صلاح الدين الأيوبي والهجاء الطائفي المعاصر / علاء اللامي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,426
التفاعل
17,565 41 0
صلاح الدين الأيوبي والهجاء الطائفي المعاصر

علاء اللامي *


تفاقمت في الآونة الأخيرة حملة تشنيع وهجاء ضد بعض الشخصيات التاريخية العربية الإسلامية من فترة العصر الإسلامي المنتهي رسميا بسقوط بغداد إثر الغزو المغولي سنة 1258م / 656 هـ. وقد جاءت هذه الحملة المستمرة متساوقةً مع واقع وعوامل الاستقطاب والصراع الطائفي الشيعي السني البالغ حد الاقتتال الفعلي والقتل على الهوية الطائفية في العراق بعد احتلاله من قبل القوات الأميركية والغربية الحليفة لها سنة 2003، ومتزامنة مع تفاقم جرائم وانتهاكات تنظيم داعش التكفيري ضد جميع الطوائف والمذاهب الدينية المسلمة وغير المسلمة. وضمن هذا السياق تصاعدت في الآونة الأخيرة حملة شرسة في بعض وسائل الإعلام العراقية والعربية ذات التوجهات الطائفية من صحف وقنوات فضائية ضد شخصية تاريخية مهمة في تاريخنا العربي الإسلامي هو صلاح الدين الأيوبي، قاهر جيوش الفرنجة ومحرر بيت المقدس. يمكن القول إن أفضل وأجدى منهج تاريخي يمكن الرد بواسطته على هذه الحملة الظالمة وغير الموضوعية هو منهج التحليل التاريخي الاجتماعي السياقي بعيدا عن الرد بالمثل عبر هجاء مضاد. وكان الباحث العراقي الراحل هادي العلوي قد كتب دراسة مطولة وموثقة قرأ فيها تحليلياً وتوثيقياً سيرة وشخصية صلاح الدين الأيوبي وفق منهجه التاريخي المتميز. أي أنه يقرأها ويفكك جوهرها كما هي في حقيقتها وداخل سياقها التاريخي، ووفق ما تراكم حولها من وثائق ونثر تاريخي مكتوب وروايات شفاهية في الفولكلور الشعبي...الخ ولذلك فستكون هذه الدراسة مهمة وسنتوقف عندها مقتبسين ومستلهمين.
لقد خرج العلوي على هذه المنهجية الذاتية المضلِّلة ذات النزوع السلفي الطائفي، والتي تنظر إلى صلاح الدين الأيوبي كـ "مجرم مماثل لطاغية كصدام حسين" كما تفعل البروباغاندا المذهبية السلفية على ألسنة إعلاميين وأساتذة جامعيين ومحرضين سياسيين عاديين، سنتوقف نقديا عند نموذج محدد منهم؛ أو النظر إليه كزعيم معصوم من الخطأ والزلل ومدافع عن "صحيح الإيمان بوجه المنحرفين الروافض"، كما تفعل البروباغاندا الطائفية السلفية المقابلة، بهدف دحض كلا القراءتين المذهبيتين وكشف جوهرهما الرجعي اللاتاريخي. ولذلك جاءت دراسة العلوي أكثر توازنا وقربا من حقيقة هذه الشخصية ولهذا السبب سيكون لهذه الدراسة مكانة خاصة ضمن مراجع هذه المحاولة النقدية.
إننا لو قاربنا شخصية القائد صلاح الدين الأيوبي، وفق الكيفية التي يقرأ بها هذان الخطابان الطائفيان المذهبيان هذه الشخصية، لوجدنا أن الخطاب الأول ينظر إليه كبطل الإسلام -الإسلام السني طبعا- وقاهر الصليبيين و يضيف التكفيريون في عصرنا إليهم الروافضَ الشيعةَ وأمثالهم، كما في كتاب "الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والصليبي" للكاتب الليبي د. علي محمد الصلابي، لا يجوز نقد بعض ممارسات صلاح الدين أو أفكاره ومواقفه بل و لا يجوز -وفق هذا الخطاب- حتى التعريف بنقاط ضعفه وهنّاته فهو شبه معصوم وفوق أية قراءة تاريخية موضوعية، إنما يجوز التمجيد والتوقير والتقديس وحسب. واللافت أن هذه القراءة التحريمية لا نظير لها حتى لدى أغلب المؤرخين القدامى في عهد صلاح الدين ذاته الأمر الذي يدل على أنَّ جرعة العقلانية كانت حاضرة بقوة لدى أغلب المؤرخين القدماء، مضاف إليها نزاهة تأليفية لا تنكر، وهما خصلتان لم يحدّ منها غالبا الانتماء المذهبي للمؤرخين الباحثين عن الحقيقة آنذاك.
أما الخطاب المقابل فينظر إليه كحاكم ظالم انقلب على الدولة الفاطمية الشيعية التي استعانت به ضد الصليبيين، وأنهى وجودها بالتآمر مع الخليفة العباسي في بغداد، فأغلق الجامع الأزهر وساوم الصليبيين وتنازل لهم عن مدن وأراض كثيرة مقابل صرر من القطع الذهبية، وارتكب أفظع المجازر بحق المسلمين وغير المسلمين من الطوائف الأخرى. إنَّ كِلتا القراءتين مضللة ولاتاريخية ومشبوهة لأنها: أولا، ذاتية تحتكم الى الفكرة المذهبية المسبقة، وثانيا، لأنها تهدر السياق التاريخي الحقيقي للشخصية وظروفها الخاصة فتُسْقِط ما تشاء من أحداث وتفسيرات ووقائع وتلغيها وتثبت وتخضم وتبالغ في أهمية أحداث وقائع وتفسيرات أخرى.
وبين هاتين القراءتين ثمة قراءة ثالثة تحاول أن تقارب الحقيقة وهي القراءة التاريخية الموضوعية السياقية والتي تحتكم الى الوقائع التاريخية في سياقها المجتمعي الحقيقي فترصد إيجابيات وسلبيات الشخصية أو الحدث التاريخي داخل ظروفه الاجتماعية. ولكن هذه القراءة التي تريد أن تكون محايدة قد تسقط في هنات ومتاهات أخرى بدعوى الحياد العلمي المطلق وغير الممكن عمليا، ولذلك أسجل منذ البداية أن قراءتي لشخصية صلاح الدين الأيوبي لا تعني عدم الانحياز البدئي له كرمز لمقاومة الغزو الأجنبي الإفرنجي فلست مستشرقاً أو مأخوذا بالمنهج العلموي الاستشراقي الذي يدس السم بالعسل كبعض اللبراليين واليساريين المزيفين، ولا متسامحا مع القراءات الطائفية السلفية سواء كانت وفق المنهج التمجيدي السني أو الآخر الهجائي الشيعي في الوقت عينه.
إنَّ المنهجية اللاتاريخية التي يأخذ بها العقل السلفي الطائفي تقوم على ثنائية (أنا على حق وخصمي على باطل) ومقياس الحق والباطل عند كلا الخطابين هو مقدار البعد أو القرب من مذهب وعقيدة المتحدث مُطلِق الحكم لا غير. فهذا الطرف أو تلك الشخصية التاريخية على حق حين يكون مصلياً صائماً مؤدياً للطقوس ورافعاً للعلامات والإشارات الدينية حسب مذهب المتحدث و (فرقته الناجية من النار)، ممجدا لأئمته ورموزه القديمة والحديثة، وليفعل بعد ذلك ما شاء أن يفعل، وهو على باطل متى لم يكن كذلك مذهبياً وعقيديا.
وقد يتم لاحقا توسيع هذه البوصلة المذهبية المحدودة والعاطلة عن الدوران بتوسيع الدائرة المذهبية إلى الدائرة الطائفية التي تضم عدة مذاهب فالمذهب الحنبلي يتم توسيعه إلى عبارة "الإسلام السني عموما" والمذهب الشيعي الاثناعشري يتم توسيعه إلى عبارة "عموم التشيع". إن هذه القراءة قاصرة وغير مهتمة أو مهمومة بالمواقف والأفكار والممارسات للشخصية التاريخية المعنية بالبحث من قضايا كالغزو الأجنبي للبلاد أو لمواقف تلك الشخصية وممارساتها بحق شعبها وقضاياه الداخلية وإنما جل اهتمامها وهموما منصب على صيانة المذهب الطائفي الديني والدفاع عنه بوجه أصحاب المذاهب المخالفة له.
سأتوقف في قراءتي هذه عند بعض المواضيع والأمثلة المحددة التي وردت في تلك الحملة على أن أعود لمواضيع أخرى في مناسبة أخرى. وهذه المواضيع هي: محاولة مساوة أو مماثلة صلاح الدين الأيوبي برئيس النظام العراقي السابق صدام حسين على سبيل الهجاء، والثاني هو الترويج لفكرة المؤامرة بين الخلافة العباسية وصلاح الدين لإنهاء الخلافة الفاطمية.
يبدأ الأستاذ الجامعي العراقي د.جاسب الموسوي كلامه الذي بثته قناة عراقية خاصة"1"، ثم جمعت أحاديثه في تسجيل فيديو وزع على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي|، يبدأ حديثه بلفت الانتباه الى ان صلاح الدين ولد في تكريت التي هي كما قال (مسقط رأس الطاغية الثاني صدام حسين وهذه من صدف التاريخ وهذان المجرمان بالمناسبة مجرمان طائفيان من الطراز المتميز). وهذا الكلام لا علاقة له بالبحث التاريخي، علميا كان أو غير علمي، بل هو نوع من الهجاء السياسي الفارغ من أي محتوى رصين، وليس له من هدف سوى التنفيس عن الغيض النفسي والاحتقان الشعوري عبر محاولة مساواة الشخصية التاريخية المدروسة بشخصية دكتاتورية معاصرة، واعتبار الثانية امتدادا مذهبيا وطائفيا واستبداديا للأولى. وإلا ما الذي يجمع طاغية دمر بلاده واضطهد شعبه وسلم وطنه للغزاة الأجانب بعد سلسلة مغامرات عسكرية فاشلة بقائد منتصر كصلاح الدين الذي فرض احترامه وقيمه وفروسيته على أعدائه قبل أصدقائه؟
الفكرة الثانية هي التي يروجها البعض عن مؤامرة قام بها الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله وصلاح الدين الأيوبي للإطاحة بالدولة الفاطمية الشيعية والحد من انتشار التشيع " الرفض" في تلك الفترة و يضيف المتحدث في تسجيل الفيديو المشار إليه آنفا فيقول ( إن هذه الفترة - فترة ما قبل سقوط الدولة الفاطمية في مصر - يعبر عنها ابن الأثير ت 630 هـ الموافق 1233 م في كتابه الكامل في التاريخ بعبارة ( وعم الرفض الأرض الإسلامية من شرقها الى غربها في القرنين الرابع والخامس الهجري والى يومنا هذا ) المقصود بعبارة الرفض هو التشيع وحين يقول عم الرفض أي عم وانتشر التشيع. إن الدولة الفاطمية في مصر شيعية اسماعيلية والدولة الحمدانية في حلب والموصل شيعية اثناعشرية إمامية والدولة البويهية التي جعلت من بغداد مستقرها الثاني بعد بلاد فارس شيعية زيدية. وهذه القضية " انتشار التشيع أثارت حفيظة المكونات الطائفية الأخرى).
إن المتحدث يحاول هنا تأسيس قاعدة نظرية تاريخية تبريرية، ينطلق منها لشن هجومه على خصمه "السني" صلاح الدين لأنه استهدف الوجود الشيعي قبل ألف عام، تزيد أو تنقص قليلا، ولكنه يرتكب أخطاء منهجية عديدة تجعل من قاعدته التاريخية المبتغاة أشبه بالرمال المتحركة. فعن أي تشيع يتحدث الرجل؟ وهل يجوز له جمع الفاطميين الإسماعيليين بالبويهيين الزيديين بالحمدانيين الشيعة الاثناعشرية (لم يقترب صاحبنا من القرامطة الإسماعيليين لأسباب طبقية كما يبدو)؟
وعلى افتراض جدالي يقول إنه يحق له أن يجمع بين كل هذه الفرق والحركات والمذاهب الدينية والسياسية لسبب ما، فهل يحق له أن يقفز على حقيقة الحروب والصراعات التي دارت بين هذه الأطراف نفسها كالحروب التي خاضها الحمدانيون الشيعة ضد الفاطميين الشيعة في سوريا دفاعا عن دمشق التي سيطرت عليها المقاومة الشعبية " السنية تكوينا مجتمعيا" بزعامة "الأحداث"، أو يساوي بين البويهيين الزيديين الذين كانوا أمراء حرب و وزراء لدى العباسيين السنة قاتلوا العباسيين حتى كادوا أن يقضوا عليهم وفرضوا عليهم وزارتهم وإمارتهم قبل أن يفعل صلاح الدين المر نفسه لاحقا مع الفاطميين؟ ثم، عن أي رفض وتشيع يتحدث الرجل وكيف يريد من سامعيه أن يحتشدوا للدفاع عنه بوجه صلاح الدين وأحفاده "الصداميين"؟ وإذا كان الخليفة العباسي في بغداد حريصا على التسنن ومعاديا للتشيع والرفض إلى هذه الدرجة، فلماذا يتآمر مع صلاح الدين ضد الفاطميين الشيعة في مصر ويترك البويهيين الشيعة يحكمون بغداد ذاتها بسيوفهم بل ويخلع عليهم الخُلَع ويمنحهم الإقطاعات الشاسعة؟
أما كلام المتحدث بلغة "المكونات الطائفية" وهي "لغة جديدة" جاء بها الاحتلال الأميركي جاعلاً الحكم القائم في العراق اليوم على أساس المحاصصة الطائفية بقيادة الإسلاميين الشيعة فهو كلام لا معنى له، بل انه ليس إلا إقحاما مفهوميا واصطلاحيا على الحالة الاجتماعية المندثرة والتي كانت سائدة قبل ألف عام، ولا علاقة لها البتة بواقع المجتمع العراقي خلال فترة الاحتلال الأميركي المباشر أو غير المباشر المستمرة إلى يومنا هذا.

* كاتب عراقي

1-رابط تسجيل فيديو للدكتور جاسب الموسوي على مواقع التواصل الاجتماعي:

 
التعديل الأخير:
صلاح الدين وأكذوبة الاستيطان اليهودي في فلسطين

علاء اللامي



كنا قد توقفنا عند حملة الهجاء والتشنيع المذهبي ضد الشخصية التاريخية الإسلامية صلاح الدين الأيوبي في مقالة سابقة نشرت في «الأخبار» (العدد 3252 في 17 آب 2017)، ونتوقف اليوم عند اثنين من الاتهامات المتفرقة التي وجهها خطاب النقد والهجاء المذهبي والطائفي المعاصر لصلاح الدين. الأولى، أنه (ساوم الصليبيين ورفض قتالهم حتى اصطدم به نور الدين الزنكي).

وقد قلنا إن وقائع التاريخ أكدت للجميع أن صلاح الدين وخلال حربه الطويلة، هادن وفاوض وأعطى إتاوات وانسحب وتراجع مثلما قاتل وهاجم وانتصر وحرر مدناً، وأخذ إتاوات من العدو الإفرنجي، وهذا أمر لا مثلبة فيه لقائد خاض سلسلة من المعارك في حرب طويلة استمرت في موجات متتالية قبله وبعده طيلة قرابة الثلاثة قرون (من سنة 1096 إلى سنة 1291)، أما صدامه مع نور الدين عسكرياً فلم يحدث قط، والذي حدث فعلاً، ما يرويه جميع المؤرخين لتلك الفترة، هي جفوة أو وحشة بالمفردات، بين صلاح الدين وأميره وقائده نور الدين. وكاد الأمر يصل إلى درجة الصدام فعلاً، ولكن صلاح الدين انسحب ولم يصطدم بقائده مرتين، وعاد إلى مصر بقواته. ولكن وجود خلاف كبير بين الرجلين آنذاك أمر أكيد، ولعله يؤشر على وجود طموحات استقلالية مبكرة لدى صلاح الدين بمصر. غير أن هذا لم يحدث ولم ينفصل صلاح الدين بمصر عن نور الدين في الشام وتحدث القطيعة وحالة العداء بين الرجلين والإمارتين، بل استمرت العلاقة بينهما حتى بعد فتح اليمن من قبل قوات الأيوبي، ولكن تلك العلاقة لم تكن تخلو من الجفاء والتشنّجات، كما أننا نقع على إشارات لدى بعض المؤرخين على ندم نور الدين على إرساله صلاح الدين وعمه شيركو إلى مصر للسيطرة عليها. ولكن تلك الإشارات وغيرها ينبغي أن تؤخذ ضمن ما آلت اليه الأمور لاحقاً، وتساوقاً مع الظروف التاريخية آنذاك. إن قضية الخلاف بين صلاح الدين ونور الدين كانت قد طرحت أول ما طرحت من قبل مؤرخين غربيين، مُستنِدين إلى روايتَي كيناموس ونكيتاس، وقد اعتمد هذان المؤرخان في روايتيهما على روايتَي المؤرخ ابن الأثير المعروف بانحيازه لنور الدين وللأسرة الأتابكية ضد صلاح الدين، والمؤرخ ابن أبي طي هو شيعي المذهب مناوئ للاثنين معاً مذهبياً، ولكنه مؤرخ محترف وتآليفه رصينة بشكل عام كزميله ابن الأثير. ويخلص الباحث د. حجازي عبد المنعم سليمان في دراسة له حول الموضوع إلى الآتي (وقد يبدو للمُطَّلع على روايتَي ابن أبي طي وابن الأثير، أن العلاقات قد تجمَّدت بين نور الدين وصلاح الدين بما أن نور الدين قد عزم على غزْو مصر، ولكن الغريب أن العلاقات ظلَّت قائمةً؛ بدليل وصول خطاب صلاح الدين إلى دِمشق يوم وفاة نور الدين، وهو الخطاب الذي حمل أسرار المؤامَرة التي دبَّرها عمارة اليمني بهدف القضاء على صلاح الدين وجيشه في مصر، وينمُّ وصف صلاح الدين لكيفية تصدِّيه للمؤامرة عن وجود استياء، بل وعن وجود تواصل بينه وبين نور الدين. ومِن جِهة أخرى فإن صلاح الدين أرسل إلى نور الدين قبيل وفاته ربما بأيام معدودات ــ في أوائل شوال 569هـ ــ ببشارة فتح اليمن، ففرح بذلك وأرسل البشائر إلى الخِلافة -العباسية ببغداد-وسائر بلدانها) 1.
أما بخصوص اتهام صلاح الدين ببدء الاستيطان اليهودي في فلسطين ومصر واعتباره بداية لقيام دولة إسرائيل كما يقول خالص الجلبي 2، فهو أولاً اتهام لا تاريخي تماماً لأن فلسطين ككيان جغراسياسي لم تكن قائمة كما هي في القرن العشرين وبدء هجوم الحركة الصهيونية عليها بدعم بريطانيا التي كانت تحتلها، بل كانت ــ فلسطين ــ جزءاً لا يتجزأ من بلاد الشام وكان بعض الجغرافيين يعتبرونها بمثابة «سوريا الجنوبية» أضف إلى ذلك أن الوجود اليهودي السكاني فيها وفي سائر دول المشرق العربي وحتى في الأندلس قبل انهيار الدولة العربية الإسلامية هناك لم يكن يشكل أي تهديد ولا كانت الحركة الصهيونية أو أية حركة مشابهة لها قائمة وناشطة. ثم إنه بمنظور التحقيق التاريخي البحت اتهام سطحي ولا دليل عليه سوى حكاية الطبيب اليهودي الخاص لصلاح الدين، موسى بن ميمون القرطبي، وطلبه السماح لبعض ذويه بالرحيل والإقامة في فلسطين التي لم يكن سكن اليهود فيها ممنوعاً. غير أن بعضاً من المشنعين الطائفيين يكررونه في أيامنا هذه دون تفكير. إنه اتهام تنفيه وتسفهه حقيقة أن نسبة اليهود السكانية في فلسطين وبعد ألف سنة على وفاة صلاح الدين من إجمالي سكان فلسطين لم تتجاوز 8% عام 1914 بحسب تقدير الدولة العثمانية آنذاك. فأين ذهب اليهود الذين وطَّنهم صلاح الدين، علماً بأن وجود اليهود بهذه النسبة، وربما أقل أو أكبر منها قليلاً، كان مؤكداً طوال عصور ما قبل صلاح الدين وما بعده؟ والحقيقة هي أن صلاح الدين استجاب لطلب طبيبه الخاص وهو اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون القرطبي بالسماح له ولمجموعة من ذويه بالإقامة في فلسطين. وقد عاد بن ميمون نفسه لاحقاً وعاش في مصر ومات فيها!
ولم يكن موسى بن ميمون القرطبي صهيونياً بل لم تكن الحركة الصهيونية الرجعية قد وجدت بعد، وكان الرجل يحسب على فلاسفة الإسلام. وأهم كتبه نقرأ أن (أهم كُتب ابن ميمون هو «دلالة الحائرين» وفيه لا يجد القارئ إلا صدى لأفكار فلاسفة الإسلام وعلماء الكلام وبخاصة الأشاعرة. ولذلك فحين ألَّف إسرائيل ولفنسون كتابه (موسى بن ميمون حياته ومصنفاته)، وهو الكتابُ المنشور بالعربية في القاهرة سنة 1936، كتب الشيخ مصطفى عبد الرزاق مقدمة الكتاب فقال فيها (إن موسى بن ميمون يعدُّ من الفلاسفة المسلمين!) ثم ذكر العديد من الأدلة المؤيدة لذلك. وفي مقدمة تحقيقه لكتاب «دلالة الحائرين» يقول الدكتور حسين آتاي: إذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الشهرستاني قد عدَّ حنين بن إسحاق النصراني، فيلسوفاً إسلامياً؛ فإنه لا وجه للتفرقة بينه وبين موسى بن ميمون اليهودي. والدارس للثقافة الإسلامية حين يقرأ كتابه «دلالة الحائرين» يرى أن موسى بن ميمون حتى في مناقشاته لنصوص التوراة، إنما يصدر عن فكرٍ وثقافةٍ إسلامية فهو قد عاش طوال حياته بين مسلمين. ويلاحظ أنه عندما ينتقد المتكلمين المسلمين يكون نقدُه لهم بأسلوبٍ خالٍ من الشدة التي ينتقد بها المتكلمون المسلمون بعضهم بعضاً، وأنه ينقد بني دينه بشكلٍ أشد. إذاً، فابن ميمون يُعتبر فيلسوفاً إسلاميّاً. وهكذا يعتبره أيضاً المؤرخون الأوروبيون/ الموسوعة الحرة) أما من يحاولون تشويه الرجل والقول بأنه قال كلاماً سيئاً عن النبي العربي الكريم فليقدموا لنا دليلاً واحداً ملموساً من كتاباته هو في هذا الصدد ولن يفعلوا ولن يجدوا، وهل يعقل ويصدق أن يقول أو يكتب فيلسوف يهودي شيئاً سيئاً عن النبي محمد في ذلك العصر الملتهب بالحروب ضد الصليبيين والذي أعدم فيه صلاح الدين فيلسوفاً صوفياً سنياً لتهمة دينية تتعلق بمعتقداته هو السهروردي الذي توقفنا عند جريمة قتله في عهد صلاح الدين، فيما يسلم اليهودي من العقاب؟
أما د. جاسب الموسوي المتخصص في هجاء صلاح الدين والتشنيع عليه في القنوات التلفزيونية المذهبية العراقية كقناة «العهد»، فيقول في حديث تلفزيوني إن توقيع صلاح الدين بالموافقة على الاستيطان اليهودي في فلسطين هو التوقيع الثاني بعدما كان عمر بن الخطاب قد وافق ووقع التوقيع الأول على ذلك 3، وقد اتفق بن الخطاب مع اليهود على أن لهم حرية الإقامة فيها. وهذه قضية ملتبسة ومطروحة بشكل سيّئ الفهم والمرامي، وتدل على عبث خطير بالتاريخ ووقائعه وإقحام ساذج لقضايا وصراعات عصرنا في عصر مضى وانقضى لم تكن موجودة فيه، فالحالة الصراعية بين المسلمين واليهود في مدينة يثرب في زمن النبي العربي الكريم لا علاقة لها بالصراع العربي الصهيوني في عصرنا على فلسطين من حيث الجوهر والأعراض ولا علاقة له بالحركة الصهيونية المعاصرة التي احتلت فلسطين بكاملها وجعلت قوماً لا علاقة وثيقة لهم باليهود العبرانيين الساميين هم الأشكناز الأوروبيون يستوطنونها. وحتى مفردة «استيطان» لم تكن مستعملة ولها ذات الدلالات السياسية والفكرية التي تحملها اليوم فقد كان الإنسان حراً في الإقامة والسفر والتنقل وامتلاك الأرض والعقارات في بلاد الله الواسعة ولم يكن يعني للدولة شيئاً أن تأتي قبيلة أو شخص من آسيا الوسطى لتستوطن قرب مدينة الموصل أو أن تهاجر قبيلة عراقية أو شامية من جنوب العراق الى صعيد مصر أو من اليمن إلى تونس كما حدث مع بني هلال. وإذا كان عمر بن الخطاب قد وافق على إقامة اليهود في فلسطين ــ كما يكرر اليوم بعض المذهبيين المعاصرين ــ فقد سبقه النبي العربي الكريم الى ذلك حين وافق على طلب اليهود السماح لهم بالهجرة شمالاً نحو بلاد الشام بعد هزائمهم العسكرية وإجلائهم من الجزيرة العربية فوافق النبي على ذلك وسمح لهم بالهجرة إلى هناك وبقوا فيها طوال العصور اللاحقة.
أما ما يقال عما فعله أبناء صلاح الدين بعد وفاته، من أنهم فرّطوا بإمارة أبيهم وانتصاراته على الفرنجة الصليبيين، واختلفوا فيما بينهم وهادنوا أعداءهم، فلا يتحمل مسؤوليته صلاح الدين بل أبناؤه، ولذلك لن نتوقف عند هذا المحور لأنه خارج نطاق هذا البحث ويقع في محور آخر يضمه التحلل الذي أصاب الإمارة الأيوبية شأنها في ذلك شأن جميع الإمارات والدويلات التي نشأت ثم تحللت وتلاشت في ذلك العصر. ولكننا سنتوقف عند هذا التقييم المعاصر لصلاح الدين الأيوبي لنختم به وقفتنا هذه للدفاع عن صلاح الدين الأيوبي الرمز والإنسان. كتب الباحث العراقي الراحل هادي العلوي: «إذا تجاوزنا حكم الراشدين بلقاحيته ــ اللقاحية تعني مبادئ وسلوك عام يقوم على رفض الخضوع للدولة أيا كانت ــ المعمدة بمبادئ حركة تاريخية صاعدة، يبدو صلاح الدين من الحكام القلائل الذين تمتعوا بالشعبية وأحبهم الناس الذين تعودوا على مقت الحكام وتمني زوالهم. ولا يرجع السبب في ذلك إلى مجرد بطولته في مقاومة الاحتلال الأوروبي، فقد تصدى للمهمة نفسها حكام سابقون ولاحقون، ولم تكن لهم المكانة نفسها في قلوب الناس. كان الظاهر بيبرس بطل مثله وخلده الوعي الشعبي في الملحمة المسماة باسمه. ولكن الناس أحبوا صلاح الدين كقائد بطل. يمكن في الحقيقة مقارنة صلاح الدين مع نور الدين الشهيد الذي منحه الشعب هذا اللقب برغم أنه مات على فراشه. وقد تكون تجربة نور الدين أعمق. (...) وفي علاقته مع الرعية، كان صلاح الدين مثل عمر بن الخطاب: مهيوب إنما غير مخيف. وهكذا كان في حياته الشخصية داخل القصر كما في طريقة تعامله مع الحاشية التي كانت آمنة من نزواته. وهذه حالة شاذة في سلوك الخلفاء والسلاطين منذ ابتداء الخلافة العباسية، فلم يتعرض أحد من أعوانه ووزرائه وقواده لعقوبة اعتباطية تصدر عن جنوح استبدادي. وأقصى عقوبة كانت العزل كما فعل مع وكيل الخزانة في دمشق بسبب بناء قصر (...) كانت علاقة صلاح الدين بجيشه تجري على الخط نفسه، وقد بدت كاستعادة لسيرة علي بن أبي طالب، وفي انقطاع عن نمط العلاقة العبودية التي تحكمت في الجيش الإسلامي منذ الأمويين جرياً على سنن الجيوش قديماً وحديثاً. وكان يوزع الغنائم التي تؤخذ من الإفرنج على الجيش، ولا يحتجن ــ يجمع ويدخر لنفسه ــ منها شيء خارج الاحتياجات العسكرية. وقد تركت هذه الطريقة في مداراة المقاتلين مردود سلبي على وتيرة القتال أحياناً، بصورة تذكرنا بما وقع لعلي بن أبي طالب في معركة صفين وما بعدها، سوى أن صلاح الدين لم يواجه حالات تمرد كالتي عانى منها سلفه الراشدي، إذ لم يكن بمقدور الأوروبيين إيجاد رتل خامس في معسكره شبيه بما أوجده معاوية في معسكر علي، ولكن تضجّر المقاتلين هو الذي أدى إلى الانسحاب من معركة عكا وحصار أنطاكيا. (...). بلور صلاح الدين في سيرته كما في سياسته نموذج سلطان لا يخاف الناس منه لأنه غير مرعب لهم، ويحترمونه ويحبونه لأنه لا ينهبهم ويحيا حياة معتدلة منزهة عن مفاسد القصور. وهي في جملتها خصال رجل كردي عادي، لكن مأثرته تكمن في احتفاظه بهذه الخصال وهو سلطان ومتدين» 4.
■ معلومة: عندما فُتحت خزانة صلاح الدين الشخصية لم يكن فيها ما يكفي من المال لجنازته، فلم يكن فيها سوى سبعة وأربعين درهماً ناصرياً وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلِّف ملكاً ولا داراً، إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات، كما يروي بهاء الدين بن شداد في كتابه «النوادر السلطانية».
■ إضافة إلى هذه المقالة والمقالة التي نشرت في «الأخبار» في العدد المشار إليه أعلاه، نشرت دراسة مطولة تضم ثلاث مقالات في مجلة «الآداب» اللبنانية عدد 17 أيلول 2017 وفيها تكتمل هذه الدراسة حول صلاح الدين الأيوبي ونقد الهجاء المذهبي وتفكيكه 5.



الهوامش:
1- رابط دراسة د. حجازي عبد المنعم سليمان:



2ـ رابط يحيل إلى مقالة خالص الجلبي



3- رابط فيديو د.جاسب الموسوي ح2:


4ـ شخصيات غير قلقة في الإسلام-ص 241 وما بعدها ــ هادي العلوي ــ دار الكنوز الأدبية ــ بيروت 1995. علماً بأنَّ نصوص الكتاب مكتوبة بالنحو الساكن لذلك لا توجد فيها أخطاء وفق النحو المتحرك.

5- رابط يحيل إلى دراسة بعنوان «صلاح الدين الأيوبي: نقد الهجاء المذهبي وتفكيكه» في مجلة الآداب اللبنانية:

 
التعديل الأخير:

للمدعو الدكتور ! جاسب الموسوي سلسلة مقابلات على قناة العهد الفضائية يلقب فيها شخصيات إسلامية بالداعشية منها على سبيل المثال خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه وأترك لكم التعليق !
 
عودة
أعلى