصب الدينية، فتعيين الأئمة وخطباء المساجد والمفتين تقوم به مديرية الشؤون الدينية. ويقول الشيخ محسن كورتولموس:"لدينا 8 آلاف إمام. وفي أي مدينة تركية يوجد مفت، ونواب للمفتي، وأئمة للجوامع. وفي كل مقاطعة بالمدن الكبرى هناك مفتون يتبعون للمفتي العام للمدينة، ودروس لتعليم القرآن في كل ادارة دينية، وأئمة خطباء يتبعون وزارة التعليم مهمتهم تدريس وتعليم الأئمة الجدد في الكليات الدينية التركية". ويوضح الشيخ محسن ان خطبة الجمعة تتعدد وتتنوع بحسب احداث الساعة، مشيرا إلى أن آخر خطبة جمعة اعطاها كانت حول حقوق الانسان، اعدها من كل من القرآن الكريم والميثاق العالمي لحقوق الإنسان. وبسبب هذه الأفكار التي ترسخت خلال الثمانين عاما الماضية، ومراقبة الدولة اللصيقة للتعليم الديني بكل أشكاله ومراحله، تكونت بين الأتراك والدين علاقة من نوع خاص. ففي المساجد التركية، يسمح للناس بالدخول للاستماع الى الخطبة او الجلوس دون ان يصلوا بالضرورة. وليس من الشائع ان ترى أي جامع في تركيا ممتلئا، الا خلال صلاة الجمعة. ومتوسط المصلين في أي جامع خلال ايام الاسبوع، من 20 الى 30 مصليا. "انا لا أصلي الا خلال رمضان، الا أنني اعتبر نفسي مسلما مؤمنا. المسلم بتصرفاته وسلوكه. اسافر دائما لاوروبا، ولدي صداقات. ولا ارى ان هذا يجعلني مسلما سيئا"، يقول محمد وهو شاب تركي يعمل بالتجارة في بازار اسطنبول لـ"الشرق الاوسط"، موضحا ان الكثير من الشباب الأتراك يمارسون حياتهم مثل الشباب في اى بلد اوروبي، "وانه كما ان هناك بعض الشباب الاوروبيين يذهبون للكنيسة مرة في الأسبوع او في الاعياد الدينية فقط، يفعل شباب أتراك نفس الشئ". والحجاب في تركيا "مناطقي" الى حد كبير، فهناك مناطق في أنقرة وأسطنبول من النادر ان ترى فيها محجبات، وهناك مناطق من النادر ان ترى فيها غير محجبات. ويقول الشيخ محسن كورتولموس امام وخطيب احد مساجد اسطنبول لـ"الشرق الأوسط": "الاسلام التركي ربما يكون اكثر مرونة في بعض القضايا. فنحن اوروبيون ايضا. والاصولية الدينية ضعيفة لدينا. عندما دخل الاتراك الإسلام، تم هذا بسرعة وبسهولة، فالكثير من مكونات الشخصية التركية تنسجم تلقائيا مع تعاليم الاسلام وروحه. الأتراك يدركون قدسية الاسلام ومكانته بدون اى ضغوط. مثلا شيعة تركيا، غير شيعة ايران. الناس لا تدخل الجوامع في تركيا لتناقش السياسة، بل لتسأل عما هو حلال وما هو حرام. والاسئلة الاكثر انتشارا هى كيف يتوضأ الانسان وكيف يصلي. أحد الأشخاص سألني اليوم عن حكم تعدد الزوجات، وقلت له ان الأصل في الإسلام هو الزواج من امرأة واحدة. ومع ان عدد المصلين ليس كبيرا جدا، الا خلال صلاة الجمعة، الا ان هناك توجها اكثر للدين. يأتي احيانا شباب وشابات صغار السن للمسجد، يجلسون للاستماع للصلاة بدون ان يصلوا، نحن لا نعترض على هذا. فالايمان ليس صلاة فقط. بل سلوك ايضا". ويضيف "من أجل مساعدة المواطنين الاتراك، فأن مديرية شؤون الدين خصصت منذ عامين خطوطا تليفونية على مدار الـ24 ساعة، يمكن ان يتصل عليها المواطنون ليسألوا حول الفتوى المتعلقة بأى موضوع، والمسؤولون عن الاجابة على أسئلة المواطنين، هم خريجو كليات دينية في تركيا تدربوا على اصدار الفتاوى وعملوا في إصدارها". هناك اهتمام متزايد بالدين في تركيا اليوم. وهذا الاهتمام المتزايد ليس مستوردا من أي مكان، بل هو تركي النكهة والمزاج. وكما ان من ملامحه تزايد الحجاب، وفوز الاسلاميين في الانتخابات، وهذا شئ عادي، فمن ملامحه ايضا رغبة التركيات في مزاحمة الرجال في مجال السلطة الدينية، وهذا ليس عاديا. هذا التوجه التركي بدأ قبل نحو 5 سنوات عندما تم تعيين 3 مفتيات في مدينة حيدر آباد جنوبي الهند في سبتمبر( ايلول) 2003. ساعتها خرجت الكثير من النساء التركيات تتساءلن: لماذا لم يحدث هذا في تركيا بعد؟ في ذلك العام 2003 عينت مساعدات للمفتي من النساء في اسطنبول اولا، ثم في أنقرة وأزمير، وهم أكثر ثلاث مدن متحررة في تركيا. هذه التعيينات تمت بعد قليل من انتخاب على بارداك اوغلو كرئيس لمديرية الشؤون الدينية في نوفمبر(تشرين الثاني) عام 2002، وبعد قليل من انتخاب حزب العدالة والتنمية لاول مرة، وتشكيله الحكومة. ويعتقد بارداك اوغلو، وهو مثقف ويعتبر نفسه اصلاحيا محافظا، ان الناس العاديين يحتاجون الى مفتين عصريين ومتنورين، وان جنس الانسان، سواء كان رجلا او امرأة ليس مهما. وقال بخصوص تعيين النساء كمفتيات:"ليس هناك في الإسلام ما يمنع النساء من ان يكن مفتيات، فالنساء دائما ما احتللن مكانة دينية هامة على مدار التاريخ الاسلامي"، موضحا ان مساعدات المفتي لهن حق اصدار فتاوى. فيما يقول انور موعزام الرئيس السابق لقسم الدارسات الاسلامية في جماعة "عثمانيا" التركية: "ليس هناك آية واحدة في القرآن الكريم، أو أي حديث نبوي يمنع النساء من ان يصبحن مفتيات". ولا يمكن القول ان هذه التحولات تمت بضغط من المجتمع المدني التركي، رغما عن الدولة. ففي الواقع ان الدولة التركية نفسها تقف وراء تعيين واعظات في المساجد ومساعدات للمفتي. فمديرية الشؤون الدينية التركية مسؤولة حصرا عن كل شؤون الدين. والموظفون الدينيون في تركيا يعتبرون موظفين مدنيين او حكوميين، يتبعون مديرية الشؤون الدينية (يطلق عليها في تركيا اختصارا اسم: ديانات)، ويبلغ عدد موظفيها 80 الف شخص، بينهم نحو 75 الف رجل، و3 آلاف سيدة فقط. وكدليل على مدى إتساع سلطات مديرية الشؤون الدينية، يكفي ذكر أنها تغطي نفقات كل المساجد التركية، داخل تركيا وخارجها، بدءا من دفع فواتير الكهرباء للمساجد التركية على الحدود مع ارمينيا مثلا، الى دفع مرتب امام برلين الذي يخدم الجالية التركية في المانيا، مرورا بتعيين مفتين وأئمة وواعظين في كل مدينة وقرية تركية. واذا كانت مساعدات المفتي يعلمن غالبا داخل مباني دوائر الإفتاء في كل انحاء تركيا، ولا يختلطن كثيرا بالناس في المساجد لمعرفة ردة الفعل الاجتماعية على دخول النساء المجال الديني بهذه القوة، فإن الواعظات الدينيات مضطرات لهذا، بل حرفيا هن معرضات يوميا لردات فعل بين سلبية وايجابية لمن يحضر دروس الوعظ الديني التي يقدمونها. اليوم يوجد في تركيا أكثر من 450 واعظة دينية، بينهن 18 في اسطنبول. وتتخرج الوعظات من الجامعات الدينية، مثل نظرائهن من الواعظين الرجال. ومرتبة واعظة اعلى من مرتبة امام في تركيا. وتجلس الواعظة وسط المسجد وحولها العشرات او المئات بحسب الحجم من الرجال والنساء، وتبدأ في الوعظ بخصوص موضوع معين. وهناك قوائم اسبوعية بالموضوعات التي سيقدم فيها واعظو المساجد موعظتهم (تحددها وزارة الشؤون الدينية)، مما يجعل الناس المهتمين بالوعظ في هذا الموضوع او ذاك يأتون خصيصا لسماع الموعظة التي تكون عادة بعد الصلاة. زليخة شاكر البالغة من العمر 27 عاما بدأت في الوعظ بعد فترة اعداد قصيرة مع امام الجامع. أما أول موضوع اعطت فيه زليخة موعظتها الدينية فكان حول دور الاباء والامهات في الضغوط النفسية التي قد يعاني منها الأطفال، وتتعدد موضوعات الوعظ الديني بين جرائم الشرف، والموزانة بين الحياة السعيدة والالتزام بالقيم الدينية، والواجبات داخل الاسرة، وقضايا اخرى عديدة. وفي دروس زليخة وغيرها من الواعظات الجدد تحرص النساء على الحضور للجامع لسماع الموعظة. وترى الكثيرات منهن ان حضور دروس الواعظات تعطيهن "فرصة للحوار"، فيما مع الواعظين من الرجال تجلس النساء فقط وتستمع للرجال دون ان يتحاورن معهم، وهذا فرق كبير. لكن الكثير من الرجال في تركيا لا يوافقون على اعطاء النساء ذلك الدور في المجال الديني، ويرون ان عمل النساء في الوعظ والفتوى يصيب المجتمع بالالتباس، فالناس لم تعتد بعد على ان تدخل المسجد لتجد امراة في الصدارة تعطي وعظا دينيا، والكثير من الرجال الاتراك ما زال يردد عبارة:"للنساء أدوارهن التي ميزها الله عن ادوار الرجال". وتعترف زليخة ان عملها كواعظة ليس امرا سهلا، وأنها تتعرض للتحامل ضدها بسبب الصورة الذهنية الثابتة عن علاقة النساء بالسلطة الدينية. وأشتكت مرة في تصريحات نقلتها وسائل الاعلام التركية "عندما يأتي الائمة الى المسجد الذي عينت فيه، بعضهم يرحب بي. لكن اغلبهم يهرع هاربا بعد الصلاة قبل ان آتي لانهم لا يريدون مقابلتي. حتى داخل مقر دار الافتاء في اسطنبول، بالرغم من ان المفتي متنور جدا، إلا ان هناك من ما زال يتحاشى اى تواصل معي. بعضهم ينظرون الى الكمبيوتر او الى السقف او الى اقدامهم، لانهم لا يستطيعون تحمل فكرة وجود امراة بسلطة دينية مثل الرجال". وتابعت "اتطلع للمستقبل الذي سيتم فيه تغيير هذه النظرة". ولا تقتصر الصعوبات على نظرة الرجال، فهناك الكثير من التركيات لا ترحبن بالمفتيات النساء او بالواعظات النساء. وتقول زليخة:"الكثير من النساء يقلن ليس في الاسلام أئمة نساء، الرسول لم يعين ائمة نساء في عهده". والى جانب تعيين مساعدات للمفتي وواعظات، بدأت النساء تأخذن نصيبهن من تدريس القرآن الكريم. ففي دار الإفتاء في أسطنبول هناك 583 سيدة يقمن بتعليم القرآن الكريم في الدروس القرآنية التي تشرف عليها وتنظمها دار الإفتاء. لكن المثير ايضا ان اعداد النساء اللواتي يدرسن في الاقسام الاسلامية بالكليات او في الجامعات الاسلامية في تركيا في تزايد مضطرد، واليوم تشكل الطالبات الاغلبية في عدد من الاقسام الدينية بالجامعات الاسلامية. رغبة النساء في المشاركة في المجال الديني والصعوبات التي تعترض هذا فتحت نقاشا داخل المجتمع التركي ليس فقط حول الإسلام وما ينص عليه، ولكن ايضا حول النظرة الاجتماعية للنساء ودورهن في المجتمع. ويرى مفتي اسطنبول ان "النساء دائما ما عوملن كمواطنات من الدرجة الثانية. ليس فقط في الشرق، بل في الغرب ايضا. لكن هناك اشكالا متباينة من التمييز ضد النساء، تختلف باختلاف ثقافة المجتمعات.. انا مدافع متحمس للدفاع عن حقوق النساء". ويريد مفتي أسطنبول ان يفعل المزيد خصوصا، وان هناك الكثير من المنظمات النسائية في تركيا لا ترى ان الخطوات التي اتخذت تكفي، ويصفونها بأنها مجرد إستعراض. رجال الدين في تركيا ليسوا احرارا تماما، فهم في النهاية موظفون في الحكومة، وغير مسموح لهم ان يصدروا فتاوى تخالف القوانين التركية، او يصرحوا بتصريحات تتعارض مع القوانين، فمثلا اذا سألت أحد رجال الدين او الائمة او المفتين الاتراك حول الحجاب، وما اذا كان اختياريا ام اجباريا لن تحصل على أي اجابة. واذا سألت حول شرعية تعدد الزوجات سيرد عليك الكثيرون: "اسأل المفتي أو مديرية الشؤون الدينية".


 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة الخامسة) ـ الإسلام في تركيا بين العباءة.. والبدلة

مفتي اسطنبول لـ«الشرق الأوسط»: فتاوى الجهاد لا يمكن أن تصدر عندنا.. وما يسمى بالجهاد في العراق حرام


منطقة الجامع الأزرق قلب للنشاطات الدينية والسياسية في اسطنبول (« الشرق الأوسط»)


مفتى اسطنبول د. مصطفى شاغريجي

اسطنبول: منال لطفي
يضع كل الأتراك في مكاتبهم الحكومية صورة لمؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، غالبا ما تكون صورته على صهوة جواده، او صورته في مكتبه وخلفه العلم التركي وعلى رأسه قبعته الشهيرة. لكن مفتى اسطنبول مصطفى شاغريجي يضع صورتين لأتاتورك في مكتبه وليس صورة واحدة. صورته بالقبعة الغربية، وصورة اخرى نادرا ما تجدها في أي مكتب حكومي آخر، وهي صورة أتاتورك بالبدلة وربطة العنق وسط عدد من رجال الدين الأتراك بملابسهم التقليدية، أي العباءة والعمامة، بعد اعلان قيام الجمهورية العلمانية التركية. أتاتورك، كما يراه مفتي اسطنبول «مسلم مؤمن علماني» وليس بين هذه الصفات أي تناقض. مفتي اسطنبول بدوره ليس بعيدا عن هذه المعادلة، فهو دكتور وأستاذ اكاديمي جامعي قبل ان يعين مفتيا لاسطنبول. وحتى بعد تعيينه ظل حبه للحياة الاكاديمية عميقا فلم يهجرها على الرغم من المشاغل العديدة التي يفرضها عليه منصبه، الذي يمارسه بملابس الجامعة أي بالبدلة وربطة العنق، وليس بالعباءة او العمامة. مفتي اسطنبول رجل منفتح على الكثير من الثقافات، التركية والاسلامية والاوروبية والآسيوية، وهو يعتقد ان الخلافات بين العالم الإسلامي والغرب يمكن ان تحل بالحوار وببذل جهد لتقريب وجهات النظر وإزالة المسائل الخلافية. وهو عمليا فعل هذا عندما نشبت أزمة تصريحات بابا الفاتيكان البابا بنديكتوس السادس عشر بجامعة ألمانية في سبتمبر (أيلول) 2006 عندما أعتمد البابا على نص يعود الى القرن الرابع عشر لربط الاسلام بالعنف، اذ بعدها قام البابا، باقتراح من المسؤولين الاتراك، بزيارة مسجد السلطان أحمد المعروف بالمسجد الأزرق. ولّى البابا وجهه نحو مكة المكرمة خلال الصلاة خلف مفتي اسطنبول. ومع ان بعض المستاءين آنذاك من تصريحات البابا لم يجدوا هذا كافيا، الا ان آخرين قالوا ان الحركة الرمزية تعني اعتذارا عمليا.
يتمتع مفتي اسطنبول باحترام بالغ بين الأتراك، الا ان النساء هن أكثر المتحمسات لطريقته في العمل والادارة. فخلال سنوات ولايته مسؤولية الإفتاء في اسطنبول سمح للمئات من النساء بالعمل في الوعظ الديني والإفتاء ليس فقط في شؤون النساء، بل في كل شؤون الدين. تحدث مفتي اسطنبول لـ«الشرق الأوسط» عن خصوصية الاسلام التركي، موضحا ان فتاوى الجهاد لا يمكن ان تصدر في تركيا، معبرا عن اعتقاده ان الجهاد في العراق حرام «لان من يدفع ثمن هذه الممارسات هم العراقيون والاسلام، ان هذه الممارسات ذنب يرتكبه البعض بحق الاسلام». كما أشار الى ان المشاكل والصراعات اليومية في العالم العربي «لم تمكن العرب من تحليل معنى الاسلام». وقال مفتي اسطنبول ان مشكلة العالم الاسلامي هي في غياب الديمقراطية، موضحا انه «اذا فتح العالم الإسلامي أبوابه للديمقراطية والحرية سيجد ان مشاكله ستحل بطرفة عين». كما شدد على ان أحد الأسباب وراء خصوصية الإسلام التركي هي انفتاح تركيا على الغرب قبل نحو 3 قرون وأكثر، مشيرا الى ان هذا الانفتاح جعل «الآخر» ليس عدوا. وهنا نص الحوار مع مفتي اسطنبول الذي أجرته «الشرق الأوسط» في مكتبه بدار الإفتاء في اسطنبول:

* دائما ما يتحدث الأتراك عن خصوصية تميز تجربتهم عن باقي تجارب المنطقة. في رأيك ما الذي يجعل للاسلام التركي الخصوصية التي يتمتع بها عن باقي دول المنطقة؟ ـ تركيا في فترة التحديث كانت من اوائل الدول في الشرق الاوسط التي بدأت علاقات مع الغرب منذ وقت مبكر جدا وبطريقة مكثفة جدا. اقامت تركيا علاقاتها مع الدول الغربية على اسس الديمقراطية والعلمانية. وهذا يجعل تركيا مختلفة عن باقي البلاد الاسلامية، فتركيا ما زالت متواصلة مع ماضيها وقيمها ولكنها في نفس الوقت تعيش على قيم العصر والحداثة. المجتمع التركي اصبح اكثر محافظة خلال السنوات الأخيرة. ونتائج الانتخابات الاخيرة دليل واضح على ان المجتمع اصبح اكثر محافظة. لكن هناك شيئا آخر وهو ان تركيا تقع بين العالم الاسلامي والعالم الغربي، وهي تقيم علاقات بين الطرفين بطريقة صحية ومثمرة وفعالة. كما ان تركيا بالرغم من بعض مشاكلها الداخلية، الا انها تحمي ثقافتها وفهمها للاسلام، وهناك نقاش ديمقراطي صحي حول الاسلام والتحديث والثقافة.

* قلتم ان المجتمع التركي اصبح اكثر محافظة خلال السنوات الاخيرة، فهل كنتم تشيرون الى نتائج الانتخابات الاخيرة وتصويت الشعب لصالح حزب ذي خلفية اسلامية، ام تشيرون الى ظواهر اجتماعية مثل انتشار الحجاب مثلا؟ ـ هناك الكثير من المؤشرات من بينها التصويت لحزب العدالة والتنمية، وانتشار الحجاب. بوصفي مفتي اسطنبول وأستاذا اكاديميا في كلية العلوم الدينية استطيع ان اقول ان الاهتمام بالتعليم الديني في تركيا في ازدياد، ودروس تعليم القرآن الكريم في فصول خاصة تزايدت في الصيف، كما يتزايد عدد الراغبين في الانضمام اليها كل عام. عندما نرى من يمول ويدعم هذه الدروس القرآنية، نجد انهم رجال اعمال عصريون مثقفون، يعيشون بشكل عصري ومنخرطون في عالم اليوم. فالاسلام في تركيا اخذ الطابع التركي منذ اصبحت تركيا دولة اسلامية. وكما قادت تركيا العالم الاسلامي منذ القرن الثامن حتى القرن العشرين، كانت لها ايضا اسهاماتها الثقافية. نحن حريصون جدا على الاسلام. هناك نحو 500 مدرسة ثانوية دينية تسمى «مدارس الائمة والخطباء» لا تدرس فقط مواد دينية، بل اجتماعية وثقافية، وهي تتبع لوزارة المعارف (التعليم) في الدولة التركية، وهناك 23 كلية للعلوم الدينية تدرس كل علوم الدين. وفي هذه المدارس والكليات تقدم المعرفة الصحيحة حول الاسلام، وبالتالي تسهل على الاتراك التمسك بالقيم العصرية بطريقة سلمية.

* هل تقول ان المجتمع بات اكثر محافظة او تدينا؟ ـ الاصح هو ان المجتمع بات اكثر تدينا، لكن التدين يعني ايضا سلوكيات اجتماعية اكثر محافظة.

* للتصوف مكانة خاصة في التدين التركي. أليس كذلك؟ ـ للتصوف مكان خاص لفهم الاسلام في تركيا. لكن في القرن التاسع عشر تشوه معنى التصوف في تركيا وفي العالم الاسلامي، وكانت ممارسات التصوف لها تأثير سلبي على المجتمع التركي. ومع ان الدولة التركية ألغت الطرق الصوفية بموجب القانون، الا انه في الواقع ظلت الطرق الصوفية موجودة، وحاضرة لكن ولانه لدينا في تركيا تعليم ديني صحي، وهو يزدهر تم التخلص من الجوانب السلبية في الصوفية.

* ما هي الجوانب السلبية الصوفية التي تتحدث عنها؟

ـ في وقت من الاوقات ادت الصوفية الى تراخ وأهمال من جانب الشعب التركي، لم تعد الناس تهتم بشيء، لا بأعمالها أو شؤونها. بطريقة أخرى عطل الفهم الشائع للصوفية في ذلك الوقت الاتراك عن الانشغال بالشأن العام. لكن في تركيا اليوم لدينا مؤسسات دينية تتبنى المفاهيم الحديثة، والطرق الصوفية من بينها. لدى الكثير من الطرق الصوفية مؤسسات حديثة ورأسمال ضخم. أصبح للصوفية مفهوم حديث في تركيا، وهذا هو الشيء الصحيح. الطرق الصوفية مثل النقشبندية والمولوية والقادرية، جماعات تعيش في هذا العصر ولديهم اهتمامات سياسية واجتماعية وثقافية، بدون ان يتجاهلوا القيم الاسلامية الصوفية. كما انهم اقوياء ولهم تأثير في المجتمع التركي، ويقدموا خدمات للناس والمجتمع. تضم الطرق الصوفية الكثير من رجال الاعمال، وهم يقومون بمساعدتها ماليا.

* ما هي قواعد وجهة اصدار الفتوى في تركيا؟ ـ مديرية الشؤون الدينية هي الجهة المسؤولة عن إصدار الفتاوى، لكن الائمة المؤهلين ايضا بإمكانهم اصدار فتاوى. فالفتاوى في النهاية شأن مدني، وليس قانونيا او رسميا. بمعنى آخر لان الفتوى شأن مدني، وليست قانونا او لها فعل القانون، فهي تصدر عن الجهة التي خولها القانون التركي اصدار الفتاوى وهي مديرية الشؤون الدينية، لكن الائمة المؤهلين بإمكانهم ايضا اصدار الفتاوى. فمثلا اذا كان شخص يريد فتوى دينية في مسألة ما، ويعرف ان رجل الدين او امام الجامع القريب منه على علم ديني كاف، يمكنه ان يذهب اليه ويطلب منه فتوى دينية. هناك كذلك مراكز دينية بها دعاة وداعيات يصدرون فتاوى، يذهب الناس ويسألونهم وإذا لم يعرفوا الاجابة، يمكنهم الاتصال بدار الفتوى في اسطنبول.

* هل لديكم مفتيات نساء؟

ـ طبعا لدينا. وهن لا يفتين في شؤون النساء فقط، بل في كل الشؤون الدينية. لدينا في اسطنبول 40 مفتية دينية، يقمن بتعريف الاتراك بدينهم. وأكثر من 400 مدرس لتعليم القرآن الكريم، و1000 مدرس في هذه الدروس القرآنية.

* الفتوى كما قلت شأن مدني وليس رسميا ويمكن للائمة في اى جامع اصدار فتاوى، فكيف تتصرفون حيال الفتاوى التي يمكن ان يطلقها بعض رجال الدين وتحض على الجهاد مثلا؟ ـ اولا مثل هذه الفتاوى لا يمكن ان تصدر في تركيا. هناك حالات هامشية جدا. أنهم قلة نادرة مثلما هو الحال في بريطانيا او اميركا مثلا. تركيا ليست باكستان. لكن الاتراك عموما من اكثر الناس الذين عارضوا حرب العراق، وعبروا عن معارضتهم لهذه الحرب غير الشرعية بطريقة سلمية، فالدم لا يجب ان يمحى بالدم، بل بالماء، بإنهاء الهيمنة الغربية، وجلب السلم للعالم الاسلامي يجب ان يتم باستعمال الطرق السلمية، وليس بالعنف. دائما ما اقول لكل زائري من الدول الغربية: ما الذي تتوقعونه من العالم الاسلامي المحاصر بدائرة من الدول الغربية، بالمعنى العسكري والسياسي والاقتصادي؟ انهم مغلوبون على أمرهم ومضطهدون من الغرب. ما الذي تتوقعونه غير الحرب والعنف؟ إدانة العنف شيء، وتحليل العنف شيء آخر. فكل ما يقوم به الغرب هو إدانة العنف، وليس تحليله، وبالتالي لا يستطيعون التوصل الى حل فعال لهذا الداء.

* كيف ترى الاستشهاد والجهاد في العراق من وجهة نظرك كمفتي اسطنبول؟ ـ حرام

* لماذا؟ ـ من الصعب الاجابة على هذا السؤال. فالشخص الذي يقوم بهذا العمل يواجه الله وحده، وهو من يتخذ القرار بشأن ما اذا كان عملا صحيحا ام لا.

* لكن وجهة نظركم الشخصية هو حرام؟ ـ لا أعتقد أنه حلال.

* لماذا؟ ـ لان من يدفع ثمن هذه الممارسات هم العراقيون والإسلام، ان هذه الممارسات ذنب يرتكبه البعض بحق الاسلام، لهذا لا اعتقد انه حلال. العالم الاسلامي غني اليوم، فهل هذه الاموال تستخدم من اجل المستقبل؟ من اجل بناء الثقافة؟ ليس في كل العالم الاسلامي جامعة مثل هارفارد، نسبة مساهمة العالم الاسلامي في الاختراعات الحديثة صفر. العالم الاسلامي دائما ما يضع اللوم على الآخرين، ويصور نفسه ضحية بريئة. هذه احد اوجه مشاكلنا.

* كم جامع في تركيا؟ ـ اكثر من 80 الف جامع.

* وما هي اكثر القضايا التي يسأل فيها الاتراك رجال الدين؟ ـ متء ستصلون لنزول المطر (يضحك)، كذلك اسئلة حول فقه الزواج والطلاق. ومسائل الحياة اليومية. عدد الاتراك الذين يذهبون للمساجد في تزايد، في اسطنبول مثلا لدينا 3 آلاف مسجد، وبصدد بناء 350 مسجدا جديدا لتلبية الأعداد المتزايدة.

* في رأيك لماذا تتزايد الميول الدينية في تركيا؟ ـ أعتقد أن السبب هو في الطريقة التي يدرس بها الدين في تركيا، وهي طريقة حديثة متنورة، تجعل الناس تشعر أنه يمكن للإنسان أن يكون متدينا ومرتبطا بالعصر في الوقت ذاته. بهذا المعنى تركيا مثل الولايات المتحدة الاميركية، فعندما تتزايد الأزمات في اميركا يفكر الناس في أن الحل هو الدين. كذلك تركيا، عندما تشتد الازمات الداخلية او الاقليمية يتجه الناس للقيم الدينية التي تحمل كذلك معان اخلاقية وقيمية عالية، ويرون ان الحل فيها. معظم النساء غير المحجبات يصلين 5 مرات في اليوم، فبحسب التعليم الديني لدينا، الدين ليس مسألة شكلية، بل قيم وسلوك وأخلاقيات، وهذا هو فهم الاتراك للاسلام. هناك صراع في تركيا بخصوص الدين، لكنه ليس بين من يريدون الدين ومن لا يريدون الدين، فالحقيقة انه في تركيا من لا يريدون الدين نسبة ضئيلة جدا. انما الصراع بين من يرون ان الدين يجب ان يظهر في الممارسات والسلوكيات والقيم الفردية، وبين من يرون ان الدين يجب ان يظهر في الشكل الظاهري ايضا مثل الحجاب او إطلاق اللحية او غير ذلك من الشكليات.

* ما هو الفرق بين الاسلام في تركيا والاسلام في العالم العربي من وجهة نظرك؟ ـ اعتقد للاسف انه بسبب الصراعات والمشاكل اليومية في العالم العربي، فأن العرب لم يتمكنوا من تحليل معنى الاسلام. هذا هو الوضع عموما في العالم العربي والإسلامي. فالمعني الحقيقي للجهاد هو الاسراع بوتيرة التقدم. الدين به شقان، لا يعمل أحدهما بدون الآخر، الايمان بالقلب، وتثقيف العقل. الدين الإسلامي دائما مسارا وليس مساراً واحداً. إذا كان قلبك مؤمنا وعقلك متيقظا، فإن هذا هو معني الجهاد. اى جهاد العقل والمعرفة والإيمان، هذا هو الجهاد الاكبر. لكن النبي محمد صلى الله عليه وسلم عربي، ولد وعاش في المنطقة العربية التي لها ماض عظيم، هذا الماضي العظيم سيساعد المنطقة على صياغة المستقبل. أعتقد أن مستقبل العالم العربي سيكون عظيما ومبشرا بالخير خلال الخمسين او المائة عام المقبلة.

* البعض في العالم العربي ينظر الى النموذج التركي بوصفه نموذجا يمكن الاستفادة منه في العالم العربي.. هل تعتقد ان النموذج التركي صالح للإستيراد العربي؟ ـ تعبير استيراد ليس تعبيرا ملائما. المطلوب من المجتمعين العربي والتركي ان يعمقا الحوار بينهما حول القيم المشتركة. يمكن ان يفيدا بعضهما البعض، فليس هناك طرف أفضل من الطرف الآخر، أهم شيء هو تعميق التجربة الديمقراطية. هناك مقولة جميلة للفارابي تقول: الدولة التي يحكمها الفلاسفة مثالية، لكن الدولة التي تحكمها الديمقراطية أفضل. فالدولة الديمقراطية افضل حالا من غيرها، لان هناك حرية في النظام الديمقراطي. إذا فتح العالم الاسلامي أبوابه للديمقراطية والحرية سيجد ان مشاكله ستحل بطرفة عين.

* غدا : حركة فتح الله كولن.. وتأثيرها



التعليــقــــات
ساالم التقي، «فرنسا ميتروبولتان»، 24/10/2007
ان من نعم الله على الانسان ميله الفطري الى التنوع ومملله من الرتابة والركود. واعضم رزية حلت بالمسلمين حينما اطمأنوا_وبسذاجة _(للولاة والامراء) ولعديمي الاختصاص او قليله في فهمهم الاسلام العظيم والزام الذهنية المسلمة بهذا الفهم النفعي والسطحي لقيم الدين العظيم .
ان الدين الحق هو دين الله وليس الدين العربي او الدين التركي او الدين الايراني او دين السلف اودين الخلف فهو شرع سواء لكل عيال الله دون احتكار من عرق او جيل فمرحبا لكل فهم سليم لمباني الدين ومقاصده الانسانية الرفيعة وكل فهم للدين من غير الرسول (ص) بالأصل واهل بيته(ع) بالتبع هو موقف بشري من هذا الدين بكل ما تعني (البشري ) من عدم كمال وتاثر بالزمان والمكان فعين الباطل ان نتعصب لفهم بشر قاصر بطبعه ونعتبره (الحقيقة المطلقة) فاهلا بكل محاولة لفهم الدين وتكون قابلة للنصح والتقويم.

 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان(الحلقة السادسة) ـ الرجل الذي يحبه أتراك... ويخافه أتراك

حركة فتح الله كولن العمود الفقري للاسلام الاجتماعي في تركيا.. لكن البعض متوجس من تأثيرها


كولن الأب الروحي للإسلام الاجتماعي في تركيا («الشرق الأوسط»)

أسطنبول: منال لطفي
على عكس نجم الدين اربكان الذي يعد أبو الإسلام السياسي في تركيا، فإن فتح الله كولن هو أبو الاسلام الاجتماعي. فهو مؤسس وزعيم "حركة كولن"، وهى حركة دينية تمتلك مئات المدارس في تركيا، ومئات المدارس الدينية خارج تركيا، بدءا من جمهوريات أسيا الوسطى، وروسيا وحتى المغرب وكينيا واوغندا، مرورا بالبلقان والقوقاز. كما تملك الحركة صحفها ومجلاتها وتلفزيوناتها الخاصة، وشركات خاصة وأعمال تجارية ومؤسسات خيرية. ولا يقتصر نشاط الحركة على ذلك بل يمتد الى إقامة مراكز ثقافية خاصة بها في عدد كبير من دول العالم، وإقامة مؤتمرات سنوية في بريطانيا والاتحاد الاوروبي واميركا، بالتعاون مع كبريات الجامعات العالمية من اجل دراسة الحركة وتأثيرها وجذورها الثقافية والاجتماعية.
ما تتميز به «حركة كولن» عن باقي الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم هو أنها غالبا تلقى ترحيبا كبيرا من الغرب. اذ تعتبر هي "النموذج" الذي ينبغي ان يحتذى به بسبب "انفتاحها" على العالم، وخطابها الفكري. فمثلا اذا كان اربكان يرى اميركا عدوا للعالم الاسلامي بسبب تحكم "الصهيونية العالمية" في صنع القرار فيها، فإن كولن يرى ان اميركا والغرب عموما قوى عالمية لابد من التعاون معها. واذا كان اربكان يرى ضرورة الوحدة بين العالم الاسلامي، وهي الافكار التي بلورها عمليا في تأسيسه مجموعة الثماني الاسلامية، فإن كولن لا ينظر إلى العالم العربي وإيران بوصفهما المجال الحيوي لتركيا، بل يعتبر القوقاز وجمهوريات اسيا الوسطى والبلقان هم المجال الحيوي لتركيا، فهذه البلدان تضم اقليات تركية هامة، وهو يرى انه إذا كان لتركيا يوما ما ان تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال الدولة العثمانية، فلابد من نفوذ قوي لها وسط الاتراك في كل مكان في العالم. لكن كولن من البراغماتية والذكاء بحيث لا يستخدم تعبير "القيادة التركية" في المنطقة، كما لا يدعو الى استقلال الاقليات التركية في وسط اسيا، ولا تمارس جماعته انشطة تعليمية في البلاد التى يمكن ان تتعرض فيها الاقلية التركية لمشاكل من قبل النظم الحاكمة مثل الصين وروسيا واليونان.

وأول ما يلفت النظر في كولن هو أنه لا يفضل تطبيق الشريعة في تركيا، ويقول في هذا الصدد ان الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الاقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشؤونها، وانه لا داعي لتطبيق احكام الشريعة في الشأن العام. ووفقا لهذا يعتقد كولن ان الديمقراطية هي افضل حل، ولهذا يكن عداء للانظمة الشمولية في العالم الاسلامي. ومع ان اربكان ينظر اليه بوصفه استاذ رئيس الوزراء التركي رجب طيب اروغان، الا ان تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم تشير الى ان كولن هو أستاذ اردوغان الحقيقي.

عندما تتحدث مع الأتراك سواء علمانيين او اسلاميين غالبا ما سيأتي ذكر "حركة كولن". فجوتشكه غل وهى شابة تركية كانت تشتكي من صعوبات الحصول على عمل جيد بعد التخرج من الجامعة قالت لـ"الشرق الاوسط": "اذا كان لك صلة بحركة كولن او عملت معها او تطوعت في احد انشطتها.. تتفتح لك الطرق في تركيا، وتحصل على أفضل الوظائف". شريف ماردين المفكر والاكاديمي التركي قال لـ"الشرق الأوسط": أنه غير قادر على التنبؤ بما تريده الحركة فعلا، موضحا ان الزمن وحده يحمل الجواب. وبرغم تعدد انشطتها وعملها في الشأن العام، ما زالت الحركة غامضة في نظر البعض، وتثير الكثير من الألتباس بين الأتراك وغيرهم، خصوصا فيما يتعلق بنواياها بعيدة المدى. أزدهرت حركة فتح الله كولن في إطار انتعاش الحركات والطرق الدينية في تركيا في الثمانينيات من القرن الماضي. فبعد الانقلاب العسكري بقيادة كنعان افرين عام 1980، والقرارت التي اتخذتها الحكومة العسكرية والمتعلقة بتحرير الاقتصاد وخصخصة الاعلام واتاحة حرية عمل اكبر، للمنظمات المدنية بما في ذلك الجماعات الدينية، بدأت الطرق الدينية في الإزدهار ومنها "طريقة النور" التي أسسها الصوفي التركي سعيد النورسي (1873- 1960) والتي خرجت منها وتأثرت بها لاحقا حركة كولن. وجوهر فلسفتها ايجاد مجتمع اسلامي ملتزم، لكن في الوقت نفسه متلهف للمعرفة والتكنولوجيا الحديثة والتقدم لإنهاء تقدم العالم الغربي على العالم الاسلامي. واليوم يقترن اسم فتح الله كولن بمصطلح الاسلام التركي المتنور او المعتدل، اذ حاول فتح الله كولن مع مؤيديه تأسيس حركة دينية سياسية اجتماعية حديثة تمزج الحداثة، بالتدين بالقومية بالتسامح بالديمقراطية. ووضع الاسلام والقومية والليبرالية في بوتقة واحدة. وكتبت الكثير من الدوريات الغربية عن كولن تصوره كزعيم حركة اجتماعية اسلامية قومية غير معاد للغرب، ووجه المستقبل للاسلام الإجتماعي في الشرق الاوسط، لكن معارضيه يقولون عنه انه الخطر الحقيقي على العلمانية التركية، ويتهمونه بمحاولة تقويض العلمانية التركية عبر اسلمة الممارسات الاجتماعية للاتراك. وتقول ميروى بيتيك جوربوز من حزب الشعب الجمهوري العلماني في تركيا ان حركة كولن تستغل امتداداتها في المجتمع من اجل تحقيق أهداف سياسية في المستقبل، موضحة أن مريدي الحركة مثل الكثير من مريدي الطرق الدينية في تركيا يصوتون بشكل جماعي غالبا لصالح الحزب الذي يتفقون عليه، بل ان النساء من مريدات الحركة يرتدين الحجاب بطريقة مختلقة عن المحجبات العاديات:"اذا ذهب شخص الى مناطق معينة في تركيا، سيجد محجبات يرتدين الحجاب الذي ينتهي على شكل نصف هلال من الامام والخلف، فيما اخريات يلبسن حجابا ينتهي بمثلث من الامام والخلف. هذه الحركات لها أهداف اكثر من مجرد الاهداف التعليمية والتثقيفية او هذا ما أعتقده الى ان يثبت العكس"، قالت ميروى بيتيك جوربوز لـ"الشرق الأوسط". لكن قاسم مصطفى قاسم وهو شاب تركي ناشط في حركة كولن، يدرس في جامعة برمنجهام البريطانية ينفي هذا ويوضح لـ"الشرق الأوسط": "من المستحيل ان تكون لدينا أهداف سياسية، أو اجندة خفية كما يدعي البعض دون اى دليل. اهدافنا تعليمية تربوية محضة. في تركيا حوكم فتح الله كولن مرات بتهمة وجود اجندة خفية لاسلمة المجتمع التركي، لكن حكم عليه بالبراءة في كل مرة لان هذه محض ادعاءات". امتداد "حركة كولن" حول العالم كبير وشبكة علاقاتها هائلة. فهي تمتلك نحو 300 مدرسة داخل تركيا، و200 مدرسة اخرى حول العالم، من تنزانيا الى الصين، ومن تركمنستان الى المغرب ومصر والفلبين. لكن اغلب هذه المدارس يقع في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق التي يشكل فيها العرق التركي اغلبية. اما النموذج الفلسفي والفكري الذي يقدمه كولن عبر مدارسه فهو يتركب من عدة عناصر:" الميراث العثماني، والميراث العلماني، واقتصاد السوق، والديمقراطية". ويقول المحلل التركي ساهين الباى:"الملاحظ هو ان خريجي هذه المدارس (مدارس كولن)، يتخرجون ليشغلوا مناصب عالية في مجالات الحياة التي يتخصصون فيها في جمهوريات اسيا الوسطى..من البلقان حتى الصين، يريد كولن ان ترى النخب في هذه البلدان تركيا نموذجا لها".

اما مئات المدارس التي تتبع حركة كولن داخل تركيا، فتخضع للاشراف من قبل السلطات التركية، وهي وان كانت تتشابه مع باقي المدارس التركية في المناهج، وفي فترات الدوام، الا انها تركز اكثر على الاخلاقيات العامة، والدين، وأساتذتها من خريجي أفضل الجامعات التركية. ولا تجد هذه المدارس مشكلة في التمويل، فرجال الاعمال الاتراك والمهتمون يقومون بتمويلها، وهي تتمتع بسمعة تعليمية ممتازة، وتضم طلبة مسلمين وغير مسلمين، ولغة التعليم الاولى فيها هي الانجليزية، وهي تجتذب ابناء النخبة وكبار المسؤولين. لكن كولن يشدد دائما على انه لا يمتلك هذه المدارس "تعبت من القول انني لا امتلك أي مدارس"، في اشارة الى انها جزء من نشاطات حركته وليست مملوكة بشكل شخصي له. وهدف حركة فتح الله كولن من فتح مدارس في اسيا الوسطى هو نشر الثقافة التركية وقيم الإسلام. ويقول مصطفى قاسم في هذا الصدد لـ"الشرق الأوسط":"نعم لدينا مدارس في وسط اسيا وروسيا والبلقان والقوقاز وشمال المغرب ولدينا مراكز ثقافية في الكثير من دول العالم، منها اسيا واوروبا والاردن ومصر والسعودية، ولا تسمى هذه المراكز الثقافية بمراكز كولن، بل تسمى بأسماء محلية او شخصيات اسلامية بارزة. لكن اهدافنا واضحة وهي تعليم قيم الاسلام والثقافة التركية. لكن لا شئ اجباريا. ففي مدارسنا يتعلم الطلاب بثلاث لغات. اللغة الانجليزية ولغة البلد الموجودة فيه المدرسة، ولغة ثالثة اختيارية، واللغة التركية من بين اللغات الاختيارية". ويشير مصطفى قاسم الى ان مدارس حركة كولن تأخذ مصروفات دراسية، وتعطي منحا فقط للطلبة المتفوقين.

وبسبب الاهتمام الذي يوليه كولن للقومية التركية حول العالم، اسس مع 16 اخرين، بنكا استثماريا هو "اسيا فاينناس" وهو بنك لا يهدف للربح، والمقترض لا يدفع نسبة فائدة، وهدف هذا البنك، الذي يبلغ رأس ماله 125 مليون دولار، تشجيع الاستثمارات الاجنبية لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. ولكن ولان السلطات في جمهوريات اسيا الوسطى الاسلامية لا تتسامح ازاء أي تنظيمات او حركات تستغل الاسلام لدواع سياسية، تعمل مدارس ومنظمات كولن بالكثير من الحذر وتراعي عدم اثارة الحساسيات الدينية او السياسية. ويقول مصطفى قاسم:"تعم احيانا تكون لدينا خلافات مع السلطات المحلية في هذا البلد او ذاك. لكننا نعمل في اطار القوانين المحلية لكل بلد، ونحترم هذا". وبالرغم من اصرار الحركة على ان هدف انشطتها مدني تربوي محض، الا ان سينان تافشان، وهو صحافي تركي يعمل مراسلا لصحيفة "نيكاى" اليابانية قال لـ"الشرق الاوسط" ان السبب الحقيقي وراء خروج كولن من تركيا وأستقراره في اميركا هو شريط فيديو له تحدث فيه لانصاره عن التحرك ببطء لتغيير طبيعة النظام التركي. ويقول سنان ان شريط الفيديو الذي وضع على موقع "يوتيوب" اثار في تركيا جدلا كبيرا وشدد الخناق على تحركات كولن.

وليس هناك سبب علني رسمي لأسباب مغادرة كولن تركيا الى اميركا. لكن متاعب كولن مع السلطات التركية بدأت في 18 يونيو(حزيران) عام 1999 عندما تحدث في التلفزيون التركي، وقال كلاما أعتبره البعض انتقادا ضمنيا لمؤسسات الدولة التركية. وبعد ذلك بدأ المدعي العام للدولة تحقيقا في تصريحات كولن، وساعتها تدخل رئيس الوزراء التركي انذاك بولنت اجاويد ودعا الدولة الى معالجة الامر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية التركية، كما دافع عن كولن وعن مؤسساته التعليمية وقال: "مدارسه تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرف تركيا بالعالم. مدارسه تخضع لإشراف متواصل من السلطات". بعد ذلك اعتذر كولن علانية عن تصريحاته، الا ان بعض العلمانيين ظلوا متشككين في أهدافه، ولاحقا وجهت له اتهامات بمحاولة تحقيق مكاسب سياسية على حساب مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش. وبعد أسبوع من بث البرنامج ارسل الرئيس التركي سليمان ديميريل تحذيرا الى كولن قال له فيه :"اعتقد ان رجل الدين لا ينبغي ان تكون له اطماع سياسية. ان تكون رجل دين هذا بحد ذاته شئ صعب، لكن ان تكون رجل دين محترما يلزم ان تسير حسب تعاليم ديننا.. هذا يمكن ان يحدث بإعطاء نصيحة جيدة للانسانية وليس بالانخراط في الشؤون الدنيوية". بعد تلك الأزمة حدثت ازمة لقطة الفيديو الشهيرة التي بثت على "اليوتيوب" وظهر فيها كولن وهو يقول لعدد من أنصاره أنه سيتحرك ببطء من اجل تغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني الى نظام اسلامي، كما تحدث عن نشر الثقافة التركية في أوزبكستان، مما اثار موجه غضب في الجيش التركي وباقي المؤسسات العلمانية في البلاد. كما أدى الى أزمة دبلوماسية بين تركيا وأوزبكستان دفعت بولنت اجاديد للتدخل مجددا في محاولة لحلها. وقال اجاويد:"الرئيس الاوزبكستاني لديه مخاوف غير مبررة تتعلق بتركيا. تركيا لا تتدخل في الشؤون الداخلية لاوزبكستان. لا يمكن ان نسمح بالاساءة الى العلاقات بين البلدين بسبب مخاوف غير ضرورية". لكن اوزبكستان قررت اغلاق عدد من المدارس التابعة لكولن. ويبدو انه خلال هذا الوقت كانت المؤسسة العلمانية في تركيا بدأت هى ايضا تستشعر قلقا متزايدا من كولن ومؤسساته التعليمية، فأصدرت هيئة التعليم العالي في تركيا قرارا يقضي بعدم الاعتراف بالشهادات العلمية التي تعطيها مدارس كولن، لكن هذا القرار كان مؤقتا.

وأعتذر كولن عن الحديث لـ"الشرق الأوسط" حول نشاطات حركته اليوم، موضحا انه بسبب تلقيه العلاج في اميركا، والاوضاع في تركيا لا يريد ان تصدر منه تصريحات يمكن ان يساء فهمها. واليوم يتمتع كولن بعلاقات ممتازة مع الكثير من السياسيين الأتراك، فمنذ عام 1994 التقى رؤساء اتراك ورؤساء وزراء اتراك، وكل قادة الاحزاب السياسية، ورجال اعمال نافذين. كما اجرت معه الصحف التركية الكبيرة لقاءات عدة مطولة. وفي عام 1997، قبل الرئيس التركي سيلمان ديميريل جائزة من "مؤسسة فتح الله كولن التعليمية"، كما التقى كولن مع بولنت اجاويد، رئيس وزراء تركيا الراحل. ولا يمانع كولن في ان يلتقي أي رجل دين، فقد التقي رجال دين يهودا من اسرائيل، كما التقي رئيس الكنيسة الارثوذكسية وبابا الفاتيكان في روما، لكن هذا لم يرض بعض رجال الدين في تركيا، اذ قال بعضهم أن كولن يعطي لنفسه مكانة اكبر من مكانة الدولة، فيما راى اخرون ان كولن يريد ان يكون المتحدث باسم الاسلام في تركيا. لكولن ايضا صلات مع صحف ومجلات وقنوات تلفزيونية ورجال اعمال. وبالتالي وعلى الرغم من وجوده في اميركا، الا ان قوة حركته لم تتأثر بالسلب. ويقول مصطفى قاسم لـ"الشرق الأوسط":"لدينا قناة تلفزيونية أساسية وهي (اس تى في) و4 تلفزيونات اخرى، تلفزيون اخباري على غرار الـ سي ان ان، اى يقدم الاخبار على مدار الساعة. وتلفزيون خاص بالاطفال، وآخر ثقافي، اما الرابع فهو عام. ايضا لدينا تلفزيون خاص ناطق بالانجليزية في اميركا، كذلك ننتج برامجنا الخاصة، وتقوم الكثير من المحطات المحلية التركية بشرائها. لدينا صحف مثل صحيفة "زمان" اليومية الواسعة الانتشار، ومجلات". لكن ملكية صحيفة "زمان" لحركة كولن ليست مباشرة، كما استطرد مصطفي قاسم، موضحا أن الصحيفة "مملوكة لاصدقاء وأشخاص يمكن الثقة بهم". هذا بالضبط هو سبب قلق الكثير من الأتراك وبينهم اويا اكجونينش أحدى القيادات البارزة في "حزب السعادة" الاسلامي التي قالت لـ"الشرق الأوسط":"لا احد يعرف على وجه الدقة علاقات حركة كولن داخل تركيا. هناك الكثير من وسائل الاعلام ورجال الاعمال يعملون معها او انصار لها، او متعاطفون معها. لكن هذا ليس شيئا واضحا. وهذه مشكلة". كذلك لا يعرف احد على وجه الدقة عدد انصار او اتباع فتح الله كولن المعروفين باسم "اتباع فتح الله"، وهو اسم يعارضه كولن تماما، لكن التقديرات لعدد المتأثرين بافكاره تتراوح بين 200 الف الى 4 ملايين شخص. وربما أحد أسباب انتشار مريدي كولن حول العالم هو انه يؤمن بأهمية التواصل والاعلام والحوار المباشر والشخصي وفتح النوافذ. فموقعه على الانترنت بـ12 لغة من بينها الانجليزي والاذاري والفرنسي والبولندي والاسباني والتركي والعربي. كما انه خطيب مفوه، اعتاد على إلقاء خطب دينية منذ كان في الرابعة عشر من عمره. فهو عندما حفظ القرآن، وبسبب مغادرة عائلته القرية، اضطر الى ترك المدرسة، وركز على التعليم الديني في منزله. وعندما بلغ 14 عاما اعطى اول درس ديني له، وعندما بلغ 18 عاما كان يلف القرى التركية ويعطي دروسا دينية في المساجد والمقاهي. وقد ركز كولن منذ البداية على طلبة المدارس الثانوية والجامعية، فكانوا هم جمهوره، والكثير منهم عمل في حركته بعد التخرج، ومن لم يعمل بشكل مباشر معه، ساهم في الترويج لافكاره. وكانت موضوعات المواعظ الدينية التي يعطيها كولن مختلفة عن نوع المواعظ الدينية التي يعطيها غيره من رجال الدين الاتراك، فقد كان يتحدث حول نظرية النشوء والارتقاء، وحول اساليب التعليم الحديثة، والعلوم، والاقتصاد والعدالة الاجتماعية. وكان يلقي دروسه الدينية بكثير من العاطفة والحماسة والبلاغة، ولا يمانع ان تنزل دموعه خلال الدرس، مما جعل شعبيته تتجاوز الحدود، لدرجة ان درسه الديني كان يصور بالفيديو او بالتلفونات المحمولة، ويتناقله انصاره ومؤيدوه فيما بينهم. وساعدت الافلام المصورة لدروس كولن الدينية في مساندة حركته ماليا بسبب التبرعات التي كانت تأتي اليه. وخلال دروسه الدينية كان تلاميذه يطلقون عليه لقب "خوجا افندي" او "الاستاذ المحترم"، اذ يجمع كولن بين المعرفة الدينية الكلاسيكية وبين الالمام بالفلسفة الغربية، خصوصا الفيلسوف الالماني امانويل كانط. وهو متحدث لبق وكاتب جيد جدا، وبعض كتبه كانت من أكثر الكتب مبيعا في تركيا. كاتب العمود التركي البارز نوري اكمان يوصفه كالتالي:"هو رجل كلاسيكي الطراز، مثل هؤلاء الشخصيات التي قرأنا عنها في الكتب، وشاهدناها في الافلام، عندما يتحدث يردد دائما "استغفر الله" في كل عبارة ينطق بها، يتحدث بأدب جم، وهدوء. وهو متواضع جدا. وصوته يتدفق بنبرة واحدة، يعلم ما سيقوله، ولا يخطئ في قواعد النحو، ويستخدم كلمات عثمانلية". لكن هذه الشعبية كلفته في عقد السبعينات من القرن الماضي 3 سنوات في السجن بتهمة الترويج لنشاطات تهدد أسس الدولة العلمانية. وهي تهمة وجهت بعد ذلك كثيرا الى كولن، لكن رده عليها كان دائما أنه هو ايضا علماني مسلم، وما يريده ليس دولة اسلامية ولكن "تركنة الاسلام" أي صبغ الاسلام في تركيا بالصبغة والنكهة التركية. و"اسلمة الايدلوجية القومية التركية"، بطريقة اخري، كل ما يطمع اليه كولن هو استعادة العلاقة بين الدولة والدين في تركيا كما كان عليه الحال خلال الدولة العثمانية، عندما كانت شؤون الدولة وفقا للقوانين الوضعية، لكن الناس في نفس الوقت لديها حرية التعبير عن ميولها وممارساتها الدينية بدون أي تضييق. ويعتقد كولن ان هناك خصوصية للاسلام التركي، او كما يسميه "الاسلام الاناضولي"، يفصل بين اسلام تركيا واسلام العرب وغيرهم من المسلمين. وهو يعتقد ان اسلام الاتراك هو مزيج بين الاسلام وبين القومية التركية، وان الاصل فيه ليس بالاساس ممارسة شعائر الدين، بل التصرف في الحياة اليومية وفقا للقيم والمبادئ التي قدمها الاسلام للبشرية. ولا يحمل كولن توجهات معارضة للعلمانيين وغير المؤمنين في تركيا، ويرى ان الحفاظ على هذا يحفظ لتركيا ارثها العثماني الذي تميز بالتنوع العرقي والديني واللغوي. وليست آراء كولن حول النساء أقل اثارة للجدل، فهو يعتقد ان حجاب النساء "مجرد تفصيلة صغيرة" في التاريخ الاسلامي، وانه لا ينبغي على احد ان يقيس مقدار تقدم النساء بالملابس التي يلبسنها. اما في افكاره التعليمية، فيرى ان التعليم الذي يجب ان تنتهجه الدول الاسلامية هو التعليم الذي يساعد على الاندماج في العالم المعاصر، وتعلم التكنولوجيا والعلوم الحديثة، ولهذا يؤيد كولن ضرورة وجود قوي للمسلمين في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، كما انه من أكبر المتحمسين لانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، ومن المعارضين المستميتين لتسييس الاسلام، فهو يرفض تماما مزج الدين مع شؤون الدولة حفاظا على الطرفين. لكن معارضيه من العلمانيين لا يعتقدون انه حقيقة بعيد عن السياسة، بل يشيرون الى انه خلال السنوات الخمس الماضية ظهر نفوذ حركته السياسي من خلال دعم حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الاسلامية في الانتخابات. لكن مصطفي قاسم يقول لـ"الشرق الأوسط": نحن لا نؤيد كتنظيم أي حزب سياسي بعينه. أفرادنا يصوتون لأي حزب او شخص يريدونه، لكن صحيح ان الاغلبية منا صوتوا لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة".

* الواعظ المتجول

* تعلم فتح الله كولن القرآن كله في شهر واحد وكان في الرابعة من عمره. وهو ما زال يتذكر عندما كان طفلا صغيرا، كيف أن والدته خلال نومه في الليل كانت تأتي اليه وتوقظه لتعلمه القرآن الكريم. ويبدو انه اعتاد على هذا النوم القليل وعلى الوعظ منذ كان في سن صغيرة في القرى المختلفة بين الأتراك العاديين، حتى بات يعرف بالواعظ المتجول. ولد فتح الله كولن في 27 ابريل (نيسان) 1941، في قرية «كوروجك» الصغيرة التابعة لقضاء «حسن قلعة» ‏المرتبطة بمحافظة أرضروم، ونشأ في عائلة متدينة، وكان والده رامز أفندي معروف بميوله العلمية والدينية. وكانت والدته رفيعة هانم واسعة المعرفة الدينية. أنشأ كولن في بيت والده مركزا لتجمع العلماء والمتصوفين المعروفين في تلك المنطقة. قام والده بتعليمه اللغتين العربية والفارسية الى جانب التركية. غير أنه درس في المدرسة الدينية في طفولته وصباه، وكان يتردد على «التكية» (الكتاب) أيضاً، حيث تلقى العلم على أيدي علماء معروفين من أبرزهم عثمان بكتاش الذي كان من أبرز ‏فقهاء عهده. وبالرغم من أن كولن درس النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد، إلا أنه لم يهمل دراسة ‏الفلسفة والمنطق والعلوم الوضعية. وفي أثناء أعوام دراسته تعرف كولن على كتاب «رسائل النور» وتأثر به كثيراً، فقد كانت حركة تجديدية وإحيائية ‏شاملة بدأها وقادها العلامة بديع الزمان سعيد النورسي مؤلف «رسائل النور»، الذي أثرت أفكاره في حركة فتح الله كولن لاحقا. عندما بلغ فتح الله كولن العشرين من عمره عيّن إماماً في جامع «أُوجْ شرفلي» في مدينة أدرنة حيث ‏قضى فيها مدة سنتين ونصف السنة في جو من الزهد والتقشف، لدرجة أنه قرر المبيت في الجامع وعدم الخروج إلى ‏الشارع إلا للضرورة. ‏بدأ عمله في إزمير بجامع «كستانه بازاري» في مدرسة تحفيظ القرآن التابعة للجامع. ثم عمل ‏واعظاً متجولاً، فطاف في جميع أنحاء غرب الأناضول. ولفتح الله كولن 60 كتابا، وقد حصل على العديد من الجوائز على كتبه هذه، وأغلبها حول التصوف في الإسلام ومعنى التدين، والتحديات التي تواجه الإسلام اليوم.
 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة السابعة) ـ الاستثناء التركي

المفكر التركي شريف ماردين لـ«الشرق الأوسط»: العلمانية التركية بدأت منذ القرن الثامن عشر على يد رجال دين عارضوا السلطان عبد الحميد


شريف ماردين


العلم التركي رمز الدولة موجود في المقاهي والمطاعم ووسائل المواصلات

اسطنبول: منال لطفي
المفكر التركي شريف ماردين مثل النجوم في تركيا، كتبه تختطف من المكتبات وسمعته كبيرة بين الاتراك، فهو الرجل الذي صك مفهوم «الاستثنائية التركية» Turkish Exceptionalism في محاولته لتحليل وشرح اسباب اختلاف تعامل الأتراك مع الاسلام ورؤيتهم للدولة. بالنسبة لماردين، فأن فصل الدين عن الدولة في تركيا ليس وليد حركة مصطفى كمال أتاتورك لبناء جمهورية تركية من رحم انقاض الحرب العالمية الأولى، وحرب الاستقلال، بل ان فصل شؤون الدين عن الدولة او «العلمانية» بدأت خلال حكم العثمانيين. ويقول ماردين ان العلمانية ساعتها وحتى الآن لا تعني بالنسبة للأتراك العداء للدين، بل تعني ان الدولة لدى الأتراك تتقدم على الدين بـ«مليمتر واحد». بسبب المكانة التي يحتلها مفهوم الدولة لدى الأتراك، فإن رمز الدولة وهو العلم التركي موجود في كل مكان بشوارع تركيا، داخل المطاعم، وعلى الحافلات، وفوق المباني، وعلى المراكب الشراعية في البحر، وداخل المتاجر والأسواق الشعبية.
عندما يتكلم ماردين يردد في كل عبارة «الدولة العثمانية» و«التقاليد العثمانية» و«الطريقة العثمانية»؛ فماردين، من مواليد 1927، يعتقد ان تركيا الحديثة خلال عهد أتاتورك وفي سعيها الى التحديث اتجهت بكل قدراتها لدراسة الغرب، فأهملت خصوصية التجربة العثمانية، التي يقول انه يجب على الاتراك إعادة النظر فيها ودراستها. أصول «العلمانية العثمانية» اذا صح التعبير بدأت، بحسب ماردين، مع الطبقة البيروقراطية التي خلقتها الدولة العثمانية، والتي نمت وتطورت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم خلال منتصف القرن التاسع عشر عندما بدأت حركة إصلاح «التنظيمات». ويعتقد ماردين الذي يدرس العلوم الاجتماعية في جامعة «صابنجي» في اسطنبول، انه منذ تلك اللحظات في تاريخ الدولة العثمانية ظهر الجدل حول فصل شؤون الدين عن شؤون الدولة؛ فحركة التنظيمات التي ظهرت عام 1839 خلال الفترة الاولي من حكم السلطان عبد المجيد كان الهدف منها المضي على خطى الاصلاحات في أوروبا. وتضمنت التنظيمات العثمانية المساواة التامة بين رعايا الدولة من المسلمين والمسيحيين وغيرهم والمحافظة على حياتهم وأملاكهم، وذلك على صعيد حرية المواطنة. وكان من ضمن القرارات التي ترتبت على هذا مد الخدمة العسكرية لغير المسلمين.

وشملت التنظيمات أيضا إصلاح التعليم في جميع مراحله، وجعل التعليم إجباريا في المدارس الأولية ومجانيا لمدة 4 سنوات ومن دون تفرقة بين الذكور والإناث أو تمييز بين المسلمين وغيرهم. وقد انفصلت مدارس الحكومة رسميا عن إشراف العلماء، ووضعت تحت إشراف وزارة المعارف. اما على صعيد الاصلاحات القانونية، فقد نصت على علانية المحاكمات، وإلغاء مصادرة الأموال والأملاك ما لم تقر ذلك المحكمة. ويرى ماردين انه تاريخيا كانت مصادر القوة في الدولة العثمانية هي الجيش والبيروقراطية ورجال الدين ومفتي الدولة العثمانية الذي كان يسمى (شيخ الاسلام)، ويقول ان هذه المصادر مازالت هي مصادر القوة في الدولة التركية اليوم، باستثناء رجال الدين، فما فعله اتاتورك كان تحويل رجال الدين من «أحد مصادر السلطة» في الدولة الى «طبقة عادية» من الموظفين الحكوميين. ويعتقد ماردين ان الدارسين الغربيين والشرقيين لم ينتبهوا الى هذه الحقائق حول طبيعة الدولة والدين في تركيا بسبب تركيز كل الدراسات على الاسلام في العالم العربي. وبحسب ماردين، فأن ما ساعد على خلق هذا الفصل بين شؤون الدين والدولة هو ان رجال الدين أنفسهم في وقت من الأوقات فصلوا أنفسهم عن الحكم بإرادتهم الحرة؛ ففي عهد السلطان عبد الحميد الثاني، دعا سعيد النورسي احد قادة الطرق الدينية البارزين وغيره الى اصلاحات دستورية وتعليمية من بينها تقيد سلطات السلطان عبد الحميد الثاني وهو ما سمى بـ«المشروطية»، وانشاء جامعة في مدينة «فان» التركية للنهضة العلمية، ولما رفض السلطان عبد الحميد هذه الطلبات، دعم قادة الطرق الدينية التركية حركة «الاتحاد والترقي» التي كانت تريد اصلاحات سياسية واجتماعية وكانت تعارض السلطان عبد الحميد. وهنا نص الحوار الذي أجرته «الشرق الأوسط» مع ماردين في اسطنبول:

* ما هي خصوصية الدولة التركية عن باقي دول المنطقة؟ ـ الاستثنائية الثقافية مفهوم تطور على يد اليكس دوكفيل الفيلسوف الفرنسي في القرن التاسع عشر، فعندما كان يتحدث عن اميركا قال ان هناك خصوصية استثنائية في الطريقة التي تطور بها المجتمع الاميركي، اذ انه لم يكن مضطرا للمرور بمرحلة العصور الوسطى التي مرت بها الدولة الاوروبية للخروج من القرون الوسطى الى عصر النهضة، وبالتالي الصراع بين الدين والدولة في اميركا لم يوجد على النطاق الذي وجد في اوروبا. بمعنى آخر المجتمع الاميركى اخذ طريقا مختصرا Short Cut، وتطوره الاجتماعي استثنائي بهذا المعنى لأن الدولة والدين لم يتواجها او يتصارعا على النحو الذي حدث في اوروبا خلال المواجهات بين الكنيسة والملوك في فرنسا وايطاليا وانجلترا. تركيا بدورها تشكل «حالة استثنائية» في المنطقة فيما يتعلق بعلاقاتها بالدين. الدولة العثمانية طوال تاريخها حرصت على إبقاء الدولة على بعد مليمترا واحدا عن الدين. كانت الدولة، أكثر أهمية للحكام العثمانيين في تلك الفترة، مقارنة بأهمية الدولة في اماكن اخرى من المنطقة في ذلك الوقت. ولهذا طورت تركيا مفهوما للدين، له خصوصية عن مفهوم الدين لدى كل دول المنطقة، يقوم على قوة الدولة، وهذا يصعب على الكثير من العرب فهمه، إذ ان الدين يأتي اولا لدى العرب، ثم الدولة، فيما تأتي الدولة اولا لدى الاتراك، متقدمة بمليمتر واحد عن الدين. وهذه خصوصية تركية حتى قبل دخول الاسلام الى تركيا، فقد كانت هناك بيروقراطية كبيرة ومتطورة، ونظام دولة قائم بالفعل، فقد كان مفهوم الدولة قويا لدى الأتراك قبل دخول الاسلام، واستمر هذا بعد دخول الاسلام. هذا ما أعنيه بالاستثنائية التركية. الغريب انه لا احد في العالم الاسلامي او الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن تركيا يعرفون هذه الحقيقة عندما يحللون حالة الدين والدولة في تركيا. وبطريقة ما هذه الاستثانية التركية مستمرة حتى الآن؛ فالدولة ما زالت تتقدم على الدين مليمترا واحدا. وبالتالي مفهوم العلمانية الذي تم اقراره في الدستور التركي عام 1924 خلال حكم اتاتورك، ليس شيئا غريبا او غير مألوف او غير متوقع اذا نظرنا الى السياق التاريخي التركي، فهو استمرار لممارسة كانت موجودة منذ الدولة العثمانية، غير أنها لم تقدر كما ينبغي.

* هذا عن الدولة.. ماذا عن المجتمع، هل التنوع العرقي واللغوي في المجتمع التركي اثر على فهم وطريقة التعامل مع الدين؟ ـ هذا حقيقي ايضا، وهذا العنصر امتزج مع العنصر الخاص بطبيعة الدولة في تركيا وكونا معا الاستثنائية التركية. فتجربة الاتراك الاجتماعية، والتعدد العرقي على مدار القرون الماضية اثرت على فهمهم للدين؛ فدائما كانت الدولة والدين في تركيا يعملان بشكل متواز، والنظام الحالي يمكن رؤيته مواصلة واستكمالا للحل العثماني للعلاقة بين مفهوم الدولة، وبين الدين.

* هذا يعني ضمنا انه لا خوف على الدولة التركية من سيطرة حزب العدالة والتنمية على الحكومة والرئاسة والبرلمان، لانه بحسب رأيك العلمانية تكونت تاريخيا بشكل طبيعي لحماية الدولة والدين في تركيا وليست مفهوما غربيا دخيلا او مستوردا، وبالتالي من الصعب على أي فصيل سياسي التخلص منها؟ ـ (يضحك) عندما نتحدث عن حزب العدالة والتنمية، لا نتحدث حول شيء واحد كبير، بل نتحدث حول مزيج من طبقات وجماعات متعددة، وهذا هو الشيء الطبيعي عند تناول أي ظاهرة سياسية او اجتماعية. هناك طبقات متعددة داخل حزب العدالة والتنمية، هناك أشخاص أكثر علمانية، هناك اشخاص أكثر تشددا. فحزب العدالة والتنمية عبارة عن مجموعة من الجماعات تحالفت معا، وطبيعيا ليس هناك اتفاق بين هؤلاء حول كل شيء، هناك خلافات في وجهات النظر. طبعا الظواهر الاجتماعية مثل حزب العدالة والتنمية تتطور أحيانا في المنطقة بطريقة غير متوقعة او من الصعب التنبؤ بها. وأنا حقيقة لا أعرف ما الذي سيحدث في المستقبل، لكنني لا اعتقد ان الجماعات الاكثر تشددا في الحزب لها اليد الطولى حاليا.

* البعض يقول ان حزب العدالة والتنمية عزز علاقاته مع الطرق الدينية في تركيا.. وان هذا هو أحد مصادر قوته؟

ـ نعم هذا صحيح. لكن الطرق الدينية في تركيا لا تشبه الطرق الدينية في شمال افريقيا، ومن المهم تأكيد أن الطرق الدينية كانت دائما لها صلة بالدولة التركية، والطرق الدينية في تركيا جزء من القوى التي شكلت حزب العدالة والتنمية. لكنها ليست مثل الطرق الدينية في القرن الأفريقي في نهاية القرن التاسع عشر.

الطرق الدينية في تركيا مثلا منظمة وحديثة، ولها آرائها الخاصة في القضايا السياسية الداخلية والعالمية، وتأثيرها يتجاوز الحدود الى خارج تركيا الى مناطق عديدة في العالم، فهناك تنظيمات تتبع للطرق الدينية تعمل بطريقة عابرة للحدود. عندما تفكرين في كل الظواهر في تركيا، بما في ذلك الطرق الدينية، فكري في ماضي صاغ خصوصية تركيا، وجعلها استثناء عما حولها، وهذا ينطبق على الطرق الدينية التي ما زالت لها حضور سياسي اليوم في اوساط السلطة.

* ما الذي يعنيه مصطلح «الاسلام التركي» لك؟ ـ يعني الاستثناء التركي الاختلاف عن باقي التجارب في العالم الاسلامي. هناك الكثير من الممارسات والتقاليد والافكار التي تجعل الاسلام التركي له خصوصية وشخصية مميزة منذ بدايات الدولة العثمانية؛ فالإسلام التركي هضم أفكار عصر التنوير (التفكير العقلي والحداثة والديمقراطية) عبر التصوف في نهاية القرن الثامن عشر. على سبيل المثال هناك الطريقة النقشبندية والتي دعمت حركة التنوير التركي، ودعمت الاصلاحات الدينية والدستورية في الدولة العثمانية، بدلا من ان تقف ضدها. كذلك لا بد من تذكر ان العثمانيين عندما أسسوا دولتهم الاولى سموا أنفسهم أهل الروم والبلقانيين، وهذا هام جدا؛ فالعثمانيون نظروا دوما نحو البلقان في النمسا والمجر، كان هناك تواصل لغوي وثقافي وجغرافي. هذا العنصر البلقاني مكون أساسي في ثقافة الدولة العثمانية، ولفهم طريقتها في التعامل مع الاسلام، وهذا مختلف عن تجربة غالبية البلاد الاسلامية. فقد كان هناك اتصال بين الأتراك والديانة المسيحية منذ البداية لأن الكثير من الرعايا في البلقان كانوا مسيحيين. فيما باقي العالم العربي والاسلامي ليس لديه هذا المكون البلقاني في تاريخه وثقافته. هذا المكون المسيحي جعل مفهوم الآخر لدى الأتراك يختلف عن مفهوم الآخر لدى باقي الدول الإسلامية، فالآخر لدى الأتراك لا يعني العدو.

* الايرانيون ايضا يقولون إن فلسفتهم السياسية تأثرت بالصوفية. هل ترى تشابهات بين الايرانيين والأتراك في هذا الصدد؟ ـ نعم هناك الكثير من التشابهات، الكثير لا يعرفون كيف ان افكار الفلاسفة الإيرانيين والافكار الفلسفية التي جاءت من إيران مثل «الاشراق» هضمت واستلهمت من قبل الجماعات الدينية في تركيا خلال الدولة العثمانية. الإيرانيون شعب مثقف جدا ومتفلسف، وبينهما وبين الأتراك نقاط التقاء، وبالتالي لا أعتقد ان «الاسلام الشعبوي» الموجود حاليا في ايران سيستمر طويلا. الايرانيون شعب متفلسف بالطبيعة، هناك مثقفون يثبتون هذا اليوم مثل عبد الكريم سوروش، هو نموذج للمفكر والفيلسوف الايراني المعاصر.

* ما هي نظرة الاتراك للعرب، هل هناك صورة ذهنية معينة؟

ـ هذا موضوع متداخل ومعقد، فليس هناك صورة ذهنية واحدة لكل العرب ثابتة عبر الزمان. فاللغة العربية لغة صعبة ولم يكن هناك تواصل بين الأتراك والعرب بسبب عدم وجود لغة مشتركة. وبالتالي اذا لم يتعلم الشخص اللغة العربية في المدرسة يجد صعوبة في تعلمها، و 99% من الشعب التركي لم تكن له اية علاقة مع العرب خلال الدولة العثمانية. فمعرفة اللغة العربية كانت حكرا على النخبة منذ الدولة العثمانية، اذا اولا هناك عائق اللغة. ثانيا، بالتالي ومع الوقت بات هناك عدد اقل فأقل يجيدون أو يعرفون اللغة العربية لدرجة ان الاصلاحي الكبير جودت باشا، كان يبحث عن شخص يجيد اللغة العربية ويمكن الثقة في ترجمته بين 1850 و 1860 وتعب جدا كي يجد شخصا مؤهلا، هناك شيء ميكانيكي هنا، ليس له علاقة بما اذا كان الاتراك يحبون العرب او لا يحبونهم، فاذا كانت اللغة غائبة يكون الاتصال غائبا ايضا. كانت هناك حالات انه حتى القضاة لا يعرفون اللغة العربية، وعندما كان قاضي يذهب الى منطقة يتحدث فيها الناس اللغة العربية، كان يضطر الى أن يأخذ معه مترجما الى ساحة المحكمة. اذا وقف الاتصال بين العرب والاتراك على النخبة التي تعرف اللغة، جعل الاتصالات منعدمة بين غالبية الشعب التركي وبين العرب، فباستثناء القرآن الكريم لم يكن هناك تواصل لغوي وبالتالي ثقافي، لكن مهما كان الانسان يحفظ القرآن، فان ما يفهمه من معانيه مسألة أخرى. ففهم آيات القرآن يحتاج الى وقت ودراسة لأن معانية مركبة، كان من الطبيعي ان نجد أطفالا في سن 8 سنوات في الاناضول يحفظون القرآن كاملا، لكن مقدار فهمهم محدود. وهذا العامل استمر تأثيره منذ البداية حتى الآن، فبينما هناك تواصل بين النخبة، ليس هناك تواصل بين عامة الشعب. لكن عموما هناك احترام للعرب، فالقرآن نزل بالعربية، لكن السؤال كيف التواصل مع العرب مع وجود لغة صعبة كالعربية. اما صورة الاتراك لدى العرب، فقد كانت هناك دائما كما يتضح من كتب التاريخ والابحاث ان هناك نزعة معادية للاتراك لانهم قوة استعمارية، لكن هذا يتغير الآن، فعدد من المؤرخين المصريين الذين ظهروا مؤخرا ومتخصصين في تاريخ الدولة العثمانية يسعون لاعادة تقييم العلاقة بين العرب وبين الدولة العثمانية، على أساس ان العلاقات التاريخية بين الاتراك والعرب لم تكن علاقات صدامية او كراهية وتوتر خلال وجود الدولة العثمانية، واعتقد ان هذه المحاولات مفيدة. هناك حاجة لزيادة الترجمة بين العربية والتركية، خصوصا الترجمة الخاصة بالتطورات اليومية، بحياة الناس، وليس فقط ترجمة الكتب الايديولوجية وما شابه، هناك سبب لضعف الترجمة وهو أن الاتراك يحبون قراءة الروايات باللغة التركية، والعرب يحبون قراءة الروايات باللغة العربية. عندما تقرأ لنجيب محفوظ بالتركية، تنتابك مشاعر وافكار مختلفة عن تلك التي تشعر بها عندما تقرأ بلغته الاصلية. ربما هذا سبب ضعف الترجمة.

* هل صحيح ان الصورة الذهنية الشائعة والشعبية عن العرب لدى الاتراك هو انهم «خونة» بسبب دعمهم للانجليز خلال الحرب العالمية الاولى، فيما صورة العرب الشائعة عن الاتراك هو أنهم «مستعمرون غلاظ»؟ ـ الصورة متداخلة بين هاتين الصورتين. ففي القرن التاسع عشر كان هناك جانبان للصورة؛ فعندما تحالف شريف مكة مع الانجليز ضد الاتراك، وسقطت دمشق في يد قائد القوات البريطانية الجنرال اللنبي، شعر الاتراك بالخيانة، وهذا ربما مازال موجودا حتى اليوم لدى الكثير من الاتراك، فهناك كتاب صدر في تركيا قبل فترة يتحدث عن خيانة العرب للاتراك وتعاونهم مع اللنبي. لكن الامر معقد جدا؛ فعلى المستوى الشعبي كانت الصورة الذهنية أفضل، فجدي كان يتحدث العربية والفارسية والفرنسية الى جانب التركية طبعا، وكانت معرفته بالثقافة العربية كبيرة، وعندما كنت صغيرا سمعت اللغة العربية في بيتنا، يتحدث بها جدي. كذلك هناك الاجواء السائدة عندما ولدت الدولة القومية في تركيا بعد الحرب العالمية الاولى، كل هذا لم يساعد.

* كلما نشبت ازمة في تركيا يرجعها المحللون بشكل آلي الى ما يسمى بأزمة هوية بين الشرق والاسلام من ناحية وبين الغرب من ناحية اخرى.. هل تركيا تعاني أزمة هوية؟ ـ انها ليست ازمة، ولا داعي لان تكون ازمة هوية (يضحك). تصبح أزمة فقط عند ظروف معينة، عندما يحاول هذا الطرف او ذلك ان يستغلها او يستخدمها. ولدينا في تركيا الامكانيات كي لا يتحول وجودنا الثقافي والجغرافي والسياسي بين الشرق والغرب الى ازمة هوية. العلمانية في تركيا ليست ايديولوجية، انها الطريقة التي يحيى بها الناس يوميا. فلدينا مواطنون لا يشربون الكحوليات، لكن لدينا ايضا مواطنون يشربون بشكل عادي، وهؤلاء يعيشون الى جانب هؤلاء من دون مشكلة. الذين يشربون الكحول لا يقولون انهم غير متدينين، بل هم مسلمون، ويقولون انهم مسلمون. الاتراك وصلوا الى حل توافقي، تحدث المشاكل عندما يرفض احد الاطراف هذا الحل التوافقي.

* ما الذي تبقى في تركيا اليوم من الميراث الثقافي والاجتماعي للدولة العثمانية؟ ـ للأسف ليس الكثير، وهذا لأن الثقافة تحتاج الى انعاش وبحث ومعرفة محورها وجوهرها. الآن لدينا في تركيا الكثير من رجال الدين، هؤلاء لم يتم تربيتهم بناء على الثقافة والافكار التي كانت موجودة خلال الدولة العثمانية، بل تعاليم اليوم. هناك الكثير من الكلام حول الثقافة العثمانية، لكن هناك القليل جدا المكتوب اليوم حول جوهر العمارة في العصر العثماني على سبيل المثال. لتكوين ثقافة حول موضوع معين، لا بد من تراكم معرفة حوله، وللأسف هذا لا يحدث في تركيا اليوم. وقد حدث هذا الانقطاع لانه سادت في تركيا فكرة انه لكي تصبح عصريا، الهدف الذي بات أساسيا لدى الأتراك، لا بد ان يدرس الأتراك الشعوب التي اصبحت متقدمة، وهذا يأخذ وقتا، وبالتالي لم يعد الاتراك يدرسون التاريخ العثماني بطريقة معمقة، وهذا افرز اليوم ما اعتقد انه عدم معرفة حقيقة بهذه الفترة.

* كلما تحدث احد عن خصوصية الحالة التركية، يذكر اتاتورك بالكثير من التقدير والاعتراف بالفضل.. لماذا اتاتورك ما زال حاضرا على المسرح السياسي بهذه القوه حتى اليوم؟ ـ اتاتورك شخصية اسطورية لدى الاتراك، انه مثل توماس جيفرسون في الولايات المتحدة. انه المؤسس، انه القائد والزعيم، انه الشخص الذي أنقذ ما تبقى من الامبراطورية العثمانية، وهذه كانت مهمة صعبة جدا. الكثير من الاتراك يرون في اتاتورك «المخلص» او «المنقذ» لهم، ولما تبقى من اراضي الامبراطورية. هذا جانب، جانب آخر، انه أسس تركيا الجديدة، أي لم يستطع فقط انقاذ البقايا، بل أسس عليها تركيا كما نعرفها اليوم، الكثير من الاتراك ينظرون اليه بوصفه الشخص الذي قدم لتركيا وهي خارجة من اضعف لحظاتها أفكار التنوير والتحديث. هو كان يستخدم نظام التلغراف الذي اسسه السلطان عبد الحميد، لكنه كان شجاعا لدرجة انه وقف في وجه قوات التحالف، وما من احد كان يعتقد بإمكانية وقوف تركيا في وجه هذه البلاد. شخصية اتاتورك تتميز بتصميم هائل. فأحد معاني التصميم هو القدرة على التفكير في المستقبل، ما الذي سيكون مناسبا للاتراك، كيف سيمكن زرع هذه الافكار والمبادئ الجديدة؟ اتاتورك كان شخصا استثنائيا؛ ففي العالم يمكن ان نجد جنرالات جيش ممتازين، لكن جنرال جيش يستطيع ان يفكر في التحديث، ويضع دستورا، ويصنع دولة ديمقراطية هذا نادر جدا. اذا أخذنا في الاعتبار أن كل هذا حدث خلال العشرينيات والثلاثينات من القرن العشرين، فان هذا يجعل شخصية اتاتورك مثيرة أكثر للإعجاب. كذلك قدرته على التنبؤ بالذي سيحدث في المستقبل.
 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة الثامنة) ـ أبو الأتراك

أتاتورك الذي قلب المجتمع والدولة رأسا على عقب.. ما زال كثيرون يفتقدونه ويخشونه


سيرة أتاتورك تتردد أكثر بين الأتراك وقت الأزمات


صورة من متحف أتاتورك للحروف اللاتينية التي تم استخدامها بدلا من العثمانية والعربية


صور لأول دفعة من طلاب المدارس ونساء أتراك بملابسهم الحديثة التي أقرها أتاتورك («الشرق الأوسط»)

أسطنبول: منال لطفي
كأن أتاتورك جزءا من تفاصيل الحياة اليومية لدى الأتراك، وكأنه مات بالامس. فالاتراك يستشهدون به في كلامهم، فعندما يتحدثون حول حزب العمال الكردستاني والمشاكل على الحدود العراقية بسبب نشاطات الاكراد، يقولون: لو كان أتاتورك حيا لما حدث هذا. محمد وهو تاجر تركي قال لـ«الشرق الأوسط»: «لو كان أتاتورك حيا لأعدم عبد الله اوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون في تركيا حاليا). لم يكن ابدا ليسمح لشخص بأن يهدد وحدة أراضي تركيا». عندما تتحدث حول مشكلة الاسعار او البطالة او الحجاب او المواجهة بين العلمانيين والاسلاميي, ستجد ايضا من يرد عليك قائلا: لو كان اتاتورك حيا لفعل هذا وهذا.. وتصرف كهذا. او لو كان اتاتورك حيا.. لما فعل هذا». يختلف الاتراك حول الكثير من الاشياء لكنهم يتفقون حول اتاتورك، فالمتدينون، والعلمانيون، والفقراء والاثرياء وابناء الطبقة الوسطى، ورجال الدين يترحمون على اتاتورك في صلواتهم اليومية حتى اليوم. وهي مكانة لم يتمتع بها زعيم تركي من قبله او من بعده. فأتاتورك، مواليد 19 مايو (آيار) 1881، كان أول رئيس تركي، بين 29 أكتوبر (تشرين الاول) 1923 و10 نوفمبر (تشرين الثاني) 1938 عندما توفي. كما كان اول رئيس وزراء تركي، بين 3 مايو 1920 و24 يناير (كانون الثاني) 1921. وأول رئيس للبرلمان التركي، من 1921 الى 1923. واول زعيم لحزب الشعب الجمهوري، بين 1921 الى 1938. وهي مكانة تمتع بمثلها على الصعيد الدولي، فقد كان من أهم الشخصيات السياسية في عصره وظهرت صورته على غلاف مجلة «تايم» الاميركية 3 مرات خلال حياته، في أعوام 1923 و1927 و1934. اذا كنت زائرا لتركيا، لن تفتقد صور اتاتورك ايضا فهي في كل مكان، مثلها مثل العلم التركي. كما ان اسمه يتردد في النشيد الوطني التركي الذي يقول: «أنا تركي.. انا أمين.. اعمل بجد ولدي مبدأ وهو ان احمي صغيري وأحترم كبيري وان احب بلدي ووطني اكثر من نفسي. لدى حلم هو ان اكبر وأتقدم للامام. أتاتورك العظيم، اقسم لك أن اسير بلا توقف على الطريق الذي مهدته وللمبتغى الذي اخترته، املا في ان يكون وجودي هدية للاتراك. سعيد هو من قال: انا تركي». وفي النصب التذكاري الذي يضم مقبرته المعروفة باسم «انيت كبير» يتوافد المئات يوميا يسمعون خطبه في المناسبات المختلفة، ويعرفون اكثر عن تاريخ حياته، وبعضهم يبكي عندما يسمع صوته في الشرائط المسجلة له. في الضريح، المقام وسط أنقرة، تجد أقوال أتاتورك المأثورة مثل «السيادة للشعب بدون شروط»، و«الأمم التي لا تستطيع تحديد هويتها تستعبدها الأمم الأخرى». أما القبر المدفون فيه اتاتورك فهو عبارة عن غرفة تحت الأرض، غير مسموح للزائرين بالدخول اليها، لكن هناك كاميرا تنقل على مدار الساعة القبر من الداخل وأكواب التراب المرصوصة داخله، كل كوب يحمل تراب احدى مقاطعات تركيا، وهو ما طلب اتاتورك ان يدفن معه. وفوق القبر صورة لاتاتورك على النحاس ومعه أطفال ونساء وعمال ومعلمون وموظفون كلهم يرفعون شعلة. المتحف يروي بالصور تاريخ بناء الجمهورية التركية الحديثة، فهناك صورة لواحدة من اهم الكتابات التركيات في ذلك الوقت وهي نزيهة هانم بدون حجاب عام 1924 وهي من أوائل الصور لأمراة تركية غير محجبة بعدما منع اتاتورك الحجاب. وصورة للموظفين لدى الدولة بملابسهم الجديدة الاجبارية ,البدلة وربطة العنق والقبعة عام 1925. وصورة لأول ملكة جمال في تركيا عام 1929. وخطاب نادر لاتاتورك، وهو من اول الخطابات التي استخدم فيها الحروف اللاتينية، بدلا من الحروف العثمانية والعربية، والخطاب مؤرخ في 9 أغسطس (آب) 1928. وصورة لمجموعة من الفتيات خريجات جامعة اسطنبول بدون حجاب عام 1937. وأول صحيفة معدنية استبدلت فيها الحروف العثمانية والعربية بالحروف اللاتينية، وعليها صورة اتاتورك وعصمت انونو ووزير التعليم في ذلك الوقت مصطفى نجاتي. ولا تقتصر آثار اتاتورك على ضريحه ففي مبنى الجمعية الوطنية التركية (البرلمان) الذي افتتحه اتاتورك عام 1924 وشهد اعلان ميلاد الجمهورية التركية الكثير من آثار أتاتورك، ومن بينها صالة كاملة بتماثيل من الشمع تمثل اتاتورك ونائبه عصمت أنونو وأعضاء اول برلمان تركي منتخب، وصورة اخرى كبيرة لجنازة اتاتورك عام 1938 في اسطنبول. كل ما هو متعلق بميراث او انجازات بأتاتورك يتوزع بين العسكري والمدني. فهو قضى نصف حياته يحارب القوى الكبرى على جبهات المعارك، والنصف الآخر في البرلمان التركي وقصر الرئاسة في تشانكيا يضع الاسس للدولة الجديدة. فحينما انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة تركيا واحتلال أجزاء واسعة منها من قبل جيوش الحلفاء، تزعم مصطفى كمال حرب الاستقلال لتحرير الأناضول. لكن ظهر خلاف بينه وبين السلطان العثماني عندما رفض أوامر السلطان بمغادرة أنقرة والعودة إلى اسطنبول المحتلة من البريطانيين، فاستقال من الجيش ونظم منذ مايو (آيار) عام 1919 قوات التحرير التي قاتلت اليونانيين والبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين تحت قيادته، حتى تمكن قبل نهاية صيف عام 1922 من طرد القوات المحتلة. وخلال معارك التحرير وفي عام 1920 أسس مصطفى كمال المجلس الوطني (البرلمان) في أنقرة ليتحول إلى حكومة موازية لسلطة الخليفة العثماني في إسطنبول. وفي عام 1921 أصدر المجلس ما سماه «القانون الأساسي» الذي تزامن صدوره مع إعلان النصر وتحرير الأراضي التركية في عام 1922 وأعلن فيه مصطفى كمال إلغاء السلطنة، التي تبعها توقيع معاهدة لوزان عام 1923، ثم اعلان قيام الجمهورية التركية في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) من نفس العام، ثم تعيينه رئيسا وجعل أنقرة عاصمة للدولة الجديدة بدلا من اسطنبول. بعدما أنجز مصطفى كمال مهامه على جبهة القتال، تحول من عسكري الى سياسي وبدأ مجموعة من «الاصلاحات» الاجتماعية والثقافية التي رأى أنها ضرورية لاعادة بناء الامة التركية، ومن بينها منع المدارس الدينية وإلغاء المحاكم الشرعية، وإزالة الأضرحة وإلغاء الألقاب والطرق والدينية، وتبنى التقويم الدولي. وفي عام 1928 ألغى مصطفى كمال استخدام الحرف العربي في الكتابة، وأمر باستخدام الحرف اللاتيني. وجعل التعليم الابتدائي ومحو الامية إجباريا للرجال والنساء. ثم أقر قوانين مدنية مستوحاة من الدستور السويسري. ومنع لبس الطربوش والعمامة، وأقر قوانين مساواة النساء بالرجال ومنح النساء حق التصويت والترشح في الانتخابات. ثم شدد على فصل شؤون الدولة عن الدين. وخلال 15 عاما فقط تحولت تركيا بشكل جذري. لكن ثورة الاصلاحات التي قادها أتاتورك لم تكن بلا ثمن، أو بلا منتقدين، بالذات من قبل الجيل الاول من الاتراك الذين عانوا التغييرات المفاجئة والفوقية التي فرضها أتاتورك على المجتمع. وتقول الكاتبة التركية عدلات اغا اوغلو، وهي في نهاية الثمانينيات من عمرها، وتصف نفسها بأنها من الجيل الذي عانى اكثر من غيره من ثورة اتاتورك لـ«الشرق الأوسط»: «اصلاحات اتاتورك كانت بقرارات فوقية عليا. اي لم يطلبها الشعب، هو فرضها فرضا. وكانت البدايات صعبة جدا على غالبية الاتراك. فمثلا بدأ بجمع غير المتعلمين من الرجال والنساء في كل القرى التركية وبدأ بتعليمهم الكتابة والقراءة. لم يكن الكل سعيدا، الفلاح يريد ان يذهب للزراعة بدلا من المدرسة، لكن لم يكن لأحد خيار، فهذه كانت قوانين اجبارية من أعلى السلطة. كأننا كنا في معمل اختبار، والجميع امام امتحان. لكن اتاتورك كان معنا في هذا الامتحان، فهو لم يطلب شيئا لم يطبقه على نفسه، بدءا من لبس البدلة وربطة العنق, وحتى تعلم الحروف اللاتينية». وتوضح اوغلو التي اصدرت كتابا حول ايديولوجية الجمهورية التركية الجديدة ان «النساء اكثر من عانى من اصلاحات اتاتورك. فالكثيرات لم يردن خلع الحجاب. وكن متضررات جدا من الملابس الجديدة. كما ان الكثيرات كن غير راغبات في الذهاب للمدرسة، وأهلهن لم يكونوا متحمسين للفكرة، ففي القرى التركية في ذلك الوقت كانت ثورة اتاتورك التعليمية والاجتماعية بمثابة نار على البعض ممن يعتقدون ان على البنات البقاء في المنزل لحماية شرفهن ومساعدة الامهات. كان أتاتورك يقول: الدولة العثمانية انتهت، انتم الآن في جمهورية تركيا وهي دولة اوروبية. وكان من الواضح للاتراك انه لا طريق للرجعة. لكن الناس ساندته بسبب انتصاره في حرب التحرير. بالنسبة لي أكثر شيء مثير للانتباه في اصلاحات أتاتورك الطريقة التي تعامل بها مع الجيش. فهذا الجيش كان من بقايا الدولة العثمانية. بعد الحرب ما الذي حدث؟ بدأ اتاتورك مع الجيش نفس عملية اعادة التأهيل التي بدأها مع كل قطاعات الشعب التركي. كان على عناصر الجيش دراسة تاريخ الجمهورية ومعرفة هويتها الجديدة المميزة». ولم يستوعب غالبية الاتراك التعديلات التي ادخالها اتاتورك في البداية، فرجال الدين الذين كانوا من صفوة المجتمع ويتمتعون بمكانة اجتماعية واقتصادية بارزة تحولوا فجأة الى مواطنين عاديين، وكبار الموظفين الحكوميين لم يعودوا بتلك الاهمية بعد قيام الجمهورية، والمتعلمون لم يعودوا متعلمين، فتغيير حروف الكتابة من الحرف العثماني الى الحروف اللاتينية جعل الجميع يجلس على طاولة الدرس مجددا. هذه التغييرات الاجتماعية رافقتها لاحقا تغييرات اقتصادية، فمنطقة وسط اسطنبول القديمة او منطقة السلطان محمد الفاتح والتي كانت منطقة للصفوة والاثرياء ويسكنها رجال الدين والتجار والمعلمين، تحولت تدريجيا الى منطقة للشريحة الوسطى من الطبقة الوسطى، ثم تدهور حالها أكثر مع مرور الزمن، وخرجت منها الطبقات المتعلمة وباتت اليوم منطقة للحرفيين. وتشرح أوغلو هذه الفترة موضحة لـ«الشرق الأوسط»: «كانت تحولات مربكة جدا للاتراك. منع الرجال من لبس الطربوش والعباءة، وحل محلهما القبعة الغربية والبدلة. منعت النساء من لبس الحجاب. الدروس القرآنية التي كانت علامة التقوى لم يعد مرحبا بها، ثم منعت لاحقا. كان الناس يتندرون على طريقة تفكير اتاتورك، ويتساءلون ما هي العلمانية؟ لماذا يريد دولة علمانية؟ لم يكن رجال الدين يفهمون او الموظفون او الفلاحون. لكن الجميع سار وراء قائد حرب التحرير، وكان السائد هو ترديد: لا بد انه يرى ما لا نراه. وهكذا سارت تركيا على عكس جميع الدول في المنطقة. لم تكره الغرب، لم تقبل الاحتلال، اقرت العلمانية والديمقراطية نظاما. وكنا نعرف ان هذا لم يطبق في العالم العربي بعد لأن الاخبار بين اسطنبول والدول العربية كانت ما زالت موجودة». بالنسبة للأتراك العاديين ما سيظل يذكر لاتاتورك هو انتصاره على القوات الغازية التي كانت تريد اقتسام بقايا الدولة العثمانية فيما بينها. وقال أردوغان بكتاش وهو مواطن تركي في الثمانيات من عمره، صوت لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الماضية، لـ«الشرق الاوسط»: «حارب أتاتورك جيوش اربعة دول، وانتصر عليهم، بدون مال وبدون معدات متقدمة. يرحمه الله، انه القائد الابدي لتركيا.. البعض يقول ان أتاتورك لم يكن مؤمنا، هذا غير صحيح، كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان يعرف اللغة العربية. اي قائد للجيش التركي اليوم يحفظ القرآن؟ لا أحد». وتابع «ليس هناك شخص مثل أتاتورك. عندما مات لم يكن يمتلك شيئا، فقد وزع كل أمواله على الاتراك. اليوم أفضل السياسيين الاتراك فاسد. الكل يستفيد من منصبه او موقعه. لم يحب احد تركيا مثلما احبها اتاتورك». لكن ذاكرة بكتاش لا تخلو من لحظات مرعبة تتعلق بالطريقة التي تعاملت بها الدولة التركية مع منع الدروس الدينية. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «اتذكر عندما كنت صغيرا في القرية وكان عمرى 6 سنوات، رأيت اثنين من اصدقاء والدي جاءا عندنا وتناولا الغداء. ثم دخلا المسجد وصلا وبعد ذلك جلسا مع عدد من الأطفال يعطونهم دروسا دينية. جاءت الشرطة وأخذتهما وفتشت منزلهما واستجوبتهما. ولأنهما صديقا والدي، فقد جاءت الشرطة واخذت والدي وشقيقي ايضا ولم نسمع عنهما لمدة 4 أيام، الى ان افرج عنهما». كما يتذكر بكتاش الصعوبات التي لاقاها الكثير من الأتراك بسبب تضييق السلطات على اداء فريضة الحج، وقرار منع الآذان باللغة العربية، واستخدام اللغة التركية بديلا «كان اذان الصلاة باللغة العربية خلال الدولة العثمانية، لكن اتاتورك جعله بالتركية، ثم في الخمسينيات عندما اجريت اول انتخابات حرة، وخسر حزب الشعب الجمهوري وفاز الحزب الديمقراطي عاد الأذان باللغة العربية مجددا. وانا شخصيا كنت سعيد بهذا» يقول بكتاش. طبعا لم يكن المتدينون فقط هم من سخطوا على التغييرات التي ادخلها اتاتورك، فأكراد تركيا ايضا لا يحبون أتاتورك كثيرا. ويقول مصطفى هليل وهو شاب تركي يعيش في ديار بكر لـ«الشرق الأوسط»: «اتاتورك بنى دولة للاتراك وليس لكل ابناء تركيا. العرق التركي هو فقط المعترف به، اما نحن الاكراد فينبغي ان نكون أتراك حتى يعترفوا بنا. منع اتاتورك اللغة الكردية، وحاول سحق هويتنا، ثم وضع نشيدا وطنيا يقول: سعيد هو من قال أنا تركي». لكن ما سيبقى من أتاتورك هو الدولة التي بناها. فالبرغم من ان أتاتورك لم يكن هو شخصيا شخصا ديمقراطيا، وأفضل خصائصه انه كان يختار مستشارين جيدين، يسألهم ثم يتخذ هو القرار، الا انه وضع الاساس لنظام ليبرالي. وتقول عدالت اغا اوغلو بهذا الصدد «المثير ان اتاتورك ركز كل انتباهه على الاصلاحات الاجتماعية، وليس على الاقتصاد. كما كان مؤمنا بالليبرالية وليس بالتعددية»، فخلال حكمه لم تكن هناك اي احزاب معارضة، أو شخصيات معارضة. لكن بالنسبة لاتاتورك ومن بعده عصمت انونو، فإن حكمهما المطلق كان بمثابة «ضرورة سياسية مؤقتة لبناء الجمهورية»، وليس نموذجا يحتذى، لذلك لم يعمد اي منهما الى وضع اية اجراءات تتعلق بخلافته بعد وفاته، وشددا على احترام المؤسسات الديمقراطية الموجودة. ويلاحظ اندرو مانجو ابزر الاساتذة المختصين في تركيا، على انه على النقيض من الانظمة الشمولية التي يسيطر فيها الحزب الحاكم على الدولة، فإن حزب الشعب الجمهوري الذي اسسه اتاتورك لم يكن مسيطرا على الدولة، بل كانت الدولة مسيطرة عليه، واستعملته من اجل نشر ايديولوجيتها الجديدة وهي العلمانية والحداثة. لكن خلافة عصمت انونو لاتاتورك لم تكن امرا سهلا عليه. وبالبرغم من ان انونو كان مقربا من اتاتورك لعشرين عاما او أكثر، الا ان خلافات في وجهات النظر نشبت بينهما خلال الثلاثينيات، ولم يعودا قريبين جدا، اما سبب الخلاف على وجه الدقة فليس معروفا. لكن الطريقة التي تحرك بها انونو بعد وفاة اتاتورك قد تكشف جزئيا عن أسباب الاختلافات في وجهات النظر. فبعد وفاة اتاتورك، اعاد أنونو، الذي سمي الاب القومي للاتراك، فتح المدارس الدينية، لكنها كانت دائما مقيدة ومسيطر عليها. فترة حكم أتاتورك وشخصيته جعلت فكرة موته فكرة مخيفة للكثير من الاتراك، وعندما اشتد عليه المرض في نوفمبر (تشرين الثاني) 1938 كان حتى كبار رجال الدولة يرتجفون رعبا. التف الاطباء حول اتاتورك وكان عمره فقط 57 عاما، وهو بالكاد يتنفس، وقد لفت حول جسده بطانية. كانت الاجواء قاتمة، وهناك شعور عام ان هذه هي اللحظات الأخيرة. وكان الجميع خائفا جدا، حتى انونو الذي كان سيخلفه. لم يكن أحد يدري كيف سيكون الحال بعد اتاتورك. عندما أعلنت الوفاة، خرج الآلاف الى الشوارع يبكون. ويقول بكتاش «عندما مات أتاتورك كان عمري عامين فقط. لم يكن لدينا راديو في تلك الايام، لكننا عرفنا الخبر لأن الناس كانت تبكي في الشوارع. الجميع كان يبكي انا اتذكر هذا، فليرحمه الله». خرج الملايين في الجنازة، الكثير منهم نساء. فشعبيته وسط النساء كانت قد وصلت ذروتها بسبب قانون منح النساء التركيات، حق الانتخاب والترشح في الانتخابات البلدية عام 1930، ثم قانون منح النساء حق الانتخاب والترشح في البرلمان عام 1934. وتقول عدالت اغا اوغلو «النساء خصوصا كن حزينات، اتذكر ان امي بكت وصلت، ولم تنم لأيام من الحزن. كانت تركيا كلها تبكي. وكانت خائفة». ولعلها ما زالت خائفة حتى اليوم، فميراث أتاتورك كما يبعث على افتخار الأتراك، يبعث على خوفهم ايضا.
* مصطفى.. كمال.. باشا.. أتاتورك الاسم الذي ولد على دفعات

* إسم مصطفى كمال أتاتورك تَشَكل عبر الزمن. وهو مثل مسيرة صاحبة مزيج بين أشياء عديدة. كمال هو الاسم الاصلي لمؤسس تركيا الحديثة، الذي ولد في مدينة سالونيك اليونانية عندما كانت لا تزال جزءا من الامبراطورية العثمانية. والده هو علي رضا وكان يعمل موظفا في الجمارك، ثم عمل بعد ذلك في تجارة الاخشاب، ولما توفي كان مصطفى لا يزال طفلا صغيرا. فتولت والدته السيدة زبيدة تعليم مصطفى بنفسها. ومن زبيدة تعلم الابن كل خصاله، فهي بالنسبة له لم تكن فقط مجرد أم، بل كانت مثلا أعلى، ومنها تكونت صورته حول النساء التي تميزت باحترام كبير، فأعطاهن حقوقا مساوية للرجال في كل شيء. ظل مصطفى بهذا الاسم أي مصطفى علي رضا حتى المدرسة، عندما طلب منه استاذه في الرياضيات وكان اسمه كمال ان لقبه بكمال بسبب ذكائه غير العادي في الحساب. وهكذا بات الاسم مصطفى كمال. لكن بعد الدراسة والعمل في الجيش العثماني بات مصطفى كمال، مصطفى كمال باشا بعدما أن منحته السلطنة العثمانية لقب باشا بسبب ادائه خلال الحرب العالمية الاولى. وفي اول اجتماع للجمعية الوطنية التركية (البرلمان) بعد حرب التحرير، اعطاه البرلمان التركي لقب «غازي» أي فاتح. وأخيرا عندما أقر قانون «اسم العائلة» عام 1934 أعطي لمصطفى كمال الحق في اختيار أول اسم عائلي، فاختار أتاتورك. (اتا) يعني ابو، و(تورك) تعني الاتراك أي «أبو الأتراك». ومنذ ذلك الحين لم يسم احد عائلته باسم اتاتورك احتراما له.
 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة التاسعة) ـ المرأة التي أبكت أتاتورك

الكاتبة التركية ابيك شاليشلار تروي لـ"الشرق الأوسط" قصة لطيفة هانم التي وقع الأتراك في غرامها بعد موتها


كمال أتاتورك ولطيفة هانم في احدى جولاته داخل تركيا


الكاتبة ابيك شاليشلار وغلاف الكتاب

أسطنبول: منال لطفي
يعرف الأتراك سيدة تدعى لطيفة هانم، كانت زوجة اتاتورك، وأول سيدة أولى في الجمهورية التركية. يعرف الأتراك عنها انها كانت سيدة قوية، ثرية جدا، شرسة احيانا، وعصبية المزاج غالبا. وعندما طلقها اتاتورك بعد نحو 3 سنوات من الزواج، لم يفتقدها أحد في قصر الرئاسة في منطقة «تشانكيا» الراقية بوسط أنقرة، إلا اتاتورك الذي كان يختلي بنفسه ليبكي. كانت لطيفة في نظر الكثيرين من الأتراك آنذاك إمرأة مستقلة جدا، وقوية ربما أكثر من اللازم، فلم يشفع لها أنها كانت مثقفة درست القانون، وساهمت في قوانين المساواة بين النساء والرجال في تركيا خلال العشرينيات القرن الماضي، فيما كان أكثر من 95% من النساء التركيات آنذاك غير متعلمات.
وبينما كان حريم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، الذي تنازل عن الحكم عام 1909، يعشن في الحرملك بالقصر السلطاني، كانت لطيفة هانم بعد ذلك بسنوات قليلة جدا، وتحديدا عام 1923 تخرج مع اتاتورك في كل جولاته، وتسافر معه للخارج، وتحضر معه حفلات السفارات الأجنبية في تركيا، والاحتفالات العسكرية، وتجلس بجواره في العربة العسكرية وتلوح بيدها للأتراك. وبينما كان الأتراك يقدسون مصطفى كمال باشا، ويخافون منه جدا، كانت هي تجادله علنا في كل الأشياء التي لا تشاركه فيها الرأى، وفيما يناديه الجميع بلا استثناء مصطفى كمال باشا، كانت هي تناديه غالبا: مصطفى فقط وسط وزرائه وكبار المسؤولين العسكريين.

لم يهتم الكثيرون بلطيفة بعد طلاقها من اتاتورك، ماتت في الظل، إلى أن جاءت كاتبة تركية فصلت من عملها في صحيفة «جمهوريات» الواسعة الانتشار، ووجدت الوقت أخيرا لتبش في سيرة لطيفة. نبش السيرة غير حياة ابيك شاليشلار صاحبة كتاب «لطيفة هانم»، وهو الكتاب الأكثر مبيعا في تركيا خلال هذا العام والعام الماضي إذ طبع الكتاب سبع مرات، وتحولت ابيك من صحافية عادية إلى كاتبة معروفة وصاحبة أول سيرة ذاتية عن لطيفة. نبش السيرة أيضا أعاد الاعتبار للطيفة هانم التي ماتت وحيدة دون أن تدري انها يوما ما ستكون مثالا للكثير من الشابات التركيات اليوم. لكن الأهم هو أن نبش السيرة أخاف كل المؤسسات الحاكمة في تركيا، إذ مثلت ابيك أمام المحكمة العليا في تركيا بتهمة إهانة الدولة التركية بسبب كتابها حول لطيفة هانم وتطرقها إلى علاقتها مع اتاتورك، لكن المحكمة برأت ابيك لاحقا.

ابيك شاليشلار تحدثت لـ«الشرق الأوسط» حول لطيفة هانم، وحول سبب الكتابة عنها، وتأثيرها على تركيا الحديثة، ولماذا يحبها الأتراك الآن ويتحدثون عنها ويعرفونها أكثر مما عندما كانت سيدتهم الاولى.

وهنا نص الحوار:

*كتابك «لطيفة هانم» أثار جدلا واسعا في تركيا، وألقى الضوء على فترة حساسة جدا من تحول تركيا من امبراطورية إلى جمهورية، وهي السنوات الأولى من عشرينيات القرن الماضي، وسنوات زواج لطيفة من أتاتورك. لماذا نبشت حياة لطيفة هانم بالذات؟

لا شئ يشبه لطيفة هانم، تحولت صورتها من صورة المرأة الهستيرية العصبية الغيورة إلى صورة المرأة التي تحقق بسببها الكثير للتركيات. قرأت حولها عدة قصص، أثارت اهتمامي جدا، فقررت الحفر في حياتها لمعرفة أي نوع من النساء كانت هذه المرأة، ونوع علاقتها مع مصطفى كمال، ودورها في الحركة النسوية في تركيا في ذلك الوقت.

*ما الذي تقصدينه بالحركة النسوية في تركيا في ذلك الوقت، لقد كان الوقت مبكرا على ظهور حركات نسائية في تلك الايام؟

لا.. الحقيقة لم يكن الوقت مبكرا، بل كان الوقت المناسب. فخلال السنوات الأخيرة من عمر الدولة العثمانية ظهرت الكثير من الحركات النسائية. كانت هناك عام 1908 حركات نسائية بعد الثورة على السلطان عبد الحميد الثاني وإعلان الاصلاحات الدستورية. لم تكن النساء تخرجن في مظاهرات في الشوارع، لكنهن كن يصدرن مجلات أسبوعية، وبدأت النساء التعبير عن أنفسهن. وعندما بدأت حرب التحرير انخرطت النساء في الكثير من الشؤون العامة، وخرجن من الحرملك العثماني، وانضم إليهن عدد من الرجال أيضا، لجعل النساء أحرارا وغير خاضعات للرجال، ومكانهن ليس المنزل بالضرورة، وهكذا بدأت الحركة النسائية في تركيا بعد 1908.

لطيفة في عام 1899، عندما كانت تبلغ من العمر 10 أعوام أو 11 عاما، بدأت دراستها في الخارج في لندن وباريس. في لندن درست في مدارس عريقة مشهورة، وكانت تتحدث الكثير من اللغات الأجنبية. في باريس درست القانون، وتأثرت بالأجواء المحيطة، كما أنها كانت محاطة بشخصيات مثقفة عديدة، لكننا لا نعرف من هم هؤلاء الأشخاص على وجه الدقة.

وعندما عادت إلى تركيا خلال حرب التحرير كانت متأثرة بالأفكار حول حقوق النساء، والتقت مع مصطفى كمال الذى كان بدوره مهتما بالنساء ومساواتهن مع الرجال، وكان ضد فكرة فصل النساء عن الرجال في المجال العام. كان زواجهما زواج عقل، لكنه كان أيضا زواج حب.

وخلال سنوات زواجهما كانت لطيفة تشكل على الدوام تحديا عقليا لمصطفى كمال لأنها كانت مهتمة جدا بالسياسة الدولية والتركية، ولأنها كانت امرأة حكيمة جدا. وكانت هذه السنوات، سنوات التغيير الكبير في تركيا، واتيح للطيفة هانم الوقت والفرصة لأن تتمرن على السياسة والحكم، واعتقد انها مرت بتجربة مثيرة جدا خلال سنواتها في قصر الحكم في تشانكيا.

*قلت إن لطيفة كانت تشكل تحديا عقليا أمام مصطفى كمال. في أي قضايا على وجه التحديد؟

كانت لطيفة تشكل تحديا أمام مصطفى كمال في الكثير من القضايا، خصوصا قضايا النساء. في عام 1923 مع تأسيس الجمهورية التركية أرادت أن تكون عضوا في البرلمان، ولم يكن من حق النساء في ذلك الوقت لا الترشح ولا التصويت، لكنها طلبت الحصول على حق الترشح. ونشب خلاف محدود بين مصطفى كمال ولطيفة حول هذا الموضوع، وقال لها مصطفى كمال: هذا ليس ملائما.. كيف تريدين أن تكوني عضوا في البرلمان، وأنت زوجتي؟

لكن المفارقة انها بالرغم من كونها لم تشارك في هذه الانتخابات، إلا أن الكثير من الناس صوتوا لها، فعندما فتحت صناديق الاقتراع وجد الكثير من البطاقات كتب عليها: لطيفة، وليس هذا غريبا فقد كانت لطيفة تذهب مع مصطفى كمال في كل مكان في تركيا والخارج، في المناسبات الرسمية والترفيهية، وكان هذا غير عادي، ففي الدولة العثمانية لم تكن زوجة أو نساء السلطان يظهرن على الملأ. لكن لطيفة وكمال ارادا تغيير الصورة، وجعلا خروجها وتجولهما معا شيئا عاديا. كانا يذهبان معا إلى كل مكان، ويأكلان معا ويمارسان معا كل الأنشطة، مثل ركوب الخيل، ويقفان معا أمام الكاميرا. وبالتالي كان لابد ان ينتهي الفصل بين الرجال والنساء، أعتقد أن لطيفة لعبت دورا كبيرا في هذا الصدد. فقد كانت لطيفة هانم حاضرة بقوة في كل مكان ومناسبة، تتحدث مع الجميع، كان حضورها طاغيا. وعندما كان يأتي سياسيون ودبلوماسيون أجانب إلى قصر الحكم في تشانكيا كان لابد أن تلتقي بهم وتتحدث معهم. وكثيرا ما كانت تتحدث معهم حول قضايا المرأة في تركيا، مما كان يثير غضب بعض المحيطين بها في قصر الرئاسة.

كانت فعلا شخصية أساسية في القصر الرئاسي، بسبب الكاريزما التي تتمتع بها وصغر سنها، كما كان تعليمها جيدا جدا، ومن عائلة ثرية من البورجوازية عالية الشأن. كما انها كانت زوجة الرئيس وقائد حرب التحرير، فكان على الجميع احترامها وسماع افكارها، ولم يكن هذا هو السلوك العادي حيال النساء في ذلك الوقت.

*ماذا كانت خلفيتها العائلية؟

والدها كان تاجرا، ووالدتها كانت من عائلة ثرية جدا في تركيا. كانت الأسرة مكونة من 6 أبناء: 3 بنات، و3 أولاد. كل الأبناء نالوا تعليما جيدا جدا في الخارج، إلا انني اعتقد ان لطيفة كانت الأفضل تعليما بين البنات، كما ان شخصيتها كانت شخصية كاريزمية قيادية وصلبة وشرسة في الدفاع عن أفكارها، وهذا لأنها في أسرتها لم يتم أبدا قمعها، كانت حرة في التحرك وفي التعبير عن رأيها. وقد بدأ هذا منذ كانت طفلة صغيرة، فقد أراد والداها أن تنال البنات والصبيان في الأسرة نفس التعليم، لم يكن لديهم فكرة أن تعليم البنات يجب أن يكون مختلفا عن تعليم الصبيان.

فمثلا أجادت لطيفة الانجليزية وهي تبلغ من العمر 3 أو 4 سنوات، لأن أستاذا من انجلترا جاء ليعملها الانجليزية في منزل والدها في تركيا، فعندما يكون لديك مال تكون الأمور مختلفة. كما انه في السنوات الاخيرة من السلطنة العثمانية بدأت حركات التعرف على الغرب. كانت البورجوازية التركية منفتحة على العالم وتسعي للتحديث وكثيرة السفر للدول الأوروبية، لكن لطيفة لم تكن شخصية غربية الثقافة، بل متنوعة الثقافة، فقد كانت تلم بلغات شرقية مثل العربية والفارسية. وفي طريقة لبسها وسلوكها وطباعها خلطت بين الثقافتين الغربية والشرقية وساعدها انها كانت ذكية وصغيرة في السن.

*لطيفة هانم تبدو مختلفة بشكل كبير عن غالبية النساء التركيات في ذلك الوقت، ففي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت غالبية النساء التركيات يعشن من الحرملك، أي الأماكن المخصصة للنساء الممنوع على الرجال دخولها. فهل كانت النساء التركيات في ذلك الوقت يدعمن لطيفة أم أن بعضهن لم يكن معجبا بسلوكها الخارج عن التقاليد المتعارف عليها في ذلك الوقت؟

كانت هناك نقاشات حولها. وكانت هناك انتقادات لها من نساء ورجال لأنها لم تكن تنادي مصطفى كمال بـمصطفى كمال افندم أو باشا، بل كانت تناديه أمام الجميع وعلى الملأ كمال فقط. أحيانا فقط كانت تناديه باشا وافندم لكن غالبا تناديه كمال فقط. وكانت الانتقادات لها هي أنها مدللة أكثر من اللازم لدرجة الافساد. لكنها لم تكن تكترث لهذه الاتهامات أو الانتقادات. لكن كما كان لها منتقدون، كان لها معجبات من بين النساء التركيات في ذلك الوقت اللواتي اعجبن بها وبسلوكها، مثلا النساء الأرستقراطيات دائما ما كانت لطيفة تتمتع بينهن بشعبية كبيرة. وكان من عادات لطيفة انها كل يوم الساعة الخامسة، وقت تناول الشاي، تدعو عددا من النساء إلى القصر الرئاسي وتتحدث معهن حول ضرورة الانخراط في المجتمع وعدم الانصياع لفكرة عزل النساء في بيوتهن. فكما قلت حركة النساء التركيات بدأت في السنوات الاخيرة للسلطنة العثمانية، وعندما قامت حركة الاصلاح الدستوري، ثم حرب التحرير الوطني، كانت النساء جزءا منها. وكانت هذه مرحلة التحول الاجتماعي في تركيا. طبعا كان البعض يعارض هذه التحولات، لكن مصطفى كمال كان مصمما على إحداث تغيير في المجتمع وكان ذو شخصية كاريزمية فريدة مما مكنه من التحرك للأمام، فيما المعارضون له كانوا يقولون إنه يسمح لزوجته بالخروج «عارية» لأن لطيفة لم تكن ترتدي الحجاب على رأسها، لكن هذا ظلم، فقبل أن تتزوج لطيفة مصطفى كمال كانت لا ترتدي غطاءا على رأسها مثل كل بنات الطبقة البورجوازية المتعلمة، أو ترتدي غطاء شعر صغيرا جدا لأنها كانت تقضي وقتا طويلا في مدينة ازمير، وهي مدينة اكثر تحررا من باقي المدن التركية بسبب وجود أجانب وأقليات فيها. لكن بعد الزواج، واحتراما لموقع زوجها كانت ترتدي دوما غطاء يغطي شعرها، ولم تعد ترتدي الملابس التي كانت ترتديها قبل الزواج.

*تقولين إن لطيفة ومصطفى كمال تشاجرا عندما لم يسمح للطيفة بالترشح للبرلمان. لكن بعد سنوات قليلة من هذا منحت المرأة التركية حق الترشح والتصويت، فهل تعرفين تأثير لطيفة على تشريع هذه القوانين؟

في حدود المصادر التي جمعتها في الكتاب، أستطيع ان أقول إن بصماتها واضحة جدا في القانون المدني التركي الذي تم اعتماده عام 1926 بعد طلاقها من اتاتورك. ففي القوانين التي كان معمولا بها في زمن الدولة العثمانية لم يكن من حق المرأة الطلاق، كما كان من حق الرجل الزواج من أربع زوجات. هذا القانون تغير عام 1926، وكانت لطيفة مطلعة على مواده خلال التحضير له بسبب معرفتها بالقانون، وكانت عينها على التغييرات التي تناقش. وقد تم اعتماد القانون السويسري كأساس لقانون الأحوال المدنية التركي. وكانت لطيفة على دراية كذلك بالقانون الألماني، فخرج القانون التركي متأثرا بكلاهما. لكن المأساة والمفارقة ان طلاق لطيفة من مصطفى كمال لم يتم وفقا للقانون المدني الذي ساهمت في اقراره، بل تم برسالة طلاق أرسلها لها مصطفى كمال إلى بيتها على يد مسؤول من الدولة. كما ان المفارقة ان الطلاق لم يتم كما تم الزواج، فقد تزوجا زواجا مدنيا. كلاهما جلس على الطاولة، ووقع كلاهما أوراق الزواج. وكانت لطيفة موكلة نفسها، وليس والدها. وفي صباح اليوم التالي خرجت كل الصحف التركية تتحدث عن الطريقة التي تم بها الزواج. فحتى ذلك الوقت كان الأب هو وكيل العروس، والذي ينوب عنها في مراسم الزواج، وإذا لم يكن الوالد يكون الأخ الاكبر. كانت هذه هي المرة الأولى التي تمثل فيها إمرأة في عقد الزواج. بعد الطلاق كان هناك رسم كاريكاتوري في احدى الصحف المصرية في العشرينيات يصور مصطفى كمال كرجل شرقي قاس يطلق لطيفة ويرسلها لمنزل أسرتها بحقيبة ملابسها. طلاقها بقرار حكومي جعل لطيفة تشبه طلاق اتاتورك لها بطلاق نابليون لجوزفين.

*عندما تنظرين إلى نوع العلاقة بين مصطفى كمال ولطيفة هانم، هل تعتقدين أن مصطفى كمال شعر أحيانا بالغيرة من لطيفة بسبب استقلاليتها وشخصيتها الصلبة؟

لا استطيع أن اقول إن مصطفى كمال كان يغار من لطيفة، لكن عموما هو كان شخصية غيورة، ليس لأنه شرقي، فحتى الرجال الغربيين يشعرون بالغيرة.

*هل كان يشعر بالغيرة لأنها شخصية مستقلة؟

لا.. مصطفى كمال كان يحب هذه الصفات في لطيفة. كما انه كان واثقا من نفسه بلا حدود، فهو الرئيس وقائد حركة التحرير الوطني ومعبود الاتراك، كما كان يحب الشخصيات التي تشكل له تحديا ذهنيا، لا يحب دائما سماع كلمة «نعم». وكانت لطيفة موجودة حوله ومعه وتقول دوما وبصراحة أفكارها وما تعتقده. أفكارها كانت ليبرالية جدا. واعتقد أنه اعجب جدا بهذا التحدي الذهني الذي تشكله لطيفة. عندما التقيا، وبعد فترة قصيرة انجذب جدا إلى لطيفة لانه وجد افكارا مثيرة جديدة وشخصية جريئة، وخلال سنواتها في القصر الرئاسي كانت تناقش الحضور، وتتحدث بلا أي مشكلة 5 لغات. واعتقد ان مصطفي كمال وجد في لطيفة شخصا مثيرا للاهتمام. لكنها بالاضافة إلى كل هذا كانت سيدة جذابة، ذات انوثة. وبالرغم من أن الكتابات التركية وصفتها دائما بأنها كانت سيدة غير جميلة، إلا انني عندما قرأت ما كتبه عنها الصحافيون الفرنسيون والاميركيون والبريطانيون في ذلك الوقت، وجدت انهم وصفوها بأنها كانت سيدة جذابة جدا، صغيرة الحجم، جميلة الملامح، بعينين واسعتين سوداوتين، وعندما تنظر في الصور تري انه ليس في ملامحها شئ قبيح، بل عينان جميلتان. لكن الاهم انه عندما كانت تتكلم وتتحرك وتناقش كان يظهر جمال لا تنقله الصور التي اخذت لها، كان في شخصيتها شئ جذب الجميع اليها.

س-لماذا وكيف حدث الطلاق بينهما؟ وماذا كان تأثيره على كل منهما؟

هذه قصة حزينة، فكلاهما لم يفصح ابدا عن سبب الطلاق حتى وفاتهما. وحتى اليوم سبب الطلاق ما زال غير معروف، فهذا سر ظل بينهما. كلاهما تأثر بالطلاق وكان حزينا، لكن اعتقد ان لطيفة عانت من الوحدة بعد الطلاق، وكانت أكثر حزنا. أحد اصدقاء مصطفى كمال قال لي إن مصطفى كمال كان يبكي بعد الطلاق. كان هذا الصديق مع مصطفى كمال عام 1925 في قصر الرئاسة في تشانكيا بعد 3 أشهر فقط من الطلاق، وقال إن مصطفى كمال كان مكتئبا، وكان يذهب إلى غرفته ليبكي لأن لطيفة لم تعد موجودة في حياته. ورغم محاولات المصالحة، لم يعودا إلى بعضهما البعض، والتقيا مرة واحدة فقط بعد ذلك في البوسفور. كان مصطفى كمال في يخت، ولطيفة مع معارف لها، والتقيا ولم يتحدثا، لكن اللقاء اثر على لطيفة، وظلت تبكي 3 أيام بعده.

*هل تعتقدين ان لطيفة حصلت على التقدير الذي تستحقه بسبب تأثيراتها على قانون الأحوال المدنية، ودورها في منح النساء التركيات حقوقهن بالرغم من انها لم تبق في القصر الرئاسي سوي عامين ونصف فقط؟

بعد نشر كتاب «لطيفة هانم» تغيرت الصورة المأخوذة عنها، وحظيت لطيفة هانم بالاحترام، فقبل ذلك كانت صورتها لدينا نحن الاتراك انها سيدة مدللة جدا، تمر بحالات انهيار هستيرية، تطرق على الجدارن وتصرخ على مصطفى كمال وهو يتناول العشاء مع اصدقاء.

*هل كانت تفعل هذا احيانا؟

ربما فعلته مرة. كانت البيوت القديمة من الخشب، وتنقل الصوت بسهولة. واحدة من الحوادث المعروفة أنها سارت في غرفتها بحدة وهي تضغط على حذائها مما جعل الموجدين في الدور الارضي يسمعون، لكنها فعلت هذا احباطا وغضبا، فدائما كان العشاء في القصر الرئاسي، عشاء للرجال فقط،. حاولت لطيفة ان تنضم لهم مرات، لكن هذا لم يكن دائما سهلا أو مقبولا. مرة ربما كانت مستاءة جدا، فمشيت بحدة في غرفتها، لكن صديقا مقربا لها قال إن الكلام حول حالات هستيرية تصيبها كذب لا اساس له.

لكن يجب فهم الحالات التي كانت تنتاب لطيفة ليس بوصفها زوجة مصطفى كمال، لكن بوصفها ثاني أقوى شخص في الجمهورية التركية، فقد كانت سيدة نافذة وذات قوة. أرادت ان تكون في البرلمان لتفعل شيئا مفيدا للتركيات، فلم تكن نسبة المتعلمات من النساء في تركيا كبيرة في ذلك الزمن، وهي كانت تعرف حجم التغيير الذي يمكن ان تحدثه، وأرادت الاستفادة من الفرصة، كما انها كانت نشطة جدا، وطموحها لم يكن سرا على أحد. الجميع كان يعرفها ويعرف طريقة تفكيرها. مصطفى كمال دائما ما كان يسأل المحيطين به عن افكارهم، ولطيفة كانت من اوائل الشخصيات التي كان مصطفى كمال يسألها عن رأيها. وهي كانت تشعر ان لها دور أو يجب أن يكون لها دور فيما يتعلق بالنساء وبتركيا وأرادت ان تعطي فرصة، لكن لم يتم منحها هذه الفرصة، ومن هنا كان سبب التوتر.

*بعد كتابك «لطيفة هانم» كيف أصبحت صورة لطيفة هانم لدي الاتراك؟

تغيرت صورة لطيفة لدى الاتراك وحظيت بالاحترام. الناس لم تعد تنظر اليها بنفس الطريقة القديمة. طبعا ليس كل الناس، فهناك من لم يقرأ الكتاب وما زال ينظر اليها النظرة نفسها. الكتاب كان الكتاب الاكثر مبيعا في تركيا العام الماضي. بيعت منه 90 الف نسخة. وأصدرنا طبعة اخري اصغر حجما بيع منها 70 الف نسخة، بالاضافة الى اشرطة فيديو. الصحف كلها كتبت عن الكتاب، وبرامج عدة في التليفزيون عالجت الكتاب وقصة لطيفة. الاتراك عموما احترموا في لطيفة انها لم تتحدث ابدا للاعلام حول مصطفى كمال وسبب طلاقهما. جاء اليها الكثير من الصحافيين وطلبوا منها ان تتحدث حول مصطفى كمال وسنواتها في قصر تشانكيا، وكانت دائما ترفض. طلبوا منها نشر مذكراتها ورفضت، لم تقبل ابدا هذه العروض ولم تتحدث ابدا حول مصطفى كمال. هذه الحقيقة جعلت الناس يقولون: ان لطيفة قد لا تكون سيدة كاملة المواصفات لكنها لم تتحدث ابدا بعد وفاة مصطفى كمال. وهذا غريب من وجهة نظري فقد كان يمكن ان تتحدث حول علاقاتها بمصطفى كمال من دون ان تكون اقل احتراما. المهم ان الاتراك احترموها جدا لهذه الحقيقة، فكل المقربين من اصدقاء مصطفى كمال كتبوا ونشروا مذكراتهم. هي الوحيدة التي لم تفعل هذا.

تركت لطيفة مذكرات ومراسلات كثيرة وأوراقا شخصية، الا ان مؤسسة التاريخ التركي تحتفظ بهذه الأوراق. فقبل وفاتها مباشرة، وضعت لطيفة كل أوراقها في حقيبة وحفظتها في صندوق سري بأحد البنوك، وبعد وفاتها قام البنك بإعطاء هذا الصندوق الى مؤسسة التاريخ التركي، وهذه الأوراق محفوظة في المؤسسة ولم يسمح لاحد بالاطلاع عليها. أراد الرئيس التركي السابق، احمد نجدت سيزر الاطلاع عليها، لكن المؤسسة لم تسمح له، فوفقا للقانون لا يسمح بفتح الصندوق الا بعد مرور فترة زمنية معينة. مرت هذه الفترة الزمنية وكان مقررا فتح الصندوق في عام 2003، وساعتها دار جدل ساخن في تركيا حول ما اذا كان ينبغي فتح الصندوق والإطلاع على الاوراق، ثم تدخلت اسرة لطيفة هانم في هذا الجدال، ورفضت فتح الصندوق، وقالت ان الكشف عن الأوراق لا يجب ان يتم بدون موافقة الاسرة، فتم اغلاق الجدل حول الموضوع وما زالت الاوراق محفوظة في مؤسسة التاريخ، لكنني لا اعتقد ان سبب إبقاء سرية الاوراق هو موقف أسرة لطيفة هانم، فالدولة التركية نفسها لا تريد حقيقة فتح الصندوق والإفراج عن الأوراق للمؤرخين والصحافيين. السؤال: لماذا؟ هناك طبعا موضوع صورة مصطفى كمال. فرواية تاريخ تلك الفترة، كما تري الدولة التركية، من وجهة نظر امرأة مطلقة مجروحة قد يصيب صورة مصطفى كمال ببعض الضرر. لكن انا استغرب طريقة التفكير هذه، فلطيفة هانم كانت مغرمة بمصطفى كمال، كانت تكن له مشاعر خاصة جدا، وإذا كانت هناك رسائل او أوراق حول الطلاق لا تريد الدولة التركية الافراج عنها، فلماذا لا تفرج عن الأوراق الأخري. هناك مؤرخ تركي كبير معروف مات منذ عامين أطلع على هذه الأوراق عندما أعطاها البنك للمرة الاولي الى مؤسسة التاريخ. هذا المؤرخ قال انه:«بدون قراءة هذه الأوراق.. لا نستطيع كتابة تاريخ حرب التحرير، وميلاد الجمهورية التركية». في اعتقادي ان هناك أوراقا هامة جدا في هذا الصندوق. كل ما نعرفه حول الاوراق في الصندوق عناوينها العريضة، وهذه العناوين وحدها تشير الى الأهمية البالغة لهذه الأوراق. هناك 3 مفكرات شخصية تحتوي على الخواطر الشخصية للطيفة هانم، ومراسلات بينها وبين مصطفى كمال وشخصيات هامة خلال تلك الفترة. هي وضعت كل ما في قلبها في هذه الأوراق، ولهذا ربما يمكن معاملة هذه المفكرات الخاصة بطريقة مختلفة عن بقية الاوراق. والاحتفاظ بسرية بعض الأوراق الأخرى لمدة 10 سنوات اخري مثلا.

*بعد الطلاق اختفت لطيفة من الحياة العامة.. فكيف قضت بقية حياتها؟

هذه قصة حزينة جدا.. لقد اصبحت أمراة غير مرئية، ومرضت جدا بعد الطلاق.

*ما هو عمرها عند الطلاق؟

26 عاما. بعد الطلاق ذهبت الى اوروبا بإذن خاص من مصطفى كمال. ثم عادت الى تركيا، وبعد ذلك أخذ منها جواز سفرها كى لا تتحرك كما تريد. وفي عام 1933 استعادت صحتها. وعندما بدأ عدد من الأتراك حركة سياسية لإنشاء حزب ثان في تركيا بالاضافة الى حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، انضمت لطيفة الى هذه الحركة التي كانت تضم اصدقاء لها عندما كانت في القصر الرئاسي في تشانكيا، وتم انشاء الحزب، لكن الحزب سرعان ما قرر انهاء نشاطه لان تركيا لم تكن مستعدة في ذلك الوقت لانشاء حزب سياسي ثان ينافس حزب الشعب الجمهوري. واعتقادي انه لو طال عمر هذا الحزب لوجدت لطيفة هانم دورا جديدا، فمؤسسو الحزب طلبوا من لطيفة الانضمام له، وكانوا يسألونها عن افكارها وما الذي تعتقد أنه ينبغي عمله لتأسيس الحزب. فموقع لطيفة داخل النخبة التركية ظل قويا بعد الطلاق لدرجة ان الصحف الغربية بعد وفاة اتاتورك كانت تتحدث عن احتمال خلافة لطيفة له في حكم تركيا.

بعد عام 1933 عانت من صدمات كثيرة. توفي والدها، وتوفيت والدتها، ثم توفي شقيقها الاصغر، وتدريجيا اصبحت أكثر فأكثر غير مرئية. وللخروج من عزلتها، طلبت من اتاتورك ان يعطيها عملا في الدولة، طلبت ان تعمل دبلوماسية في أحد السفارات التركية بالخارج، لكن لم يستجيب اتاتورك لطلبها، وبالتالي اصبحت كل دائرة حركتها هي معارفها وأصدقائها، بالاضافة الي عصمت انونو، نائب أتاتورك وأقرب اصدقاءه اليه، وزوجته. فقد كانت لطيفة هانم صديقة مقربة لهما.

*هل اخذ جواز سفرها ورفض عملها دبلوماسية يعكس قسوة من اتاتورك حيال لطيفة هانم؟

قد يبدو الامر كذلك، لكن النظر بشكل واقعي الى الحال الى تلك الأيام، نجد ان تركيا كانت لا تزال بلدا محافظا اجتماعيا، ولطيفة شابة مطلقة والاختلاط كان لا يزال محدودا بين الرجال والنساء. كان وضعا صعبا بالنسبة للطيفة، لكن لم يكن بإمكانها فعل شئ. كما انها كانت نجمة في المجتمع، كلما ذهبت او جاءت الانظار تلتف حولها. كما كانت الصحف ومجلات المجتمع والموضة تتلقف صورها كلما ذهبت الى اى مكان عندما كانت زوجة اتاتورك وبعد الطلاق.

عندما طلبت لطيفة إيجاد عمل لها بعد أشهر من الطلاق، ولم تكن قد انهارت بعد. لكن عندما رفض الطلب بدأت في البكاء والرثاء لنفسها. كان هذا صعبا عليها جدا، لكنه كان صعبا ايضا على مصطفى كمال. فامراة شابة ذكية مطلقة من رئيس الدولة تريد العمل في منصب رفيع بالخارجية صعب جدا عليه. ربما كان الافضل ان تعمل في شئ اقل ظهورا. لكن لأنها كانت من عائلة ثرية جدا كان بإمكانها ان تذهب الى اوروبا عدة مرات. في أوروبا كانت طبعا أكثر حرية لانه كان بإمكانها الذهاب للاوبرا وحفلات الموسيقى، فهي كانت عاشقة للموسيقى، وكانت عازفة ماهرة جدا للبيانو. وخلال فترة زواجها من اتاتورك كان مصطفى كمال عندما يذهب معها للعشاء في احدى السفارات الاجنبية، او مع الاصدقاء كان يطلب منها ان تعزف للحضور. كان فخورا بها جدا. بعد ان تجاوزت لطيفة الخمسين من العمر عادت من جديد للانخراط في الحياة العامة، وكان بإمكانها الذهاب للمسارح والسينما بدون أن تخشى ان يعرفها الناس لأنها كبرت في السن. كانت تسكن في هذه الفترة بالقرب من ميدان «تقسيم» وسط اسطنبول وكان هناك مسرح تذهب اليه وتحضر العروض بدون ان يميزها الناس، اصبحت فعلا امراة غير مرئية.

*بالرغم من مصطفى كمال اتاتورك ولطيفة هانم لم يكشفا ابدا سبب الطلاق لاي شخص. هل ساعدتك عملية التنقيب التي اجريتها على حياة لطيفة هانم وعلاقاتها بمصطفى كمال على استنتاج سبب الطلاق او الطرف الذي طلبه؟

في الواقع لطيفة هانم هي الشخص الذي طلب الطلاق. طلبته 3 مرات. لكن شعرت بالندم بعد طلب الطلاق. هي قررت انها لن تستطع مواصلة الحياة مع مصطفى كمال بهذه الطريقة لانها لم تتمكن من فعل الاشياء التي تريدها. عندما طلبت الطلاق في المرة الاولى، انفصلت هي ومصطفى كمال بدون طلاق لبعض الوقت، لكن بعد شجار عنيف في تشانكيا حدث الانفصال مجددا، وفي هذا الصدد تقول اسرتها انها هي من قرر المغادرة، لكن المصادر الرسمية التركية تقول ان مصطفى كمال ارسلها الى منزل اسرتها في ازمير. على كل الحالات غادرت الى ازمير ولم يكن الطلاق قد تم، ثم لاحقا كتبت الى صديق مقرب منها ومن مصطفى كمال انها تريد العودة الى تشانكيا، لكنه خلال هذه الاثناء ارسل لها مصطفى كمال ورقة الطلاق من الدولة التركية الى منزل اسرتها. وأعتقد ان مصطفى كمال فكر انه بعد الانفصال الاخير انه لم يعد من الملائم ان يعيشا معا ثانية. ومع انها كانت الشخص الذي طلب الطلاق، الا أنها كانت حزينة جدا بعده.

*هل كان في حياة اتاتورك نساء اخريات غير لطيفة هانم؟

ليس هناك الكثير الذي كتب حول نساء في حياة اتاتورك عندما كان متزوجا من لطيفة. لكن من المعروف عن لطيفة انها كانت امراة غيورة جدا. فهناك روايات من اشخاص يعرفون مصطفى كمال ولطيفة يقولون انها احيانا كانت تقوم بفتح خطاباته. فالأمة التركية كانت واقعة في غرام مصطفى كمال، فهو قائد حرب التحرير، وزعيم البلاد، وبالاضافة الى هذا كان رجلا وسيما جدا بعينين زرقاوتين وشعر بني، وشخصية جذابة كاريزمية. اما لطيفة فلم تكن تنطبق عليها معايير الجمال التقليدية، فلم تكن بشعر اصفر وعيون ملونة، كان شعرها أسود وكذلك عيناها وكانت غيورة، ويثيرها ان يطري مصطفى كمال على أي امراة. كما ان شخصية مصطفى كمال قد لا تكون ملائمة للزواج، فهو كان يعتز جدا بحريته، لانه لم يتزوج الا في سن متأخرة، لكن مع لطيفة لم تكن لديه اى حرية، انا واثقة، فهي كانت معه وحوله في كل مكان في المكتب، في المنزل، كانت دينامكية جدا. عندما حدث الطلاق، تبنى مصطفى كمال 5 ابناء وعين مربيات لهم، ليملأ الفراغ الذي تركته لطيفة، فهي كانت في ديناميكية 10 او 15 شخصا. كانت تقوم بنفسها بإدارة شؤون المنزل، وتنظيفه. كانت لدى مصطفى كمال مديرة منزل سويسرية، قال له مرة عندما شاهدها تحمل فرشاة لازالة الغبار: مدام لماذا تنظفين؟ لقد قامت لطفية بتنظيف كل شئ. لقد افتقد مصطفى كمال لطيفة بعد الطلاق. لكنه تعرف على سيدة تركية تدعى فكرية، لم يتزوجها، لكن كان معروفا انها تعيش معه.

*خلال اعدادك الكتاب، ما هي أكثر حكاية في حياة لطيفة هانم اثارت انتباهك؟

علاقاتها مع البيانو، فهي كانت عازفة بيانو ماهرة. مصطفى كمال احب طريقتها في العزف جدا. في هذه الأيام كان هناك عدد قليل من السفارات الاجنبية في أنقرة، من بينها السفارة الروسية، وكانت العلاقات الروسية - التركية طيبة، وفي احدى المرات قام مصطفى كمال ولطيفة بزيارة الى منزل السفير الروسي وزوجته. وطلب مصطفى كمال من لطيفة ان تعزف. كان هناك حوار بينه وبين السفير، قبل ان ينادي على لطيفة: هانم هل يمكن ان تعزفي لنا على البيانو؟ دائما كان يدعوها هانم، وكان يحب ان يظهر قدراتها للاصدقاء والمعارف، فهو كان اكبر منها بـ 19 عاما، ربما ايضا نظر اليها كإبنة يريد ان يظهر موهبتها وقدراتها، وجلست كل البيانو وعزفت، وكان الجو رومانسيا جدا، والواقع ان مصطفى كمال كان شخصا رومانسيا. فالبرغم من انه قضي وقتا طويلا على جبهات المعارك، الا انه كان شخصا رومانسيا يهتم ببيته، وما يدور فيه. عندما كان يذهب للمنزل، كان يتوجه للمطبخ، ويسأل لطيفة: هانم.. ما الذي تطبخينه؟

كان منزلهما صغيرا من طابقين، وقد أحضرت لطيفة من منزل اسرتها السجاد والفضة، ولان أسرتها ثرية جدا، فقد احضروا ايضا سريرا جميلا جدا مطرزا بالذهب، سرير ملكي، وقطع اساس غالية جدا كلها من ازمير لان أنقرة لم يكن بها شئ، لم يكن بها محلات اساس، او فنادق او مسارح او سينما. اما في ازمير، فقد كان هناك الكثير من الاستيراد للمنتجات الاجنبية.

*اين هذا الأثاث الان، ومحتويات المنزل بعد وفاة لطيفة هانم؟

تحول المنزل الى متحف يضم كل مقتنيات لطيفة هانم ومصطفى كمال، ولانه افتتح حديثا فلم اره بعد.

*عندما كنت تكتبين عن حياة لطيفة هانم، لابد انك كونت رؤية حول تاريخ تركيا في ذلك الوقت وتحول الدولة العثمانية الى جمهورية تركيا. كيف تصفين هذا التحول من الامبراطورية العثمانية الى الجمهورية؟

تحول به تعرجات كثيرة. ففي البداية كانت لدينا ديمقراطية الحزب الواحد، وبالتالي كانت هناك قيود على الديمقراطية، ثم تعددت الاحزاب، لكن ظلت هناك قيود. فيما يتعلق بالنساء ظلت هناك قيود ايضا وصور نمطية.

*كيف فكرت في كتابة كتاب عن هذه السيدة المجهولة لدى الأتراك اليوم؟

هذا بالضبط ما دفعني للكتابة عنها، دورها الخفي علينا. لقد قرأت مذكرات كل الشخصيات الهامة التي عاشت هذه الفترة، وهي كلها تتضمن الكثير حول مصطفى كمال اتاتورك، والقليل جدا حول لطيفة. كذلك بعدما فصلت من عملي لم احاول البحث عن وظيفة اخري، لان عمري كان 57 عاما وكنت قضيت 35 عاما من عمري في الصحافة، قلت لنفسي انه افضل لى ان اتفرغ للبحث حول موضوعات النساء، لانني كنت خلال عملي في الصحيفة اعالج قضايا النساء في طبعة يوم الأحد من الجريدة. وعندما قرأت ان لطيفة هي التي طلبت من مصطفى كمال اعطاء النساء حق التصويت والمشاركة في البرلمان، وجدت نفسي مشدودة للشخصية، وأريد معرفة المزيد حولها. لطيفة طبعا التي كانت ناشطة في حركة النساء. لكن بسبب سنوات زواجها القليلة من اتاتورك، نسى الناس دورها، وتراكمت الكثير من المعلومات المشوهة حولها. كان الموضوع بالنسبة لي ملائما تماما، وكلما وجدت أي معلومة جديدة حول لطيفة هانم كانت تنسجم بطريقة طبيعية جدا مع صورتها وتطورات احداث حياتها.

صحيفة «نيويورك تايمز» الاميركية كانت تغطي اخبار لطيفة هانم بشكل مكثف، كتبوا حولها الكثير من المقالات المثيرة جدا، وكان هذا مفيدا بالنسبة لي، فالصحف التركية خلال فترة زواج لطيفة من كمال اتاتورك كانت تصدر بالحروف التركية التي منعها مصطفى كمال لاحقا، واستبدلها بالحروف اللاتينية، وبالرغم من انني حاولت تعلم الحروف التركية، الا ان الامر كان صعبا، وبالتالي وجدت في المصادر الغربية مساعدة مفيدة، فالاعلام الغربي غطى اخبارها في ذلك الوقت بعمق وبكثافة. حصلت على معلومات من «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز»، ومعلومات من أفراد عائلتها، ومذكرات الشخصيات المؤثرة التي عاشت في تلك الفترة، كما اطلعت بشكل كبير على التاريخ التركي في ذلك الوقت لانني لم ارد ارتكاب اخطاء في موضوعات حساسة في تلك الفترة. اعتقد انه حظي ولطيفة هانم انني فصلت من «جمهوريات»، فلولا فصلي من العمل لما وجدت وقتا كافيا للبحث في المصادر حول تاريخ لطيفة هانم.

*ما هي اكثر مقولة للطيفة هانم مثيرة للاهتمام في رأيك؟

مرة سأل أحد الصحافيين لطيفة حول منع أتاتورك للحجاب فقالت:«الحجاب لا يجب ان يكون ثورة بل تطور»، وهذا تعبير أعجبني. لكن من المقولات الشهيرة للطيفة مقولة كانت ترددها أمام أقاربها وهي «أنا حية ميتة». فقد كانت حياتها تعيسة جدا، خصوصا بعد وفاة اتاتورك، فعندما كان حيا، كانت تنشغل باخباره، وما الذي فعله او سيفعله. وآخر منزل عاشت فيه لطيفة قبل وفاتها كان يطل على تمثال جميل جدا لاتاتورك. هى افتقدته حتى آخر يوم لها، وكانت تضع

مسدسا اهداه لها اتاتورك مطرزا بالذهب في حقيبة يدها. أعتقد أنها كانت تشعر دوما بالتهديد والخطر. كذلك من أقوالها المعروفة» الشخص الميت.. هو الشخص الوحيد الذى لا يمكن ان يكون غيورا». أما مقولتها المفضلة فهي» هناك اشخاص لابد أن يموتوا لكي يدرك الناس قيمتهم».
 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

تركيا من أتاتورك الى أردوغان (الحلقة العاشرة) ـ «الشرق الأوسط» في ديار بكر: ممنوع كلمة.. كردي

مدينة ديار بكر «جيتو» كردي.. 95% من سكانها أكراد والباقي عرب.. فيما الأتراك أقلية نادرة * يشتكي أكراد تركيا من أنه يتم تصوير الكردي في المسلسلات التلفزيونية كشخص ريفي متخلف * يقول بعض الأتراك عن الأكراد إنهم لصوص وارهابيون



ديار بكر: منال لطفي
لا يحب الكثير من الأتراك مدينة ديار بكر «العاصمة السياسية» للأكراد في العالم، التي تقع جنوب شرقي تركيا وتعتبر ثاني أكبر مدينة في منطقة الأناضول بعد مدينة غزيانتيب. فعندما تذكر اسم ديار بكر في أنقرة أو أسطنبول او أزمير تسمع تعليقات من أتراك من بينها: «مدينة اللصوص»، «مدينة القتل والعنف»، «مدينة الفقر.. لا شيء فيها»، «مدينة التراب.. والارهابيين». في بازار اسطنبول قال تاجر تركي يبيع السجاد عندما سأله شخص عما اذا كانت أسعار السجاد الذي يصنع في ديار بكر أرخص: «من سيذهب الى ديار بكر لشراء سجاد؟ في ديار بكر لن تجد غير اللصوص». لكن الحقيقة هي أن ديار بكر ليست بهذه الصورة قط، فالمدينة جميلة لكنها تئن تحت الفقر والاهمال. وهو فقر وإهمال يصفهما أهالي ديار بكر بأنهما متعمدان من جانب أنقرة من اجل اضعاف الروح المعنوية للأكراد وشغلهم بلقمة العيش الصعبة وليس بالسياسة. اذا كان هذا هو الهدف، فالاكيدد أنه فشل. فالأكراد في ديار بكر لا يتحدثون إلا حول السياسة، وحول القضية الكردية وحزب العمال الكردستاني، ومشاكلهم مع السلطات في أنقرة، وما الذي ينبغي ان يفعلوه. أهالي ديار بكر مسيسون أكثر من الاتراك كثيرا. فإذا كان من الصعب ان تتحدث عن نشاط سياسي للطلبة الأتراك، فإن الطلبة الأكراد في ديار بكر ناشطون جدا سياسيا. وبسبب التطورات الأمنية والسياسية الأخيرة والمشاكل الاجتماعية في ديار بكر ومن بينها البطالة فإن المشهد الطبيعي هو عشرات الأكراد يجتمعون في المقاهي التي تكتظ بها المدينة يلعبون الشطرنج او الدومينو. وعندما يتعبون من اللعب يتحدثون في السياسة، وعندما يتعبون من السياسة، يستأنفون اللعب. ولا تبدو على وجوه هؤلاء الراحة او السعادة، بل التعب والانهاك. «الحياة في ديار بكر متعبة. كل الذين يحصلون على تعليم جيد، ويجدون عملا في إسطنبول أو أزمير او أنقرة من الشباب الكردي، يغادرون المدينة ولا يعودون اليها الا في المناسبات الكردية مثل عيد النوروز. ينسون في هذه المدن مشاكل الهوية، وينخرطون في البحث عن لقمة عيش.. وبعضهم لا يقول انه كردي تركي، إلا اذا فضحته طريقة نطقه للغة التركية» حسب ما قال عمر، وهو شاب كردي في العشرينيات لـ«الشرق الأوسط». ومع أن الأكراد في ديار بكر يحاولون أن تسير حياتهم بشكل طبيعي على قدر المستطاع، الا أن قلب المدينة يغلي بصراع سياسي واقتصادي وثقافي، وقلق على هوية الأكراد في تركيا. ويقول عبد الرزاق سجكين الذي يعمل في بلدية «سور ديار بكر» إحدى بلديات مدينة ديار بكر لـ«الشرق الأوسط»: «تتراجع تركيا تدريجيا عن الاصلاحات الثقافية القليلة التي اتخذتها لصالح الأكراد بهدف الانضمام للاتحاد الاوروبي. واليوم لا يوجد غير بث لساعات قليلة في الاسبوع باللغة الكردية على التلفزيون التركي. الاكراد لا يعتقدون ان هذا يكفي، فهذا ليس اعترافا بالهوية الكردية. هذه علاجات مؤقتة». ديار بكر هي جزء من كردستان تركيا، التي تشكل نحو ثلث مساحة تركيا. وتعتبر جزء من منطقة جبال كردستان وهي موطن غالبية أكراد العالم. وتتوزع جبال كردستان بين مناطق شمال العراق، وشمال غربي إيران، وشمال شرقي سورية، وجنوب شرقي تركيا. لكن العرق الكردي يوجد ايضا في جنوب غربي ارمينيا ولبنان واذربيجان. وإذا كانت مشاعر الأكراد ملتهبة حاليا بسبب احتمالات التدخل التركي في شمال العراق للقضاء على معاقل حزب العمال الكردستاني، فإن هذا ليس جديدا، اذ يشعر الاكراد عموما أن هناك تحالفا دوليا ضدهم كـ«شعب» منذ الحرب العالمية الأولى عندما اتفقت القوى الكبرى على تقسيم منطقة كردستان، والشعب الكردي بين العراق وإيران وسورية وتركيا، وذلك خلال مؤتمر لوزان عام 1922. لم تظهر مشاكل الأكراد مع السلطات التركية الا بعد حكم مصطفى كمال أتاتورك، الذي جعل، بعد بناء الدولة التركية الحديثة، الثقافة واللغة التركية هي اللغة والثقافة الوحيدة المعترف بها، فتم اغلاق المدارس الكردية ومنع استخدام اللغة في المؤسسات الحكومية سواء مكاتب رسمية او مدارس او كتب او صحف او مجلات. كما منع تشكيل أي احزاب سياسية. ولان الجمهورية التركية كانت في سنواتها الاول، اي طرية العود نسبيا، فقد استطاع أكراد تركيا ومعهم أقليات اخرى من بينها الشركس والعرب والأرمن القيام بانتفاضة على يد الزعيم الكردي سعيد بيران (1865 ـ 1925) من أجل الحصول على حرياتهم وحقوقهم الثقافية، لكن هذه الانتفاضة سرعان ما تم قمعها واعدم بيران مع معاونيه في 30 مايو (آيار) عام 1925. وبعد هذه الانتفاضة، شددت السلطات التركية قبضتها على الأكراد، وبحسب مصادر غربية فإن عدد القتلى الأكراد طوال العقود التسعة الماضية بلغ أكثر من مليون. عدد أكراد تركيا اليوم غير معروف على وجه الدقة، والتقديرات تشير الى انهم يشكلون نحو 30% او 40% من سكان تركيا البالغ عددهم نحو 75 مليون نسمة، اي أن عددهم نحو 20 مليون نسمة. وتعد ديار بكر في نظر الكثير من أكراد العالم «عاصمتهم السياسية»، فمنها خرج حزب العمال الكردستاني الذي يتواجه مع السلطات التركية منذ ثمانينيات القرن الماضي بهدف ضمان الحقوق الثقافية الكردية، والحفاظ على هويتهم. عندما تسأل أي كردي في ديار بكر اليوم: هل تعتبر نفسك تركيا ـ كرديا ام كرديا ـ تركيا ؟ تأتي الاجابة فورا كرديا ـ تركيا. ولا يكره الأكراد اي عبارة لأتاتورك بقدر كرههم لعبارة: سعيد من قال انا تركي. ولا يحب الأكراد سياسيا بقدر حبهم للرئيس السابق تورغوت اوزال (1927 ـ 1993) الذي استخدم كلمة «كردي» لاول مرة في الخطاب السياسي الرسمي التركي عام 1991 بعد صعود قضية الاكراد على قمة قضايا السياسة الدولية، ثم قرار اوزال رفع الحظر الكلي على استخدام اللغة الكردية، واستبداله بحظر جزئي. لكن هذه الحقوق الثقافية التي عمل اوزال على ادخالها لم تؤت ثمارها. فاليوم كلمة كردي ما زالت ممنوعة في تركيا، فمثلا عندما تأتي اخبار الأكراد في التلفزيون الرسمي التركي لا يذكر تعبير «أكراد ديار بكر» بل «أهالي المنطقة». ويقول جلال أكين من المركز الثقافي الكردي لـ«الشرق الأوسط» ان وصف «كردي» ممنوع استخدامه حتى اليوم إلى درجة أن المركز الثقافي الكردي في ديار بكر اسمه (المركز الثقافي). ومركز الفنون الكردي في ديار بكر اسمه (مركز الفنون)، ومراكز تعليم الموسيقى الكردية اسماؤها «مراكز تعليم الموسيقى» فقط. ويوضح أكين ان المركز الثقافي الكردي انشئ عام 2002 من أجل تعليم الجيل الجديد من الأكراد الثقافة والفن الكردي. ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «الشباب الأكراد اليوم يريدون الشهرة السريعة. الباب السريع للشهرة هو الغناء بالتركي وليس بالكردي. ما نحاول أن نحققه هنا هو تعليم الشباب الكردي الفن الكردي الاصيل، والتمسك به وعدم السير وراء التيار والغناء باللغة التركية. فالحقيقة أن كل المغنين المهمين في تركيا اليوم هم أكراد غنوا بالتركي». ويتابع أكين «لا أحد يدعمنا ماليا في المركز. كل المدرسين يعملون متطوعين بلا مقابل. لكن نحن نحتاج مساعدة الأكراد القادرين على المساعدة. فحتى أصغر مركز ثقافي يحتاج مالا. اردنا إنشاء استوديو لتسجيل الأغاني الكردية، لكن هذا يحتاج الى مال ايضا»، موضحا أن هناك استوديو صغيرا أنشئ في المدينة يتم فيه تسجيل الأغاني الكردية، وتوزيعها بشكل غير قانوني، لأنه لا يمكن توزيعها عبر شركات التوزيع التركية الرسمية. عندما انهى أكين كلامه جاء شاب كردي ومعه عود وغنى أغنية كردية مطلعها «انا وحيد يا أمي»، كانت أغنية حزينة. وقال أكين «أغاني الأكراد بها حزن كثير». وكما ان كلمة «كردي» ممنوعة، فإن كلمة «كردستاني» ممنوعة ايضا. ويقول سردار سينغول مستشار الشؤون الخارجية في مكتب عمدة ديار بكر لـ«الشرق الأوسط» انه اضطر لاستكمال دراسته للدكتوراه خارج تركيا، لان الجامعات التركية لم تقبل مناقشة اطروحته التي تضمنت كلمة «كردستاني». وقال سينغول موضحا «عام 2001 قررت أن استكمل دراستي للدكتوراه في الانثروبولوجي. توجهت بأوراقي الى جامعة (هاكتيب) وهي جامعة ليبرالية مناخها العلمي منفتح. تقدمت للامتحان النظري ونجحت. وبعد ذلك كان ينبغي ان انجح في اختبار شفوي ومقابلة مع أساتذة بالقسم. في المقابلة سألني الأساتذة حول اطروحتي للدكتوراه، فقلت لهم إنني أريد دراسة مدارس كردستان تركيا، موضحا ان الموضوع مهم لأنه لا يمكن دراسة عملية التحديث في كردستان بدون دراسة تأثير المدارس. سألني الاساتذة بعدما أنهيت كلامي: هل ستستخدم كلمة كردي، أو كردستاني، في رسالتك؟ فرددت: بالطبع. نظروا الي لفترة وجيزة، ثم قال احدهم: من الأفضل لك ألا تستخدم هذه الكلمات. فقلت له: لماذا؟ هذا قسم للدراسات الانثروبولوجية. هل تريدون محو العرق الكردي من الدراسات الاكاديمية. فردوا علي: بالطبع لا.. لكننا نعتقد ان كلمتي «كردي» و«كردستان» ممنوع استخدامها في الدراسات الاكاديمية. اذا استخدمت كلمتي كردي او كردستاني سيغلق القسم ونذهب جميعا للسجن. هذا مثال حديث. لدي مثال آخر قديم. هناك عالم اجتماع كردي اسمه اسماعيل بسكيشي، استخدم كلمة كردي في رسالته للماجستير قبل 30 عاما، فسجن 20 عاما». ويقول سينغول إن من ضمن الممنوعات مع كلمتي «كردي» و«كردستاني»، حروفا كردية، موضحا ان حرف «دبليو» مثلا ممنوع رسميا استخدامها لأنه ليس لها مقابل في الأبجدية التركية، ومن يستخدمها يحاكم امام القضاء. ويشعر أهالي ديار بكر بالاستياء من الطريقة التي تصور بها الحكومات التركية المسألة الكردية حتى اليوم، وآخرها كلام رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الذي قال إن الأكراد لا يعرفون ماذا يريدون. وقال سردار سينغول «اردوغان لا يعرف ما الذي يقوله.. نحن نريد هويتنا وحقوقنا الثقافية وأولها التحدث بلغتنا الام. قلنا هذا لمئة عام. لماذا يصعب عليهم فهمه؟ لماذا تتحارب الهويات.. انا كردي، ولدت بلغة اخرى غير التركية.. فلماذا ينبغي ان ألغي هويتي الكردية لاكون تركيا؟ لماذا لا استطيع ان احتفظ بهويتي الكردية وأكون مواطنا تركيا في نفس الوقت». مدينة ديار بكر «غيتو» كردي، فأكثر من 95% من سكانها أكراد، والباقي عرب، فيما الأتراك هناك أقلية نادرة. وهي بسبب اوضاعها السياسية والاقتصادية بدأت تعاني في الأعوام الماضية من تزايد معدلات الهجرة منها، خصوصا هجرة العقول الشابة. بنيامين وهو شاب كردي في أوائل العشرينيات من ديار بكرـ قال لـ«الشرق الأوسط» انه كان يريد دراسة الطب، فتقدم بطلبات لمنح دراسية الى حكومة كردستان العراق، التي قال إنها تعطي منحا دراسية لأكراد تركيا للدراسة في جامعات شمال العراق. وأضاف بنيامين: «أحب ديار بكر.. لكنني أتمنى الدراسة بالخارج. نعاني هنا من انتهاك لمبادئ حقوق الانسان. في السجون التركية هناك اطفال أكراد في السجن. عانينا من المذابح ومن التهجير القسري. 400 قرية كردية هجرت من سكانها في سبتمبر (آيلول) عام 1980، بعد الانقلاب العسكري الذي قاده كنعان افرين. ووقتها اقتيد مهدي زنا، الزعيم الكردي، الذي كان ساعتها عمدة ديار بكر، الى السجن وحبس 15 عاما، طبعا لم يكن هناك خيار.. عناصر حزب العمال الكردستاني فرت الى الجبال بعد الانقلاب وبدأت نشاطات مسلحة ضد الجيش. ما الذي تتوقعونه من الناس؟». ديار بكر مدينة بلا ألوان، صحراوية ومناخها حار وجاف ومترتب، او هكذا تبدو لان اغلب شوارعها غير مرصوفة، كما انها على عكس المدن التركية، غير نظيفة. فأكوام القمامة والمياه الآسنة تتراكم في الشوارع. وعندما توجه اتهامات بالإهمال الى عمدة ديار بكر عثمان بيدرمير او غيره من مسؤولي بلديات ديار بكر، تكون الاجابة ان الدولة التركية تعطي «ميزانية مسيسة» الى ديار بكر، لا تمكن العمدة او المسؤولين المحليين من القيام بدورهم، او اقامة اي مشروعات جديدة، او تحسين مستوى اداء البنية التحتية. وعندما تزور ديار بكر ستجد دائما من يسألك: اي ديار بكر زرتها؟ فالمدينة في الواقع مدينتان. المدينة القديمة بأسوارها التاريخية الطويلة، والتي تعد ثاني اطول أسوار في العالم بعد سور الصين العظيم. قلب المدينة القديمة عبارة عن ازقة ضيقة جدا تزدحم بالبيوت واجساد العابرين بصعوبة، وعلى الرغم من ان شوارع المدينة القديمة غير مسفلتة، والوضع الاقتصادي صعب، كما يبدو من شكل المباني، ونسبة البطالة، الا ان تاريخ المدينة يظهر في عمارتها المميزة. والمدينة الثانية هي المدينة المفترض أنها حديثة، والتي لا يميزها شيء سوى عدة طرق طويلة مرصوفة، وعمارات عالية مبنية بالوان زاهية كالاصفر والاحمر. وفي وسط المدينة الحديث مبنى كبير جدا لحزب العدالة والتنمية الحاكم ذي الجذور الاسلامية الذي تتردد اتهامات له بين الأكراد انه يسعى الى تعزيز الحركة الاسلامية في ديار بكر، لمواجهة القوميين الأكراد. وقد يلاحظ البعض ارتفاع نسبة الحجاب في ديار بكر مقارنة بباقي المدن التركية، لكن الحقيقة ان الملابس التقليدية للنساء في المنطقة تتميز بالحشمة، وتغطية الرأس جزء من هذه الحشمة، وبالتالي لا يمكن استنتاج زيادة نفوذ الاسلاميين في المدينة، التي لم تقطع علاقتهما بالعالم الخارجي، اذ يوجد بها مطعمان حديثان لـ«بيرغر كينغ»، و«ماكدونالدز». وهذا الجزء الحديث من المدينة يسكنه الموظفون الحكوميون وأكراد الطبقة الوسطى. وتعاني المدينة من ضعف بنائها الاقتصادي، والكثير من السياسيين الأكراد يتهمون الحكومة في انقرة بتعمد إهمال ديار بكر اقتصاديا، ففي المدينة توجد مصانع نسيج وصناعات غذائية صغيرة، لا تستطيع ان تستوعب الايادي العاملة، وبالتالي تعاني ديار بكر من نسبة فقر وبطالة عالية جدا، مقارنة بباقي المدن التركية. ومتوسط الدخل الشهري فيها بين 100 دولار الى 500 دولار، وهذا يعادل أقل من نصف الدخل الشهري للأتراك في باقي تركيا. هذا الوضع الاقتصادي يظهر في حالة المنازل والمباني والعربات التي تسير في الشوارع، وفي حالة البنية التحتية، خصوصا المياه والكهرباء. وبسبب ان الكثير من القرى التركية أخلي من سكانها خلال فترة المواجهات بين الجيش التركي وعناصر حزب العمال الكردستاني، فان البنية التحتية للمدن الكردية بائسة للغاية، والطرق مهملة. وبسبب الفقر والمشاكل التي تتولد منه توجد في ديار بكر ظواهر اجتماعية مثيرة للقلق من بينها التسول وتشرد الاطفال وتسربهم من التعليم لدرجة ان الحكومة التركية بالتعاون مع بلدية ديار بكر بدأت قبل سنوات مشروعا بعنوان «هيا يا بنات نذهب للمدرسة»، لحث الاسر الفقيرة في ديار بكر على إرسال بناتهن الى التعليم، بدلا من العمل في المصانع او التسول. ويعترف الاكراد ان نسبة الجريمة في ديار بكر عالية، وان هناك سرقات فعلا، لكن عبد الرزاق سجكين الذي يعمل في بلدية «سور ديار بكر» قال لـ«الشرق الأوسط» موضحا: «عندما تم تهجير 4 آلاف قرية كردية بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان أفرين، توجه الكثير من الاكراد الى ديار بكر بشكل عشوائي للإقامة هناك. المشكلة ان حياتهم في القرى كانت افضل كثيرا، كانت هناك زراعة وتربية حيوانات على الاراضي التي كانوا يمتلكونها. بعد التهجير القسري، بات الكثيرون بسبب تفشي البطالة مضطرين للسرقة». وقال كردي، تحدث لـ«الشرق الأوسط» بشرط عدم الكشف عن هويته: «هربت من تركيا الى سورية مطلع التسعينيات بسبب الظروف الامنية، ثم عدت قبل 3 سنوات. الان أريد ان اغادر مجددا بسبب الظروف المادية والمضايقات. لو لم يكن لدي عائلة لكنت هربت الان. أعيش بغير اسمي الحقيقي للهروب من الملاحقات الأمنية. هناك اطفال في ديار بكر اليوم يتحدثون التركية فقط، فيما اباؤهم وأمهاتهم يتحدثون الكردية فقط. لا أريد ان أكون أنا وأبنائي في هذا الوضع». ويشتكي الأكراد في تركيا حتى اليوم من أنه لا يتم تصوير الكردي في المسلسلات التلفزيونية او الافلام كمحام او طبيب مثلا، «فالكردي يظهر غالبا كشخص مثير للمتاعب أو ريفيا متخلفا، لكن لا يقال انه كردي، اذا ظهر شخص قروي متخلف يتحدث التركية بلكنة، فهو كردي.. هذه هي الصورة المشوهة عن الاكراد التي نشتكي منها» وبسبب هذه الدعاية وغيرها، يضيف عبد الرازق سجكين «ان الأكراد أنفسهم بدأوا يتأثرون بها، ولهذا يحاولون التحدث بالتركية بدون اللكنة الكردية، لان اللكنة الكردية تؤدي الى فرزهم اجتماعيا وثقافيا وتصعب عليهم فرص العمل والحياة وسط الاتراك. ويتابع «ان الكثير من الأكراد يتعمد ان يخفي أنه كردي عندما يتجه الى العمل في اسطنبول او ازمير او انقرة». لكن بعض الاتراك يرون ان هذا غير صحيح، وتقول جوتشكه غل وهي شابة تركية لم تزر في حياتها ديار بكر، ولا تريد زيارتها بسبب ما سمعته عن أهلها: «الكثير من المناصب البيروقراطية العالية يشغلها اكراد، ولا احد يسألهم عن أصلهم». الشكوى الأساسية للأكراد اليوم هي عدم الاعتراف بهم كهوية وشعب وعدم الاعتراف بحقوقهم الثقافية. ويقول عبد الله دمير باش، رئيس بلدية سور ديار بكر، لـ«الشرق الأوسط»، ان كلام أنقرة عن السماح بفصول تدرس باللغة الكردية لا أساس له عمليا، موضحا «هذه الفصول التي يتحدثون عنها برسوم مالية، هي حصص اضافية. يعني شرطان يجعلان اي شخص يهرب منها. فالكردي يعلم ابنه الكردية في المنزل بسبب استخدام اللغة بشكل طبيعي، فلماذا يرسله الى حصص برسوم مالية؟ هذه حيلة من أنقرة كي تقول للعالم: نحن اسسنا فصولا باللغة الكردية ولم يحضرها أحد». وحقيقة توجد صعوبة في استمرار الصحف او المجلات التي تستخدم اللغة الكردية، واذا وجدت صحيفة جيدة فإنها تواجه خطر الإغلاق، وعندما تغلق تعاود الصدور من جديد تحت اسم جديد، فمثلا خلال العشر سنوات الماضية، منعت صحيفة «ولات» أي (الوطن)، من الصدور، فصدرت مجددا تحت اسم «ولاتي مه» أي (وطننا)، وعندما منعت صدرت مجددا تحت اسم «آزاديا ولات» أي (حرية الوطن)، ويرأس تحريرها الطيب تمل، وهي الان الجريدة الكردية الوحيدة في كل تركيا. وقال عدد من صحافيي الجريدة لـ«الشرق الاوسط»: «المشكلة أنه بسبب التضييق غير المحتمل على حريات التعبير لدينا، هرب الكثير من الصحافيين الأكراد إلى الخارج. الصعوبات كثيرة جدا. نحن توزيعنا اليومي في حدود 10 الاف نسخة، العشرة آلاف نسخة هذه توزع باليد لان شركات التوزيع ترفض توزيع الصحف الكردية». وفي مبنى الصحيفة الذي زارته «الشرق الاوسط» كانت هناك صور معلقة على الحائط لشباب وأطفال، قال المسؤولون عن تحرير الصحيفة «انهم شهداء» رجال الامن التركي، موضحين ان عددا من الصحافيين والصبية الذين يوزعون الصحيفة قتلوا بإطلاق النار عليهم، وأنه برغم تحقيقات السلطات التركية لم يتم توجيه الاتهامات إلى أي شخص أو جهة.
وفي ديار بكر توجد مجلة ثقافية كردية وحيدة تصدر كل ثلاثة أشهر أسمها «الحرف». وقال مدير تحريرها عمر آزاد لـ«الشرق الأوسط»: «صدرنا عام 2004، وهدفنا هو حماية اللغة الكردية. نركز على الثفافة والفن والشعر والرواية الكردية. كذلك نطبع بعض الكتب الصغيرة بين الحين والآخر. فلأننا نمول أنفسنا. نطبع كتابا، وعندما نبيعه نطبع كتابا اخر. لا نحقق اي مكاسب مادية من كتبنا او المجلة. الحقيقة اننا ندفع من جيوبنا». وبسبب عدم وجود برامج كثيرة باللغة الكردية في التلفزيون التركي، فإن الاكراد يشاهدون غالبا المحطات التلفزيونية الفضائية الكردية التي تبث من الخارج، ومنها تلفزيون «روج» أي «الشمس» أو «اليوم» الذي يبث من بلجيكا، ويقوم أكراد أتراك بتمويله جزئيا. ومع أن السلطات التركية عملت على إعاقة استقبال تلفزيون «روج» داخل تركيا، الا ان الأكراد في ديار بكر كما يقولون طوروا وسيلة للتغلب على الرقابة الحكومية. ما الذي يريده الأكراد؟ الاجابة هي «الاعتراف بالهوية، مقابل الاندماج. فلا يمكن ان نندمج كليا في الدولة التركية، وتتوقف كل نشاطات حزب العمال الكردستاني، ما لم يتم الاعتراف بالحقوق الثقافية للأكراد. مطالبنا بسيطة، وليس من المستحيل تحقيقها. نريد الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية، واستخدامها في المدارس. لكن البعض في الدوائر العلمانية والقومية المتشددة يرفض هذا تماما، على أساس ان هذا سيؤدي الى انفصال الأكراد وتفكيك الدولة». يقول سجكين، مشددا على ان غالبية أكراد تركيا لا تطلب او تريد الانفصال بدولة مستقلة. واذا كان الأكراد يشعرون بمرارة بسبب اي شيء، فهو حتما طريقة تعامل المجتمع الدولي مع قضيتهم. ويقول عبد الرزاق سجكين «منذ زمن لم اشعر ان قضيتنا عادلة لان الاعلام التركي دأب على تصويرنا كارهابيين، لم نصدق طبعا اننا ارهابيون، لكننا احيانا ننسى كم ان مطالبنا عادلة وانسانية لان الدعم الخارجي لنا محدود».
 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

شكرا اخي الكريم بارك الله فيك
في الحقيقه تركيا تعتبر من اعقد التاريخ السياسي في المنطقه
كفيت ووفيت اخي
 
رد: تركيا من أتاتورك الى أردوغان

صراحة, أنا ضد العلمانية أينما كانت
 
عودة
أعلى