هل قطر “نملة سلمان” قبل أن يلتقي الجيشان؟ استراتيجية تقليم المخالب في مرحلتها الأخيرة

السرمدي

عضو مميز
إنضم
5 أكتوبر 2015
المشاركات
2,387
التفاعل
10,976 20 0
qatar-dawlet-elikhwan-iran.jpg


بداية، لفهم تطور الصراع السياسي بين السعودية وإيران منذ الثورة الإيرانية، فهما وافيا، ولكن مبسطا، أفردت مقالا خاصا بعنوان تستطيع قراءته إن شئت ..

التنافس الإيراني الخليجي، الصفوي الحجازي، الشيعي السني، سمه ما تشاء، قديم ومتواصل. الحرب العراقية الإيرانية بعد قيام “جمهورية إيران الإسلامية” كانت المحاولة الأولى لتحجيم هذا البلد، الذي أعلن مباشرة عن نواياه في تصدير الثورة الإيرانية الخمينية. لن نتعرض هنا لحرب إيران والعراق، إذ إنها خارج موضوع المقال. سنركز على الصراع بعد سقوط نظام صدام حسين الذي كان يمثل “منطقة عازلة” بين الخليج وإيران. حدث ذلك عام ٢٠٠٣.

سقوط العراق في منطقة نفوذ إيران كان له بعد جغرافي/سياسي أبعد، إذ وصل منطقة النفوذ الإيراني جغرافيا، من طهران إلى بغداد إلى دمشق إلى بيروت. ما سماه العاهل الأردني الملك عبد الله وقتها الهلال الشيعي. كما أدى إلى انجراف سوريا من مربع التوازن في العلاقات بين امتدادها العربي وحليفها الفارسي، إلى مربع التحالف الصريح مع الأهداف الإيرانية، والاستهانة الصريحة بالنفوذ العربي ممثلا في السعودية. كما حدث – وفصلته في المقال المشار إليه أعلاه – في اغتيال رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري، ثم سلسلة من الاغتيالات لحلفائه من سياسيين وصحافيين.

نستطيع من تلك اللحظة أن نقسم مناطق المخالب الإيرانية، من وجهة النظر السعودية، إلى بقع جغرافية. ونرى كيف تعاملت معها. وسأرتب هذه المخالب حسب طبيعة العلاقة مع طهران لنرى كيف تصرفت السعودية في عمليتها الممتدة لمواجهة هذا الخطر الإيراني.

أولا: مخالب إيران المباشرة
تتمثل في الميليشيات الشيعية المرتبطة بها ارتباطا عضويا، بحيث يصير وجودها في بلادها الأصلية مجرد وجود جغرافي. هذا يشمل جماعتين رئيسيتين:

١- الثورة الإسلامية في لبنان (حزب الله)

٢- الثورة الإسلامية في العراق (قوات بدر)

ثانيا: حلفاء لهم مصلحة حيوية مع إيران
وهذا يشمل النظام في سوريا، وسياسيي حزب الدعوة في العراق.

ثالثا: جيوب.
ويشمل هذا القوى المرتبطة بإيران في البحرين واليمن والسعودية.

رابعا: مخالب متقلبة، ذاتية الاختيار.
مقصدها ليس خدمة إيران إلا بالقدر الذي يحقق النكاية في النظام الإقليمي. وهدفها تنفيذ مشروع بديل. هذا حلف الإخوان المسلمين (قطر، حماس، تركيا، وجمهور الإخوان). سنترك الحديث عنه إلى نهاية المقال، بعد أن نكون رصدنا أفعاله في كل مرحلة من مراحل المواجهة السعودية الإيرانية.

أولا: المخلبان العضويان
لا تزال مشكلة العراق – حتى الآن – في فقده، وليس في تمثيله خطرا مباشرا آنيا. المشاكل الداخلية في العراق كفيلة باستهلاك قواه السياسية. والتركيبة العشائرية قادرة على لعب دور تحت السطح السياسي.

عبرت السعودية عن معارضتها للغزو الأمريكي بالابتعاد عن المشهد السياسي المباشر، والاكتفاء بالتأثير الإعلامي من خلال قناة العربية. ولم تتدخل، من خلف ستار أيضا، إلا بعد أن انفلت العراق من السيطرة الأمريكية تماما، بدءا من أحداث الفلوجة، حين قتل أربعة رجال أمن أمريكيين تابعين لشركات خاصة، وعلقت أجسادهم على جسر في الفلوجة. أذكر هذا اليوم لأنه اليوم الذي وصلت فيه إلى العراق للعمل مديرا مناوبا لمكتب بي بي سي العربية في بغداد. وحين تسللنا إلى داخل الفلوجة بعد حصارها استقبلنا هناك بيت أحد شيوخ العشائر العربية، ذوي الكرم المخجل، والتقاليد الصلبة. التي تتجاوز في كثير من الأحيان الانتماء الطائفي أو الديني. بعض عشائر العراق فيها شق سني وآخر شيعي، من نفس العشيرة. هذه لمحة واحدة عن نظام اجتماعي مواز للنظام السياسي، ومؤثر فيه، وقت الحاجة.

حين احتاج الأمريكيون إلى المساعدة بعد أن غرقوا في المستنقع طوال تلك السنة، من الفلوجة إلى أبو غريب، ومن البصرة إلى الموصل، ومن الزرقاوي إلى مقتدى الصدر، على اختلاف الأسباب والطبائع. كان خلاصهم بمساعدة سعودية، عن طريق إحياء نظام العشائر هذا، في ما عرف باسم قوات الصحوة.

لن أسهب هاهنا كثيرا، أنما أردت أن أقول إنه رغم أهمية العراق، فإن احتواءه ممكن، هكذا يفكر العقل الاستراتيجي السعودي، من وجهة نظري. وهناك من الملفات، والقوى السياسية والدينية المتنافسة حتى داخل الطائفة الواحدة، إلى جانب تلك القوى الاجتماعية، ما يمكن معه إبقاء العراق في حالة انشغال بنفسه. حتى حين.

لكن الوضع ليس كذلك في لبنان، وسوريا.

ينشأ اللبناني الشيعي كارها للسعودية، اجتماعيا. لا يختلف في هذا من صار منظما في حزب الله أو من صار عالمانيا. وينشأ اللبناني الشيعي النموذجي (لكي نتجنب التعميم المطلق) على المظلمة الشيعية الاجتماعية الطبقية. فيخرج من الطائفة فكريا ويبقى فيها نفسيا. شعور أقلوي صلب، وثوابت مجتمعية راسخة في القلب.

هذا المجتمع يختلف مع حزب الله ويتفق، إلا إن ذكرت السعودية. وبهذا الشعور حقق الحزب إنجازه الأول في المعركة الإعلامية. أقصد به تجييش الطائفة، بمؤمنيها بعالمانييها، لصالحه تماما. ساعده في ذلك قضية إسرائيل، التي جعلت رسالته أقرب إلى الوصول إلى الجمهور العربي على اتساعه. فنجح حليف إيران في تنفيذ أفضل حملة تسويق لحزب سياسي في تاريخنا المعاصر. قدم نفسه على أنه الزاهد المترفع عن المناصب السياسية، المنفتح على الطوائف، على رأسه نسل النبي، وسيد المقاومة، حسن نصر الله، الشاب الهادئ الواثق المبتسم، وأبو الشهيد.

تحت هذه الرسالة رسالة أخرى يفهمها جمهوره الأساسي من أبناء الطائفة، صورة مقارنة مع رمز السعودية رفيق الحريري، مالك المال، جامع الثروة. صورة كربونية من الحكاية التاريخية التي أشاعتها الدعاية الشيعية عن علي مقابل عثمان. وفي العصر الحديث عن العمامة السوداء، عمامة المقاومة، في مقابل العقال السعودي، الذي يرتديه الحريري، في الصورة الشهيرة العائدة إلى وقت اتفاق الطائف.

لقد اختلطت بالمجتمع الشيعي اللبناني، الجانب العالماني منه، منذ عام ١٩٩٩. وكنت أتعجب من مقدار الكره للحريري، وخصوصا أنني لا أرى منه شيئا معيبا، على العكس، لقد حول بيروت في فترة الاستقرار إلى مدينة منتعشة بعد دمار الحرب. وكانت مؤسساته متعدية للطوائف توظيفا ومظهرا ومضمونا، على الأقل إن قورنت بغيرها. نستطيع أن نقارن بين قناة حزب الله “المنار”، وبين قناة الحريري “المستقبل”.

كان لدينا إذن منتج “ميليشياوي”، قادم من العصور الوسطى، ولكن جيد التسويق.

ومنتج اقتصادي داعم للاستقرار، ومتطلع إلى الرخاء والمستقبل، ولكن سيئ التسويق.

كيف حدث هذا؟ سنفهم الإجابة كلما تحدثنا عن الآلة الإعلامية لدولة الإخوان. لكنني تعمدت أن أبدأ به لأنني أعتقد أنه كان السلاح الأمضى في هذا الصراع، هو الذي يفرش الغطاء ويجهز القعدة. وهو السلاح الأول الذي خسرت به السعودية في السابق والسلاح الأول الذي تحاول تحييده أو قلبه لمصلحتها. (متى تنجح ومتى تفشل، ومن الذي ينجحها أو يفشلها؟ هذا مهم جدا في سياق هذا المقال).

بدأت السعودية سعيها الأول لتقليم مخالب طهران دعائيا. بطرح موضوع سلاح حزب الله في الإعلام. من خلال بعض وسائل الإعلام المحلية كجريدة وقناة المستقبل المملوكة لرفيق الحريري، وجريدة النهار التي امتلك رفيق الحريري أسهما فيها.

طرح الموضوع أيضا من خلال القنوات الدبلوماسية. ودعي العماد ميشيل عون، رئيس الجمهورية الحالي، من منفاه الفرنسي، لكي يدلي بشهادة أمام الكونجرس، ففعل ذلك في ١٧ سبتمبر من عام ٢٠٠٣، بعد ستة أشهر من غزو العراق. وفي سبتمبر من العام التالي مباشرة صدر قرار مجلس الأمن رقم ١٥٥٩، القاضي بنزع سلاح الميليشيات.

شن حزب الله حملة دعائية ضد حليف السعودية، رفيق الحريري، متهما إياه بأنه مهندس القرار، من وراء ستار. في ١٤ فبراير ٢٠٠٥ قتل الحريري، في ٢ يونيو من العام نفسه اغتيل سمير قصير أبرز كتاب جريدة النهار، وفي ١٢ ديسمبر اغتيل رئيس تحرير الجريدة جبران تويني. أما شاهد الكونجرس، ميشيل عون، فقد كان في ذلك الوقت قد وقع على “وثيقة التفاهم”، وتحالف مع حزب الله.

كان هذا تحركا أوليا في كبح جهود السعودية لإنجاز مهمة تقليم هذا المخلب.

التحرك الثاني جاء مع حرب لبنان، ثم ما تلاها من إعلان النصر “الإلهي”، ثم حصار مقر رئيس الوزراء، رمز التمثيل السياسي للطائفة السنية، لمدة ١٦ شهرا، انتهت بالهجوم الذي نفذه الحزب على بيروت وجبل الدروز في مايو / أيار من عام ٢٠٠٨، والتي اقتيد فيها مواطنون سنة من بيوتهم في بيروت وأجبروا على النزول على ركبهم أمام مقاتلي حزب الله، وتشبيك أيديهم خلف رؤوسهم كأسرى الحرب. أحد مقاتلي حزب الله وصف ما حدث لصحيفة الدايلي تليجراف البريطانية قائلا “لقد أغلقت بيروت عينيها على عمر، واستيقظت على علي”.

عملت أثناء حرب تموز مراسلا حربيا لـ بي بي سي من حيفا في شمال إسرائيل، ثم من جنوب لبنان والبقاع، فرأيت نفس الحرب على جبهتيها. وعملت مراسلا مقيما في بيروت لعدة أشهر خلال فترة حصار مكتب الرئيس فؤاد السنيورة، حيث كان مكتب بي بي سي مطلا على السراي مباشرة، ومحاصرا هو الآخر بفعل الأمر الواقع، وشاهدا على تفاصيل الحصار. وبالتالي كنت متابعا للأحداث، ومتابعا لتغطية الإعلام لها. أين كان محور الإخوان من حيث التغطية؟ في أي صف؟ وأين كان بينما عمليات اغتيال حلفاء السعودية من نواب وسياسيين تتوالى أسبوعا وراء أسبوع؟

سأكتفي بالقول إنني شاركت في إنقاذ مراسلة قناة الجزيرة من بطش المشيعين لجنازة النائب البيروتي وليد عيدو، الذي قتل مع ابنه الشاب في تفجير لسيارته بالقرب من مقهى الروضة الشهير. والذي أدى خطأ تقني إلى ظهور مذيعة شيعية “عالمانية” على قناة إن بي إن المملوكة لنبيه بري وهي تضحك عقب إذاعة الخبر وتعبر عن انتظارها لليوم الذي تأتي فيه الرأس الكبيرة (تقصد سعد نجل رفيق الحريري).

دور الجزيرة والإخوان في الدعاية هنا كان محوريا، لأنها قناة محسوبة على “السنة”، لجماعة “سنية”. كنت أفاجأ حين أتنقل بين لبنان ومصر في تلك الفترة من حجم التغييب الإعلامي لحقيقة الوضع في لبنان. وحقيقة حزب الله.

لكن وجه حزب الله هذا لن يظهر إلا بعد أن يخوض صراعا مسلحا آخر، في سوريا، بعد ذلك بسنوات. صراع شاركت فيه السعودية أيضا ضمن تحالف يضم الولايات المتحدة، والإخوان المسلمين (قطر وتركيا ومشاة الجماعات التي يحركها الإخوان المسلمون).

حتى الآن، كان هذا الصراع هو الخطوة الأخيرة والأكثر نجاحا في مسعى السعودية لتقليم مخلب حزب الله. صحيح أن الإرادة السعودية بإسقاط المخلب الآخر، نظام بشار الأسد لم تتحقق، لكنها حققت عدة مكاسب.

في سياق حديثنا عن حزب الله، لقد استدرجته إلى معركة مسلحة خارج الأراضي اللبنانية، تحت أعين المجتمع الدولي، فأسقطت عنه أسطورة سلاح المقاومة. كما أن الصراع أنهكه وأثر على قدراته الاقتصادية (حتى الآن). ومن الناحية الإعلامية رَآه العالم العربي في صورة أخرى غير التي اعتاد أن يراها فيه. مهما كان رأيك في الصراع السوري، لا تنكر أنك عرفت أن حزب الله جيش إيراني متقدم، وليس “سلاح مقاومة” لبنانيا. ساهم في نجاح هذه الغرض الإعلامي المهم أن محور الإخوان في سوريا كان له هدف مشترك مع السعودية، فانقلب على محور الممانعة، وغير الخطاب الذي كان سابقا يروجه عن حزب الله في قناته، “الجزيرة”.

لقد أسهبت في الحديث عن استراتيجية السعودية تجاه حزب الله، لأنها من وجهة نظري الأرضية لكل شيء آخر، فهو رأس حربة إيران لتهديد مصالح السعودية، والأحداث التي اشترك فيها كانت الأداة الأهم في يد محور الإخوان، للنكاية في السعودية وحلفائها في النظام الإقليمي القائم.

ثانيا – المخلب الحيوي
لقد كانت سورية الطعم، الذي استدرج حزب الله، واستدرج الإخوان لكي يقلبوا خطابهم إلى خطاب طائفي، ولكي يناقضوا أنفسهم، ودعايتهم السابقة بشأن حزب الله.

عملية تقليم المخلب السوري بدأت في السنتين الأخيرتين من عمر رئيس الوزراء الحريري. كان واضحا أن الرئيس بشار الأسد ينتقل بسورية من الحلف الثلاثي الذي حرص عليه والده، مع مصر والسعودية، إلى اعتماد كامل على إيران. ربما لقلة الخبرة، وربما بسبب ما حدث في العراق. فرغم معارضة سورية للغزو، إلا أن خلافها مع الرئيس الحريري، وانحيازها إلى مخلب حزب الله وتقويتها له، أدى في النهاية إلى اغتيال الحريري. لم يكن هذا التشابك بين الوجود السوري في لبنان، وبين ميليشيا حزب الله، ممكنا تجاوزه. فكلاهما معتمد على الآخر. أي مساس بأيهما يعتبر مساسا بالآخر. لهذا وصفته بالحيوي. ويبدو أن الطرفين توصلا إلى أن الحفاظ عليه يستحق مغامرة “إعلان الحرب على السعودية”. وأنا أعني تماما ما أقوله بين القوسين. حدث اغتيال الحريري في وقت حرج بالنسبة للسعودية، بعد سنتين من تمدد النفوذ الإيراني إلى العراق، وبالنسبة للسعودية كان إعلانا عن تخليص الهلال الشيعي من النفوذ السني / السعودي تماما.

في يونيو من عام ٢٠٠٥ كنت أغطي المؤتمر العام لحزب البعث في دمشق مراسلا لـ بي بي سي. تحلق مجموعة من الصحفيين عقب وقائع المؤتمر حول بثينة شعبان، مدير إدارة الإعلام في وزارة الخارجية السورية، لنسألها حول توجهات القيادة السورية. كان المؤتمر هاما بسبب أنه المؤتمر الأول بعد اغتيال الرئيس الحريري، والمؤتمر الأول بعد خروج الجيش السوري من لبنان. ظلت ترد على الأسئلة بطلاقتها المعهودة، حتى سألتها “أين الأستاذ عبد الحليم خدام، لماذا غاب عن المؤتمر؟”، بدون تفكير أشاحت بيدها و”بربست” – بالمصري برطمت – بضع كلمات غير مفهومة وغادرت.

استمعت إلى التسجيل أكثر من مرة في طريقي إلى الفندق، وفي غرفتي، أحاول أن أتبين ما قالت فلم أستطع. لكنني فهمت منه شيئا يشبه “من يريد أن يحضر يحضر”. لم تكن الصيغة مهمة، بالنسبة لي، بقدر ما كان رد الفعل. المتداول بين أوساط الصحفيين وقتها أنه اعتذر لمرضه. لو كان هذا صحيحا لقالت هذا مباشرة، وبلا حاجة إلى غضب أو ضيق خلق.

في المساء، بينما أتناول العشاء مع أصدقاء سوريين اتصل بي صديق ليعتذر عن عدم الحضور، وقال في معرض كلامه إن هناك أنباء عن استقالة خدام. لكن سورية بطبيعتها الإعلامية لا تتداول الأخبار التي يعرفها الصحفيون المحليون، انتظارا للأذن، وخوفا من المساءلة. لم أكن صحفيا محليا، فاتصلت بـ بي بي سي وطلبت منهم إجراء حوار مع شخصية مقربة من النظام، أعلم عنها أنه متحدث بحرية نسبية، وسألتهم ألا يطلبوا تأكيد الخبر، فالخبر بالنسبة لي من وقائع كثيرة مؤكد، ولو طلبنا منه التأكيد سيظن أن الخبر لم يصدر. طلبت منهم أن يسألوه مباشرة عن تعليقه على استقالة خدام. وقد كان. وانطلق في الإجابة مقدما مبررات شخصية للاستقالة. لم يكن هذا مهما. المهم بالنسبة لنا أن خبر الاستقالة مؤكد. وأذعنا الخبر سابقين كل المحطات الأخرى بـ ٤٧ دقيقة على الأقل.

عبد الحليم خدام كان نائب الرئيس، لكن الأهم أنه الواجهة السنية في النظام المحسوب على الطائفة العلوية. هذا مهم أكثر من الدور نفسه. لأنه يعطي صورة لا طائفية للنظام. العلويون – مثلهم مثل السنة في عراق صدام – كانوا أقلية متنفذة ممسكة بالسلطة. ولم يكن هذا متداولا كثيرا في المنطقة، إلا مع حرب العراق، حيث كانت تلك إحدى الحجج “القيمية” التي استند إليها الغزو. وبالتالي انعكس هذا الخطاب “القيمي” على سورية. وثار السؤال: “طب ما سورية حاكمها علويين؟”.

هذه إذن الخطوة الثانية الكبرى، بعد خروج الجيش السوري، في عملية تقليم المخلب السوري. حرمان النظام من الواجهة السنية، باستقالة نائب الرئيس، المقرب من السعودية.

ربما يكون اسم عبد الحليم خدام قد نسي. لكن – في وقتها – كان هذا تطورا مهما. ولا سيما أن خدام بعد انتقاله إلى فرنسا لم يلتزم الصمت، بل كان واضحا في انتقاده للنظام السوري واتهامه بالطائفية. وقد حل محله وزير الخارجية، ونجم الدبلوماسية السورية وقتها، فاروق الشرع. وجه سني آخر في نظام الحكم في سورية. لكنه اختفى عن الأنظار اختفاء كان أبلغ من الكلام.

الخطوة التي تلت هذا كانت المحكمة الدولية لملاحقة قاتلي الحريري. وهي التحقيقات الدولية التي بدا في فترة أنها في منتهى الجدية في التوصل إلى الفاعلين. قبل أن تخبو مع تغيير شخص الرئيس الأمريكي وقدوم باراك أوباما. هذا في حد ذاته – أعتقد – كان أحد الدروس التي وضعتها السعودية في حسبانها. أن التعويل على الآخرين يتلاعب بأولوياتك.

بعد اندلاع “الثورة” السورية، ضمن ما عرف بالربيع العربي جاءت الخطوة البارزة الرابعة. وهنا تنتقل السعودية من العمل الدبلوماسي إلى المشاركة المباشرة. فكانت ضمن التحالف الذي ضم إلى جوارها القيادة الأمريكية ومحور الإخوان المسلمين. بين هذين كانت الرغبة السعودية مجرد رغبة ضمن ثلاث، لا تملك من أدوات التأثير المباشر ما يحققها. العتاد العسكري والقرار يعتمد على أمريكا بشكل كبير، والوجود العسكري يعتمد على محور الإخوان بشكل كبير، سواء عن طريق الوجود التركي، أو عن طريق الجماعات المرتبطة بالتوجيه الإخواني المعبر عنه بتركيا وقطر. والمروج بآلتهم الإعلامية الضخمة من الجزيرة وأخواتها.

على الرغم من ذلك فإن ما وصلت إليه الأمور في سورية لم يكن خسارة للسعودية. أشرت إلى بعض النتائج في ما يخص حزب الله وأنا أتحدث عنه. لكن – بالنسبة لسورية – لقد تحول الرئيس بشار الأسد إلى صورة أخرى غير التي كان عليها. لو قارنا صورته الحالية بصورة والده حافظ الأسد، عرفنا ما قد تغير. من ناحية النظرة الدولية، ومن ناحية القدرة على السيطرة السياسية. من المؤكد أنه لن يحكم كما السابق. وأن ما وصل إليه الصراع هناك أفضل للسعودية من الحال إن سقط وسيطر الإخوان. صحيح أنهم كانوا حلفاء للسعودية في الصراع السوري، من الناحية النظرية. لكن هذه جملة أبعد ما تكون عن الدقة – لا شك أن العقل الاستراتيجي السعودي يعي ذلك. إذ إنهم حلفاء أنفسهم وفقط. تحالفوا مع إيران حين كان في ذلك مصلحتهم. وتحالفوا مع السعودية حين كان في ذلك مصلحتهم. وكسبت السعودية من دعايتهم ضد الرئيس بشار الأسد. لكنه المكسب الذي يعمق الإحساس بالقلق من آلتهم الإعلامية. سنتذكر هذا حين نصل إلى مخلب الإخوان، والمواجهة مع قطر.

ثالثا: المخالب الزائدة
المقصد من الأوصاف التي أطلقها على المخالب بيان طبيعة العلاقة مع طهران، هل هي امتداد عضوي، جزء لا يتجزأ، أم امتداد حيوي لا بد منه، ثم المخالب الزائدة، وهي بغض النظر عن مدى أهميتها، إلا أن طبيعة الاتصال الجغرافي تجعلها سهلة “الغرغرينة”، أي قطع الإمداد عنها. الملاحظة التالية أنني في هذا المقال أتحدث عن الموضوع من قراءتي وتوقعي لرؤية السعودية له. لا دخل لهذا بطبيعة القضية التي يحملها كل طرف. أنا أتحدث عن مباراة، وعن أدوات المباراة.

تستطيع إيران بسهولة أن تدعم الاحتجاجات التي تقوم بها الجماعات الشيعية في البحرين، وتقدم لها المبررات، وتدين ما يتخذ ضدها من أفعال. لكنها في الوقت نفسه تتدخل مباشرة في سوريا ضد نفس الادعاءات. أقول هذا لتحييد الجدل القيمي الذي يعلو كلما تحدثنا عن قضية سياسية.

من خلال قوات “درع الجزيرة” تدخلت السعودية مباشرة لإنهاء المظاهرات في البحرين. يهمنا هنا لفت النظر إلى الرسالة التي أرسلتها السعودية وحلفاؤها. لن نسمح بمخلب لطهران داخل الخليج.

لكن الرسالة تطورت أكثر من ذلك في “عاصفة الحزم”. السعودية، كما استعرضنا سابقا، كانت تفضل التأثير من خلال حلفائها. لكنها في عاصفة الحزم، وبعد تعلم دروس كثيرة في الصراع مع إيران، أعلنت أن الوقت قد حان للاعتماد على النفس، والقيادة “العسكرية” لا السياسية وحدها. جماعة أنصار الله (الحوثيين) انقلبت على الاتفاق الذي أتى بحكومة شرعية، وفرضت أمرا واقعا على الأرض باجتياح صنعاء. ربما ظنت أن الظروف ستسمح بالأخذ والرد، على غرار ما حصل من الجماعات المسلحة في ليبيا بدعم قطري. لكن بالنسبة للسعودية كان الأمر بسيطا. حلفاء لإيران على حدودها الجنوبية. مخلب إيراني على حدودها الجنوبية.

(تعمدت الإشارة إلى ليبيا لوضع بذرة تفكير في مقال آخر عن مفردات التسوية في الحلف الإقليمي المصري السعودي الإماراتي – لكن المجال لن يسمح هنا بالاسترسال).

رغم أنني اختصرت الإشارة إلى عاصفة الحزم في فقرة واحدة سريعة، إلا أنها مرحلة مهمة جدا في تطور الاستراتيجية السعودية، في صراعها مع إيران. التطور هنا كان “قطع المخلب” إن استطعت إلى ذلك سبيلا. لكي تكون الرسالة واضحة. وبلا تردد. وبتدخل سعودي مباشر تحت أنظار العالم.

بهذين القرارين صار واضحا كيف ستتعامل السعودية مع أي جماعة داخل الخليج تعمل في خدمة المصالح الإيرانية. أليس كذلك؟

بلى. لكن ليس هذا فحسب. بل أي دولة أيضا، حتى لو كانت دولة خليجية “شقيقة”..

حان الآن وقت الحديث عن المخلب الذي اختار العقل الاستراتيجي في السعودية تأجيله إلى مرحلة ما قبل الوحش مباشرة.

رابعا: المخلب القلاب
أقوى ما لدى مخلب الإخوان المسلمين ليس القوة العسكرية، بل القوة المعنوية الدعائية. الإخوان المسلمون دولة غير معلنة، ولها شعب متشعب في كل مكان. لها يدين بالولاء، وبأوامرها يأتمر. كما أن لها حلفاء من تيارات سياسية متعددة، ومتشعبة، تخدم أهدافهم وإن لم تدن بفكرهم.

تقلبات هذا المخلب ليست فقط في اتجاهات ضربه. بل في صورته. فهو أحيانا سني، وأحيانا قومي عربي، وأحيانا متعد للطوائف متعاون مع الخصم (السياسي الطائفي). وفي كل صورة لديه شعار معنوي يرفعه، وله جمهور يصدقه.

في معركة مع خصم، أن ترى مخلبا موجها إليك فهذه مشكلة كبيرة. لكنها واضحة. ستوجه إليه ضربة كلما استطعت. إنما أن يكون المخلب قلابا فهذه مشكلة عويصة. لو انشغلت به ضربك خصمك. وإن تركته ربما ضربك، وربما ضرب خصمك. المشكلة تكمن في أن رد فعلك ليس فوريا، بل يحتاج إلى التفكير، والتفكير يحتاج إلى وقت. والوقت قد يكون العامل الحاسم في تعرضك لإصابة.

اللسان الناطق بلسان هذا المخلب، الجزيرة وأخواتها، بدأ الصراع قديما، بخطة استراتيجية قوية، وبتحالفات مع قوى مختلفة. لكنه في كل الأحوال كان له هدف واضح. إضعاف قوة السعودية وحلفائها. وأهداف مرحلية، كالتعاون مع السعودية إن كان سيحقق من هذا نفعا يفوق غرضه. سأضرب أمثلة.

١- كانت دعاية قناة الجزيرة منصبة في وقت من الأوقات على فك العلاقة العسكرية بين السعودية والولايات المتحدة. توازيا مع سلسلة انفجارات استهدفت القوات الأجنبية الموجودة على الأراضي السعودية. حتى تحقق الغرض في أبريل / نيسان من عام ٢٠٠٣، ورحلت القاعدة العسكرية الأمريكية من مطار الأمير سلطان.

ولكن إلى أين؟

إلى قاعدة العيديد في قطر. هنا فقط توقفت التغطية الخاصة بالوجود الأمريكي في “الخليج” العربي. وصارت قطر هي مركز العمليات العسكرية الأمريكية.

٢- خلال الأزمة الخاصة بلبنان، والجهود الإيرانية لإنهاء النفوذ السعودي فيه، أقدمت حركة حماس في يونيو من عام ٢٠٠٧ على خطوة غير مسبوقة في الصراع الفلسطيني، حيث “طهرت” غزة من حركة فتح، وقتلت فلسطينيين بايدي مقاتليها، بطريقة أبشع مما يمكن لإسرائيل أن تفعل. واستولت على القطاع. فحازت بذلك أرضا ضمتها إلى الإمبراطورية الإقليمية غير المعلنة. هذه الأرض تمثل نقطة استراتيجية بالنسبة لمصر.

لو تمت مثل هذه الخطوة بطريقة عكسية لكان الشعار المرفوع هو “الدم الفلسطيني الحرام” (ولو فعلتها إسرائيل لارتفعت شعارات بلا نهاية). لكن كون ما حدث هو ما أراد الإخوان المسلمون، وكون الفاعل هو الإخوان المسلمين، كانت تغطية قناتهم، الجزيرة، متعاطفة مع حماس. وكان الفعل نفسه متسقا مع أهداف إيران. حتى قيل إن هذه بروفة لما سيحدث في بيروت. حزب الله بارك الخطوة. ثم كررها بصورة مصغرة في بيروت بالفعل، بعد ١١ شهرا من هذا التاريخ، في الحدث الذي أشرت إليه أعلاه، حين هاجم مقاتلو حزب الله خصومهم في بيروت، و”أدبوهم”.

٣- غرض مخلب الإخوان، كما يتبين لنا ونحن ننظر إلى الأحداث، يتلخص في تجريد خصومهم من مصادر القوة بالدعاية المضادة، وحيازتها لأنفسهم. أشرت إلى موضوع القواعد العسكرية الأمريكية في السعودية. لكن هناك أيضا عضوية تركيا في حلف الناتو. علاقات تركيا مع إسرائيل. وعلاقات قطر مع إسرائيل. كلها خيارات سياسية لو اتخذها المحور السعودي المصري الإماراتي لتحولت إلى خيانة. يمكن أن يمتد هذا إلى أغراض فرعية كضرب اقتصاد السياحة في مصر، بدعاوى أخلاقية، رغم أنه لا يمثل شيئا إن قورن بمثيله في تركيا.

٤- في موضوع سورية انقلب “المخلب القلاب” فجأة على حلفاء الأمس. لماذا؟ لأن مكسب سورية كان كبيرا. لو سيطرت دولة الإخوان على سورية لملأت فراغا مهما في رقعة المنطقة. فراغ موصول بتركيا. ولكانت خطوته التالية الأردن. حتى يتصل بغزة. لكن هذا لم يحدث.

٥- استخدمت دولة الإخوان حاجة السعودية لها في سورية واليمن لكي تضرب شقاقا في علاقتها بمصر، ومساومتها على نفوذها في ليبيا.

ثم اكتشفت السعودية أن الوجود القطري في قوات عاصفة الحزم لم يكن في الحقيقة وجودا فعالا، بل كان – كعادته – مخلبا قلابا. وطلبت من قطر مغادرة التحالف.

أضف إلى تلك النقاط الخمس (المطروحة كأمثلة) ما ذكرناه عبر المقال عن موقف قناة دولة الإخوان من الصراع الإيراني السعودي في لبنان، وكيف أنها كانت دائما إلى جانب المحور المناهض للسعودية.

هنا لن نفهم ما يحدث الآن إلا لو تخيلناه بالشكل الذي أشرت إليه. وسأعيده. هناك “إمبراطورية” إقليمية غير معلنة، وفي طور التكون، هي إمبراطورية الإخوان المسلمين. هذه الإمبراطورية ليست حليفة لإيران، وليست حليفة لأحد. بل حليفة لنفسها وأهدافها. ولكن في سعيها لتحقيق تلك الأهداف تأتي مصلحتها الأولى في انهيار الدول الكبرى، وعلى رأسها السعودية، ومصر والإمارات. وهي تلجأ في ذلك إلى سبيلين رئيسيين، أولهما تقوية الخصوم، وبالأخص إيران، وثانيهما حرمان هذا المحور السعودي المصري الإماراتي من أسباب القوة والنفوذ ونقله إليها – احتكارها – في قطر وتركيا.

هل فهمنا ما الذي أوصل إلى المواجهة مع قطر؟
حسنا. هذه هي الإجابة. هناك استراتيجية سعودية ممتدة، ونشطة، منذ سقوط صدام حسين. سَميتُ هذه العملية “تقليم مخالب طهران”. هذه العملية، بعد كل المواجهات التي دارت في لبنان وسورية والبحرين واليمن، اقتربت الآن من المستوى الأخير، مواجهة الوحش الإيراني نفسه، ونقل المعركة إليه شخصيا.

دولة الإخوان، وإن كانت مخلبا مستقلا، إلا أنها مخلب قوي جدا ولا سيما في الحرب الدعائية، ولا بد قبل مواجهة إيران من تحييده. قولا واحدا. ليست هذه أزمة منفردة عابرة. ولا يمكن النظر إليها على هذا الأساس، وإلا لكانت سذاجة سياسية منقطعة النظير.

ماذا أتوقع؟
رأيي أن قطر كدولة هي نملة سليمان (نملة سلمان في هذه الحالة) يمكن أن تندهس هي نفسها بسهولة في المواجهة القادمة. ليست هذه المشلكة. المشكلة الحقيقية هي السلاح الذي تملكه دولة الإخوان من خلالها. سواء كان السلاح الإعلامي، وهو الأهم. أو كان سلاح مشاة الإرهابيين، وهو ما عُبر عنه بشرط “وقف دعمها للإرهاب”.

دولة الإخوان، رغم الضربات التي وجهت إليها، وربما بسبب الضربات التي وجهت إليها، لن تستطيع أن تستغني عن هذا بسهولة. سيكون أمامها طريقان. أولهما هو الرفض وحشد تعاطف دولي. وهو خيار صعب في ظل تصاعد الإرهاب. وثانيهما هو الانزواء المؤقت وتقديم الوعود بعدم التحريض ضد السعودية، أو حتى إغلاق القنوات الحالية إغلاقا مؤقتا. وهذا لن يؤمَن ولن يُصدَق. فبقاء الأموال تحت تصرف سلطة دولة الإخوان يعني أنها يمكن أن تنقل بطرق غير مباشرة إلى منافذ إعلامية جديدة وجماعات إرهابية جديدة.

الخيار الوحيد المقبول – هذا توقعي – أن تكون ثروة الدولة تحت عين السعودية والمجتمع الدولي. ربما من خلال سلطة جديدة متعاونة معهما. بالإضافة إلى عزم عالمي متصاعد حاليا لمراقبتها.

باختصار. لا بد من تغيير القيادة. لو لم يحدث هذا فأغلب الظن أن قطر ستكون الضحية القادمة في المواجهة السعودية الإيرانية.

 
من أفضل التحليلات التي قرأتها إلى الآن حول الصراع السعودي الإيراني وتذبذب مواقف الإخوان تارة مع ايران وأخرى مع السعودية .
 
عودة
أعلى