قصة معجزات تاريخية خالدة

YOOBA

عضو مميز
إنضم
3 أغسطس 2016
المشاركات
1,703
التفاعل
6,053 0 0


27/12/2017





يظن بعض الناس أننا حين نتكلم بفخر عن تاريخنا الإسلامي فإنما ننطلق في هذا من التحيز والتعصب وعاطفة الانتماء.. ومع أن هذا في نفسه ليس عيبا طالما التزم الإنسان الحق والعدل والإنصاف فيما يقول، فإن الدافع الذي يحملنا على الحديث الفخور عن تاريخنا وحضارتنا ليس مجرد هذا.. إنما هو دافع الحق نفسه، الدافع الذي يحمله كل محب للإنسانية مشفق على البشر، يرى أنهم يتيهون ويتخبطون ويغفلون عن المنهج الذي يمكن أن يرفع شأنهم ويعيد إليهم أخلاقهم وإنسانيتهم.



ثم هو دافع الدفاع عن التاريخ المهضوم المظلوم الذي تواطأ أهل الظلم والكذب على تشويهه وتجريحه، إنه دفاع المرء عن نسبه الشريف الأصيل إن هاجمه اللقطاء الأدعياء. وفي النهاية هو دافع من يرى أن التجربة العظيمة يمكن تكرارها، لا.. ليس مجرد الإمكان، بل هو الوعد الصادق.. وعد انتصار الدين وعلو الحق وعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة! فلئن أردكناها فهو ما نحب، وإن لم ندركها فحسبنا أن نموت ونحن في طريق الطالبين.



في هذه السطور سنضرب مثلا في سمو تاريخنا بالبصمة التاريخية للخلفاء الراشدين، وكيف كان لكل واحد منهم إنجاز لا يُعرف مثله لغيره من حكام التاريخ..



أصل المعجزة التاريخية
يعود أصل المعجزة التاريخية للخلفاء الراشدين إلى كونهم تلاميذ محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلولا تلك الرسالة التي حملها هذا النبي، ولولا أنهم كانوا أخلص أنصاره له وألزمهم به ما كان لأحدهم أن يبلغ في تاريخ الدنيا ولا في ميزان الآخرة ما بلغ. إن الإنجاز النبوي هو المعجزة التاريخية الكبرى، فالسيرة النبوية هي أعظم قصة نجاح بشري على الإطلاق، فلا يُعرف في تاريخ الدنيا رجل نجح في نشر دين وبناء دولة عظمى إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يشهد به المؤرخون من غير المسلمين.



من أهم بصمات الخلفاء الراشدين هو أنهم جميعا رغم اتساع المساحة التي حكموها فلقد كانوا أهل دين وزهد وتقشف وإيثار للآخرة
كتب مايكل هارت كتابًا حول أعظم مائة شخصية في التاريخ الإنساني، وعلى الرغم من أنه مسيحي لا يؤمن بالإسلام ولا بمحمد إلا أنه جعل النبي على رأس هذه المائة، وقال:

"لقد اخترت محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ليكون الأول في قائمة أهم رجال التاريخ، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي. وهو قد دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته فإن أثر محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يزال قويًّا متجددًا"



ويفسر هارت حيثيات هذا الاختيار بالقول:

"كان البدو من سكان شبه الجزيرة مشهورين بشراستهم في القتال، وكانوا ممزقين -أيضًا- رغم أنهم قليلو العدد، ولم تكن لهم قوة أو سطوة العرب في الشمال الذين عاشوا على الأرض المزروعة. ولكن الرسول استطاع لأول مرة في التاريخ أن يوحد بينهم وأن يملأهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد؛ ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية.



وإذا استعرضنا التاريخ؛ فإننا نجد أحداثـًا كثيرة من الممكن أن تقع دون أبطالها المعروفين، مثلاً كان يمكن أن تستقل مستعمرات أمريكا الجنوبية عن إسبانيا دون أن يتزعم حركاتها الاستقلالية رجل مثل: سيمون بوليفار، هذا ممكن جدًّا، على أن يجيء بعد ذلك أي إنسان ويقوم بنفس العمل، ولكن من المستحيل أن يقال ذلك عن البدو وعن العرب عمومًا، وعن إمبراطورتيهم الواسعة دون أن يكون هناك محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلم يعرف العالم كله رجلاً بهذه العظمة قبل ذلك، وما كان من الممكن أن تتحقق كل هذه الانتصارات الباهرة بغير زعامته وهدايته، وإيمان الجميع به"


ونستطيع أن نذكر أقوالا كثيرة في نفس هذا المعنى، وكلها لغير المسلمين، إلا أن المقصود الآن هو فهم أن معجزة الخلفاء الراشدين وبصمتهم التاريخية إنما كانت فرعا عن أصل المعجزة النبوية.



بصمة الخلفاء الراشدين
واحدة من أهم بصمات الخلفاء الراشدين هو أنهم جميعا رغم اتساع المساحة التي حكموها فلقد كانوا أهل دين وزهد وتقشف وإيثار للآخرة.. ليس فيهم واحد تولى الحكم فتكسب منه أو صار أغنى مما كان قبل الخلافة، ولم يُتَّهم أحد منهم مجرد اتهام في ذمته المالية. وهم مع اتساع دولتهم التي شملت الملايين لم يكن لأي منهم مظاهر السلطان والصولجان والفخامة، وكان يملك الواحد من الرعية أن يخاطب الأمير ويعترض عليه ويناقشه دون أن يخشى على نفسه ظلما أو جورا، ولم يكن على باب أحدهم حجاب أو حماية خاصة، بل إن ثلاثة منهم استشهدوا على يد خصومهم، وكانوا جميعا: اثنان في المسجد هما عمر وعلي، وواحد في داره هو عثمان رضي الله عنه. وهم مع قوة دولتهم ورسوخ سلطانهم كانوا يكثرون من الاستشارة والمشاورة، ويضربون أمثلة في الرحمة والشفقة بالرعية، ومراجعة النفس فيما قد يعرض لهم من أمور، ولم يكن لأحدهم حب للسلطة أو تمسك بها أو قتال من أجلها.



لقد كان الراشدون حكاما مثاليين، لم ير في التاريخ مثلهم، ولهذا فلقد أثاروا إعجاب الزعماء والمؤرخين عبر التاريخ، حتى من لم يكن منهم مسلما، كان نموذجهم في النجاح الفائق ملهما
ومن بصمتهم أنهم جميعا عرفوا لبعضهم حقهم، فلم يحاول أحد منهم نقض إنجازات سابقة أو نسبتها إلى نفسه، بل لكل منهم كلام في تعظيم بعض، حتى إن عليا -وهو آخرهم- توعد بالجلد من يفضله على أبي بكر وعمر، وكاد أن يقتل من يسبهما، وعمر هو القائل "لو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر"، وعثمان هو القائل "ومن يطيق ما كان يطيق عمر".. بينما عادة الحكام الأقوياء أن يسعوا في طمس مآثر من قبلهم ليحفروها باسمهم، ثم يأتي اللاحق فيكرر الطمس مع السابق كذلك.



لقد كان الراشدون حكاما مثاليين، لم ير في التاريخ مثلهم، ولهذا فلقد أثاروا إعجاب الزعماء والمؤرخين عبر التاريخ، حتى من لم يكن منهم مسلما، كان نموذجهم في النجاح الفائق ملهما، يقول الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرو في كتابه "لمحات من تاريخ العالم": "كان أبو بكر وعمر رجلين عظيمين، وقد وَضَعَا الأساس الذي بُنِيَتْ عليه عظمة العرب والمسلمين، وكانَا خليفتين يجمعان في يديهما السلطة الزمنية والسلطة الدينية معًا، ولكنهما -وبالرغم من عظم المنصب وقوة الدولة- زهدَا في متاع الحياة الدنيا بما فيها من أبهة وعظمة".



ويقول مؤرخ الحضارة الأمريكي ول ديورانت في كتابه الشهير قصة الحضارة، والذي قضى في تأليفه أربعين سنة:

"ولا يسعنا إلا أن نُسَلِّم بأن الخلفاء الأولين من أبي بكر إلى المأمون، قد وضعوا النظم الصالحة الموفقة للحياة الإنسانية في رقعة واسعة من العالم، وأنهم كانوا من أقدر الحُكَّام في التاريخ كله، ولقد كان في مقدورهم أن يُصادروا كل شيء، أو أن يُخَرِّبُوا كل شيء، كما فعل المغول أو المجر أو أهل الشمال من الأوربيين؛ لكنهم لم يفعلوا هذا "



معجزة أبي بكر

66203c1b-bde5-40f8-9fd5-954f10e756f8


أبو بكر هو الحاكم الوحيد في التاريخ الذي تولى الحكم وعاصمة الدولة مهددة بالاجتياح وتعاني تهديدا أمنيا خطيرا، ثم تركها وهي قوة عظمى عالمية، وكل ذلك في عامين فقط!! وهذا إنجاز لا يُعرف في التاريخ لغير أبي بكر، فالمؤسسون العظماء من الحكام هم الذين يفعلون واحدة من هذه الإنجازات فحسب! كأن يحفظ الدولة في لحظة تهديد حرج فيتركها آمنة من بعد ما كانت مضطربة، أو هو الذي ينقلها من الضعف إلى القوة والمنافسة، أو ينقلها من القوة لتكون قوة عظمى عالمية، وهو يكون عظيما ولو قضى في هذه المهمة عشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة حسبما يطول به العمر.



وسائر الملوك العظماء الذين تلمع أسماؤهم في التاريخ كانوا واحدا من هؤلاء، وأكثرهم ممن طال عمره فحكم بعضهم لنصف قرن أو أكثر، وربما ثلث قرن أو ربع قرن.. ويمكن للمشاهد الكريم أن يتتبع ما شاء من أسماء: قورش، شارلمان، رمسيس الثاني، الإسكندر المقدوني، سليمان القانوني، نابليون، ما وتسي تونج، بسمارك، لينين.. إلى آخره! لن يجد فيها واحدا استطاع تحقيق إنجاز أبي بكر الذي نقل دولته من تهديد العاصمة إلى القوة العظمى العالمية في سنتين فحسب!



فعند بداية عصر أبي بكر كانت حركات الردة قد اشتدت في الجزيرة العربية، منهم من ارتد بالكلية ومنهم من امتنع عن الزكاة، والقبائل القريبة من المدينة أغارت عليها، ولم يرض أبو بكر بالتنازل عن شيء مهما كان بسيطا مما كان لرسول الله، فأرسل أحد عشر جيشا قضت على حركة الردة، فما إن انتهت حتى انطلقت الفتوحات، وإذا بها تزلزل أركان القوتين العظميين فارس والروم، وتفتح بلادهما في ذات الوقت، ويموت أبو بكر بعد عامين وقد عادت وحدة الجزيرة العربية، وله جيش يفتح العراق، وجيش آخر يفتح الشام! تلك هي المعجزة التاريخية لأبي بكر الصديق.



300

قدم عمر بن الخطاب المثال على الحاكم الذي يحكم إمبراطورية بعدل، يستطيع فيها أي واحد من الرعية أن يشكو أميره وواليه الفاتح لبلاده لأمير المؤمنين وهو مطمئن لعدالة ناجزة تنتظره

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

عمر بن الخطاب
وأما عمر بن الخطاب فهو الوحيد الذي حكم إمبراطورية هائلة تكاد تكون ثلث العالم المعروف وقتها والمتنوعة الأعراق واللغات والأديان.. بعدل ورحمة! ذلك أن عادة الإمبراطوريات الواسعة أن يتسلط فيها العنصر الحاكم على الشعوب الأخرى، فيسومونها سوء العذاب، ويمتصون ثرواتها لتتضخم العاصمة الاستعمارية. ومن عادة حكام الإمبراطوريات القسوة والدموية، حتى إن المؤرخين في العادة يعتبرون المذابح البشعة التي يقوم بها من يوحد البلاد ضريبة حتمية لعملية التوحيد، فلا يكاد يكون حاكم قد وحد منطقة واسعة تحت حكمه إلا وارتكب عددا من المذابح التي شملت النساء والأطفال والشيوخ، ومع هذا فتلك المذابح في العادة لا تقدح في مكانته التاريخية كبطل مُوَحِّد للإمبراطورية.



لكن عمر بن الخطاب قدم المثال على الحاكم الذي يحكم إمبراطورية واسعة الأنحاء متنوعة المكونات بعدل، يستطيع فيها أي واحد من الرعية أن يشكو أميره وواليه الفاتح لبلاده إلى أمير المؤمنين وهو مطمئن لعدالة ناجزة تنتظره. كان عمر يحكم ثلث العالم المعروف ولا يستطيع تجاوز القانون (أي الشريعة) حتى إنه لينظر إلى قاتل أخيه فيقول له: لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فيقول: وهل هذا مانعي بعض حقي؟ فيقول: لا. فيقول الرجل: فاحبب أو لا تحبب فإنما تأسى على الحب النساء.



وقد وضع مايكل هارت عمر ضمن المائة الخالدين في التاريخ وقال فيه:

"ما أنجزه عمر بن الخطاب شيء باهر، فبعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) كان عمر هو الشخصية التي نشرت الإسلام، فبغير هذه الغزوات السريعة ما كان من الممكن أن ينتشر الإسلام في هذه المساحات الشاسعة من الأرض. ومعظم البلاد التي غزتها جيوش المسلمين ظلت عربية إسلامية حتى يومنا هذا"



وتأثر المؤرخون كثيرا بما كان في الفتوحات العمرية من عدل ورحمة، لا سيما فتح مدينة بيت المقدس، إذ أن الفتح العمري لها كان هو الفتح الوحيد الرحيم بين سائر الغزاة الذين دخلوا المدينة، حتى تقول مؤرخة القدس كارين أرمسترونج بأن هذا الفتح "لم تشهد المدينة فتحا مثله". وأكثر المؤرخون من المقارنة بين الفتح العمري للقدس وبين بقية الغزوات، حتى ليقول المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في مقارنة بين الاحتلال الصليبي (والذي بدأ من فرنسا وكان الفرنسيون أصحابه).



"يثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس مقدار الرفق العظيم الذي كان يُعَامِل به العربُ الفاتحون الأممَ المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضة تامَّة، فلم يُرِدْ عمر أن يدخل مدينة القدس معه غيرُ عددٍ قليل من أصحابه، وطلب من البطرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدًا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بِيَعِهم"



300

شهد عصر عثمان مزيدا من الفتوحات التي أضيفت بها أراضٍ أخرى إلى الدولة الإسلامية إلا أنها لم تكن بذات الاتساع الذي كان في عصر عمر

multi-mapicon.png
رويترز

لقد ضرب المسلمون مثالا عجيبا بفتوحاتهم، وها هو الزعيم الهندي جواهر لال نهرو يقول أيضا:

"إن العرب كانوا في بداية يقظتهم متقدين حماسًا لعقيدتهم، وإنهم كانوا مع ذلك قومًا متسامحين؛ لأن دينهم يأمر في مواضع عديدة بالتسامح والصفح، وكان عمر بن الخطاب شديد الحرص على التسامح عندما دخل بيت المقدس"



وبهذا صارت معجزة عمر التاريخية أنه الوحيد الذي حكم إمبراطورية واسعة متنوعة.. بعدل ورحمة!



عثمان بن عفان
وأما عثمان بن عفان فيشترك مع عمر في معجزته حكم دولة شاسعة بعدل ورحمة، إلا أن عمر هو الفاتح لها وصاحب التوسعة الكبيرة، وقد شهد عصر عثمان مزيدا من الفتوحات التي أضيفت بها أراضٍ أخرى إلى الدولة الإسلامية إلا أنها لم تكن بذات الاتساع الذي كان في عصر عمر. وأما ينفرد به عثمان رضي الله عنه، فهو أنه الحاكم الذي يحكم هذه الإمبراطورية الواسعة ثم ضحى بنفسه وبدمه للمحافظة على نظام الدولة، ولم يسمح أن يُراق في سبيل الدفاع عنه قطرة دم مع قدرته على إشعال حرب للحفاظ على حياته.



لقد نشبت فتنة بأثر من إشاعات وحركات سرية وفي ظروف اجتماعية واقتصادية مواتية، فخرج على إثرها بعض من أهل الكوفة والبصرة ومصر يعترضون على عثمان ويريدون خلعه، وقد بيَّن لهم عثمان خطأ ما اعتقدوه واتفق معهم على ما يصلح الأمور ويرضيهم، إلا أن الفتنة ما لبثت أن عادت من جديد، إذ عزم هؤلاء على أن يخلع نفسه أو يقتلونه!



اتخذ عثمان قراره بعدم التنازل عن الخلافة دفاعا واستمساكا بحق الأمة وبيعتها.. واتخذ قراره كذلك بعدم شن حرب على هؤلاء المتمردين كي لا تسيل الدماء دفاعا عنه
كان عثمان يحكم ثلث العالم المعروف وقتها، ويستطيع بضعة آلاف أن يصلوا إليه في المدينة بمطلب الخلع والعزل، وهو مطلب لم تعرفه الشعوب في ذلك الوقت أصلا، فما كان لأهل العراق ومصر أن يتصوروا أن بإمكانهم السير إلى مدائن كسرى أو قصر قيصر للمطالبة بعزله، ولا حتى العرب في الجاهلية كانوا يتصورون مثل هذا. ومع هذا كان عثمان يبذل لهم ما فيه رضاهم ويحاورهم ويقنعهم ويسرد عليهم أعذاره وحججه ويبين لهم خطأهم، إلا أنهم أصروا على عزله أو قتله.



هنا اتخذ عثمان -رضي الله عنه- موقفا عظيما مثيرا للإعجاب، ودليلا على عظمته رضي الله عنه: لقد كان يعلم يقينا أنه إن قُتل فإن الخليفة من بعده لن يكون إلا واحدا من كبار الصحابة: علي أو طلحة أو الزبير أو سعد بن أبي وقاص، وكلهم من المرشحين للخلافة، وكلهم أهل لها.. فهو مطمئن لما سيؤول إليه الأمر من بعده! فلن يتولى الخلافة مثلا واحد من أهل الفتنة أو من أعداء الإسلام أو من المتآمرين عليه. ولهذا لم يفكر في إشعال حرب عليهم في المدينة تسيل فيها الدماء إذ نظام الإسلام والخلافة غير متهدد، بل إن بعض أهل الفتنة هؤلاء إنما يتشيع لعلي ويراه الأولى بالخلافة.



وهو من جهة أخرى يعلم ويوقن أن خروجهم عليه أمر لا يجوز لهم وأن قتلهم له لا يحل لهم، فلو أنه تنازل عن الخلافة التي حازها برضا المسلمين لأعطاهم بهذا حق نقض ما أبرمته الأمة، ولصارت من بعده فتنة، كلما خرجت أقلية تريد نقض ما اتفقت عليه أكثر الأمة استطاعت أن تبلغ غرضها الفاسد هذا، وهذا أمر لو تمَّ فلن يكون للإسلام دولة ولا نظام ولا جماعة، وسيصير أمر الأمة مرهونا بالقلة من المتمردين. لذلك اتخذ عثمان قراره بعدم التنازل عن الخلافة دفاعا واستمساكا بحق الأمة وبيعتها.. واتخذ قراره كذلك بعدم شن حرب على هؤلاء المتمردين كي لا تسيل الدماء دفاعا عنه إذ الأمر في حال قتله لن يخرج عمن هو أهل للخلافة من بعده. فيكون قد دافع عن حق الأمة وحافظ على نظام الخلافة في نفس الوقت! وجعل الثمن هو دمه!



فهذه بصمة عثمان بن عفان في تاريخ الدول والحكام.. رجل يحكم ثلث العالم، يصل إليه خصومه في عاصمته وعند بيته، يحاصرونه، يمنعون عنه الطعام والشراب، فينهى عن قتالهم ولا يتخذ معهم إلا سبيل المحاورة والإعذار والحجة، فيحفظ بيعة الأمة ونظامها كما يحفظ دمها بدمه.



علي بن أبي طالب
وأما علي بن أبي طالب فقد كان أكرم الناس لخصومه ومعارضيه، فهو الخليفة الصحيح البيعة ومع هذا لم يجبر أحدا على الخروج معه في حرب خصومه إذا لم يشأ، وترك من اعتزل الفتنة فلم يحمله عليها بحق البيعة والسمع والطاعة، ثم حين قاتل كان أشرف الناس قتالا، فاجتهد في منع الحرب ما وسعه الاجتهاد، ثم إنه منع من قتل الأسير أو الإجهاز على الجريح أو تتبع الفار أو غنيمة الأموال أو سبي النساء والذرية، وكان يقول: فينا نزلت "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ".



300

يجب أن يكون لكل إنسان بصمته في عمله، بصمته في موهبته، بصمته في مجاله وميدانه، ألا يكون مكررا عاديا كشأن الناس الذين لا همَّ لهم ولا رسالة

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

ومع أن بعض هؤلاء، وهم الخوارج، كانوا يكفرونه ويطعنون فيه، إلا أنه لم يقاتلهم إلا حين قتلوا المسلمين واستباحوا منهم ما يستبيحونه من الكفار، وامتنعوا عن تسليم القتلة لأخذ القصاص منهم، وأعلن فيهم حقوقهم في الصلاة والغنيمة والأمان على أنفسهم ما لم يسفكوا دما، ومع هذا رفض أن يقال عنهم كفار بل قال "من الكفر فروا" ورفض وصفهم بالمنافقين لما هم عليه من كثرة الذكر وقراءة القرآن، وإنما قال: "بعض قومنا بغوا علينا".



وهذا علي الذي يقاتل بكل هذا النبل والفضل، هو هو نفسه الذي يستعمل أقصى العقوبة فيمن يقدسه ويرفع شأنه فوق البشر، فيصفه بالألوهية أو يطعن لأجله في أبي بكر وعمر أو يفضله عليهما. فمن هنا نرى حاكما -وياللعجب- يجتهد ويلتمس الأعذار لمن كفره وقاتله، ثم يعاقب من يقدسه ويرفعه فوق شأنه، وهو أمر لا يفعله من الحكام أحد. لكن عليا كان حارسا على الدين، يعرف أن الذين قدسوه هم أضر وأخطر على الدين من الذين كفروه وقاتلوه. فتلك بصمة علي رضي الله عنه.



الخلاصة
يجب أن يكون لكل إنسان بصمته في عمله، بصمته في موهبته، بصمته في مجاله وميدانه، ألا يكون مكررا عاديا كشأن الناس الذين لا همَّ لهم ولا رسالة.

قال المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم .. وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها .. وتصغر في عين العظيم العظائم

وقال آخر:

ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه .. فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا

وبالهمة العلياء يرقى إلى العلا .. فمن كان أعلى همة كان أظهرا

فلم يتأخر من أراد تقدما .. ولم يتقدم من أراد تأخرا



ينبغي أن تعلو الهمم ليكون لكل واحد فينا فتح في مجاله، فالمجاهد في جهاده، والعالم في علمه، والسياسي في علاقاته وسياسته، والموهوب في موهبته، وصاحب الفن في فنه.. وهكذا! وحين يفتح هؤلاء فتوحا في أبوابهم، تكون الأمة كلها على موعد مع الفتح الكبير إن شاء الله تعالى.
 


فقه الخلافة الراشدة







لئن كان في تاريخ أمة ما شيئا تفتخر به فلن يكون بحال أعظم من فخرنا بعصر الخلافة الراشدة، فنحن الأمة الوحيدة التي حكمت ثلث العالم المعروف وقتها بعدل ورحمة، فلئن افتخر الغرب بأنه اخترع الديمقراطية فلقد كانت ديمقراطية المدن الصغيرة في اليونان (البلد ذات الجزر الصغيرة المحدودة) فأما حين بلغوا الإمبراطورية فلا عدل ولا رحمة ولا ديمقراطية بل امتصاص شعوب العالم وقهرها لخدمة أمة اليونان والرومان، وهو الأمر الذي نظَّر له فلاسفة الغرب الأوائل وعدُّوه أمرا طبيعيا ، وهو الأمر المستمر حتى يومنا هذا.

لكننا لن نتحدث الآن في المقارنة مع الغرب وإن كانت مثيرة للشهية لا سيما في زمن الجهل والهزيمة النفسية وظهور من يدعونا لترك تراثنا والسير وراء الغرب باعتباره قمة التجربة الإنسانية.. وإنما سنحاول أن نعرض بتبسيط: لماذا ينبغي علينا أن نفقه عصر الخلافة الراشدة؟ ماذا سنستفيد من ذلك؟ ولماذا تعلت قلوب المسلمين وطموحات الحركات الإسلامية بعصر الخلافة الراشدة؟.. والإجابة على تلك الأسئلة هي نفسها الإجابة على سؤال: لماذا يُراد لنا أن نجهل تاريخنا وننفر من تراثنا ونفقد ذاكرتنا؟

عصر الخلافة الراشدة هو عصر الإنجاز الكبير، عصر انبعاث الأمة من مجاهل التاريخ لتصعد إلى ذروة القوة العالمية في ثلاثين عام فقط؟!.. إنجاز اندهش له المؤرخون على اختلافهم وتنوع أفكارهم ومشاربهم! والعجيب أنه إنجاز راسخ لم تغيره الأيام والقرون على تطاولها، إنجاز غير خريطة العالم منذ حدث حتى الآن.

نحتاج ونحن في زمن القهر هذا أن نقترب من عصر الراشدين، نتأمل كيف صنعوا ذلك المجد الكبير، كيف أنشأوا دولة عظمى تحكم ملايين البشر بالعدل، كيف طبقوا الإسلام في عالم الواقع بعد انقطاع الوحي، كيف استطاعوا أن يخرجوا الجيوش من الصحراء العربية القاحلة المنقطعة عن الحضارة فيكتسحون الحضارات الكبرى والإمبراطوريات العظمى وينقذون الملايين من الظلم والقهر الطويل الذي امتد قرونا متعاقبة، ثم يظللونهم بحضارة إسلامية خالصة فيدخل الناس في دين الله أفواجا ويخرجون من الظلمات إلى النور، كيف استطاعوا أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم فلا ينبهرون بمظاهر الفخامة والترف وبدائع القصور وروائع الزخارف والرسوم ومعالي البنيان وفسائح العمران؟!

300

كتبت الباحثة الإيطالية ماريا لويزا كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ" وكان أول نتائجه أن كل تصورات المدينة الفاضلة لم تتحقق، لم يستطع أحد صناعة مدينته الفاضلة حتى الذين امتلكوا سلطة تنفيذ أفكارهم!


multi-mapicon.png
مواقع التواصل

لن يمكننا الانتقال من حالنا البائس إلى الحال التي نأملها إلا إن استوعبنا وتعلمنا من الخلفاء الراشدين، فأولئك الخلفاء هم التطبيق المثالي النموذجي للإسلام بعد أن توفي رسول الله، ولهذا قال لنا رسول الله في وصيته الغالية المشهورة: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ"، ولن يمكننا تنفيذ وصية حبيبنا إلا أن عرفنا سنة الخلفاء الراشدين! فمن هنا كان معرفة تاريخ وأنباء هذا العصر، ومعرفة رجاله وأحواله وأوضاعه هي الطريق لفهم الإسلام، وفهم واجبنا في واقعنا المعاصر.

الإسلام فقد أقام الإسلام دولته في واقع الناس، والناس لن يتحولوا إلى ملائكة، الناس مختلفون في الفهم والمواهب والقدرات والطاقات
لماذا كان للخلفاء سنة.. ألم يكتمل الدين في زمن النبي؟
نعم اكتمل الدين، ومن الأدلة على اكتماله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصانا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم لا سنة لهم في العبادات والشعائر، وإنما سنتهم هي في السياسة وطريقة الحكم، لذلك قال رسول الله (سنة الخلفاء)، ولم يقل سنة أصحابي أو سنة فلان وفلان، كان النبي يصفهم بوصفهم "الخلفاء" ليؤكد على أن جانب الاقتداء بهم في سنتهم هو الجانب السياسي.


وذلك لأن الدين في سائر الجوانب بينه ووضحه رسول الله، لكن بعض الأمور بقيت لا يمكن الاقتداء فيها برسول الله لاعتبارات خاصة، منها مثلا:
أولا: أن رسول الله متصلٌ بالوحي، وينزل الوحي عليه يصحح له أو يوجهه، لكن رسول الله سيموت وستبقى الأمة بلا وحي، فكان لا بد من وجود تجربة يقتدي فيها المسلمون ببشر لا يتصلون بالوحي، فهم يجتهدون فيخطئون ويصيبون.

ثانيا: أنه لا يملك مسلم أن يعارض رسول الله، فهو الرسول الموصول بالوحي الذي ينطق بالحق وهو الكامل روحا وعقلا، ومن ثَمَّ لا يمكن لمسلم أن يقاتل النبي، فالذي يفعل شيئا من هذا يكون كافرا مرتدا. فمن هنا كان لا بد من وجود قدوات من البشر يُقتدى بهم، في سنتهم في مثل هذه الأمور كالشورى فيما ليس فيه نص وفي النوازل والمستجدات، والتعامل مع المعارضة، والتعامل مع الفتن الداخلية.. وهكذا من الأمور التي يختلف التعامل فيها بين النبي وغيره من سائر البشر.

ثالثا: أن رسول الله اجتمعت فيه النبوة والإمامة، أي الرئاسة الدينية والدنيوية، ولا يمكن لأحد أن يختار الرسول وإنما هو اصطفاء يصطفيه الله له، أما بالنسبة للحاكم فلا بد أن يعلمنا الإسلام كيف نختار الحاكم وما هي شرعية حكمه وما هي حقوقه وواجباته.. ولم يكن هذا ليُعرف على الوجه الواضح إلا بوجود نموذج بشري يملك الناس فيه أن يختاروه وأن يحاسبوه ويراقبوه بل وأن يعزلوه.


المدينة الفاضلة والعصر الذهبي
سألت بعض الشباب في محاضرة عن العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فقال بعضهم: العصر الأندلسي حيث القصور الفاخرة والصنائع الدقيقة، وقال آخرون: العصر العباسي حيث الفنون والعلوم، وقال بعضهم: العصر الأموي حيث أوسع مساحات الفتوحات الإسلامية.



300

في عصر الخلافة الراشدة نرى نموذجا مثاليا للتعامل مع واقع البشر كما هو لا كما يحاول الفلاسفة والمثاليون أن يصنعوه


multi-mapicon.png
بيكساباي

لقد أجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا السؤال حين قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وكذلك حين أوصانا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين لما قال "عضوا عليها بالنواجذ". ولذلك فإن المسلمين في سعيهم نحو إحياء الخلافة الإسلامية لا يطمحون لعصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، بل يطمحون لعصر الخلافة الراشدة، وهم حين يتحدثون عن الحاكم المثالي يتحدثون عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لا عن عبد الملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور أو السلطان سليم، رغم أن كل هؤلاء من عظماء التاريخ الإنساني، إلا أن المسلمين يتمسكون على الخصوص بالقدوة المتمثلة في الراشدين.


هذا التحديد لعصر القدوة أو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية يؤثر كثيرا على اختياراتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، فالحاكم المسلم يظل عبر التاريخ يُحاكم إلى نماذج الخلفاء الراشدين، ولربما يكون الحاكم المسلم أنجز -بالمعيار الدنيوي- إنجازا عظيما لكن جمهرة الفقهاء والمؤرخين لا يرضون عنه، وهو هو نفسه الذي لو كان في سياق غربي لكان بغير شك من عظماء مؤسسي الدول، وذلك لأن وجود نموذج في النظام الإسلامي يمثل الحق الذي يعلو على القوة، وانعدام هذا النموذج في السياق العلماني يؤدي لأن تكون القوة هي معيار الحق.


الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.
الدليل على صلاحية الإسلام للتطبيق
كتبت الباحثة الإيطالية ماريا لويزا برنيري كتابها "المدينة الفاضلة عبر التاريخ" وتتبعت فيه تصورات الفلاسفة والمصلحين والزعماء عن المدينة الفاضلة، منذ أقدم العصوم حتى الآن، وكان أول نتائجه أن كل تصورات المدينة الفاضلة لم تتحقق، لم يستطع أحد صناعة مدينته الفاضلة حتى الذين امتلكوا سلطة تنفيذ أفكارهم!


هنا يبدو واضحا قيمة "عصر الخلافة الراشدة"، إنه نموذج عملي واقعي تحقق في التاريخ لثلاثين سنة، فهو نموذج لم يحلق في آفاق الخيال ولم يحاول اختراع قوانين الطبيعة، بل نجح في التعامل مع واقع البشر. ولقد استمر ذلك النموذج ثلاثين سنة في قمته ثم بدأ النزول عن هذه القمة تدريجيا وببطء، لكن الأمة التي خرجت في هذه الثلاثين سنة هي الأمة التي ظلت ألف سنة تشع علما وحضارة. فالخلاصة أن تحقق النموذج في واقع الحياة لعدد من السنين يمثل في حد ذاته القدرة على إعادة تحققه مرة أخرى، وبهذا يصير حلم إحيائه حلما ممكنا، ويصير السعي إلى تحقيقه من جديد سعيا واقعيا، وهو خير من السعي وراء سراب تصورات حالمة لم تتحقق ولم تستطع أن تخرج من سطور الكتب إلى التعامل مع واقع الناس.


الواقعية مقابل المثالية
تعترف الباحثة في بداية بحثها، أن الواقع تجاوز المثاليين الحالمين، "الحالمون من أصحاب الرؤى أصبحوا موضع السخرية أو الاحتقار، والناس "العمليون" هم الذين يحكمون حياتنا"، بل لقد صار العالم عقيما من الحالمين الذين ينتجون مدينة فاضلة في الكتب وحدها، لقد أصيب الجميع بما تسميه "عدوى الواقعية"، وهكذا لم تستطع التصورات الحالمة أن ترفع من مستوى الواقع، بل استطاع الواقع أن يجذب إليه التصورات لتكون أقل حلما ومثالية.


وكانت واحدة من إشكاليات الموضوع أن الفلاسفة حين كانوا يحلمون بمدينتهم الفاضلة، بدلا من محاولة "اكتشاف قوانين الطبيعية، فضَّلوا أن يخترعوها" أي أنهم حاولوا إلزام الناس بأفكارهم ولم يحاولوا اكتشاف قوانين الواقع، فأقاموا مدنهم الفاضلة على مجرد تصورات. أما الإسلام فقد أقام الإسلام دولته في واقع الناس، والناس لن يتحولوا إلى ملائكة، الناس مختلفون في الفهم والمواهب والقدرات والطاقات، مختلفون في الهمم والطموح والغايات، يقع منهم الخطأ والنسيان، يستزلهم الشيطان، ويوقع بينهم الفتن والعداوة والبغضاء، سيكون منهم ذنوب، وستقع بينهم حروب وفتن.


في عصر الخلافة الراشدة نرى نموذجا مثاليا للتعامل مع واقع البشر كما هو لا كما يحاول الفلاسفة والمثاليون أن يصنعوه، ولهذا لا بد أن نفهم هذا العصر جيدا إذا أردنا أن نقدم رسالتنا وديننا ونموذجنا الحضاري لكل الناس.




كانت سنوات الخلافة الراشدة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس، ووصولا إلى الرخاء، وانتهاء بالفتنة الداخلية (بيكساباي)


العصمة من التيه بين الأفكار والمذاهب
لو لم يكن في تاريخنا عصرٌ مثل عصر الخلافة الراشدة لكان المسلمون الآن في تيه كبير واضطراب عظيم.. كنا سنكون أشبه بالغرب في تيهه واضطرابه. نعم الغرب -رغم قوته وعلوه- في تيه واضطراب فكري واسع، والفلسفة الغربية أشبه بالغابة الضخمة المشتبكة المتناقضة من الأفكار والتصورات والرؤى، وما نراه نحن في العالم العربي -لضعف الثقافة وقلة الاطلاع- ثوابت عندهم هي في الحقيقة موضوعات تهتز بشدة وتعاني من انتقادات جذرية وكاسحة، بل إن الفلسفة الغربية أنتجت مصطلح "ما بعد كذا" لتعبر عن "انتهاء" مرحلة أو فلسفة دون استيضاح ماذا سيليه.


جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق.
إن مجرد "وجود نموذج" يمثل القدوة في الفكر الإسلامي هو بحد ذاته إنقاذ من التيه والضياع الفلسفي الكبير الذي يؤدي إليه "عدم وجود نموذج"، وكذلك عدم اليقين بنموذج واضح الملامح سيأتي به المستقبل. ولا يجد المرء تشبيها لهذا الوضع خيرا من قول الله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات".


إذا كان لدينا نموذج عملي متحقق في واقع الناس، أثمر ذلك نجاة من الاشتباكات والتناقضات في تحديد النموذج المعرفي والكليَّات الكبرى، فلن تصير الأمة ضحايا للأفكار التي تمثل ردات فعل على واقعها بالمقام الأول، إذ لن تضطر لدخول صراعات دموية للخروج من عصر الإقطاع إلى عصر الشيوعية أو من عصر الشيوعية إلى عصر الليبرالية أو من عصر الكنيسة إلى عصر الدولة.. وهكذا!
إن وجود النموذج العملي هو ما يحدد أمورا كثيرة من أصول الفكر والتوجه، مثل المرجعية النهائية وتفاعلها مع الوقائع التفصيلية المستجدة، ومثل الانحياز بين الفردية والجماعية، بين المادية والروحية، وما ينبثق عن كل هذا من أنظمة وأنماط اقتصادية واجتماعية وغيرها.


كل هذه الأمور وغيرها تختلف العقول بشأنها إن غاب النص وغاب النموذج التطبيقي له، وإن الأمة التي تسعى لاستعادة نموذج سبق وتعامل مع الأوضاع السياسية لهي أكثر بصيرة وأوضح طريقا من أمة تبحث عن نموذج لم تر ملامحه ولا تحسم كثيرا من أسئلته الجوهرية.


عصر الخلافة شمل كل أحوال الدولة
لقد استمرت الخلافة الراشدة ثلاثين سنة، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، هذه الثلاثون سنة فترة طويلة يحدث فيها الكثير من الأحداث والتقلبات التي تسفر في النهاية عن وجود نموذج ثري يمكننا الاقتداء به. لقد كانت سنوات الخلافة الراشدة شاملة لسنن الدول جميعا: بداية من التأسيس كما في عهد أبي بكر، ومرورا بالنهوض والتطور كما في عهد عمر، وصولا إلى الرخاء كما في عامة عهد عثمان، وانتهاء بالفتنة الداخلية السلمية والمسلحة كما في آخر عهد عثمان وعهد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.


الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع.
ولقد جاءت ولاية أبي بكر بنوازل سياسية كمسألة قرشية الخليفة، وتولية الفاضل، وما إن كانت الشورى معلمة أم ملزمة، وغيرها. وجاءت ولاية عمر بمسائل أخرى كترشيح الخليفة السابق، واختلاف الخلفاء في الاجتهاد السياسي، وأبواب في الأموال والأراضي ومعاملة الشعوب المفتوحة وغيرها. وجاءت ولاية عثمان بمسائل أخرى كتعدد المرشحين للخلافة، وعملية الانتخاب، وفقه مواجهة المعارضة السلمية والمتمردة، وجاءت ولاية علي بمسائل أخرى كاختيار الخليفة في الفتنة، وتحويل العاصمة، وتمرد الوالي على الخليفة، وانبعاث طائفة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير إذن الإمام.


وفي كل هذه الفترات أمور اتفق عليها الراشدون فلا يمكن لأحد أن يجادل في أهميتها ولا أن يخرج برأي آخر فيها، مثل: ضرورة السلطة للدين وأنه لا دين بغير الدولة، فلقد اختار المسلمون خليفتهم قبل أن يدفنوا نبيهم، ورشح أبو بكر للأمة من يخلفه قبل أن يموت، وقبل أن يموت عمر وضع نظام اختيار الذي بعده، وما إن قُتِل عثمان حتى كانت الخلافة تسعى أمام علي -رضي الله عنه-.


فهم الحضارة الإسلامية
الآن نضرب مثالا آخر لآثار الإيمان بنموذج الخلافة الراشدة، هو أن روح الحضارة الإسلامية تنحاز إلى الإنسان لا إلى البنيان، وإلى المعنى أكثر من المادة. لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة.. لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة. إلا أن هذا العصر كان هو عصر الإنسان، العصر الذي يأمن فيه الإنسان على نفسه وعرضه وأهله، لا يستطيع حاكم أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، عصر تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.

300

إن وحدة الأمة تحت إمام واحد هي من الأولويات الكبرى، فنحن أمة واحدة تتوق إلى الوحدة ولم يفرقنا سوى الحكام المستبدون أو المحتلون

multi-mapicon.png
الجزيرة

إن الذي ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا ينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمر قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه، وحاصر المتمردون بيت عثمان وهو من حماهم ومنع أصحابه من مقاتلتهم والتصدي لهم بعد مجهود وافر في بيان ما هم عليه من الباطل والدفاع عن نفسه، وكان من قبل ذلك قد تعرض لمحاولة اغتيال فلم يعاقب أصحابها باعتبار أن الجريمة لم تقع فلا يستحقون عقابا، وقُتِل علي على يد رجل من فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب ولم يمنعه هذا أن يصل إليه. إنه انحياز لحرية الناس وحقوقهم على حساب أمن السلطة! وهو انحياز فلسفي كبير يترتب عليه معظم النظام السياسي والأمني في الدولة الإسلامية، وهو انحياز لاقتراب الحكام من العامة.


الحفاظ على وحدة الأمة كان في الأهداف الكبرى للراشدين حربا وسلما، من أجلها كان عمر يعزل أي والٍ لم يرتضه أهل البلد مهما كان صلاح الوالي ومكانته.
لهذا فمن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام!! أو لعل هذا هو الطبيعي، فإن من نشأ في ظل هذا النظام لم يعرف معنى الحرية فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته! هذا الانحياز إلى الإنسان وكرامته له وجه آخر، لأنه انحياز ضد القصور والزخارف والزينة، فالحضارة الإسلامية تهتم لأن تقيم مجتمعا تسوده الكرامة والعدل والإنصاف ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا! وهذا افتراق خطير!


إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور سلبي، نعم قد نستدل بكل هذا على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!

وعصر الخلافة الراشدة هو دليل على أهمية وحدة الأمة الإسلامية، لقد قاتل أبو بكر في أول هذا العصر لغاية توحيد الأمة، وقاتل علي -رضي الله عنه- في أواخره لغاية توحيد الأمة أيضا. والحفاظ على وحدة الأمة كان في الأهداف الكبرى للراشدين حربا وسلما، من أجلها كان عمر يعزل أي والٍ لم يرتضه أهل البلد مهما كان صلاح الوالي ومكانته، وبها حذر ووعظ عثمان المتمردين عليه.


فمن هنا عرفنا أن وحدة الأمة تحت إمام واحد هي من الأولويات الكبرى، فلا يغرينا ولا يغرنا من يحدثنا عن تحويل الأمة إلى مجرد "تنسيق" أو "تعاون" على غرار الاتحاد الأوروبي مثلا أو غيرها، فنحن أمة واحدة وهي تتوق إلى الوحدة ولم يفرقنا سوى الحكام المستبدون أو المحتلون.
 
عودة
أعلى