تعميق المفهوم الاجتماعي لسلطة العسكر‏

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
ثانياً
لكن الإجراء الراديكالي الذي اتخذته ثورة يوليو، لا من حيث مضمونه السياسي والاقتصادي الاجتماعي المتناقض أصلاً مع طبقة الاقطاع وكبار الملاكين العقاريين، وإنما من حيث ما يفيد دراستنا، أي مدى اسهامه في حل مشكلة الديمقراطية، وكذلك رصد وتحليل سيرورة بناء أجهزة ومؤسسات الدولة الوطنية في مصر، كان قانون الاصلاح الزراعي الأول رقم 178/ الذي صدر في 9 أيلول 1952. وعلى الرغم من أهمية هذا القانون في مصر، إلا أنه كان متواضعاً ومحدوداً في توجهاته ومضمونه منظوراً إليه من زاوية علاقته بالاقتصاد، وعلاقته بالنظام الاشتراكي، إذ أنه لم يغير علاقات الانتاج السائد في الريف، بالمقارنة أيضاً مع تجارب الاصلاح الزراعي التي أنجزت في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وفي بلدان أوروبا الوسطى. وتنبع أهمية قانون الاصلاح الزراعي في كونه مثل اتجاهاً ايجابياً لثورة يوليو في إطار معالجتها لأزمة الديمقراطية، وبخاصة بالنسبة للاغلبية الساحقة من الشعب المصري المتكون من الفلاحين." ولقد اتجهت تلك المحاولة اتجاهين: اتجاهاً إلى الاقطاعيين للحد من قوتهم وكسر شوكتهم وتحطم ما تراكم من هيبة طاغية في الريف، والاتجاه الثاني إلى الفلاحين لخلخلة القيود التي تكبلهم وتشجعهم على "التمرد" أو الفكاك من التبعية وتدريبهم على الجرأة على تحدي استغلال الملاك وهيبة الاقطاعيين"(21).‏
نجح قانون الاصلاح الزراعي في تحديد ملكية الملاكين الذين يملكون أراضي واسعة تبلغ آلاف الفدادين، وفي تقويض الركائز الاجتماعية والاقتصادية لسلطة الطبقة التي كانت تحكم في مصر حتى اندلاع الثورة، وقد تحددت ملكية الأرض تدريجياً بعدة قوانين في العام 1952 (200 فدان للفرد الواحد وأجاز التصرف في خمسين فداناً للولد الواحد بما لا تزيد عن مائة فدان للأولاد جميعاً)، وفي العام 1960 (100فدان) وفي العام 1963 (نزع ملكية الأجانب)، وفي العام 1969 (50فدان).‏
إذا كان العسكر أول من حاول تطبيق بعض المبادئ الاشتراكية في مصر، مثل تحديد ملكية الأرض وتوزيعها على الفلاحين الفقراء والمعدمين، فهل أحدث الاصلاح الزراعي تغييراً جذرياً في بنية المجتمع المصري الريفية؟‏
في الواقع حاول العسكر تجييش الشعب سياسياً عن طريق قانون الاصلاح الزراعي، وبواسطة القضاء على السيطرة الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي كان يمارسها الاقطاعيون على جموع الفلاحين، والتي تحولت على مر العصور إلى نوع من القيم والأخلاق والمسلكيات الذيلية التي تقبل الخنوع والعبودية. غير أن قانون الاصلاح الزراعي الذي حدد الملكية، وحطم الزعامات السياسية التقليدية للاقطاع وكبار الملاك، وكذلك التشكيلات الرأسمالية الزراعية القوية، أي أولئك الاقطاعيين الذين تحولوا إلى رأسماليين زراعيين، لم يمس شريحة أعرض من الملاكين يبلغ عددها 64822 وهم الذين يملكون ما بين خمسة أفدنة ومائتي فدان ويواجهون في ساحة الصراع الاجتماعي في الريف -ثلاثة ملايين ونصف مليون تقريباً ممن يملكون أقل من خمسة أفدنة والمعدمين وأسرهم. هذه الشريحة تعتبر موضوعياً أعدى أعداء تحرر الفلاحين لأنهم هم الذين يقومون بدور الوسطاء والمقاولين ما بين الاقطاعيين والفلاحين. وهم الذين يضاربون على الأرض بيعاً وشراءً ورهناً. وهم المرابون الذين يتخذون من الأقراض بالربا وسيلة ناجحة للاستحواذ على مزيد من الأرض، وهم الذين يضاربون على حاجة الفلاح إلى الأرض فيرفعون الايجار ويشتركون بالمزارعة في المحصول ويقدمون الخدمات الزراعية إلى الفلاحين بأثمان باهظة ثم يطردون المستأجرين ليعيدوا تأجير أرضهم وأرض الأقطاعيين، للحصول على مزيد من عرق الفلاحين. وهم الأقرب إلى السلطات المحلية فهم الذين يستعدونها ويرشونها ويستخدمونها في قهر الفلاحين(22).‏
وكانت هذه الشريحة تلعب دور السمسار في بيع وشراء أصوات الناخبين في الريف لمصلحة الأعيان الكبار الذين يتقدمون إلى الانتخابات النيابية أو المحلية، وسرعان ما تحولت إلى فئة الأعيان من الدرجة الأولى بعد ضرب الاقطاعيين، وأصبحت هي الفئة السائدة في الريف بكل ما رافقها من خبرة في الافساد والقهر والاذلال للفلاحين.‏
ويعتبر قانون الاصلاح الزراعي في مصر المحك الذي تختبر عليه درجة راديكالية الاعتبارات السياسية والاجتماعية لحل مشكلة الديمقراطية في الدين المصري، ذلك أن القانون في حد ذاته قد أسهم في أضعاف وتحجيم أعداء ديمقراطية الشعب من الاقطاعيين، وأفسح في المجال لأول مرة لحشد طاقات الفلاحين في عملية مواجهة سيطرتهم، وفي تكوين إرادة وشخصية مستقلتين لهم عن إرادة الاقطاعيين، وخلق شروط تحررهم من الاستغلال الاقتصادي، والسطوة الاجتماعية والنفوذ السياسي الذي كان يمارسه الاقطاعيون. كما حدد قانون الاصلاح الزراعي نظام الايجارات الزراعي، حين حرم تأجير الأرض إلا لمن يزرعها (المادة 32)، وحين حدد قيمة الايجار سبعة أمثال الضريبة الأصلية المربوطة عليها (المادة 33) مع بقاء عبء الضريبة على المالك، وحين أوجب أن يكون عقد الايجار للأرض ثابتاً بالكتابة (المادة 36) ومدته ثلاث سنوات على الأقل المادة (36) لكي يصون حقوق الفلاحين المستأجرين للأرض خوفاً من إنكار عملية التأجير من جانب أصحاب الملاك، ولضمان استقرار بقائهم في الأرض، خصوصاً وأن القانون قد حرم إخراج المستاجر من الأرض (المادة 37).‏
وقد أسهمت هذه التشريعات في تنظيم الايجار للأرض، من القضاء على المضاربين الذين كانوا يستفيدون من التقلبات في أسعار الغلال والعرض والطلب على الأراضي الزراعية، ومن وضع حد للمناقصة بين الفلاحين أنفسهم، الذين كانوا يتهافتون للحصول على الأرض، الأمر الذي كان يزيد من تبعيتهم للاقطاعيين.‏
وعلى الرغم من أهمية قوانين الاصلاح الزراعي في تحقيق البعد الديمقراطي للثورة المصرية، إلا أن هذه القوانين كما يقول الدكتور خلدون النقيب، لم تكن تستهدف تغيير أنواع حيازة الأرض، الملك الصرف، الإيجار والصرف، المزارعة وأشكال الملكية الأخرى، بمعنى تغليب واحد منها على الآخر. وإنما تستهدف تخفيض حجم الملكية إلى ما دون سقف نظري، يمثل الحد الأقصى الذي بإمكان أي فرد أن يمتلكه.‏
ويبدو واضحاً من الإحصاءات المتيسرة أن سياسات الاصلاح الزراعي لم تؤثر في توزيع أنواع حيازة الأراضي في الريف، فبعد عشر سنوات من تطبيق الاصلاح الزراعي في مصر اتجهت أنواع الحيازات إلى التساوي 38 بالمئة من الحيازات ملك صرف، 32 بالمئة نوع مختلط، كالايجار بالحصة، ويفيد تقرير خالد أكرم أن نسبة الايجار والصرف قد وصلت إلى 40 بالمئة في أواخر السبعينات. والأمر الذي اختلف عن السابق هو أن الدولة أصبحت أحد الملاك الكبار في الوضع الاحتكاري الاستغلالي نفسه الذي كانت تتمتع به الطبقة المالكة القديمة(23).‏
ولما كان العسكر ليس لهم فكر أيديولوجي متبلور ومرتبط بمجمل التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع المصري، وانتهج نهج التجريبية السياسية، أو ما أسماه بالتجريب والخطأ، فإن نتائج الاصلاح الزراعي في الريف المصري لم تقد إلى ذلك التغيير الجذري في علاقات الانتاج، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية بين صفوف الفلاحين خصوصاً لجهة القضاء على الملكيات الكبيرة، وتمليك أكبر مساحة ممكنة من الأراضي للقسم الأساسي من الفلاحين الفقراء والمعدمين. ومن هذا المنظار، فإن العسكر لم يتمكن -بالرغم من قيامه بالاصلاح الزراعي من أن يطور أيديولوجيا ثورية أو تصور اقتصادي راديكالي يغير من الوجه المادي في الريف المصري، بدلالة أن هذا الاصلاح الزراعي قد كان له انعكاسات سلبية تمثلت "بالتفتت الشديد في الملكية الزراعية"، قادت إلى انخفاض انتاجية القطاع الزراعي، فضلاً عن أنه لم يزيل الفوارق الطبقية الحادة بين الفلاحين، وهذا ما جعل الدكتور علي الدين هلال دسوقي يقول بأن الأهداف السياسية كان لها أهمية خاصة في اتخاذ قرارات الاصلاح الزراعي، ومن ذلك، الرغبة في القضاء على النفوذ الاقتصادي للطبقات والفئات المعادية للثورة، والرغبة في استمالة الجماهير الفلاحية إلى صف الثورة والرغبة في تعميق تغلغل أجهزة الدولة في الحياة الريفية" (24).‏
هل كان قانون الاصلاح الزراعي هو الإجابة التي قدمها العسكر لحل مشكلة الديمقراطية والتحديث والتمدن في الريف المصري؟‏
قبل الحديث عن الديمقراطية علينا أن نعترف بأن هيمنة العسكر على مؤسسة الحكم في مصر جعلته يصبح القوة السياسية الضاربة الطاغية على ما سواها من المؤسسات السياسية الأخرى، أي أنه أصبح أقوى من الأحزاب السياسية والتحزبات السياسية، ويسيطر لا على الدولة فحسب، بل وعلى المجتمع أيضاً. لقد أصبح الجيش الدولة."‏
في هذه الحال كان قانون الاصلاح الزراعي إجراءاً ثورياً له صلة مباشرة بجوهر تحقيق الديمقراطية الاجتماعية، التي تكمن في إضفاء إطار قانوني وحقوقي يحكم وينظم العلاقات الزراعية في الريف المصري، وضرب الملكية الإقطاعية الكبيرة، ومصادرة أملاك الأسرة المالكة وحل الأوقاف الأهلية، وتوزيع الأطيان الموقوفة على المستحقين من في هذه الأوقاف، وتحجيم النفوذ السياسي للملاكين العقاريين الكبار للأراضي بما لهم من روابط سياسية وهيمنة اقتصادية واجتماعية خلال عهود سيطرتهم السياسية.‏
ولكن مع تنفيذ الاصلاح الزراعي، ظهرت المفارقات الكبيرة والواضحة، إذ أصبحت الدولة المركزية في مصر هي المالك الاحتكاري الحقيقي للأراضي. وذلك من خلال "إنشاء قطاع عام كبير في الزراعة يضم نحو 970 ألف فدان (أي حوالي 16 بالمئة لتطبيق قوانين الاصلاح الزراعي، وقوانين مصادرة أملاك الأسرة المالكة.. إلخ)‏
ذلك أن الدولة لم تُمَلِكْ الفلاحين ما استولت عليه من أراضي الملاك الاقطاعيين كل ملكية فردية مطلقة بالمفهوم الرأسمالي التقليدي، فهي وإن أعطتهم شهادات تمليك، فقد بقيت المالك الحقيقي الفعلي لتلك الأراضي، فهي المهيمنة على عملية الانتاج في قطاع الاصلاح الزراعي"(25).‏
وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي لعبته اللجنة التنفيذية العليا للإصلاح الزراعي في ممارسة وظيفة التشريع للقوانين بالإضافة إلى وظيفتها التنفيذية، فضلاً عن أنه ضمت إليها صلاحية جديدة هي صلاحية قضائية التي تحول دون منع المحاكم المادية سواء المدنية منها أو الإدارية من التعرض لقراراتها النهائية الخاصة بالفصل في المنازعات بين ملاك الأراضي والحكومة حول تطبيق القانون.‏
لقد تحولت اللجنة التنفيذية العليا للاصلاح الزراعي إلى مؤسسة بيروقراطية تمتلك من الصلاحيات الكبيرة ما جعلها تتجاوز المهمات التنفيذية المنوطة بها، خصوصاً بعد أن أصبحت اللجنة العليا بالقانون 614 لسنة 1957 "ذات تشكيل وحيد من كبار الموظفين وحدهم، واستبقت كل الصلاحيات السابقة"، تدير الأراضي المستولى عليها إلى أن يتم توزيعها، وتسيطر على الجمعيات التعاونية وتوجهها، وبذلك قضت على استقلاليتها وجعلتها أداة في يدها، لأن تكوين الجمعيات التعاونية والإشراف عليها بحسب المنطق الديمقراطي، والتطور الرأسمالي الحر ليست من صلاحيات هذه اللجنة، وإنما هذه الوظيفة بالذات هي من صلاحيات الحركات الشعبية ومؤسساتها.‏
وهكذا، فإن الاصلاح الزراعي قد عزز من السيطرة التدريجية للدولة في الحياة الاقتصادية الزراعية، من خلال احتكار الدولة الكامل لسياسة التسعير للسلع الزراعية، وبرامج التأمين على الثروة الحيوانية، حيث أن الفروقات بين سعر الدولة الذي يبيع به الفلاح حصته من المحصول الزراعي الإجبارية إلى الحكومة، والسعر الذي يبيع هذا الفلاح نفسه باقي محصوله إلى السوق الداخلية، وبين السعر الذي تبيع به الدولة المحصول في الأسواق الخارجية، أي سعر التصدير، تمثل "الضريبة المستترة" على المزارعين، التي هي بمنزلة الربح الصافي الذي يدفعه المزارعون من دخلهم لمصلحة الدولة، أو كما يقول الدكتور خلدون النقيب "اقتطاعاً من دخل المزارع أولاً، ومن دخل الريف ثانياً لمصلحة الحضر"، مضيفاً بأن الاصلاح الزراعي ومركزية دور الدولة في القطاع الزراعي، كما في غيره من القطاعات الاقتصادية، قد شبعا الملكيات الصغيرة ورسخا الانتاج المنزلي الصغير فيه، وأديا إلى مزيد من تفتيت الملكية الزراعية، وإلى إفادة الفلاحين الأغنياء والملاك المتوسطين... وأديا أخيراً إلى انتشار ظاهرة الفقر الريفي، أي افقار الريف(26).‏
وليس من قبيل المصادفة في ظل قوانين الاصلاح الزراعي هذه التي طبقت في الريف المصري، أن تكون شريحة متوسطي وأغنياء الفلاحين (الحائزين على 20-50فداناً) وجهاز الدولة المتكون من البيروقراطية والتكنوقراط و(صغار الموظفين والجنود وصغار الضباط) هما اللذان شكلا تاريخياً في مصر العمود الفقري للدولة الناصرية غير الديمقراطية، التي حافظت على الأبنية الفوقية الثقافية والأيديولوجية والسياسية والاجتماعية "شبه الاقطاعية" في بنية الريف المصري. كما أن هذه الدولة لم تطور القوى الريفية إلى قوة حديثة تتحمل مسؤوليتها في بناء المجتمع المدني، ولم يكن لها توجه إلى إنشاء مجتمع مدني تكون القوة الدافعة والمحركة له هي القوى التضامنية المدنية المتطورة والقوى الريفية الحديثة المساندة لها، القادرة على بناء الحركات والأحزاب السياسية الحديثة والنقابات والجمعيات والمؤسسات الديمقراطية، هذه التكوينات المختلفة التي تمتلك القدرة على المشاركة في العملية السياسية حسب أدوارها في العملية الانتاجية، وعلى ترسيخ قيم مفاهيم المجتمع المدني الذي يمثل الشرط الأساس لأي تطور ديمقراطي سليم.‏
ثم أن الخلفية الاقطاعية للمجتمع الفلاحي المصري، وهيمنة الأكثرية الساحقة في العسكر من الفلاحين أو من أصل ريفي، وتضخم قوة البرجوازية الصغيرة التي أصبحت تحتل المرتبة الأولى في الحياة الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة عضوياً بالأرض (صغار الفلاحين الذين يملكون أقل من خمسة أفدنة)، وبجهاز الدولة البيروقراطية، وتعاظم دور الطبقة الوسطى الجديدة المتكونة من الفئات العليا من التكوقراط والبيروقراطية العسكرية والجنرالات، الضباط العسكريين الذين انتقلوا إلى العمل في الحياة المدنية هذه العناصر في تشابكها وتداخلها شكلت تحالفاً عريضاً على صعيد الهيكل القيادي لسلطة العسكر. حيث أنه على الرغم من قيام العسكر "بالثورة"، إلا أنه ظل المصدر الموضوعي لغياب الديمقراطية في مصر، وذلك من خلال تماهيه أو تماثله مع السياسيين التقليديين، في النهج السياسي عينه المعادي للديمقراطية، دون أن يربى حكماً جديداً يقوم على أساس بناء مجتمع مدني حديث، ويقيم تلازماً ضرورياً بين تحقيق الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية. ويقول الدكتور غالي شكري في هذا الصدد بأن خطيئة عبد الناصر هي قيام اشتراكية بدون اشتراكيين وقيام ديمقراطية اجتماعية بغير ديمقراطية سياسية. والحال هذه لم يتم "تمدين" الريف وتحديثه، لأن العسكر لا يمكن أن يقوم بعملية "التنمية" و"الانماء" و"التحديث" بمعزل عن الأدوار التي من المفترض أن تقوم بها الأحزاب والقيادات السياسية والنقابات العمالية، والتعاونيات الزراعية، وغيرها من المؤسسات الفاعلة في المجتمع المدني، ولا يمكن للعسكر أن يقوم بالعصرنة والتحديث وبناء المجتمع المدني إلا عن طريق ارتباطاته العضوية بهذه التكوينات والمؤسسات بالذات. وهذا ما كانت تفتقده الثورة المصرية، وغيرها من البلدان العربية التي حكمها العسكر، ولذلك بقيت الأرياف إلى حد كبير في معظم البلدان العربية على حالها من التخلف المادي والثقافي. وهي تتزايد ديمغرافياً وتمثل القوة الاجتماعية الأساسية في كل بلد عربي بعصبيتها الريفية ذات الطابع الشعبوي الأصولي.. والمدن العربية يجري "ترييفها" بحكم الهجرة الريفية الكاسحة، وصعود القوى والعناصر الريفية -بتكوينها التقليدي إلى مؤسسات السلطة والثورة والتوجه الفكري، ومقابل هذا "الغزو" الريفي الذي حل محل الغزو البدوي للمدينة في فترات سابقة. فإن قوى المجتمع المديني وعناصره المتعلمة والمتطورة تخلي الساحة وتنسحب إلى الاعتزال والسلبية، أو إلى المهاجر خارج الوطن العربي في ظل الانتصارات المتلاحقة للانقلابات والثورات الشعبوية الإسلامية ذات المنشأ والتكوين والمنطلق الريفي... ومقابل هذا الواقع الاجتماعي المغلوب ينشغل المثقفون العرب حالياً بالدعوة النظرية المجردة إلى الديمقراطية... فأي ديمقراطية ستهبط علينا من السماء قبل تأسيس قاعدتها المجتمعية المدينية- المدنية الصلبة؟؟(27).‏

 
ثالثاً: العسكر واسهامه في حل المسألة الوطنية والقومية‏
شكلت ثورة يوليو 1952 صيرورة سياسية واقتصادية واجتماعية متحركة -من مرحلة التكوين 1952-1956 إلى مرحلة النمو والصعود خلال حقبة 1956-1962- شهدت فيها هزيمة العدوان الثلاثي والتوجه نحو تحقيق الوحدة العربية. وكان السياق التاريخي لهذه الصيرورة المتحركة، تتميز ببداية انهيار النظام الاستعماري القديم وفشله في الحفاظ على سيطرته في المستعمرات عن طريق الغزو العسكري وأساليب العنف الأخرى، وبتغيير موازين القوى العالمية والمحلية المتحولة بصورة قوية في مصلحة حركة التحرر الوطني العربية، خصوصاً وأن الشرق الأدنى بحكم موقعه الجغرافي وأهميته الاستراتيجية أصبح المنطقة الأكثر سخونة وتعقيداً على خريطة الكوكب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لجهة اشتعال فيها غالباً نيران الحروب المحلية، التي تتقاطع معها صراعات الامبراطوريات العسكرية العالمية، لأسباب تثيرها الدول الإمبريالية الغربية، من أجل الاستيلاء على نفظ الشرق الأدنى، وتقوية وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، بإعتبارهما الدافعين الأقوى اللذين حددا في الماضي مثلما هما يحددان حالياً ومستقبلاً سياسية الدول الراسمالية الغربية في هذه المنطقة من العالم.‏
وعوضاً عن النظام الإستعماري القديم الذي نشا في ظل ظروف السيطرة الكاملة للامبراطوريتين البريطانية والفرنسية، حيث كانتا تتقاسمان ملكية العالم بريطانيا (كمالك أول) وفرنسا (كمالك ثان) قبل نشوب الحرب العالمية الثانية -فإن النظام الرأسمالي الاحتكاري العالمي قد أفرز نظاماً جديدا من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العالمي هو الإستعمار الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، التي وقفت على الحد الأمامي للصراع مع الشعوب والأمم المضطهدة والمستعمرة وسائر القوى الثورية في العالم، متخذة لنفسها دور "الكفيل" والمحافظة على النظام الرأسمالي بعد أن أصبحت تقود جبهة الإمبريالية العالمية من مركز واحد. في ظل انتقال "ملكية العالم" إلى الولايات المتحدة الأميركية "كمالك أول"، "والاتحاد السوفياتي" كمالك ثانٍ".‏
لقد استفادت ثورة يوليو من التناقضات الدولية بين القوتين الأعظم في أعقاب الحرب الكونية الثانية، خصوصاً بعد أن اعتمدت الولايات المتحدة الأميركية استراتيجية عالمية للهيمنة تقوم على بناء الأحلاف العسكرية والقواعد المقاومة في الأراضي الأجنبية في الخمسينات، واتباع سياسة "مواقع القوة" ونظرية ملء الفراغ الناجم عن تصفية النفوذ الاستعماري للامبراطوريتين الزائلتين بريطانيا وفرنسا. ومن المعلوم أن التناقضات الدولية هذه كان لها الأثر البالغ في نجاح انقلاب العسكر في مصر وتحقيق حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة درجات متفاوتة بهذا الشكل أو ذاك من الاستقلال السياسي بعد أن خاضت (28) حرباً وصراعاً مسلحاً محلياً في الأعوام 1956-1960.‏
وفي هذا السياق التاريخي، أصبحت المسألة الوطنية في مصر وفي باقي البلاد العربية محور الصراع مع الاستعمار والغرب، وسيلعب بزعامة عبد الناصر من الآن فصاعداً، باعتباره أقوى الفرقاء السياسيين العاملين على الساحة الوطنية، والممثل لتطلعات ومصالح الطبقة الوسطى الحديثة التكوين، والذي يمتلك القدرة على التغيير السياسي والتحديث والعصرنة دوراً متعاظم الأهمية في قيادة النشاط الوطني من أجل إنهاء الاحتلال الانكليزي لمصر المستمر منذ سبعين عاماً، وخوض "الحرب التحريرية" بواسطة جهاز المخابرات والفدائيين الذين "ارتبط نشاطهم من قبل بنشاط الضباط الأحرار".‏
فالمحتوى السياسي والاجتماعي للمسالة الوطنية في مصر تتمثل في تحقيق استقلال مصر عن الاستعمار البريطاني وعن الهيمنة الغربية، وتحقيق التقدم في الميدان الاقتصادي والاجتماعي من خلال اضطلاع الدولة بالقيادة الاقتصادية إلى جانب القيادة السياسية (بمعنى التحديث والعصرنة) والقضاء على سيطرة رأس المال الكبير على الحكم وهيكل انتاجه بأجنحته المحلية (البرجوازية الكمبرادورية وكبار الملاكين العقاريين) وأجنحته الأجنبية (الاحتكارات الرأسمالية الغربية).‏
وتتمثل سلطة العسكر عامة وعبد الناصر تحديداً فيما يتعلق بموقع الدولة المحدد إزاء الطبقات والفئات الاجتماعية، وحركة الصراع الاجتماعي في انتهاجها نهج "الحياد"باعتبارها حكماً "بين كافة الطبقات المتصارعة حيث أن دور الدولة يكمن كما قرر عبد الناصر في حماية "كل طبقة من الأخرى، وكل صاحب مصلحة من صاحب المصلحة الأخرى، والحكومة هي التي تجعل التوافق كاملاً بين جميع المصالح، وبين جميع الطبقات في الوقت نفسه".‏
وفي السنوات الأولى للثورة قدمت الدولة التسهيلات اللازمة للرأسماليين الخواص بهدف إغرائهم للمساهمة في حل مشكلة التنمية الاقتصادية في مصر. واتخذت الحكومة عدة تشريعات في هذا الشأن مثل زيادة التعرفة الجمركية على الواردات المنافسة بين سنتي 1952-1954 إلى 100 في المئة، وعلى الأصناف التي يكفي الانتاج المحلي منها مطالب لاستهلاك بين 20-50 في المئة، وحظر استيراد بعض المصنوعات بتاتاً، وتقييد استيراد البعض الآخر، وذلك بهدف تشجيع وحماية انتاج المصانع الجديدة، التي أعفتها الدولة من الضريبة لمدة سبع سنوات. وكانت الحكومة تخفف إلى حد كبير المخاطر الناجمة عن إنشاء المشروعات الجديدة وتساعد الراسماليين الخواص في الحصول بضمانتها على قروض من الخارج وتوفر لهم التمويل أحياناً، وتتكفل بأية خسارة في التصدير عن طريق الدعم، وذلك بهدف تشجيع القطاع الخاص للتوسع في الاستثمارات الصناعية، خصوصاً وأن هذا القطاع الخاص حديث النشأة وكانت الغلبة فيه دائماً للأجانب وأقليته من المصريين.‏
وعلى الرغم من أن الدولة راهنت في السنوات الأولى للثورة على دور الرأسمالية الخاصة (القطاع الخاص) في عملية التنمية إلا أن هذه المراهنة لم تكن في محلها، لأن البرجوازية المصرية كانت طبقة تجارية -مالية واستهلاكية لا انتاجية كالبرجوازية الغربية. وهي كطبقة برجوازية استهلاكية تمثل البرجوازية الاحتكارية الغربية في المجتمع المصري، عاجزة عن إحداث تغيير في بنية الانتاج الاجتماعي. نظراً لانعدام الحلقة الصناعية في الانتاج أولاً، وعاجزة عن كسر أسار التبعية للبرجوازية الرأسمالية الاستعمارية ثانياً. ولهذا كانت استجابة القطاع الخاص محدودة جداً، فقد انخفض رأس المال الشركات المساهمة التي تكونت بين 1952-1956 بالمقارنة إلى الفترة السابقة (1945-1952) ووجهت معظم الاستثمارات الخاصة إلى قطاع المباني وانخفض معدل النمو الصناعي في تلك الفترة إلى 6.5 في المئة سنوياً، وقد أدى هذا الموقف من جانب القطاع الخاص إلى تغيير جوهري في موقف الحكومة.إذا تأكدت من عجز القطاع الخاص عن القيام بمسؤولية التنمية الاقتصادية، وبدأت تشرع في اتخاذ موقف أكثر ايجابية في النشاط الاقتصادي (28).‏
وحين تأكد للقيادة العسكرية المصرية عجز القطاع الخاص عن أداء مهامه في تطوير الاقتصاد الوطني، والنهوض به، ووضع الرأسمالية الاحتكارية الغربية شروطاً سياسية للاستثمار في مصر، ورفض الولايات المتحدة الأميركية والبنك الدولي تمويل مشروع السد العالي في أسوان، حيث كان هذا الأخير مجرد حافز فتح فصلاً جديداً في مواجهة عبد الناصر لقرار القوى الاستعمارية الغربية التي ترفض أن تكون مصر قوية وقادرة على الوقوف على قدميها.‏
وبهدف تحقيق التنمية المستقلة، قامت الحكومة المصرية بتأميم قناة السويس في نهاية شهر تموز من العام 1956، وهو الأمر الذي قررت بعده القوى الاستعمارية الأوروبية فرنسا وبريطانيا بالإشتراك مع الكيان الصهيوني القيام بالعدوان الثلاثي على مصر في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول من العام 1956، كرد على تحرك عبد الناصر بشأن التأميم وَمضامينه الوطنية الاستراتيجية ومن خلال هذا العدوان وعى عبد الناصر العلاقة العضوية بين "إسرائيل" والإمبريالية. في الواقع، وبعد أن قضت مغامرة العدوان الثلاثي على الطموحات الانكليزية والفرنسية في المشرق العربي، واحتلال الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني الدورين الرئيسيين في الهيمنة مكان القوى والأشكال السابقة للاستعمار الانكليزي -الفرنسي، وفي الصراع ضد حركة التحرر الوطني العربية، أصبح التحديث والتمصير والتعريب هي العناصر الأساسية المكونة لعملية التجذير والتسييس للاستقلال السياسي في مصر، ولتأسيس الدولة الوطنية المصرية بزعامة العسكر المتحالف مع التكنوقراط، كرد فعل تعويض على عدة قرون متوالية من هشاشة وهزال الدولة في عهد العثمانيين، وهلامية الدولة التابعة للاستعمار البريطاني. وفي عصر صعود الطبقة الوسطى الحديثة التي ينحدر منها العسكر، والتي تسلمت فيه القيادة الطبقية لحركة التحرر الوطني في شروط تاريخية معينة، كانت هذه الطبقة تعي بحدود معينة حالة البؤس والتاخر التاريخي العربي، وشعرت بالتوازي -بضرورة اقحام عتلة الدولة الوطنية في سيرورة التنمية، ومحاربة الأحلاف السياسية الأقليمية الرئيسية في الشرق الأوسط، وبخاصة حلف بغداد، واتباع سياسات خارجية مستقلة وفاعلة في الشؤون العالمية خارج حدود الاستقطاب الأيديولوجي والعسكري الذي فرضته الحرب الباردة بين الشرق والغرب بفضل الدور الذي لعبه عبد الناصر شخصياً في بلورة سياسة "الحياد الإيجابي" واكسابه مفهوم عدم الانحياز الدولي مصداقية حقيقية الذي كان خياراً سياسياً واعياً كرسه مؤتمر باندونغ في العام 1955- والذي هو بمنزلة التجمع العالمي الجديد الذي يضم دولاً من قارات آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية- باعتباره المدافع عن سياسة عدم الانحياز للدول الافريقية والأسيوية، والمنتهج سياسة عالمثالثية التي حلت محل التبعية السياسية للمراكز الرأسمالية الاستعمارية.‏
ولقد فهمت سلطة العسكر أن فك علاقة التبعية البنيوية بين مصر والامبريالية الغربية وكسرها وقطعها وبالتالي تحقيق التحرر الوطني والاستقلال السياسي الحقيقي يتطلب بناء دولة وطنية باعتبارها "المبدأ الأوحد للتنظيم" من أجل قيادة القوى القومية إلى الصراع مع المصالح الغربية في الوطن العربي، وإلى تحقيق فكرة الوحدة العربية على أرض الواقع من خلال تجربة (وفشل) الوحدة المصرية -السورية (1958-1961). وكانت فكرة القومية العربية، التي أعتنقها عبد الناصر شخصياً تعني تحرير الوطن العربي من السيطرة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، وإحداث التغيرات الواسعة في الأوضاع السياسية العربية تعبر عن أفاق تجاوزية لواقع التجزئة القطرية والانقسامات القبلية والعشائرية، وعن الدعوة إلى بناء استراتيجية تنموية قومية راديكالية تفتح أمام العرب الطريق إلى التحرر بواسطة الوحدة العربية، وإلى بناء اقتصاد وطني متحرر خارج إطار الاقتصاد العالمي الرأسمالي في آن معاً. لقد ركز العسكر بزعامة عبد الناصر على مقولة "التنمية الاجتماعية"، بإعتبارها هاجساً مركزياً في فلسفته السياسية ، حيث كان هذا الهاجس أحد العوامل الذي جعله يصطدم بالامبريالية، ويركز على مقولة "الوحدة الوطنية" وبناء التحالف الوطني، الذي يضم الفلاحين والعمال والمثقفين ورجال الأعمال، ويبرز الجيش كأحد أعمدة التغيير والتحديث في المجتمع من خلال إجراءات وقوانين الإصلاح الزراعي، وسياسة التمليك والاستثمار، وتحديد ملكية الأرض، وتأميم الصناعات وبناء المشاريع الضخمة التي تتسم بالشمول والاستيعاب العام كسد أسوان. وإدخال عدة شعارات جديدة إلى قاموس السياسة العربية كمقولة "الاشتراكية" وحقوق الجماهير" ومكسب الحكم والشعب، "والتحرير والصمود"، والنماذج القومية.‏
إن مقولة التحديث والعصرنة للمجتمع بواسطة العسكر قد جعل العديد من الباحثين يعتقدون أن الجيش في مصر بخاصة، وفي معظم بلدان العالم الثالث، هو أكثر الفرقاء السياسيين قدرة على التحديث والعمل السياسي العقلاني والعلماني. غير أن هذه المراهنة على عملية التحديث والجذرية من جانب العسكر لم تقد إلى انجاز ثورة ديمقراطية في المجتمع، ولا إلى بناء نظام ثوري ديمقراطي يقوض بشكل ثوري بنى المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والايديولوجية المتحلفة والتقليدية، على الرغم من أن نظام عبد الناصر قد أنهى الدور السياسي للاقطاع وكبار الملاكين العقاريين، أي الدور المباشر لا الدور التحتي، وأنهى الدور المباشر للبرجوازية التقليدية. ولكن إنهاء هذا الدور المباشر قد جعل الجيش هو المسيطر على المصانع، وعلى الآلة الاقتصادية، وعلى السيطرة على رأس المال بشكل مباشر، واستيراد أو تصنيع السلاح، وإعادة توزيع المال والثروة الوطنية، وسيطرته وقيادته للسلطة والحكومة، وتحطيم الزعامات السياسية التقليدية، وإنهاء، دور المعارضة السياسية أياً يكن مصدرها.‏
ويقول هلبرن (1962-258-278) أحد الباحثين الذين يقر بأن سيطرة العسكر على الدولة الحديثة سيمكنها من تطوير المجتمع وبالتالي الحفاظ على سيادتها" ليس الجديد في الشرق الأوسط أن يسيطر العسكر على الحكم (فقد سيطر خلال فترات زمنية تاريخية قديمة) إنما الجديد هو من يمثل العسكر وباسم مَن مِن الفئات الاجتماعية يتكلم، يتكلم العسكر اليوم باسم الطبقات الوسطى ويخدم بالتالي مصالح هذه الطبقة الحديثة".‏
ثم إن المؤسسة العسكرية التي كانت تمثل العمود الفقري الناصري والنواة الصلبة لهذه الطبقة الوسطى الحديثة لم تقض على البنية الفوقية للمؤسسة الاقطاعية بمضامينها الأيديولوجية والثقافية والسياسية، ولم تقض على البرجوازية كمؤسسة اقتصادية وكبنية فوقية، لأنها ليست من طبيعة متناقضة جذرية مع البرجوازية، حتى وإن أغتصبت سلطة البرجوازية، واتخذت إجراءات بوسائل متنوعة لصهر المجتمع في تنظيمات متشابهة ومتوازية لتنظيمات العسكر، الأمر الذي قاد إلى "عسكرة المجتمع" ولم تحل معضلات المجتمع العربي الأساسية -التاخر التاريخي- التجزئة- الديمقراطية. إذ أنها لم تستطع حتى الآن أن تحل مشكلة الوحدة العربية، ولن تستطيع أن تحلها لأنها ليست الطبقة القادرة على حل هذه المشكلة ولن تستطيع أن تحل مشكلة التجزئة بشكل شامل مع "تقومن" الدولة القطرية، ولم تستطع أن تحقق انفصال السوق الوطنية انفصالاً كاملاً عن السوق الامبريالية، لأن الانفصال الكامل عن السوق الامبريالية لا يتحقق إلا عن طريق القضاء على القاعدة المادية للسيطرة الامبريالية، أي على علاقة التبعية البنيوية للامبريالية، المتجسدة عيانياً في علاقة التبعية البنيوية من علاقات الانتاج في المجتمع المتأخر تاريخياً لبنية أخرى من علاقات الانتاج، هي البنية الرأسمالية الاحتكارية في المراكز الغربية، في طورها الإمبريالي.‏
والحال هذه، فإن التركيب الاجتماعي والاقتصادي للعسكر وأصوله الطبقية، كان لها الأثر الكبير في بلورة المواقف السياسية والأيديولوجية الحديثة للمؤسسة العسكرية التي استطاعت بواسطة التحالف مع العمال والفلاحين أن تنهي أشكال الاستعمار أو الامبريالية المباشرة على مصر، وأن تصل إلى السلطة، وتستفرد بها، فتضرب المعارضة السياسية حتى من داخل المؤسسة عينها، ومن الطبقة الوسطة ذاتها، وتسحق حركة العمال والفلاحين وتشوهها، لأنها أصبحت حاكمة في السلطة باطلاقية. وهي عندما أصبحت في السلطة واستفردت بها، أصبحت الشرائح العليا من الطبقة الوسطى الحديثة، والبيروقراطية العسكرية التي تشكل نواتها، طامحة في إقامة علاقة تفاهمية مع الإمبريالية، لأنها لا تستثيرها جديا. وهذا ما أظهرته بشكل واضح هزيمة حزيران 1967، حيث أن هناك عاملين أساسيين وفرا للنظام الناصري هذه الأرضية التفاهمية مع الإمبريالية "الأول هو ارتباط طبقة البيروقراطية التي تختلف اختلافاً كلياً عن البيروقراطية المنحدرة من الطبقة العاملة، بهواها وعاداتها الاستهلاكية بالغرب، والثاني هو حاجتها للمعونات الغربية. وهذه الحاجة ناجمة عن حرصها على امتيازاتها ومصالحها التي تمنع إتمام تدمير أطر المجتمع المصري التقليدي وبناه فتحول بالنتيجة دون تعبئة الجماهير ودون توفير كامل الفائض الاقتصادي المتاح للتنمية(29).‏
على الرغم من أن الايديولوجيا السياسية للعسكر كانت تبشر بتحقيق الاجماع والتشيع ورص الصفوف حول حل المسألة الوطنية الممتزجة والمشروطة بحل مسألة الوحدة العربية، ومع أن عبد الناصر قد توصل إلى تحقيق الوحدة الوطنية وتجاوز دياليكتيكياً في وعيه وممارسته عبر الارتقاء الصعب ذلك القصور في الرؤية السياسية والأيديولوجية التي كانت سائدة في مصر حول فهم المسألة الوطنية، والوطنية المصرية اللتين كانتا تعوزهما الراديكالية السياسية، وتسيطران عليهما النزعة الاقليمية المصرية، وما يستتبعها من نزعة محافظة "تفضل السلامة عن طريق العزلة" على حد قول عبد الناصر نفسه، إلا أن الناصرية عجزت عن تحقيق وحدة القوى القومية والديمقراطية المنظمة، وخلق الجبهة القومية لتحقيق الوحدة العربية التي أصبحت أمضى سلاح في مواجهة الامبريالية الأميركية، والكيان الصهيوني، الذي يشكل أحد تعبيرات هذه القوة الصاعدة، ونسخة حية عن هذا الاستعمار الجديد.‏
فالمفهوم الناصري للقومية العربية يعني فكرة الوحدة العربية، والمواجهة مع الإمبريالية باحلافها ومشاريعها، واعتبار مسألة الوحدة العربية المسألة المركزية في الصراع العربي الصهيوني، لكن هذا المفهوم لم يرتق إلى مستوى الوعي القومي الوحدوي المطابق، باعتباره فرعاً أساسياً من فروع الوعي الثوري العام المطابق، من أجل بناء الدولة القومية العربية الحديثة والمجتمع المدني. ولذلك فشل المشروع الوحدوي في الدفاع عن الوحدة بين مصر وسورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة العام 1958، والتي "ولدت وسط حالة حرب سياسية من أكبر حالات الحرب الباردة التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية" (30) والتي فجرت بدورها سلسلة من الأحداث السياسية التاريخية المهمة، ومنها ثورة العراق في (14) يوليو تموز (1958)، وانفجار الحرب الأهلية في لبنان بين القوى الوطنية اللبنانية والقوى اليمينية الانعزالية.‏
ولما كانت هذه الدولة الوحدوية "الجمهورية العربية المتحدة" تنتهج نهج "الاستقلال" عن المراكز الامبريالية الغربية، وتقود مساراً متناقضاً للاحلاف العسكرية والانحياز، وإقامة القواعد الأجنبية، وتعتمد على مواردها الذاتية، وتخلق ميزان قوى عسكري جديد يلجم التهديد والعدوان الصهيوني، ويمثل شرطاً أساساً في مواجهة الكيان الصهيوني، سارعت البيروقراطية العسكرية السورية المدعومة من الحلف الرجعي العربي والدول الامبريالية الغربية إلى إجهاض هذه الوحدة عبر الانفصال في 28 أيلول 1961. فالانفصال شكل ضربة قوية للمضمون العربي الوحدوي للسياسة الناصرية، لأن هذا المضمون "هو نقطة احتكاك أساسية، إن لم نقل وحيدة بين النظام الناصري والامبريالية. "والحال هذه، كان المضمون العربي الوحدوي للسياسة الناصرية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي، والمعسكر الشرقي هوالهدف المركزي المطلوب تصفيته من جانب القوى الامبريالية الغربية، والرجعية العربية، والكيان الصهيوني.‏
وليس من شك أن مقتل الوحدة كان يعود إلى أسباب جوهرية، لعل أهمها:‏
أولاً: إذا كانت الحركة القومية العربية بزعامة عبد الناصر لم تكن تنظر إلى أن العنف هو الأداة الرئيسية للتوحيد القومي\، لمعرفتها من أن الوحدة بواسطة الضم القسري، تمثل خطاً أحمر عربياً ودولياً لأنها تهز التوازنات الأقليمية القائمة، وتتجاوز الإطار القطري، وخصوصية التجزئة الكولونيالية، وتصطدم بالقوى الامبريالية الغربية المهيمنة، والبرجوازية العربية التي أصبحت جزء من السوق الرأسمالية العالمية، وبالتالي تابعة للبرجوازية الاحتكارية في العالم الرأسمالي الامبريالي، وصفّت مع الامبريالية ضد الوحدة، وضد الثورة الديمقراطية، فإن الفئات القائمة لدولة الوحدة، والداعية إلى الوحدة القومية، كانت قاصرة نظرياً وعملياً. فضلاً عن أن حركة القومية العربية بسبب التعدد الطبقي الذي تعاقب على قيادتها منذ بداية هذا القرن وحتى مؤامرة الانفصال وما رافقه من اختلاط أيديولوجي، "حال بين الحركة القومية العربية وبين أن تتمتع بذلك التلاحم الأيديولوجي الذي يفترض فيه أن يكون السمة العامة للحركة القومية في مراحل صعودها" (31)، لم تكن مؤهلة لأفراز قيادة وقوة موحدة حتى نهاية الخمسينات تخوص الحروب القومية في الوطن العربية على الطريقة الأوروبية.. رغم أن الوحدة المصرية السورية أسقطت بواسطة استخدام مبدأ العنف بفعالية أي عن طريق الانقلاب العسكري، حيث يقول أحد المنظرين القوميين طعيمة الجرف بأن عبد الناصر لم يحارب الانفصال لأنه لا يؤمن بأسلوب القوة والقسوة في الوحدة... وأن أسلوب الضم والغزو لتأسيس الوحدة القومية هذا الأسلوب عرفه القرن التاسع عشر في ألمانيا وإيطاليا وغيرها، لم يعد يلائم طبيعة التطور العالمي المعاصر.‏
ثانياً: إذا كانت الشروط التاريخية المحدودة قد وضعت الطبقة الوسطة في بلاد كمصر وسورية في موضع القائد لحركة التحرر الوطني، وبرغم دورها الايجابي الذي قامت به في مرحلة النضال ضد الاستعمار الخارجي، والذي اتخدت فيه وجهاً ثورياً ديمقراطياً، إلا أن هذه الطبقة لم تطرح انجاز قضايا الثورة الديمقراطية البرجوازية العربية في المجتمع العربي طرحاً جذرياً، وفي القلب من هذا الطرح قضية الوحدة العربية. ولما كانت الطبقة القائدة للثورة الديمقراطية، هي بالضرورة الطبقة الاجتماعية الحاملة في صيرورتها الطبقية نظاماً من الانتاج الجديد في الثورة التحررية، فإننا نتفهم واقع الطبقة الوسطى في مجتمعنا العربي بشكل خاص، حيث لا تحمل هذه الطبقة الوسطى وليس بإمكانها أصلاً أن تحمل في صيرورتها الطبقية نظاماً انتاجياً رأسمالياً قائماً بذاته، الذي يولده تحقيق الثورة الديمقراطية. فهي إذن ليست الطبقة الصاعدة تاريخياً ونظرياً، الحاملة للفكرة القومية، والتي تمتلك من القوة والتلاحم الايديولوجي، ومن شمولية الأهداف، والمشروع القومي النهضوي، ما يؤهلها لكي تقيم تحالفاً ديمقراطياً أوسع من العمال والفلاحين الفقراء والمتوسطين، والبرجوازية الصغيرة الثورية على طريق خوص الصراع من أجل تثبيت وجودها القومي، وقيادة المجتمع بأسره نحو تحقيق الوحدة السياسية للأمة في إطار دولة مركزية، وتوسم الحركة القومية العربية بعمق ميسمها. ولعل المسألة لا تتقوم في عجز الطبقة الوسطى، بل في سعي الشريحة العليا منها التي وصلت إلى الحكم في صيغة أحزاب سياسية احتكرت لنفسها تمثيل الشعب كله، وضعت الفئات الاجتماعية الأخرى كالعمال والفلاحين بصورة خاصة من بلورة أحزابهم وقوتهم الاجتماعية، وحاولت دمجهم قسراً في عالمها السياسي. ومن هنا كان خطابها المعلن شعبوياً، أسقط مقولة التأخر التاريخي للواقع العربي، وعجز عن مواجهة سلطان الأيديولوجيا التقليدية الماضوية واللاعقلانية، التي احتلت ميداناً مهماً في التعليم والتربية والثقافة بوجه عام، وتبني منظورات القومية التنموية.‏
علماً أن التنمية مسألة قومية البعد والطابع بامتياز تقوم على أساس مقولات الحداثة والعقلنة، والديمقراطية، وتشكل أساساً حديثاً للقومية، باعتبارها منظومة علاقات مجتمعية سياسية وأيديولوجية وثقافية واقتصادية متطورة ومميزة في سيرورة تاريخية معينة من التطور داخل أمة واحدة، التي بإمكانها أن تفرز حركة قومية تاريخية تمتلك المقومات لرفع سديماً من البشر إلى كتلة متجانسة متلاحمة، مندمجة، تستحق اسم أمة، ويمكن أن يتخذ قراراً تاريخاً، نحو تحقيق وحدته ونهضته التاريخية. ويقول ياسين الحافظ في هذا الصدد، بأن النهضة القومية وبناء الدولة الحديثة "قرار تاريخي يتخذه شعب بملء وعيه واختياره وصيحة حرب يطلقها ضد التأخر. ولكن لا شعب بلا قومية. وبالطبع فإن غياب القومية قد انعكس على مسألة بناء كل من الدولة والديمقراطية، ذلك لأن الأولى تشكل قاعدة أو أساس الأخيرتين، المنبثقين من المبدأ القومي السامي، مبدأ سيادة الأمة وحقها في امتلاك زمام مصيرها بنفسها. من هنا لم يكن بنيان الدولة في البلدان العربية يمت بصلة جوهرية إلى الدولة القومية العقلانية الحديثة. وما زاد مسألة قيام دولة قومية خطورة هو الدور الحاسم الذي ينتظر الدولة في قيادة عملية التنمية، بسبب عدم تكون طبقة برجوازية حقه، من النمط الغربي"(32).‏
والواقع أن سيطرة العسكر في البلاد العربية على الدولة الحديثة الاستقلال جعلته يقع في فخ السياسة التقليدية، نظراً لعقلية العسكر التي تعتمد على الشعارات الاجتماعية "كالصهر القومي" والوحدة القومية، "ووحدة الشعب والدولة"، واستخدام القسر والقوة لتنفيذ هذه الشعارات وإنشاء قوى خاصة لحماية انظمة الطبقة الوسطى، وللسيطرة الكلية على المجتمع المدني. وليس من شك أن هذه السيطرة للنخبة العسكرية على سلطة الدولة، لم تقد إلى بناء دولة حديثة إذا ما قورنت بالدولة العصرية، بل هي عملية استبدالية لنخبة سياسية تقليدية بنخبة عسكرية جديدة ما تكاد تستقر في الحكم، حتى تكتسب سمات وخصائص السلطة التقليدية أياها. ولهذا فإن الدولة التي بناها العسكر تقع في مرتبة دون الدولة أو في مرحلة ما قبل الدولة على حد قول ياسين الحافظ، ذلك لأنها: إما دولة فئوية (طغمة، عائلة، عشيرة، طائفة إلخ) الأمر الذي يفسر جزئياً طابعها الاستبدادي، ذلك لأن دولة كهذه لا تستطيع الاستمرار إلا باستعمال القوة ضد من هم خارج حدود قاعدتها البشرية..‏
وأما دولة تيوقراطية إلى هذا الحد أو ذاك، الأمر الذي يفسر ليس فقط طابعها الاستبدادي، بل أيضاً شللها وعطالتها بالمحرمات والمسبقات، وانغلاقها، بالنتيجة، على العصر الحديث، في حين أن الدولة القديمة، دولة علمانية وعقلانية، ومؤهلة، بالتالي، لأن تكون عصرية، ومستقبلية ومستوعبة استيعابّاً واعيّاً وشمولياً المصلحة القومية، وقادرة على خدمتها بالفعل هذه الفئوية التي سلخت الدولة عن الأمة ثم هذه الديمقراطية التي حرمتها من الوعي العقلاني، هبطتا إلى ما يذكر بـ "الدولة" المملوكية، بحيث لم يعد لها من سمات الدولة الحديثة سوى بعض أطر ومظاهر وتشكيلات، موروثة من "الدولة" الكولونيالية(32).

 
رابعاً: العسكر والمرحلة الشعبية‏
يقدم لنا الأدب السياسي العالمي تعريفات مختلفة لتعبير "الشعبية" ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر أطلق على الحركة الثورية الفلاحية في روسيا تعبير الشعبية، لأنها جعلت من الفلاحين القوة الثورية الرئيسية وخلصت إلى النتيجة النظرية التالية: إنه لا يترتب على روسيا الفلاحية أن تمر عبر جميع مراحل التطور الأوروبي، وأن تطورها قد يجري في طريق "أصيل" مع تجنب الرأسمالية أي أن يسلك طريق التطور اللارأسمالي وانتقالها إلى الاشتراكية عبر المشاعية الفلاحية، وإحالة جميع الأراضي إلى الفلاحين بلا تعويض. أما تعبير الشعبية الذي يستخدم في الأدب السياسي والاجتماعي في أميركا اللاتينية فهو يشير إلى اتجاه يتقدم بمعاداة الصناعة ومعاداة المثقفين ومعاداة الأجانب. وهناك من يستخدم تعبير الشعبية في الغرب للدلالة على اتجاه أيديولوجي يميني ينظر إلى المجتمع كوحدة ذات مصالح متسقة تعلو فوق صراع الطبقات ومصالح الطبقات والجماعات المكونة لها.‏
ولم يكن الاتجاه الذي مثله عبد الناصر في تلك المرحلة بعيد عن هذه التعريفات الأنفة الذكر. فبسبب الاختلاط في قضية الصراع الطبقي في الوطن العربي، والتداخل في مهمات بعض الطبقات: كالطبقة الوسطى، والعمال، والفلاحون الفقراء في مرحلة الصراع ضد الإمبريالية، كان تعبير الشعبية الذي أطلق على الناصرية يشير إلى أن هذه الأخيرة تمثل اتجاهاً عقلياً وثقافياً "يتسم بثلاث سمات مترابطة أولهما، رفض مفهوم الصراع الطبقي، وثانيهما النظر إلى المجتمع ككيان عضوي ذي مصلحة واحدة، وثالثهما، أن تطور المجتمع هو رهين وحدة وتناسق جهود المواطنين" (34).‏
وانطلاقاً من هذه الرؤية الأيديولوجية التي ترى بأن المجتمع المصري ليس منقسماً انقساماً طبقياً حاداً: إلى طبقة عاملة وبرجوازية كما هو سائد في الغرب، وإن الطبقة العاملة هي نسبة محدودة من قوى الشعب العامل، وإن الفلاحين والطبقة الوسطى تلعب دوراً رئيساً في الصراع ضد النفوذ الأجنبي، وأن الأوضاع المصرية الخاصة تتطلب حشد قوى كل العمال والفلاحين والطبقة الوسطة في إطار تنظيم واحد لتعبئة كل الكادحين بدل تعبئة قسم منهم، وتحقيق الوحدة الوطنية، أعلن عبد الناصر نهاية المرحلة التي تحمل مسؤوليتها مجلس قيادة الثورة، وطرح الاستفتاء على الدستور الجديد في 16 كانون الثاني 1956. غير أن هذا الدستور لم يفسح في المجال لبروز تمثيلات سياسية جديدة تتحمل المسؤولية في انجاز مهام الثورة. وظلت الأحزاب السياسية غير مرخص لها للنشاط السياسي العلني والشرعي. وبدلاً من هيئة التحرير، نص الدستور الجديد على بناء تنظيم سياسي جديد هو الاتحاد القومي حيث نصت المادة /192) منه على أن "يكون المواطنون اتحاداً قومياً للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، ولحث الجهود. ولبناء الأمة بناء سليماً من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية" وعلى أن هذا التصور الشعبي للاتحاد القومي أمر يحتمل الجدل، لأنه إذا كان عبد الناصر يعتقد أن الاتحاد القومي كأداة القسر الشرعية يمكن في نطاق ترابطه وتكامله مع المؤسسات السياسية والاجتماعية أن يلعب الدور الطليعي في حركة البناء والتطور والتقدم، وصيانة الوحدة الوطنية لمصر، باعتباره إطاراً وطنياً يمثل الشعب بأسره، وليس تنظيماً طليعياً ممثلاً لطبقة واحدة من طبقات المجتمع، ويستثني من الانضمام إلى صفوفه العناصر التي تعاونت مع الاستعمار، ومثلت الرجعية والانتهازية، إلا أنه من الخطأ اعتبار الاتحاد القومي من هذه الزاوية -زاوية أن الاتحاد القومي يشمل كل الشعب المصري، وأنه النظام الذي تسعى إليه كل الشعوب الناهضة في المراحل الهامة من تاريخها، وزاوية التطور والتقدم- مؤسسة منفصلة عن المجتمع المدني ككل. فالاتحاد القومي جزء من الكل، شأنه في ذلك شأن الوضع الاقتصادي أو الصناعي أو التربوي، والكل هو الحركة السياسية الجامعة للمسألة الوطنية التي تعبر عن نزوعها إلى التحرر والاستقلال والتقدم، هذه الحركة تشمل موضوعياً جميع التيارات الفكرية والأحزاب السياسية بصرف النظر عن أيديولوجياتها وبرامجها، وأهدافها وتركيبها الاجتماعي وأساليب عملها، وهذه التيارات والأحزاب السياسية لها حقوق متساوية في العمل والتعبير السياسيين.‏
والحال هذه، كان من المنطقي والتاريخي لكي يستهدف الاتحاد القومي حل المسألة الوطنية في علاقتها العضوية بالقضية القومية على أساس أنها الكل، وينظر إليها في واقعها التاريخي، وفي مفهومها السياسي، عليه أن لا يستهدف مصلحته الحزبية فقط لأن الخلل هنا يكمن في وعي العسكر لذاته، بأنه يجسد أيديولوجية الدولة بالذات، وهو رمز الوحدة الوطنية في مصر، وهو الأداة الفعالة للوصول إلى الوحدة العربية الشاملة، وهو الإطار الأوسع والأصلح لتفاعل الناس بشتى مذاهبهم السياسية المتمحورين حول المسألة الوطنية، في نطاق ارتباط الجيش بالمجتمع. وهذا مظهر من مظاهر الوعي. لأن العسكر حتى وإن تحول إلى النموذج القومي في سيرورة ارتقاء الثورة المصرية في أوائل الخمسينات، وإنخراطه في الصراع العربي- الصهيوني، وفي إسهامه في القضاء على التسلط الأجنبي، فهو موضوعياً جزء من الشعب المصري، ومن الأمة العربية، وهو جزء من الحركة السياسية، ويعبر عن مصالح قوة اجتماعية، هي جزء من الشعب المصري، لا يجوز عليه أن ينكر التعبير الثقافي والسياسي والأيديولوجي للطبقات والفئات الاجتماعية، والصراعات الثقافية والسياسية والأيديولوجية التي تنمو في الكل الاجتماعي. فكما هو من حق العسكر أن يستلم السلطة، غير أن علاقته بالمؤسسات السياسية الأخرى، وفي ظل ضآلة الجسم السياسي المصري، وهشاشة المجتمع المدني، لا يجوز له أن يجعل من حركته السياسية الجزء بدلاً من الكل، لأنه بذلك يكون قد أسس لإعادة انتاج الاستبداد المحدث، الذي قاد لاحقاً إلى انتاج الدولة التسلطية في المجتمع المصري.‏
وقد لخص عبد الناصر منطق تجربة الاتحاد القومي بقوله "من هذه التجربة من حياتنا وفي المعارك التي قابلناها كان نظام الحزب الواحد لا يناسبنا لأنه عبارة عن احتكار السياسة، ولأن نظام الأحزاب المتعددة أيضاً لا يناسبنا لأنه سيكون وسيلة لتغلغل النفوذ الأجنبي في الوقت الحاضر إلى داخل بلدنا ليهدم هذه القاعدة التي نبنيها، والتي نعبئ عليها الشعب، وكان لا بد لنا أن ندخل التجربة الجديدة، تجربة تقينا عيوب الحزب الواحد، وتقينا في الوقت نفسه عيوب تعدد الأحزاب، وتجربة عبارة عن نظام يشترك فيه جميع أبناء الوطن بحيث لا تعطي للتسلل، وبحيث تحافظ على وحدتنا. ولا يمكن النفوذ الأجنبي من أن يفرق بيننا ويعمل على ضمنا داخله مناطق النفوذ. وكانت التجربة هي الاتحاد القومي"(35).‏
ومن هنا يتضح أن نموذج العسكر الذي سلكه في مصر، وفي باقي البلاد العربية لاحقاً لا ينطلق من قاعدة التعدد والاختلاف والتعارض، باعتبارها السند المنطقي والتاريخي للديمقراطية، ومن مفهوم المجتمع المدني كمفهوم أوسع وأشمل يشمل جميع القوى السياسية التي تعمل في المجال الفكري السياسي للأمة العربية والتي لا تتجسد وحدتها السياسية إلا في نطاق المجتمع المدني الحديث، والدولة الديمقراطية التي تمثل المجال الحقوقي والسياسي الذي ينتجه المجتمع بفعل تعارضاته الطبقية الملازمة له. والتعبير الحقيقي عن الكل الاجتماعي وعن السيادة للشعب. وعلى نقيض كل ذلك، كان النموذج العسكري في العالم العربي الذي نشأ في ظل الاستعمار الأوروبي ممزوجاً بخلفية البيروقراطية العثمانية والقاعدة الفلاحية -الزراعية للمجتمع، عاجزاً أن يسلك المسلك نفسه الذي يسلكه العسكر في المجتمعات الصناعية المستقلة في أوروبا. ففي أوروبا نشأ العسكر في ظل الحروب القومية بين الدول وفي ظل الصراع السياسي لأجل إرساء القواعد الديمقراطية في الدولة، كل هذا من خلال بروز المجتمع الصناعي المديني وانكفاء المجتمع الفلاحي -الزراعي"(36).‏
وبالنسبة للمجتمع المصري الفلاحي- الزراعي ترافقت سيطرة العسكر على الحكم مع مفهوم السلطة عند الناصرية التي هي أقرب إلى مفهوم السلطة في الأنظمة الشمولية في الديمقراطيات الشعبية، فالناصرية لا تنظر إلى المجتمع المصري في واقعه التاريخي الذي يقوم على التعدد والاختلاف والتعارض، ولهذا أنكرت تعدد الأحزاب والتعارضات الاجتماعية الملازمة لواقع وجود الطبقات، ولا سيما الصراع الطبقي، مثلما أنكرت التمثيلات السياسية التي هي بمنزلة التعبير الثقافي والسياسي والأيديولوجي لهذه الطبقات والفئات الاجتماعية، والصراعات الطبقية. واعتبرت الناصرية التعددية الحزبية بأنها مصدر للتمزق والتفكك، وخلق الفرقة بين المواطنين. وقال عبد الناصر بأن الأحزاب تعاونت مع الاستعمار ومثلت الرجعية والانتهازية. وأكد أن الأحزاب عادة ما تكون أدوات في يد قوى خارجية وإحدى قنوات الحرب الباردة بين الكتلتين المتصارعتين في العالم، فيقول ولواني سمحت الآن للأحزاب أن تقوم على الفور فماذا تكون النتيجة؟... أغلب الظن أنني سأجد هنا ثلاثة أحزاب أحدهما يدعو إلى التحالف مع الغرب وثانيهما يدعو إلى التحالف مع الاتحاد السوفياتي، أما الحزب الثالث فسيكون الحزب الذي ينادي بانتهاج سياسة عدم الانحياز والحياد الايجابي"(37).‏
إن التعددية الحزبية في تصور عبد الناصر هي عودة إلى الفوضى والفساد اللذين كانا سائدين في مصر عهد ما قبل الثورة، وهو لا يريد "أن تتمزق وحدة وطننا من أجل مصلحة هذا البلد الأجنبي، أو ذاك وإنما أريد صيانة وحدة هذا البلد حتى تثبت الفكرة الوطنية المنبثقة من أعماقه وتترسخ"(38) وينبع رفض الناصرية للتعددية الحزبية ومعارضتها لها من الخلفية الحضارية والأيديولوجية والبيروقراطية للنظام الإسلامي، والقاعدة الفلاحية الزراعية للمجتمع المصري، التي لا تعترف بالأحزاب السياسية، وتعارض وجودها، "ولم يعترف النظام الإسلامي بالأحزاب السياسية، ولم ينظر إلى ما قام منها على أنه من قبل المعارضة الموالية بل على العكس نظر إلى هذه الأحزاب كبدع واعتبر مبادئها مخالفة لسنة الحكم"(39).‏
وكانت نزعة الرفض هذه للأحزاب المتعددة، والقيم الليبرالية السياسية تجد جذورها أيضاً في المصادر والأفكار الأيديولوجية المكونة للأحزاب السياسية في التجربة الوطنية المصرية، كأفكار الحزب الوطني وحزب الوفد الذي يضم عدة فئات اجتماعية تحت عباءته، وتقوده قيادة أبويه تدمج بين ذاتها والحزب والأمة، وأجنحة في اليسار الماركسي. وفضلاً عن ذلك، فإن التعددية الحزبية وفقاً للنموذج الكلاسيكي الغربي تعتبر من وجهة نظر عبد الناصر مظهراً من مظاهر التفتت والانقسام، وضعف الأمة إزاء تحديات المواجهة مع الغرب، وتعبيراً عن مصالح طبقية معينة، تدافع عنها في ظل الفوارق الطبقية الشاسعة بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية. لهذا كله تمثل فكر عبد الناصر مفهوم الاتحاد القومي بإعتباره رمزاً للوحدة الوطنية، وأداة لبناء الشرعية السياسية، ولبناء الدولة الحديثة، على الرغم من أن الاتحاد القومي قام على فكرة تجميع القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية في إطار تنظيم سياسي فضفاض، يمثل كل القوى الاجتماعية حول أقانم وأفكار معينة مثل صيانة الوحدة الوطنية، وتقليل الخلافات الطبقية والفئوية إلى أقل درجة ممكنة، والتأكيد على مشاعر التضامن والوحدة بين المواطنين. وهذه هي النزعة الشعبية بعينها. وقد عبر عبد الناصر عن ذلك بقوله "الاتحاد القومي... هو إطار يصون الوحدة الوطنية. إن مجرد قيامه لا يحل المتناقضات في مجتمعنا، إنه لا يمنع تصادم المصالح ولا تعارض الأراء، إنما هو مجرد إطار من الوحدة القومية يسمح للمتناقضات أن توازن نفسها، ويسمح للمصالح المتصادمة والأراء المتعارضة أن تجد نقطة لقاء بينها في حماية الوحدة الوطنية بطريقة تتلائم مع طبيعة شعبنا... ولقد كان إيماننا أنه يمكن في إطار الوحدة الوطنية أن تتفاعل الطبقات بما يقرب بينها، وأن يقل التناقض بطريقة سلمية لا مصادرة فيها ولا سفك دماء، وأن يتم الاتجاه إلى الاستقرار الوطني القائم على العدل الاجتماعي"(40).‏
ويمكن القول أن العقل السياسي العسكري بطبيعة تكوينه، وفلسفة العسكر القائم على تحقيق الاجماع القومي، وعلى اعتبار أن الجيش هو أداة التغيير السياسي والتحديث والعصرنة، وثقافة العسكر المرتكزة إلى روح الانضباط العسكري والاحترام للتراتبية الهرمية في القيادة من خلال توزيع الأمور بشكل هرمي دقيق والتمسك بالتنظيم الكلي والشمولي للسلطة، الذي لا يقوم على أساس احترام القواعد الديمقراطية، كل هذا يجعل العقل السياسي العسكري يرفض التعددية الحزبية والأدوار التي تقوم بها الأحزاب السياسية الحديثة، والقيادات، والنقابات العمالية، والتعاوينات، وغيرها من المؤسسات الفاعلة في المجتمع المدني لإدارة التناقضات الطبقية في المجتمع.‏
فالدولة الحديثة التي بناها العسكر ليست دولة القانون الحديثة، التي تقوم على استقلال القضاء، وفصل السلطات، وعلى وجود المؤسسات الحديثة، كالقضاء، وحرية الصحافة، والبرلمان، وتمايز وظائفها السياسية والدستورية والإعلامية، واستقلالية المجتمع المدني، وانفصال الديني عن الدنيوي، حيث أن دولة القانون هذه ترسى ضمانات وقيود على السلطة العامة، التي يتوجب عليها أن تلتزم بها، في ظل توازنات مؤسسة دستورية بين السلطات المختلفة. وفي ظل غياب مؤسسات دولة القانون المستقلة، أصبحت السلطة السياسية العامة كلها مركزة في الزعامة الشخصية للرئيس عبد الناصر، حيث أن الدستور المؤقت الصادر في 5آذار 1958 زمن إعلان الجمهورية العربية المتحدة إبان الوحدة المصرية -السورية يعطي صلاحيات كبيرة للرئيس يتجاوز بما لا يقاس صلاحيات رئيس الدولة في النظام الرئاسي. وحكم العسكر في مصر أدى إلى أن تتركز السلطة في يد رئيس الدولة الذي تولى عملياً السلطتين التنفيذية والتشريعية، وذلك بسبب النفوذ الذي لرئيس الدولة على السلطة التشريعية بتعيينه أعضاء مجلس الأمة وحقه ودعوته إلى الانعقاد وفض دوراته، وحقه في اقتراح القوانين والاعتراض عليها وإصدارها"(41).‏
وقد أصبحت ممارسة السلطة كلها مناطة برئيس الدولة، فانتفى بذلك القانون الذي يضمن حرية التعبير والحوار بين الأحزاب السياسية، والمعارضة والسلطة بشكل ديمقراطي، ويصون الحريات العامة، ويحول دون حكم الجزء الكل. وتحول القانون في ظل حكم العسكر إلى "مجرد أداة من أدوات السيطرة على الحقل السياسي- الاجتماعي، وأداة لإعادة تشكيل البنية الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه في الوقت ذاته ليس تعبيراً عن توازنات اجتماعية -سياسية ولا ضمانة للحريات العامة وأداة لفرض الضوابط والحدود بين حقوق الفرد، أو المجموع، وإزاء السلطة العامة، وأداة لفرض الضوابط بين حقوق الفرد، أو المجموع، إزاء السلطة العامة وجهاز الدولة القمعي المشروع ولا تعبيراً عن الإرادة العامة للمواطنين التي تبلورت عبر أليات الانتخاب الحر المباشر"(42).‏
وعلى الرغم من أن الامبريالية الأوروبية، وتحديداً الاستعمار البريطاني قد أدخل إلى مصر نوعاً من الليبرالية السياسية والديمقراطية البرلمانية، ومن النظام البيروقراطي الحديث في نطاق عملية "التحديث الكولونيالي". إلا أن الخاصية الأساسية للدولة التي بناها العسكر. هي أنها دولة شديدة المركزية مرتكزة إلى الموروث التراثي الأيديولوجي للدولة الإسلامية، وإلى خصوصية الدولة المركزية في مصر عبر تاريخها الطويل بما يتفق مع وضعها الجغرافي، وإلى السلطة الفردية للرئيس القائمة على قمة النظام (على الصعيد القانوني وما يتجاوزه) وعلى احتكار مصادر القوة المنظمة: من الحكومة، والبرلمان، وأجهزة الدولة العسكرية والأمنية المبنية على القمع والإكراه، والمستمدة شرعيتها لا من مصدر (دستوري أو قانوني) بل من واقع القوة وحيازة أدواتها، ومن التناقض فيما بينها لخدمة سياسة الرئيس، باعتبارها تمثل مراكز القوى ملازمة للنظام.‏
ولعل أبرز سمة في هذه الدولة المركزية الحديثة، أنها كانت تعبيراً عن تطلعات الفئات الاجتماعية والنخب السياسية الحديثة -من العسكر الذي تدخل في السياسة وسيطر على مقدرات السلطة، إلى التكنوقراط من مديري القطاع العام ورجال الحزب العقائديين الذين تلقوا علومهم في الغرب، ورأوا في نماذجه وقيمه وسلوكه مرجعيات لهم- والمتحدرة جميعاً طبعاً من الفئات الوسطى. وقامت هذه الدولة باسم تحقيق مشروع الوحدة والتنمية والتقدم والتحديث إلى احتكار ومصادرة حرية التعبير، والفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي لمختلف طبقات وفئات المجتمع، بواسطة استخدام سلطاتها القمعية والسياسية، وبخاصة الأجهزة الأمنية التي تمارس القمع "المشروع" متسترة برفع حماية شرعية النظام الثوري، لتبريرها استخدام القوة ومأسسة العنف ضد كل المعارضات السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية الاسلامية والليبرالية والماركسية وقضائها على مكونات ومؤسسات المجتمع المدني الوليد والحديث.‏
ولما كانت هذه الدولة الحديثة التي بناها العسكر ليست إفرازاً حقيقياً لسيرورة من الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي في المجتمع، كما هو الحال في النموذج الغربي، فإنها "ولدت معاقة" منذ البداية، لأنها لم تكن تمتلك من مصادر الشرعية، سوى الشرعية التراثية للدولة الاسلامية، وشرعية الدولة التسلطية الحديثة التي سيطرت على المجتمع باسم أقانيم الوحدة والاشتراكية والتنمية والتحديث والاستقلال... إلخ ولأنها أيضاً كانت تحمل في سيرورة تشكلها مظاهر ملازمة لها كالاستبداد المحدث، وحكم الفرد وشخصنة السلطة. وقد عبر طارق البشري عن هذه المظاهر بقوله "وقد جمع القائم على رأس الدولة سلطات تقرير السياسات وتشريعها وتنفيذها. وظهر رئيس الجمهورية القائم على رأس النظام مصدراً للشرعية ومنبعاً للسلطة على نطاق المجتمع كله. وتشكل الهيكل التشريعي على أساس من هذه السلطات المركزة.. واتخذ هذا التركيز أساليب عديدة من الناحية الفنية القانونية، منها سلطة تعيين الموظفين ومتوسطهم في سائر القطاعات والأنشطة وسلطة فصلهم بغير الطريق التاديبي (أي بغير إجراءات التحقيق وسماع الدفاع) واعتبار مثل هذه القرارات وإن تعلقت بأفراد من أدنى المستويات الوظيفية، اعتبارها من أعمال "السادة" التي لا تخضع لرقابة القضاء حسبما نص القانون رقم 31 لسنة 1963. ومنها سلطة رئيس الجمهورية في إصدار اللوائح التنظيمية واللوائح التنفيذية للقوانين، وسلطته في إنشاء وإلغاء الهيئات العامة والمؤسسات العامة، ومنها سلطته في إصدار القوانين في غيبة المجلس النيابي وتفويض رئيس الجمهورية في إصدار القوانين أحياناً مع وجود المجلس، كما حدث في سنة 1967 وما تلاها من السنين. ومنها ان تمنح بعض القوانين لرئيس الجمهورية سلطة الاستفتاء من أحكامها...‏
وكان مما يتمشى مع تقرير هذه السلطات ويسندها ويحوطها بالشرعية السياسية والدستورية، أن اعتمد مبدأ الاستفتاء الشعبي كأصل جوهري في اختيار رئيس الجمهورية وكأساس لشرعية النظام كله. لقد نيطت السلطات بقائد الثورة في البداية طبقاً للدستور المؤقت الصادر في فبراير 1953. وبعد اعتزال محمد نجيب القيادة والرئاسة في العام 1954، وتولى جمال عبد الناصر مجلس القيادة وجمع معها رئاسة الوزارة ووزارة الداخلية. فلما انتهت فترة الانتقال بإعلان دستور 1956، قامت رئاسة الجمهورية على مبدأ الاستفتاء الشعبي العام، وجرى الاستفتاء وقتها على الدستور من ناحية وعلى شخص الرئيس من ناحية أخرى.‏
ومع قيام الوحدة المصرية السورية في عام 1958 جرى الاستفتاء في مصر على مبدا الوحدة من ناحية وعلى شخص رئيس الجمهورية المتحدة من ناحية أخرى. ثم أصدر الرئيس بقرار منه الدستور المؤقت للجمهورية الجديدة. فكانت شرعية الدستور مستمدة من إصدار الرئيس المستفتى عليه له، بمعنى أن "النظام" يستند في شرعيته إلى "الشخص" وليس العكس. ثم بعد انفصال سوريا صدر في 27 سبتمبر 1962 قرار جمهوري بإعلان دستوري، شكل مجلساً، يرأسه رئيس الجمهورية، ويغير الهيئة العليا للسلطة في الدولة، وتشكل المجلس من قيادة جماعية غير منتخبة، ولكن السلطات الفردية للرئيس بقيت في الواقع وفي "القانون" مع دمج السلطات لصالح جهاز الحكومة، ومع السلطة الفردية، تبدو السمة الثالثة للنظام السياسي الذي أقامته ثورة 23يوليو، وهي استفتاء التنظيم السياسي للدولة والمجتمع عن مبدأ الحزبية في عمومه، سواء تعدد الأحزاب أو الحزب الواحد. لقد فرضت الضرورات السياسية نفسها على الضباط وحركتهم، فصار جهاز الدولة معهم هو الجهاز السياسي والإداري معاً. ولم يوجد من بعد إلا تنظيم سياسي حزبي له ذاتيته المتميزة عن الدولة، ولا له مكنة الامساك بزمامها. بل العكس هو ما يظهر أنه حدث إذ تركزت السلطات في جهاز الدولة، وتركزت فيه الوظائف السياسية المختلفة ودارت التنظيمات السياسية الشعبية في فلكه"(43).‏

 
عودة
أعلى