مشاهد من عصر الهزيمة.. لماذا سقطت القدس؟

YOOBA

عضو مميز
إنضم
3 أغسطس 2016
المشاركات
1,703
التفاعل
6,053 0 0






424

250


محرر تاريخ





في ظل قرار ترمب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، يبدو النظر للتاريخ لأخذ العبرة منه أمرا ضروريا، إذ إن الصراع حول القدس له امتداداته التاريخية، هذا النظر للتاريخ يحيلنا للتبصر بأثر التمزق السياسي على تمهيد دخول المحتل، كما يحيلنا لأثر التفاعل الشعبي، وإعادة تشكيل الرأي العام، في تهيئة مناخ عام قادر على تغيير معادلة هيمنة المحتل. حينئذ، تبدو المشاهد التاريخية مألوفة بإسقاطها على واقعنا المعاش. نستعرض في هذا التقرير أسباب سقوط القدس بأيدي الصليبيين، والعوامل التي أدت لتهيئة المناخ نحو تحرير القدس.



يُحكى أنه حين سقط بيت المقدس في يد الصليبيين في شهر شعبان سنة 492 هـ، جاءت الأخبار إلى بغداد عاصمة الخلافة التي كانت تترنح ضعفا تحت وطأة الحكم السلجوقي، هذا الحكم الذي كان أصحابه هم الآخرين في شُغل وصراع؛ فهو صراع الإخوة "الأعداء" أبناء السلطان ملكشاه على عرش أبيهم، ورغم ذلك لم يجد الخليفة العباسي وقتها من حل سوى إرسال رسالة إلى السلطان السلجوقي في إيران يطلب منه غوث القدس وإنقاذها، لكن ذلك السلطان واسمه بركياروق بن ملكشاه لم يأبه لهذه الرسائل، فقد كان العرش والبقاء عليه أهم عنده من ألف قدس!


وفي العام التالي أعاد الخليفة العباسي المستظهر رسالته؛ وأيضا لم يهتم بركياروق ولم يرد على رسائل الخليفة، أما الخليفة نفسه فقد رأى أنه فعل ما يجب عليه فعله، وفي هذا يقول ابن العمراني مؤرخ العباسيين: "كان (المستظهر) مشغولًا بشأنه، محبًا للترفّه والتنعّم، آخذًا من لذات الدنيا بأوفر الأنصباء.. وكانت العراق في أيامه هادئة والعين نائمة وأمور دولته مستقيمة"(1).



اتحاد الصليبيين
e6a888c3-0493-4691-9208-7d6564c6c7c6



كان السبب المباشر لانطلاق الحملة الصليبية الأولى، ذلك المجمع الديني الذي عقده البابا أوربان الثاني (Urban II) في بياتشنزا (Piacenza) في إيطاليا في مارس 1095م/488هـ ودعا إليه الأساقفة من إيطاليا وبورغونية وفرنسا وغيرها. ومَثُلَت سفارة من القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية أمام هذا المجمع، ومعهم طلب من الامبراطور البيزنطي إلى البابا؛ حاثّا المحاربين الغربيين على مساعدة الامبراطورية الشرقية وإنقاذها من السلاجقة المسلمين الذين كانوا قد سيطروا على أقسام واسعة من آسيا الصغرى والأناضول واسترجعوا أنطاكية من البيزنطيين. ووجدت البابوية في السفارة البيزنطية وطلب النجدة تحقيقًا للسمو البابوي على الملوك والإقطاع معًا والسيادة على العالم المسيحي، وفرصة لصرف خطر النورمانديين عن صقلية وجنوبي إيطاليا، وتوجيه نشاطهم للقتال في حرب مقدسة ضد العرب والإسلام (2).


وفي نوفمبر 1095م/489هـ، ألقى البابا أوربان الثاني خطبة في الحشود التي اجتمعت في حقل فسيح بعد انتهاء مجمع كليرمونت الديني في جنوب فرنسا أكثر الأماكن تعصبا للكاثوليكية وقتها، دعا فيها إلى شن حملة مقدسة مسلحة باسم الرب بوصفه نائبًا عنه في الأرض، وحث ملوك الغرب على نبذ خلافاتهم والانصياع إلى أوامره، ليتفرغ مسيحيو الغرب لما أسماه البابا حرب الله Guerre de Dieu أي الحرب المقدسة ضد العرب والمسلمين، وأشار البابا إلى منح الغفران لكل من سيشارك في هذه الحملة، سواء من مات في الطريق إلى الأرض المقدسة، أو قتل في الحرب ضد المسلمين(3).


انقسمت الحملة الصليبية الأولى إلى مرحلتين: الحملة الشعبية أو حملة الغوغاء والعامة، وحملة الأمراء، قاد الحملة الشعبية (489-490هـ/1095-1096) الراهب بطرس الناسك، وقد ضمت تشكيلة متنوعة من المشردين وقطاع الطرق والفلاحين وغيرهم من معدمي أوروبا، وانضمت إلى مجموعة أخرى بقيادة الأمير والتر المفلس (Walter der Arme) ومارسوا السلب والنهب، وحتى الكنائس لم تنج من إجرامهم، لكن سلاجقة الروم (فرع من الدولة السلجوقية في الأناضول) هاجموا تلك الحملة وأبادوها عن بكرة أبيها، وقتل والتر المفلس وهرب الناسك إلى أوروبا ثم التحق بالحملة التالية التي عرفت باسم الأمراء(4).

97debd5e-b908-4594-bf7d-fa232c66d880


في حملة الأمراء تغيرت أوضاع الصليبيين من الضعف إلى النشاط والقوة، وبرزت التكتيكات العسكرية المتفوقة، في ظل الحشود الغفيرة من الفرسان والرجالة والآلات العسكرية القوية التي صاحبت حملة الأمراء (490-493هـ/ 1096-1099م) فقد كانت حملة منظمة قادها كثير من أمراء أوروبا، منهم الدوق جود فري دي بويون (Godfrey d'Bouillon) وأخوه بلدوين من فرسان اللورين، وريموند أمير تولوز (طلوشة) وبصحبته المندوب البابوي، والكونت بوهمند من سادة ترنتو، وكان يحلم بإقطاع مملكة له ولجنوده النورمان من الأملاك البيزنطية في الشرق الأدنى، وكان معه ابن أخيه تانكريد الهوتفيلي(5) (Tancred of Hauteville). تمكنت هذه الحملة من الدخول في الأراضي الإسلامية والانتصار على السلاجقة والقادة العسكريين المشرذمين في جنوب الأناضول وبلاد الشام، وترتب على ذلك، الاستيلاء على القدس، وشعر الصليبيون أنهم حققوا واجبهم الديني باستعادة المدينة المقدسة.


وما بين عامي 492 - 503هـ تمكن الصليبيون من ضم مناطق واسعة في بلاد الشام شمالها وجنوبها، وقسموها بينهم إلى أربعة أقاليم أو إمارات، هي:

- إمارة الرُّها 492هـ، وتشمل أعالي منطقة نهري دجلة والفرات، وتقرب حدودها الجنوبية الغربية من حلب، وكانت عاصمتها مدينة الرها (جنوب تركيا حاليا) التي توجد في بعض الخرائط باسم إدريسّا.
- مارة أنطاكية (في جنوب تركيا والساحل السوري حاليا) في السنة ذاتها 492هـ، وتقع في الإقليم الشمالي جنوب غرب إمارة الرها.
- إمارة طرابلس (في شمال لبنان) وهي تقع في شريط ضيق على الساحل وهي أصغر هذه الإمارات وسقطت في أيديهم سنة 503هـ(6).
- مملكة بيت القدس (كامل فلسطين الحالية وأكثر من نصف لبنان) في شعبان سنة 493هـ، وتمتد حدودها الشرقية من قرب بيروت الحالية عاصمة لبنان، ثم تتبع نهر الأردن حيث تتسع قليلا، وتتجه جنوبًا إلى خليج العقبة، وكانت عاصمتها القدس نفسها(7).



الصراع.. أساس الهزيمة
أما الذي مهد الطريق لهذا الاجتياح الصليبي، فهو التمزق السياسي الذي كانت تعاني منه بلاد الشام، ففي ظل الاجتياح الصليبي رأينا "ملوك الشام مشتغلون بقتال بعضهم بعضًا"(8) كما يذكر المؤرخ ابن الوردي. وتُؤكد رواية ابن كثير سبب دخول الصليبيين إلى الشام في أنطاكية ومعرة النعمان بالضعف والتناحر، وتزيد على ذلك بانعدام وجود قوة إسلامية منظمة تدافع عن هذه البلدان، بل ووجود خيانة من داخل المسلمين سهلت دخول الصليبيين إلى هذه المدن، قال: "في جمادى الأولى منها (أي سنة 491هـ) مَلك الإفرنج مدينة إنطاكية بعد حصار شديد، بمواطأة (خيانة) بعض المستحفظين (حُماة الأبراج والسور)، وهرب صاحبها في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندما شديدا على ما فعل، بحيث إنه غشي عليه وسقط عن فرسه، فذهب أصحابه وتركوه، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج"(9).




كان لسقوط أنطاكية كما يرى المؤرخ الراحل سعيد عاشور أثره الفادح في نفوس المسلمين؛ فقد "أثار موجة من الذعر في البلدان الإسلامية القريبة، فهرب من كان بها من المسلمين وتسلمها الأرمن، ولا شك أن سقوط أنطاكية كان له دوي هائل في العالم المسيحي، لا يفوقه إلا أثر سقوط بيت المقدس نفسها في أيدي الصليبيين فيما بعد؛ فأنطاكية مدينة قديمة لها تاريخها وأهميتها الكبرى في نظر المسيحيين، ويكفي أنها كانت ثالث مدن العالم في عصر الإمبراطورية الرومانية، فضلاً عن أنها المدينة التي أطلق فيها القديس بطرس أول أسقفية له"(10).



حاول أقوى وأقرب أمراء السلاجقة أمير الموصل كربوقا وأمير دمشق دقاق، وأمير حمص جناح الدولة التوحد في صد هذا العدوان الصليبي، وبالفعل "التقوا معهم (أي الصليبيين) بأرض إنطاكية، فهزمهم الفرنج وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأخذوا منهم أموالا جزيلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان فأخذوها بعد حصار فلا حول ولا قوة إلا بالله"(11).


وفي بغداد ظل الخليفة -رمز المسلمين الأول- عاجزا عن القيام بدور فعّال في حركة الجهاد والمقاومة أمام المد الصليبي، فجلّ ما فعله المستظهر أنه في عام 492هـ وبعد سقوط بيت المقدس أرسل وفدا من كبار علماء بغداد إلى الأقاليم ليستحثوا الأمراء وجماهير الناس للمشاركة في جهاد الصليبيين؛ ولم يفعل ذلك للحق إلا بسبب ضغط وفد أهل الشام الذي كان يستصرخ بغداد وأهلها وجيوشها على ما لحقهم من دمار وذلة على يد الصليبيين، فقد جاء هذا الوفد "فأوردوا في الديوان (ديوان الوزارة العباسية) كلاما أبكى وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع (الكبير) يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا وأبكوا وذكروا ما دهم المسلمين من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا"(12). ولم يجد الخليفة أمامه إلا أن يرسل وفدا من كبار قضاة وفقهاء بغداد إلى السلاجقة في عاصمتهم همذان بإيران، خاصة وزيرهم مجد الملك البلاساني، لكن هذا الوفد عاد من الطريق حين علم اشتداد الصراع على العرش السلجوقي، ومقتل وزيرهم مجد الملك، "فعادوا من غير بلوغ أرب ولا قضاء حاجة"(13).



وهكذا أدى الاقتتال الداخلي في المعسكر السلجوقي إلى جمود المساعي لمساعدة بلاد الشام وبيت المقدس في حربها ضد الصليبيين حتى تمكن الصليبيون من الاستيلاء على مدن الساحل الشامي وفلسطين واحدة بعد أخرى.



الرأي العام في مواجهة الخيانة
اللافت أن الرأي العام في العراق وعلى رأسه ممثليه الحقيقيين من الفقهاء والعلماء لم يكونوا راضين عن هذه القيادات السياسية والعسكرية المنبطحة والمتشرذمة أمام المد الصليبي في ديار الإسلام، ومن هنا حاول بعض الفقهاء والعلماء بمجهود ذاتي متواضع أن يجاهدوا هؤلاء الغزاة، ففي سنة 504هـ "تجهّز جماعة من أهل بغداد من الفقهاء وغيرهم، للخروج إلى الشام لأجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة، من ذلك مدينة صيدا في ربيع الأول، وكذا غيرها من المدائن، ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج»(14).





وإن بعض المؤرخين يذكرون أن ثورة في بغداد قامت بها جماهير الناس نُصرة لأهل الشام وبيت المقدس المنكوبين على يد الصليبيين؛ كانت السبب في تعكير صفو مزاج الخليفة الذي كان يتجهز للزواج السياسي من أخت سلطان السلاجقة، للدرجة التي جعلته يطلب من السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه صراحة أن يؤدب الجماهير على هذا الاعتراض المتزايد في ظل استعداده الباذخ لحفل زواجه الميمون!


يقول المؤرخ ابن القلانسي (ت555هـ): "حضر رجل من الأشراف الهاشميين من أهل حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء إلى جامع السلطان ببغداد فاستغاثوا وأنزلوا الخطيب عن المنبر وكسروه وصاحوا وبكوا لما لحق الإسلام من الإفرنج وقتل الرجال وسبي النساء والأطفال ومنعوا الناس من الصلاة، والخدم والمقدمون يعدونهم عن السلطان بما يسكنهم من إنفاذ العساكر والانتصار للإسلام من الإفرنج والكفار، وعاودوا في الجمعة الثانية المسير إلى جامع الخليفة وفعلوا مثل ذلك من كثرة البكاء والضجيج والاستغاثة والنحيب، ووصلت عقيب ذلك الخاتون السيدة أخت السلطان زوجة الخليفة إلى بغداد من أصفهان.. واتفقت هذه الاستغاثة فتكدر ما كان صافيًا من الحال والسرور بمقدمها. وأنكر الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ما جرى وعزم على طلب من كان الأصل والسبب ليوقع به المكروه، فمنعه السلطان (السلجوقي) من ذلك وعذر الناس فيما فعلوه، وأوعز إلى الأمراء والمقدمين بالعود إلى أعمالهم والتأهب للمسير إلى جهاد أعداء الله الكفار"(15).


ولم يجد السلطان السلجوقي بدا سوى تسيير حملة عسكرية تهدئ من مشاعر الجماهير، قاد هذه الحملة كبار أمرائه العسكريين الذين سيبزغ نجم بعضهم في مجاهدة الصليبيين فيما بعد، "وساروا إلى بلدة سنجار فتحوا عدة حصون للفرنج، وقتل من بها منهم وحصروا مدينة الرها مدة ثم رحلوا عنها من غير أن يملكوها(16). ورغم العدة والعتاد فإن أمراء حلب ودمشق لم يأمنوا لهؤلاء القادة السلاجقة، وسرعان ما دب الخلاف بينهم، ولم تنجح هذه الحملة ورجعت على أعقابها في العام التالي من خروجها سنة 505هـ(17)!

d53ce84f-6357-4b96-858a-628bad2151d0


في الجانب الآخر، كان الخلفية وسلطان السلاجقة وكبار الحاشية من الجانبين يحتفلون بالزفاف الملكي الذي هز بغداد، وقلبها رأسًا من كثرة الترف الذي رآه الناس؛ فقد "قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد، ثم حُمل جهازها على مائة واثنين وستين جملا، وسبعة وعشرين بغلا، وزُينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة»(18).


لم يرض الفقهاء وعلماء المسلمين آنذاك بهذا التقاعس والخذلان من الساسة والعسكر في مواجهة الاحتلال الصليبي لبيت المقدس ولديار المسلمين، وكانت لهم تحركات مستقلة نشطة في بث الحماس في نفوس القادة العسكريين من السلاجقة ممن توسّموا فيهم خيرا خاصة أمراء الشام وشمال العراق، فقد اتحدوا أخيرا في مواجهة الصليبيين بل كان لهم النصر في معركة مهمة سنة 507هـ بالقرب من بحيرة طبرية بفلسطين، يقول ابن كثير: "كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية، كان فيها ملك دمشق الأتابك طغتكين، ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين، وصاحب الموصل، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنموا منهم أموالا جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها"(19).




والعام 507هـ هو العام الذي بدأ فيه نجم القائد العسكري عماد الدين زنكي في الصعود كأحد أبطال مقاومة المد الصليبي والاسترداد، وكان الأمير زنكي مقربًا من أمير الموصل آق سنقر البرسقي الذي كان نائبًا للسلاجقة على المدينة فقد "ولّى السلطان محمد بن ملكشاه للأمير آقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها، وأمره بمقاتلة الفرنج، فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج وسميساط(20).


وبهذا نرى أن غضب الجماهير وردود فعل علماء المسلمين كان لها الأثر القوي في إعادة توحيد الصفوف، وبث الحماس، ونشر الوعي، في مواجهة القوى الصليبية التي ظلت جاثمة على صدر الأمة لمدة قرنين على الأقل، أثمرت هذه الجهود في صعود نجم آق سنقر البرسقي، وعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود ثم صلاح الدين الأيوبي ومن بعده المماليك العظام، وهي جهود لم تكن وليدة لحظة أو عامل واحد، لكن جمعها في أصلها روح المواجهة في الدفاع مقدسات الإسلام وعن القدس وديار المسلمين عامة.
 
intellect;ord=8716855315995.509;dc_seg=453467495









424

تحرير صفد.. كيف حقق المماليك الانتصار على الصليبيين؟
250


محرر تاريخ





رأينا سابقا انتصار الظاهر بيبرس في موقعة قيسارية واسترداد هو القوات المملوكية لهذه المدينة المهمة في جنوب حيفا، وعقب ذلك الانتصار كانت قواته قد تجمعت فيما بعد بالقرب من أسوار عكا في محاولة منه لاسترداها هي الأخرى، لكنه وجدها شديدة المنَعة والقوة، ويلاحظ بعض المؤرخين أن بيبرس تمكن من عقد محالفات مع أعداء الصليبيين، الذين قابلوا هذه الانتصارات بالترحاب، مثل ابن الإمبراطور فردريك الثاني الألماني ووريثه في صقلية، والإمبراطور البيزنطي ميخائيل باليولوجس، وجمهورية جنوا، وبركة خان زعيم مغول القفجاق، كلهم كانوا يرسلون رسائل التهنئة عقب كل نصر لبيبرس.(1)




بالرغم من فشل الهجوم على مدينة عكا، فإن بيبرس أمر بالهجوم على قلعة صفَد، وكانت مركزًا عسكريًا لفرقة الداوية الصليبية ثاني أقوى الفرق الصليبية بعد الإسبتارية في المشرق الأدنى الإسلامي، وكما فعل في قيسارية وأرسوف، أعاد بيبرس وجنوده الكرّة في صفد بالحصار القوي الخانق، واستخدام كافة المعدّات العسكرية، خاصة الثقيلة منها في ذلك العصر، مثل المنجنيقات والدبابات الخشبية والمدافع، كان الغرض منها نقب الأسوار والحصون المنيعة، فضلاً عن دورها في سحق المعنويات الصليبية، ومن ثم الهجوم الخاطف من خلالها.(2)



استرداد صفد

300

بعد حصار شديد، ورمي قوي من المنجنيقات، أرسل الداوية في طلب الأمان، فقبل بيبرس ذلك شريطة ألا يستصحبوا سلاحًا ولا عدة حرب، ولا يُؤذوا شيئًا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم


multi-mapicon.png
بيكساباي


وصف المؤرخ المقريزي مشهدًا من مشاهد هذه المعركة يبدو مليئًا بالحركة والتفاصيل؛ ويظهر من خلاله انخراط السلطان بنفسه في أجواء المعركة، غير مكتف بالتوجيه والإدارة من بعيد، قائلاً:"سار السُّلطان بنفسه وخواصّه وجرّ الأخشاب مع البقر هو وخواصّه، فكان غيره من النَّاس إذا تعب استراح ثمَّ يعود إلى الجرّ وهو لا يسأمُ من الجرّ ولا يبطله إلى أن نُصبت المجانيق رُمي بها ... وصار السُّلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي. وأتت العساكر من مصر والشَّام فنزلوا على منازلهم إلى أن كانت ليلة عيد الفطر فخرج الأمير بدر الدّين الأيدمُري للتهنئة بالعيد فوقع حجر على رأسه فرسم السُّلطان بألا يجتمع أحد لسلام العيد ولا يبرح أحد من مكانه خشية انتهاز العدو غرَّة العسكر ونودي يوم عيد الفطر في النَّاس: من شرب خمرًا أو جلبها شُنق"
في اليوم التالي من أيام الحصار أمر السلطان بالزحف على صفد، وبدأ الهجوم بإلقاء فرقة "الزراقين" وهي الفرقة الموكلة بإلقاء الزجاجات النارية الحارقة على العدو، ثم بدأت فرقة "الحجّارين" التي كانت موكلة بإلقاء الحجارة الثقيلة بالمنجنيقات وغيرها، ثم بدأ التلاحم مع العدو، "فكان بين الفريقين قتالٌ عظيم استشهد فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قُتل جرّه رفيقه ووقف موضعه، وتكاثرت النُّقوب، ودخل النقّابون إليها ودخل السُّلطان معهم وبذل السُّلطان في هذا اليوم من المال والخلع كثيرا، ونصب خيمة فيها حُكماء (أطباء) وجرائحية".(3)



وفي أثناء هذه المعركة كانت سفراء أمير يافا وصور ومنطقة صهيون وبيروت وكلهم من الصليبيين تفدُ إلى السلطان بطلب الصلح والهدنة، بيد أنه لم يتصالح السلطان مع أحد منهم، بل لامهم بما جنته أيديهم في حق المسلمين، وبيّن أن الخروقات المتكررة من جانبهم مسوّغ قوي لنقض كافة الاتفاقيات القديمة.



وبعد حصار شديد، ورمي قوي من المنجنيقات استمر منذ 8 رمضان سنة 664هـ/1266 حتى منتصف شوال، أرسل الداوية في طلب الأمان، فقبل بيبرس ذلك شريطة "ألا يستصحبوا سلاحًا ولا لأمة (عدة/ترس) حرب، ولا شيئًا من الفضّيات، ولا يُؤذوا شيئًا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم".(4). لكنهم نقضوا العهد الذي أعطي لهم، فقد حملوا معهم أسلحتهم وأمتعتهم، كما وُجد مع بعضهم أسرى من المسلمين أطفال صغار قالوا إنهم نصارى، فأُخذ جميع ما معهم، وأمر بيبرس بقتلهم "على تل قريب صفد، في مكان كانوا يضربون فيه رقاب المسلمين"(5).



300

اعترف الاسبتارية وهي الفرقة العسكرية الصليبية المحترفة بشرعية وقوة المماليك مرغمين ومضطرين، المماليك الذين فرضوا شروطهم وصلحهم متى أرادوا، وفسخوه متى أرادوا


multi-mapicon.png
بيكساباي


وقد اتهمت المصادر الصليبية بيبرس بالخيانة والغدر بسبب هذه الحادثة، والحق أنه "لا مجال هنا للكلام عن الخيانة والغدر مع أناس مثل الصليبيين كان الغدر هو شيمتهم طوال تاريخهم الطويل"(6)، كما يُعلق المؤرخ الدكتور أحمد مختار العبّادي.



على أية حال، أمر بيبرس بالحفاظ على هذه القلعة الاستراتيجية في شمال فلسطين دون هدم كما فعل مع غيرها، وهي قلعة كانت قريبة من باقي الإمارات الصليبية في الساحل الشامي، وكانت قريبة كذلك من طريق دمشق والمدن المهمة في فلسطين، لذا حرص بيبرس على إعادة ما خرب منها في السنة التالية، واشترك في ذلك التجديد بنفسه تحريضًا وقدوة لأمرائه وجنده، وحرص على كتابة بضع عبارات على أسوارها تتضمن سجل جهاده ضد الصليبيين، ولقب نفسه بألقاب "سلطان الإسلام والمسلمين ... سيد التتار، فاتح القلاع والحصون والأمصار، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، اسكندر الزمان، صاحب القرآن أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين"(7).



وهي السُّنة التي استنّها هذا القائد العظيم، وقبل أن يترك بيبرس صفد "طلب لها الرجال (الحامية) من دمشق، وتقرّرت نفقة رجالها في الشهر ثمانين ألف درهم، واستخدم على جميع بلادها الأمراء، وعمل بها جامع في القلعة وجامع في الرَبض (خارج الأسوار)"(8).



لقد كان من آثار استرداد صفد توسيع الأراضي المملوكية في بلاد الصليبيين في الشام، ثم مجيء سفير الاسبتارية طالبًا الصلح للمرة الثانية، وفي هذه المرة قبِل بيبرس الصلح، وقد كانت قلاعهم قريبة من حمص، وقد فرض عليهم شروطه، وهي إسقاط الجزية السنوية التي كانوا يفرضونها على مدينة حماة وغيرها من مدن الشام الأخرى، هذه الجزية التي كانت عاملاً مهمًا من عوامل قوتهم وتجرؤهم على المدن الشامية عامًا بعد عام، بل فرض عليهم إمداده بما مقداره خمسين طنًا من القمح سنويًا، "فأجابوا إلى ذلك جميعه، وكُتبت الهدنةُ بذلك، وشُرط فيها أن الفسْخ للسلطان متى أراد، ويُعلمهم قبل بمدة"(9).



لقد اعترف الاسبتارية وهي الفرقة العسكرية الصليبية المحترفة منذ عشـرات السنين بشرعية وقوة المماليك مرغمين ومضطرين، هؤلاء المماليك الذين فرضوا شروطهم وصلحهم متى أرادوا، وفسخ هذا الصلح والمواجهة متى أرادوا أيضا!



وفود الصليبيين تطلب الصلح
6c58e3cc-3a03-4ef9-b294-3c10ccf814fd

في العام التالي 665هـ حينما كان الظاهر يرمّم مدينة صفد وقلعتها، حاول أن يفاجئ عكا بهجوم خاطف، فسير فرقتين من الخيالة دون شعور أو إعلام؛ فقد لبست إحداها ملابس الفرسان الاسبتارية والأخرى ملابس الفرسان الداوية، غير أن هذه الحملة لم تلبث أن كُشف أمرها، وعلى الرغم من ذلك قامت هذه الفرق بقتل كل من طالته أيديها خارج أسوار المدينة من الصليبيين، وأنزلت الرعب والفزع في قلوب الإمارة الصليبية الأقوى والأشد تحصينًا.


لقد رأى بيبرس أن بعض الإمارات الصليبية ترغبُ في عقد الصلح فاتبع خطة ذكية ثنائية الأهداف؛ إذ تصالح مع بعضها فحيّد موقفهم، وترك البعض الآخر دون مصالحة ليكونوا أهدافًا مشروعة لهجماته القادمة دون مساعدة من المحيّدين، فعقد الصلحَ مع أميرة بيروت ومدينة صور التي اضطرت إلى دفع مبلغ كبير من المال وأطلقت الأسرى المسلمين، كما عقد بيبرس الهدنة مع الاسبتارية المتواجدين بحصن الأكراد والمُرقب، وقد أسهب القلقشندي في ذكر تفاصيل هذه المهادنة التي كان من شروطها:



1- أن تكون الهدنة لمدة عشـر سنين وعشـرة أيام وعشـر ساعات تبتدئ من يوم الاثنين الرابع من رمضان سنة 665هـ.

2- ألا تُنقض بموت أحد الطرفين.

3- ألا يأخذ بيت الاسبتار الجزية التي كانت مفروضة على بلاد الإسماعيلية وحماة وشيزروأفامية وأبي قُبيس.

4- أن يتولى أمر سكان هذه البلاد فيما يختص «بالحبس والإطلاق والجباية» نائب من قبل الظاهر، ونائب من قبل الاسبتار، فإن كانوا مسلمين حُكم فيهم بشريعة الإسلام، وإن كانوا مسيحيين عوملوا بمقتضى النصرانية(10).



وغيرها من الشروط الأخرى التي نرى من خلالها تراجع الصليبيين خطوة إلى الوراء بمشاركة الظاهر بيبرس لهم في حكم هذه الإمارات التي طالما حكموها منذ احتلالهم لها منفردين(11)، ولا شك أن هذا انتصار سياسي كان نتيجة طبيعية للنفوذ والقوة المملوكية التي وصلت إليها آنئذ.



في نفس العام أمر بيبرس بالهجوم على قلعة الشقيف (جنوب لبنان الآن)،وكانت بيد الصليبيين، ثم في العام التالي عزم بيبرس على استرداد يافا بعد هجوم قواته الخاطف لعكا، وكانت الهدنة المقررة بينه وبين صاحبها قد انتهت بوفاته، ولم يشأ الظاهر أن يجدد هذه الهدنة، لذا حينما جاءت سفراء أمير يافا الجديد "جاي إبلين" إلى السلطان في 4 جمادى الآخرة سنة 666هـ/19 فبراير (شباط) 1268م، أمر باعتقالهم، كما "أمر العسكر بلبس العدة ليلًا، وسار فصبَّح َيافا، فأحاط بها من كل جانب، فهرب من كان بها إلى القلعة فمُلكت المدينة، وطلب أهل القلعة الأمان فأمّنهم وعوّضهم عما نُهب لهم أربعين ألف درهم، فركبوا في المراكب إلى عكا، ومُلكت القلعة في الثاني والعشـرين منه (مارس 1268م)، وهُدمت والمدينة وكانتا من بناء ريدا فرنس (ملك فرنسا) لما نزل الساحل بعد كسـرته وخلاصه من الأسر سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأصدرت كُتب البشائر عن السلطان بفتحها(12).


استثمار النصر.. مزيد من النصر!
17b4f0e5-d3e1-4c9d-a28c-1da57b457603

وكعادته عزم السلطان بيبرس في أوج هذا الانتصار والروح المعنوية العالية على فتح واسترداد المزيد من المدن والقلاع الصليبية في الساحل الشامي والمناطق المتاخمة؛ فقد سار شمالًا قاصدًا قلعة الشقيف أرنون للمرة الثانية وكانت من جملة أملاك الفرسان الداوية، وكانت تتميز بالتحصين، والمكان العالي القوي، قال ابن عبد الظاهر مؤرخ سيرة بيبرس: "هذا الشقيف من أحصن المعاقل وأحسنها، وكان مَضرة على بلاد الصّبيبة (بالجولان)، وكان الملك العادل الكبير (أخو صلاح الدين) قد جدّده، ومازال في يد الإسلام إلى أن سلّمه الصالح إسماعيل (بن العادل بن أيوب) للفرنج سنة ثمان وثلاثين وستمئة، هو وصفد وغير ذلك من البلاد الإسلامية، ولما تسلّموه عمّروه وعمّروا جانبه قلعة أخرى، فانقطعت به السّبل لتوسّطه في تلك الجهات"(13).


بدأ الظاهر بيبرس في حصار هذه القلعة في 18 رجب من نفس العام 666هـ، واستخدم في هدم أسوارها 26 منجنيقًا، وكان من عادة بيبرس في كل هذه الفتوحات إشراك العلماء والفقهاء والصالحين في عمليات الجهاد، رغبة في نيل بركة دعائهم، وتلاحمًا معهم في عمليات الاسترداد.



وقد كشف لنا ابن عبد الظاهر الشاهد على هذه المعارك، والمشارك بها، والقريب من السلطان بيبرس خُطته الخداعية بجانب الحصار العسكري الثقيل، فهذه الخطة اعتمدت على إيقاع الخلاف، وبث الفتنة والفُرقة بين الصليبيين في القلعة، إذ وقع في يد بيبرس رسالة قادمة من صليبيي عكا جوابًا على رسالة قد أرسلوها يكشفون فيها عن أماكن الخلل، فعلم بيبرس ما فيها من تفاصيل مهمة، وشخصيات بارزة، وأمر بكتابة رسالة باللغة ذاتها توقع بينهم العداوة، وتكشف أن بعضهم يتربص بالبعض الآخر، ورمى كلا الرسالتين لهم، "فأمسكوا جماعة، وتوهّموا من الوزير، ووقع الخلف بينهم، وهذا من سعادة السلطان، وحُسن رأيه. والرأي قبل شجاعة الشجعان"(14).



وبسبب الخلاف الصليبي داخل قلعة الشقيف، والحصار الخانق من السلطان بيبرس، أرسلوا سفراءهم إلى السلطان طالبين منه الاستسلام والتسليم، وهو ما تم في 15 إبريل 1268م، في حلقاتنا القادمة سنستكمل الحديث عن إستراتيجية السلطان بيبرس وسلاطين المماليك العظام من بعده في تحرير الشرق الإسلامي من الوجود الصليبي، هذا التحرير الذي تقاعس عن استكماله الأيوبيون بعد وفاة السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب، وتمكن مماليكهم الترك من تحقيقه فيما بعد!
 
بيبرس والصليبيون.. استرداد قيسارية الشام
250


محرر تاريخ







توفي السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة (589هـ/1193م) ولم يكن قد استكمل مشروع التحرر من الوجود الصليبي بصورة كاملة، فقد بقي لهؤلاء الصليبيين نفوذ وسيطرة في بعض مدن الساحل الشامي، وبسبب الخلاف الأيوبي على النفوذ بين أولاد صلاح الدين وعمهم العادل أبو بكر بن أيوب، ثم خلاف أبناء العادل الأشرف موسى والمعظم عيسى والكامل محمد، ثم خلاف أبناء الأبناء، الذي ترتب عليه تسليم بيت المقدس مرة ثانية في اتفاقية مستهجنة بين السلطان الكامل محمد بن أيوب والإمبراطور الألماني فردريك سنة (626هـ/1229م).

تزامن هذا الضعف والتشرذم الأيوبي بصعود قوة المغول في مشرق العالم الإسلامي، حتى استهوى ذلك الضعف لويس التاسع ملك فأعد حملة صليبية جديدة عُرفت في التاريخ باسم الحملة الصليبية السابعة، وكانت وجهتها هذه المرة إلى ، القوة العسكرية والسياسة الأبرز في العالم الإسلامي حينها، لكنه انهزم بل وأُسر على يد فرقة المماليك الذين جاء بهم السلطان الأيوبي الأخير الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد وذلك سنة (647هـ/1249م)، وجعلهم أقوى أفرع الجيش الأيوبي.



ومنذ تلك اللحظة سيطر المماليك على الجيش والدولة، وظلت الشام يحكمها الأيوبيون حتى استولى عليها المغول بعد سقوط بعام واحد سنة 657هـ/1259م؛ لذا شغل خطر المغول على العالم الإسلامي والدولة المملوكية الوليدة عن الخطر الرابض منذ قرنين في سواحل الشام أي الصليبيين. لقد أيقن الصليبيون أن المماليك خطر شديد على وجودهم وبقائهم منذ هزيمتهم في الحملة الصليبية السابعة في المنصورة سنة 647هـ، ومنذ تحييدهم في الصراع المملوكي الأيوبي (648 - 655هـ) على بلاد الشام، ومنذ انتصار عين جالوت ومعركة الأولى على المغول؛ ولذلك لم يرَ الصليبيون بُدا من التحالف مع المغول لهزيمة المماليك، هذه القوة الإسلامية الصاعدة آنذاك، واتخذوا هذا التحالف إستراتيجية متقدمة لأي هجوم مملوكي متوقع، هذا بالرغم من هجوم المغول على شرق العالم المسيحي في الشمال، لكن قوانين السياسة هي التي تحكم العلاقات الدولية، فقد انتهج الصليبيون المثل القائل: عدو عدوّي صديقي!





في المقابل، ومن واقع التحالفات وقتها، حاول السلطان بيبرس إشغال مغول فارس بأنفسهم من خلال تحالفه مع مغول القفجاق أو القبيلة الذهبية في منطقة حوض نهر الفولجا جنوب شمال ، الذين كانوا قد اعتنقوا الإسلام في عهد ملكهم بركة خان (653- 665هـ/1255- 1267م)، وسرعان ما بدأوا في شن الهجمات على أقرانهم المغول في الجنوب بإيعاز من السلطان المملوكي بيبرس، ما هيّأ لبيبرس أن يتفرغ لمواجهة واستئصال الصليبيين طيلة سنوات حكمه.



على الجهة الشمالية استطاع بيبرس أن يتحالف كذلك مع الإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية وظلّت هذه العلاقات ودية حتى بعد وفاة بيبرس سنة (676هـ/1277م)، مما قطع البرية عن الصليبيين المتمركزين من أنطاكية في الشمال إلى في الجنوب(1)، ولم يبق أمام الصليبيين سوى الإمداد البحري من أوروبا.



لقد كان لتحالف الصليبيين مع المغول، وتعاونهم معهم كأدلاء ومرشدين وهم في قلب العالم الإسلامي غصة قوية في حلق المماليك وبيبرس، لذا عزم لمدة عشر سنوات كاملة على الفتك بهم، والعمل على إخراجهم بصورة نهائية عقب سحقه المغول في معركة حمص الأولى سنة (659هـ/1260م).



استرداد قيسارية الشام
بدأت الحربُ بين الجانبين على شكل مناوشات سريعة أُريد من ورائها معرفة مكامن القوة الصليبية أولا، وبدأت تلك المناوشات في شهر سنة (660هـ/1262م) بهجوم المماليك بقيادة الأمير سُنقر الرومي ونائبي حمص الأيوبيينِ الخاضعين للسيادة المملوكية، وذلك على مدينة أنطاكية وهي أعظم الإمارات الصليبية في الساحل الشامي حينذاك، واستطاعوا أن يستردوا مدينة القريبة فضلا عن أسرهم لأكثر من مائتين وخمسين صليبيًا، ورجعوا إلى ظافرين، الأمر الذي قابله بيبرس بالترحاب والمكافآت السخية، وعُد بمثابة فاتحة مبشرة لعملية الاسترداد(2).


300

رغم انتصار بيبرس واسترداده مدينة قيسارية الشام، استغل حماسة النصر وأرسل جيشًا آخر إلى مدن صليبية قريبة من قيسارية مثل عثليت وحيفا تمكن من تخريب حصون الصليبيين فيهما


multi-mapicon.png
مواقع التواصل

وبالرغم من سرعة مد الصليبيين أيديهم لطلب الصلح بسبب مناوشاته الناجحة في أنطاكية وعكا فيما بعد؛ فإن بيبرس أصرّ على عدم الاستجابة لهذه النداءات، وكانت أولى المعارك الحقيقية بين الفريقين معركة قيسارية الشام وهي مدينة جنوبي حيفا، في جمادى الأولى سنة (663هـ/1265م)، ولم يعلم أحد بوجهته كعادته في معظم معاركه.



استمر الحصار على المدينة، حيث ردمَ خنادقها التي كانت خط الدفاع الأول عنها، ثم كثّف من رميها بالسهام والنشّاب والمنجنيقات والمدافع الحجرية لمدة ستة أيام كاملة، وبرغم حصانة سور المدينة وقوة قلعتها، فإن الصليبيين هربوا وتركوها تحت وطأة الهجوم والحصار الكاسح في منتصف جمادى الأولى سنة (663هـ/1265م)، وهذه أول مدينة حصينة من مدن الساحل يستردها المسلمون من الصليبيين في سلطنة الظاهر رُكن الدين بيبرس البندقداري.



وقد وصف المؤرخ وكاتب سيرة السلطان بيبرس الفقيه والكاتب رئيس ديوان الإنشاء (وزارة الخارجية) محي الدين بن عبد الظاهر حال بيبرس في ذاك الحصار، ومشاركته الفعّالة بقوله: "كان السلطان تارة يرمي بالنشّاب(أ)مِن علو كنيسة قُبالة القلعة، وتارة يركبُ ويخوض عُباب البحر ويُقاتل، وعُملت دبّابات(3) وزحّافات، وأطلق النشّاب للعساكر من قلعة عجلون ... وخلع (أهدى) على الأمير عز الدين الأفرم أمير جندار(ب) لاجتهاده في المنجنيقات (ج)، وعلى المنجنيقية... واستمرّ السلطان على المصابرة والمثابرة، وأقام بالكنيسة لا يخرج إلى دهليزه(د) يرامي هو، وجماعة الأقجية(هـ) يمنعون الفرنج من الصعود إلى علوّ القلعة، وتارة يركب في بعض الدبّابات ذوات العَجَل، وتجري من تحته حتى يصل إلى الأسوار، ويرى النقوب بنفسه، وأخذ في بعض الأيام في يده ترسًا، وقاتل وما رجع إلا وفي ترسه عدّة سهام"(4).



اضطر بوهمند السادس أمير أنطاكية أن يرسل في سنة (664هـ/1266م) فرقة عسكرية للهجوم على حمص كنوع من تخفيف وطأة الهجوم الإسلامي المتوالي على الساحل الشامي، لكن يقظة بيبرس، وجهازه المخابراتي الفعّال، ترصّد لهذه التحركات الصليبية سريعًا (مواقع التواصل)

وهذا الوصف الدقيق من ابن عبد الظاهر للسلطان بيبرس ونشاطه وانخراطه الملحوظ في المعركة بين الصعود ورمي العدو بالسهام، ثم ركوب الدبابات الخشبية الموكلة بنقب سور المدينة، والوقوف بنفسه ليرى آخر التطورات الميدانية- رغم تماسّه الشديد مع العدو وهو القائد الأعلى للمماليك - وعدم استكانته في مكان محدد أثناء المعركة، هذا النشاط لا يتمتّع به عادة إلا القادة الأكفاء الذين سطّروا لأنفسهم تاريخًا عسكريًا مجيدًا، وقد كان بيبرس جديرًا بهذه المكانة ولا شك!



ورغم انتصار بيبرس واسترداده مدينة قيسارية الشام، فإنه استغل حماسة النصر وأرسل جيشًا آخر إلى مدن صليبية قريبة من قيسارية مثل عثليت وحيفا تمكن من خلاله تخريب حصون الصليبيين في هاتين المدينتين، ثم اتجه الجيش المملوكي صوب أرسوف البحرية الواقعة جنوب قيسارية وشرع في الهجوم عليها، لكن هذه القلعة الحصينة كانت تتمركز بها فرقة الإسبتارية عالية التدريب والمهارة القتالية، وقد دافعوا عنها مدة أربعين يومًا كاملة، لكن في نهاية الأمر أرسل الإسبتارية طالبين الهدنة والصلح والتسليم بعدما حوصروا داخل القلعة وكانوا قاب قوسين من الهزيمة والأسر، وقد كان تسليمًا مذلًا إذ أمرهم الظاهر بيبرس بهدم قلاعهم بأيديهم(5)!



مكافأة النصر
عقب هذه المعركة المهمة أهدى السلطان أمراءه المماليك قطائع من الأرض التي استردوها مكافأة لهم على مجهودهم اللافت في الاسترداد والثبات، وسجّل هذه الإقطاعات في وثائق رسمية أوردها كل النويري والمقريزي في كتابيهما "نهاية الأرب في فنون الأدب" و "السلوك لمعرفة دول الملوك"، وذكر المؤرخ ابن أبي الفضائل أن الظاهر بيبرس أرسل هذه الوثائق بالإقطاعات إلى مصر ليوقّع عليها الوزير والخازندار وديوان الجيش، ثم أُعيدت ثانية ووزّعت على أصحابها، ولما تم ذلك حضر الأمراءُ إلى السلطان ليقدموا له الشكر على هذه المنح الجزيلة، ثم قدم قاضي القضاة على السلطان وهو في غزة، وكتب إقرارًا بتمليك هذه المنح للأمراء وقّع عليه السلطان بنفسه ثم أعطى كل أمير نسخته(6)، ولا شك أن هذا الإجراء كما أنه كان مكافأة على استرداد الأراضي الإسلامية من الصليبيين وتوزيعها على كبار الأمراء الذين شاركوا في هذا التحرير، فقد كان حافزًا لهم على استكمال هذه المسيرة التي لم تتوقف إلا بإنجازات كبرى سنقف معها في عدة تقارير لاحقة.


300

كان لتحالف الصليبيين مع المغول وهم في قلب العالم الإسلامي غصة قوية في حلق المماليك وبيبرس، لذا عزم لمدة عشر سنوات كاملة على الفتك بهم، والعمل على إخراجهم بصورة نهائية


multi-mapicon.png
الجزيرة

وبسبب هذا الهجوم المملوكي المنظّم الذي بدأ تكتيكيًا بمناوشات سريعة لاستكشاف مكامن ضعف العدو، ومع أقوى الإمارات الصليبية وهي أنطاكية، ثم الانتصارات المملوكية في الساحل الشامي، اضطر بوهمند السادس أمير أنطاكية أن يرسل في سنة (664هـ/1266م) فرقة عسكرية للهجوم على حمص كنوع من تخفيف وطأة الهجوم الإسلامي المتوالي على الساحل الشامي، لكن يقظة بيبرس، وجهازه المخابراتي الفعّال، ترصّد لهذه التحركات الصليبية سريعًا.



وأعطى السلطان أوامره بإرسال فرقة عسكرية بقيادة الأمير جمال الدين أيدُغدي العزيزي والأمير سيف الدين قلاوون الألفي (الذي سيصبح سلطانا بعد بيبرس) وكانا من كبار الأمراء خبرة بالشئون العسكرية، فتمكنوا من هزيمة هذا الغزو الصليبي المباغت، بل جاءتهم رسالة من السلطان تأمرهم بعدم التوقف والرد على هذه الغارة الصليبية على حمص، وذلك بالإغارة على طرابلُس الشام أكبر مدن الصليبيين المحتلة حينها، فتمكنت القوات المملوكية من الاستيلاء على بعض القلاع المهمة القريبة من طرابلس، وتبع بيبرس هذا الجيش، غير أنه مرّ بالقدس والخليل فبقي بها، ومن هناك أرسل عددًا من الفرق العسكرية للهجوم على صور وصيدا والقرن، ثم توجه بنفسه صوب عكّا وأقام على مقربة منها إلى أن قدمت هذه الفرق كلها من حمص وصيدا وصور وغيرها ظافرة منتصـرة محققة الأهداف العسكرية التي أُنيطت بها(7).



في مقالنا القادم سنستكمل الحديث عن بطولات الظاهر بيبرس العسكرية، وقواته المملوكية في استرداد المدن الشامية وطرد الصليبيين منها، هذه المهمة التي كانت قد بدأت مع السلطان عماد الدين زنكي قبل زمن بيبرس بقرن ونصف، مرورا بنور الدين محمود ثم صلاح الدين الأيوبي والذي توقف الأيوبيون من بعده عن مهمة استرداد المدن الشامية من الصليبيين نظرًا للتنازع فيما بينهم على السلطة والسيادة.
 
عودة
أعلى