يوم سقطت طُليطلة

YOOBA

عضو مميز
إنضم
3 أغسطس 2016
المشاركات
1,703
التفاعل
6,053 0 0
intellect;ord=5425266490736.413;dc_seg=453467495


















424

250


محرر تاريخ





"طليطلة عظيمة القُطر، كثيرة البشر، عالية الذرى، حسنة البقعة، ولها قنطرة من عجائب البنيان، وهي قوس واحدة، والماء يدخل تحتها بعنفٍ وشدة جرىٍ، ومع آخر القنطرة ناعورة، وارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة".

(الحميري في "صفة جزيرة الأندلس")


تُعدُّ مدينة طُليطلة قديمة البناء في إسبانيا، فقد كانت قائمة قبل أن يغزو الرومان شبه جزيرة إيبريا، ومن ثم فهي مدينة إيبرية قديمة، وقد استولى عليها الرومان سنة 193م، وقبيل الفتح الإسلامي للأندلس، كانت طليطلة تتبوأ المكانة الأولى في أسبانيا القوطية سياسيًا ودينيا، ففضلاً عن كونها حاضرة القوط السياسية، فقد كانت الكرسي الأسقفي في أيبريا.


ومنذ أن انتصر الملك القوطي ريكاريد (Ricardo) للكاثوليكية واتخذها مذهبًا رسميًا للقوط سنة 587م؛ لذا علت مطرانيتها على سائر المطرانيات الأسبانية، فصارت منذ ذلك الحين مدينة الملوك و"قاعدة القوط ودار مملكتهم ومنها كانوا يغزون عدوّهم، وإليها كانت تجتمع جنوهم"، وظلت المدينة على هذه الحال حتى طرق المسلمون شبه جزيرة إيبريا/أسبانيا في عهد آخر ملوك القوط لذريق/رودريك Roderic)[1 )



الفتح الإسلامي
3d150c95-fa02-44bb-b755-929bb930ab68



في بدايات شهر رجب سنة 92هـ/711م عبرت القوات الإسلامية بقيادة طارق بن زياد العدوة المغربية باتجاه الأندلس، بعدما أتموا من قبل استكمال فتح بلاد المغرب العربي، وقد تمكن القوات من العبور، وقد مُني القوط بعدة هزائم سريعة، قبل أن تتجمع قواتهم بالقرب من وادي لكّة أو وادي بكه. ففي هذا السهل الصغير الذي تحده من الجنوب سلسلة من التلال العالية، وعلى ضفاف بحيرة خنده ونهر "بارباتي" تلاقى العرب والقوط، وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 92/17 يوليه سنة 711 م. وفرق النهر بين الجيشين مدى أيام ثلاثة شغلت بالمعارك البسيطة. وفي اليوم الرابع التحم الجيشان ونشبت بينهما معركة عامة[2]، سحق فيها المسلمون الجيش القوطي، وكان قد تجمع فيه كبار رجال الدولة والفرسان؛ لذا كانت الهزيمة تعني صعوبة المواجهة الكبرى مرة أخرى، وهو ما تحقق، ولم يكن والحال هذه سوى أن يسرع طارق بن زياد خطاه نحو عاصمة القوط "طُليطلة"، وهو ما تم له.



يقول ابن عُذارى: "لما فتح طارق طُليطلة وجدَ بها بيت الملوك ففتحه فوجد فيه زبور داود في ورقات الذهب مكتوباً بماء ياقوت محلول من عجيب العمل الذي لم يكد يُر مثله، ومائدة سليمان، ووجد فيه أربعة وعشرين تاجاً منظمة بعدد ملوك القوطيين بالأندلس: إذا تُوفي أحدهم جعل تاجَه بذلك البيت، وفعل الملك بعده لنفسه غيره، جرت عوائدهم على ذلك ووجد فيه قاعة كبيرة مملوءة بإكسير الكيمياء فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك"[3] في دمشق.



ومنذ ذلك الحين خضعت طُليطلة كما بقيت مدن الأندلس للحكم الإسلامي، وتعاقب عليها ولاة الأمويين، ثم دخلت في مرحلة من التصارع الداخلي بين عصبيتها العربية من قيسية ومضرية، حتى جاءها عبد الرحمن الداخل، فتمكن من إخضاع الجزيرة للحكم الأموي في الأندلس هذه المرة سنة 138هـ وظلت الأندلس كما طُليطلة على هذه الحال من الوحدة والتبعية للحكم الأموي حتى بداية القرن الخامس الهجري مع انقضاء الدولة العامرية التي كانت تدين اسمًا للأمويين، وإن شاب المدينة بعض الثورات على حكم الأمويين كما حدث في بداية عصر الأمير عبد الرحمن الناصر حين تمرد بها أحد زعماء المولّدين لُبّ بن الطربيشة، فأرسل إليه الناصر جيشه، واستمر الحصار مدة عامين، حتى نضبت موارد المدينة، وخبَت عزائم أهلها، واضطرت في نهاية المطاف إلى التسليم والإذعان سنة 308هـ[4].



300

كانت طليطلة عاصمة القوط قبل دخول الإسلام، ولأنها أهم وأقرب الثغور، فإن الهجمات النصرانية كانت لا تتوانى منذئذ في الهجوم على قرى ومناطق وحصون طُليطلة

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

حين سقطت الدولة العامرية ومعها الخلافة الأموية في الأندلس، مع ظهور الفتنة البربرية الكبرى في قرطبة انفرط عقد الأندلس، واستقل كل أمير بمنطقته، فظهرت حقبة ملوك الطوائف، وكانت طُليطلة من نصيب بني ذي النون الذين تعود أصولهم إلى البربر، وكانوا قد حاذوا ثقة الأمويين في القرن الرابع الهجري، على أن استقلالهم لهذه المنطقة كان قصيرًا مقارنة بملوك الطوائف الآخرين؛ فقد كانت هذه المنطقة التي تُسمى "الثغر الأوسط" لمتاخمة حدودها للممالك الإسبانية النصرانية، واعتبارها بذلك حاجز الدولة الإسلامية وجناحها الشمالي الأوسط ضد عدوان النصارى؛ لذا وفي ظل حالة التمزق التي شهدتها الأندلس منذ مستهل القرن الخامس الهجري الذي تزامن مع صعود قوة الإسبان الكاثوليك في الشمال، ولما كانت طليطلة عاصمة القوط قبل دخول الإسلام، ولأنها أهم وأقرب الثغور، فإن الهجمات النصرانية كانت لا تتوانى منذئذ في الهجوم على قرى ومناطق وحصون طُليطلة.



قبسات من حضارة طليطلة
لقد ازدهرت هذه المدينة الأندلسية ازدهارًا حضاريًا فريدًا على كافة المستويات العلمية والاقتصادية والعمرانية، فاقتصاديًا فإنها تميزت باقتصاد زاهر تعددت فيه الموارد، وتنوعت ما بين زراعة ورعي وتعدين وصناعة؛ فالزراعة في طليطلة كانت على درجة ملحوظة من الازدهار في عصرها الإسلامي؛ فقد كثرت بساتينها وأينعت جناتها، وأنتجت فواكه "عديمة المثل لا يُحيط بها تكييف ولا تحصيل"؛ وذلك لعدة أسباب من أهمها وجود أراض شاسعة فسيحة صالحة للزراعة حولها، وتميز أهلها بفنون الري؛ فقد عرفوا النواعير والقواديس والقنوات التي يجري فيها الماء إلى البساتين المحدقة بالمدينة.



لقد كان من حسن حظ المدينة أن ارتبط ببلاط ملوكها بني ذي النون بعض علماء الزراعة الأندلسيين المشاهير مثل العلامة ابن بصّال الطُليطلي الذي أجرى تجارب عديدة على كثير من النباتات، واستنبط الكثير من طرق الفلاحة، كانت هذه التجارب المصادر الأساسية التي اعتمد عليها العالم ابن العوام الإشبيلي في تأليف كتابه الضخم "الفلاحة الأندلسية"، ويبدو أنهم استثمروا هذه الخبرة العلمية في تحسين مزروعاتهم، فقد ذكر بعض المؤرخين أن ثمرة الجلنار كان عندهم في قدر الرمّانة، وأن الشجرة لديهم يكون فيها أنواع من الثمر[5]!



300

لأهل طليطلة مكانة مهمة في الأندلس على المستوى العلمي والفكري، ومنهم من جاب المشرق والمغرب طلبًا للعلم، مثل تمّام بن عبد الله بن تمام المعافرى

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

لقد وقف أصحاب الموسوعات العلمية والتراجم مثل أبو الوليد الأزدي (ت 403هـ) صاحب موسوعة "تاريخ العلماء بالأندلس"، وابن بشكوال صاحب "الصلة في تاريخ أئمة الأندلس" مع عشرات العلماء من أهل طُليطلة، هؤلاء العلماء منهم من كان من علماء القراءات، ومنهم رجال الحديث، ومنهم من كان من القضاة، ومنهم المفتون والأعيان، ومنهم من رحل إلى المشرق لطلب العلم فمكث به سنينًا، ومنهم من لم يخرج من بلده، ومنهم من عيّنه الأمويون في مدن الأندلس في مناصب عالية لمكانتهم العلمية المرموقة.



لذا فإننا نلحظ أن لأهل طليطلة مكانة مهمة في الأندلس على المستوى العلمي والفكري، فهذا أبان بن محمد بن دينار الفقيه الذي وثق في علمه وفقهه الطليطليون[6]، ومثله أحمد بن الوليد بن عبد الخالق الطليطلي الذي ولي قضاء طليطلة وجيان، وكان قاضيًا ابن قاض[7]، وأيوب بن سليمان من أهل طليطلة كان معدودا في فقهائها، توفي بها سنة 293هـ[8].



ومن أهل طليطلة من جاب المشرق والمغرب طلبًا للعلم، مثل تمّام بن عبد الله بن تمام المعافرى (ت 377هـ)، الذي سمع وأخد عن علماء مكة والشام وغزة والقيروان، وأضحى له شأنه في بلده بعد رجوعه من رحلة الحج والعلم[9]. ويبدو أن المعافريين - وهي القبيلة العربية اليمنية الأصل - كان لهم شأنهم العلمي في طُليطلة فقد برز منهم أيضًا بعد ذلك أحمد بن خلف بن أحمد المعافري "كان من أهل العلم والدين والفضل. وكان يحفظ موطأ مالك"[10]، وعبد الله بن سُليمان المعافري "كان من أهل العلم والفضل والخير، وكان الأغلب عليه الحديث والآثار والآداب والقراءات. وكان كثير الكتب جلها بخطّه"[11]، والقاضي الذكي سعيد بن يحيى بن سعيد التجيبي الذي توفي قُبيل سقوط طليطلة ببضع سنوات، قال ابن بشكوال: "كان حسن السيرة، جميل الأخلاق، دربا بالأحكام ثقة فيها، مبلو السداد"[12].



سقوط طُليطلة!
في لحظة من الشقاق بين ملوك الطوائف، وانشغالهم بمحاربة بعضهم البعض، استغل الملك ألفونسو السادس ملك قشتالة هذه اللحظة البائسة التي كان يمر بها المسلمون في الأندلس، بل إن بعض الروايات تشير إلى تواطؤ بعض ملوك الطوائف مع ألفونسو مثل المعتمد بن عباد ملك إشبيلية القريب والجار لطليطلة حين تفاهم مع ألفونسو على تركه لمحاربة بني ذي النون،



300

كان سقوط طليطلة إحدى قواعد الأندلس العظمى في يد قشتالة، إنما هو نذير السقوط النهائي، وأن انهيار الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية، إنما هو بداية انهيار الصرح كله

multi-mapicon.png
مواقع التواصل

يقول المؤرخ الألمعي محمد عبد الله عنان: "وهكذا عدمت طليطلة كل مصدر للعون الحقيقي، كل ذلك والموقف يتحرج، وألفونسو السادس ماض في غزواته المدمرة، حتى أضحت سهول طليطلة كلها خراباً يباباً. ولم يكن يخفى على عقلاء المسلمين أن الموقف عصيب، وأن سقوط طليطلة إحدى قواعد الأندلس العظمى في يد قشتالة، إنما هو نذير السقوط النهائي، وأن انهيار الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية، إنما هو بداية انهيار الصرح كله، فبادر جماعة منهم إلى الحث على الاتحاد واجتماع الكلمة إزاء الخطر المشترك، ونهض القاضي العلامة أبو الوليد الباجي"[13].



"سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى، وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد، وارتدت إلى النصرانية حظيرتها القديمة، بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً"

لكن جهود الإمام الباجي وغيره من عقلاء المسلمين في الأندلس ذهبت سدى، وفي خريف سنة 477هـ/1084م بدأ حصار الملك القشتالي للمدينة، ولمدة تسعة أشهر كاملة استمر هذا الحصار، ولم يكن ثمة معين من ملوك الطوائف الآخرين لهذه المدينة، بل تشير بعض الروايات إلى أن هؤلاء الملوك البائسين كانوا يُرسلون سفراءهم لألفونسو بالهدايا والتحف خشية على أنفسهم، وأنهم أذعنوا له بدفع الجزية التي فرضها عليهم، وفي نهاية المطاف، وبعد الجوع وقلة الأقوات وضعف العامة وانهيار المقاومة سلم أهل طليطلة مدينتهم وهم في ذلة وضعف إلى الملك الكاثوليكي في بداية شهر صفر سنة 478هـ/مايو 1085م.



يقول ابن بسّام: "وخرج ابن ذي النون خائبا مما تمناه، شرقا بعقبى ما جناه، والأرض تضج من مقامه، وتستأذن في انتقامه، والسماء تود لو لم تطلع نجما إلا كدرته عليه حتفا مبيدا، ولم تنشئ عارضا إلا مطرته عذابا فيه شديدا. واستقر بمحلة أذفنوش مخفور الذمة، مزال الحرمة، ليس دونه باب، ولا دون حرمه سِتر ولا حجاب. حدّثني من رآه يومئذ بتلك الحال وبيده اصطرلاب يرصد فيه أي وقت يرحل، وعلى أي شيء يعول، وأي سبيل يتمثّل، وقد أطاف به النصارى والمسلمون، أولئك يضحكون من فعله، وهؤلاء يتعجبون من جهله"[14]، فكان الجهل والخيانة والتشرذم الأسباب الرئيسة لسقوط المدينة!



وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى، وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد، وارتدت إلى النصرانية حظيرتها القديمة، بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً. ومن ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة، ويغدو " قصرها " منزلا للبلاط القشتالي، بعد أن كان منزلا للولاة المسلمين[15].
 
اترك طليطلة وغرناطه والاندلس

سقطت بعدها القدس وصنعا وبغداد ودمشق وبيروت
تعز وحلب وحمص والموصل وكابل وقندهار
وجروزني ومقديشو وسقطت الاحواز
واصفهان وشيراز والقرم وسقطت كشمير
وتركستان الشرقية
وجنوب السودان
والقائمة تطول وتطول:عويل
 
intellect;ord=4106984352301.8745;dc_seg=453467495


















424

دماء في قرطبة.. كيف سقطت الخلافة الأموية؟
250


محرر تاريخ







رأينا في ما أورثته السياسة المتعسِّفة الباطشة لشنجول العامري، والخليفة الأموي الجديد محمد المهدي، من نقمة البربر وجموعٍ من أهل ، وقد جمَّع الجند البربر جموعهم في نقطة شمال قرطبة عند قلعة رباح، وكان ممن فرّ معهم أحد الأمويين الناقمين على حكم قريبه المهدي، هذا الأمير الفارّ هو هشام بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، الذي قُتل عمه هشام بن سليمان على يد المهدي الأموي.


صراع العرش بين المستعين والمهدي!
أوكل الجند البربر إلى هشام مهمة القيادة، وقد تحالف هذا الفريق مع ملك قشتالة، سانشوغرسية الذي أمدهم بالسلاح والرجال. وبالفعل، التقى الجانبان عند منطقة في شمال الأندلس اسمها قلعة النهر، فهزَموا قوات المهدي، وتقدموا جنوبًا صوب قرطبة التي لم يقوَ جيشها على مواجهة هذا التحالف الثلاثي من البربر والقوات القشتالية بقيادة الأمير الأموي سليمان بن الحكم. في المقابل، حاول المهدي بالله أن يُظهر الخليفة هشام المؤيّد الذي ادعى سابقًا وفاته، لكن هذه الحيلة لم تنطل على الجموع المهاجمة؛ لذا لم يجد المهدي بُدا سوى الهرب صوب طُليطلة للنجاة بنفسه، وبالفعل تمكن البربر بقيادة زاوي بن زيري وهشام بن الحكم الأموي من الدخول إلى قصر الخلافة، ثم أُعلن عن تولي هشام بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر خليفة جديدًا للدولة الأموية، ملقَّبًا بالمستعين بالله، وقد فرح أهل قرطبة به، وبايعوه أملاً في الخلاص من الفتن المتلاطمة التي مرت بهم، وذلك في 15 ربيع الأول سنة 400هـ/5 (نوفمبر/تشرين الأول) 1009م[1].


في الشمال، تمكن المهدي من توحيد صفوف المؤيدين له، فضلا عن تحالفه مع بعض أمراء النصارى، وسرعان ما التقى بقوات البربر والمستعين بالله، واستمر التلاحم والكر والفر بين الفريقين حتى هُزم المهدي، ولم يجد بُدًّا سوى الارتداد شمالا متحصنًا بقرطبة، هذه المدينة التي كان قد أعاد أخذ البيعة لنفسه فيها من جديد.



300

استنفر زاوي البربر، والتقوا بأهل قرطبة، وجرت معركة دامية فاصلة بين الطرفين، أُعلن فيها عن استسلام عاصمة الخلافة للبربر وسليمان المستعين الأموي بعد عامين من الحصار والمقاومة في 5 شوال 403هـ


multi-mapicon.png
مواقع التواصل

في هذه الأثناء، كانت بقيّة الموالين للدولة العامرية ناقمة على هذه الأحداث والخلافات الأموية التي صار للبربر فيها دور وقوة ملحوظة، وكان هشام المؤيّد بالله لا يزال حيًّا، والعامريون في القصور يعلمون ذلك، فتقاطر العامريون صوب قرطبة، وتمكنوا من إخراج هشام المؤيد بالله من محبسه، واستطاعوا قتل محمد المهدي بالله الأموي الباطش، وخرج هشام الذي كان يبلغ من العمر حينها سبعة وأربعين عاما ليطوف قرطبة لأول مرة حُرًّا منذ أيام المنصور بن أبي عامر، لكن البربر في الجنوب الأندلسي كانوا يضطرمون حِقدًا على أهل قرطبة جرّاء ما وقع لهم من النكاية، فأعلنوا رفض هذه الإجراءات وعودة المؤيد، وأصروا على أن المستعين بالله الأموي سليمان بن هشام هو الخليفة الشرعي في نظرهم، وانطلقوا إلى الزهراء في غربي قرطبة التي عاثوا فيها إحراقا وإفسادًا، وذلك في ربيع الأول سنة 401هـ/(نوفمبر/تشرين الأول) 1010م، ومنذ ذلك الحين ضيّق البربرُ الخناق على أهل قرطبة، حتى قلّت الموارد، وزادت أعمال الشغب والسرقة، لكن الجميع كان متفقا على مناوئة العساكر البربرية على هذه البلايا التي تسببوا فيها منذ أواخر الدولة العامرية[2].



خليفة أموي على أكتاف البربر!
استمرَّ الحصار وزادت المناوشات بين الفريقين، حتى قُتل في إحداها ابن أخي زاوي بن زيري زعيم البربر على يد جماعة من أهل قرطبة، فاستنفر زاوي البربر، والتقوا بأهل قرطبة، وجرت معركة دامية فاصلة بين الطرفين، أُعلن فيها عن استسلام عاصمة الخلافة للبربر وسليمان المستعين الأموي بعد عامين من الحصار والمقاومة وذلك في 5 شوال 403هـ/19 (أبريل/نيسان) 1013م، لكن البربر حين دخلوا المدينة كما يقول المؤرخ محمد عبد الله عنان كان دخولهم "دخولَ الوحوش المفترسة، فقتلوا كثيراً من سكانها، وأوقعوا بها السلب والنهب، وأحرقوا الدور، واغتصبوا النساء والبنات، وارتكبوا أشنع ضروب السفك والإثم، وكانت محنة من أروع ما قاسته عاصمة الخلافة".


وفي اليوم التالي، دخل سليمانُ المستعين قصر قرطبة، واستدعى هشاماً المؤيد وعنّفه على موقفه، فاعتذر بأنه لم يكن له من الأمر شيء في ظل سيطرة العامريين. "وهنا تختلف الرواية في مصير هشام، فالبعض يقول إن سليمان أخفاه حيناً، ثم قتله ولده محمد بن سليمان، والبعض الآخر يقول بأنه فرَّ من محبسه، وقصد ألمرية حيث عاش حيناً في خمول وبؤس حتى تُوفي. بيد أننا نُرجّح الرواية الأولى، وإن كان اسم هشام سوف يظهر بعد ذلك على مسرح الحوادث"[3].

fb920c1d-8e16-4460-98eb-5d66a5d1ee21




ارتقى سليمان المستعين بالله العرش الأموي من جديد، وانتقل زاوي بن زيري زعيم العسكر البربري إلى واليا عليها، لكن الفتيان العامريين الذين تعود أصولهم إلى العنصر الصقلبي الأوروبي كانوا حانقين على هؤلاء "المجرمين" الجدد، لقد ظنوا أن هشام المؤيّد الذي دان له المنصور العامري وبنوه بالولاء والحجابة لا يزال حيا، يخفيه سليمان المستعين بالله في أضابير القصور، وفي هذه الأثناء كان أحد القادة العسكريين الذي تعود أصوله إلى العلويين الأدارسة الذين حكموا الأقصى يتحرّق إلى منصب الزعامة وإقصاء هذا الخليفة الجديد، خصوصا أن الأمويين وعلى رأسهم الحكَم المستنصر قد قضوا على دولة الأدارسة في المغرب الأقصى، هذا الرجل هو علي بن حمود بن ميمون بن حمود، كان قد تحالف مع البربر هو وأخوه القاسم بن حمود وتمكنوا بالفعل من دخول قرطبة وهزيمة هشام المؤيد والقرطبيين سنة 403هـ[4].



القضاء على المستعين وظهور ابن حمود
وجد علي بن حمود في الفتيان العامريين، الذين كانوا يحكمون بعض ولايات شرق الأندلس مثل ألمرية وبلنسية وغيرها، خير معين فيما يزمع عليه، وسرعان ما وافقه زعيم البربر زاوي بن زيري وبقية البربر الناقمين على الحكم الأموي بالكلية، وعلى سليمان المستعين بالله الذي شاءت الأقدار أن يكون في طريقهم ليتخذوه تُكّاءة للقضاء على هشام المؤيد، خاصة وأنه لم يكن في أعين البربر جديرًا بمكانته، وهم الذين طالما قيّموا الرجال بمكانتهم الحربية والفروسية.
والحق أن سليمان المستعين، بالرغم من اشتهاره بالأدب والرفاهة، فإنه كان مذموم الجانب أيضًا عند عامة أهل الأندلس، في قرطبة وخارجها؛ فقد رآه الناس مرهونا بالبربر الذين أفسدوا وطغوا في هذه الفتن، كما رأوه "زنديقًا" لم يبلغ العرش إلا على أكتاف النصارى الإسبان الذين تحالف معهم على دماء المسلمين وأشلائهم، ثم إنه كان شديد الغفلة حين أنفذ إلى المدن الأندلسية عقب ارتقائه للعرش كُتبًا يهددها فيه بالإذعان والولاء وإلا سيُنزل بها ما أنزل بقرطبة[5]، فانصبت اللعنات عليه من كل ناحية، وقال في ذلك أحد الشعراء:

لا رحم الله سليمانكم ... فإنّه ضدّ سليمان

ذاك به غُلّت شياطينها ... وحلَّ هذا كلّ شيطان!



300

خرج المستعين بالله وجيشه من الأمويين والبربر الموالين له، والتقوا بالصقالبة العامريين ومن عاونهم خارج قرطبة، ونشبت بين الفريقين معركة حامية انتهت بهزيمة سليمان وأسره مع أفراد أسرته، وقُتل عدد جم من أنصاره




قضى سليمان المستعين في الخلافة هذه المرة الثانية نحو ثلاثة أعوام، استمر خلالها الاضطراب والفوضى في قرطبة وسائر أنحاء الأندلس. ولم تهدأ الخواطر ولم تطمئن النفوس. وغلب سلطان البربر، واشتد طغيانهم وتحكمهم، ولبثت الأهواء المتوثبة تجيش في صدور الطامعين من زعمائهم، حتى تمخض تغير بعيد عن انقلاب جديد في مصير الخلافة، ذاك هو انقلاب علي بن حمود الذي أيده البربر والصقالبة المعروفون بالفتيان العامريين الموالين لهشام المؤيد الذين كانوا يظنون أنه لا يزال حيا يخفيه المستعين في غَيَابات قرطبة، وقد ادعى علي بن حمود أن هشام الثاني المؤيد أرسل إليه من مخبئه معلنا إياه وليًا لعهده، وكان السبب الذي جعل ابن حمود ينشر هذه الإشاعة؛ استدراره لتعاطف الصقالبة العامريين له، وتأييدهم لموقفه من الإطاحة بالمستعين، وقد كان[6].



كتب ابن حمود إلى زعيم الصقالبة العامريين وأقوى أمراء شرق الأندلس الفتى خيران العامري، وقد عبر إليه من سبتة في المغرب إلى الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس أواخر سنة 406هـ/1016م، وسار في أنصاره من البربر إلى مالقة التي استولى عليها، والتقى به خيران في موضع بين مالقة وألمرية، ثم سار الفريقان صوب قرطبة، وبويع علي بن حمود على طاعة هشام المؤيّد، وانضم إليهم في الطريق زاوي بن زيري الصنهاجي أمير غرناطة وأنصاره من البربر.



خرج المستعين بالله وجيشه من الأمويين والبربر الموالين له، والتقوا بهذه الجموع خارج قرطبة، ونشبت بين الفريقين معركة حامية انتهت بهزيمة سليمان وأسره مع أفراد أسرته، وقتل عدد جم من أنصاره، ودخل علي بن حمود قصر قرطبة في 28 محرم 407هـ/ (يوليو/تموز) 1016م، وبحث عن هشام المؤيد فلم يجده، وكان الاعتقاد السائد أن سليمان أخفاه، فلما لم يجده أنزل عقوبة الإعدام في سليمان وأبيه وأخيه وقتلهم بنفسه انتقاماً للمؤيد. ثم أعلن وفاة المؤيد، ودعا إلى البيعة لنفسه، فبويع بالخلافة وتلقب بالناصر لدين الله، وكانت مدة خلافة سليمان الثانية منذ دخل قرطبة إلى أن قُتل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر[7].



سقوط الأمويين والدرس القاسي
300

اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة مع عبد الرحمن الداخل حتى نهاية عصر الخلافة بخلع هشام الثالث المعتد بالله سنة 422هـ، مائتين وأربعة وثمانين عامًا




استولى بنو حمود على السلطة، لكن تفككت الأندلس بمقدمِهم، وقد حاول الفتيان العامريون في شرق الأندلس في إطار صراعهم مع بني حمود في قرطبة، تأييدَ بعض الأمويين الذين تمكنوا من العودة إلى سدّة العرش الأموي من جديد مثل عبد الرحمن المستظهر الأموي، ثم المستكفي الأموي، وأخيرا هشام الثالث المعتد بالله الذي ظل في الخلاقة لعامين ما بين سنتي 420هـ إلى 422هـ، وكان الناس في قرطبة قد وصلوا إلى قناعة مفادها أن عقِب بني أمية لم يعودا يصلحون للخلافة نظرًا للفتن وسوء التقدير الذي لازم حكمهم، واتفق رأي الجميع كبارًا وصغارا على إجلاء كل من ينتمي للبيت الأموي عن قرطبة، وكان المشير والمدبر لهذا الأمر زعيم قرطبة ووزيرها أبو الحزم جَهْور بن محمد الذي أصبح فيما بعد زعيم بني جهْور إحدى دويلات الطوائف التي اتخذت من قرطبة مقرا لها[8]. وهكذا انفرط العقد، واستأثر كل زعيم بناحيته، وبدأ عهد التشرذم والضعف والسقوط أمام العدو الصليبي في الشمال، ولم تمض على هذه الحوادث نصف قرن حتى سقطت طُليطلة على يد ملك قشتالة ألفونسو السادس سنة 478هـ/1084م.


وهكذا اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة مع عبد الرحمن الداخل حتى نهاية عصر الخلافة بخلع هشام الثالث المعتد بالله سنة 422هـ، مائتين وأربعة وثمانين عامًا، فانهارت دعائم الخلافة الأموية نهائياً، بعد أن لبثت منذ عهد هشام الثاني المؤيد بن الحكم المستنصر أربعين عاماً، ستاراً للمتغلّبين من بني عامر، وبني حمّود ثم شبحاً هزيلا يضطرب في غمرات الفتنة والفوضى[9].



إننا لنرى مما سبق من أحداث، كيف جنى تشرذم وتصارع البيت الأموي على نفسه، وكيف استغل الجميع من العرب والبربر والفتيان الصقالبة العامريين هذه الأحداث ليستأثروا بالمناصب والمدن والأموال على حساب وحدة الأندلس، ودماء الناس، وهيبة الدين في النفوس، كان القتل أهون الأمور أمام أمير طامع، أو أموي دنيء النفس يطمح إلى العرش بأي سبيل كانت، فضلا عما جرّه هذا الصراع من انسلاخ الوحدة الاجتماعية، وبروز الحقد العرقي الذي كان سببا في التشرذم والتشظي، وهكذا رأينا اقتتالا وجرأة في سبيل الوصول لمنصب الخلافة أو الحجابة، فوصل إليها الضعفاء، وغاصت الأندلس في مستنقع الفتنة والفوضى لمدة ربع قرن، حتى انفرط عقدها إلى دويلات متصارعة، يتقي بعضها شر بعض بالتحالف مع أعدائهم من القشتاليين في الشمال، وهو بلا شك من الأسباب التي أدت إلى ضياع الأندلس بالكلية عقب ذلك بخمسة قرون، وإن أخّر هذا السقوط مجيء المرابطين والموحدين!
 
intellect;ord=6886147116326.082;dc_seg=453467495


















424

"فتنة شنجول".. الأندلس في آخر أيام الخلافة
250


محرر تاريخ




كان الخليفة الحكَم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر (350 - 366هـ/961- 977م) آخر عظيم أموي في الأندلس على الحقيقة، وإن جاء بعده أمويون ضعفاء. لقد أنجب الحكمُ ولدين، هما عبد الرحمن الذي مات طفلاً، وهشام الذي اضطر الحكَم إلى إعلانه وليا للعرش قُبيل وفاته سنة 365هـ، حين نزل به مرض الموت منذ عام 364هـ، وما لبث المستنصر أن وفاته المنية سنة (366هـ/976هـ) عن عُمر ناهز الرابعة والستين عامًا.




الحاجب المنصور بن أبي عامر
كان هشام المؤيد بن المستنصر في الثانية عشرة من عمره حين ارتقى إلى سدة العرش، وكانت بجواره أمه صبح البشكنجية وصية على ولدها الخليفة القاصر، على أن القوة الحقيقية كانت بيد رجلين، الأول جعفر بن عثمان المصحفي الحاجب، وقائد الشرطة محمد بن أبي عامر الذي كان على صلة وثيقة بصبح حين كان وكيلا لأعمال وأملاك ولدها هشام الثاني المؤيّد. وإثر تنافس محموم بين الرجلين، تمكن محمد بن أبي عامر من استصدار مرسوم من الخليفة القاصر بمساعدة من أمه، يأمر فيه بعزل المصحفي وسجنه سنة 371هـ، وهو ما تم له، ثم أمر ابن أبي عامر بعدما استتب له الأمر، بإقصاء صبح حليفته السابقة، والحجر على ولدها هشام المؤيّد، ولُقب بالمنصور، ودُعي له على المنابر[1]، وبهذا أطلت الدولة العامرية برأسها في الأندلس، منذ تلك اللحظة ولمدة ربع قرن قادم بوصاية على الأمويين تشبه ما قام به البويهيون والسلاجقة في المشرق على بني العباس.



سنة 392هـ، وهي بمثابة رئاسة الحكومة والدولة على الحقيقة مع وجود الخليفة الضعيف المحجور عليه هشام المؤيّد بن الحكم، الذي أقرّه على ما كان عليه والده المنصور، ولقد شابه المظفر عبد الملك أباه في اليقظة والذكاء والحنكة والمهارات السياسية والعسكرية، غير أنه كان أقل منه في المعرفة والعلم، وسار على درب والده في جهاد الإفرنج النصارى في شمال الأندلس، فغزاهم ست غزوات في عصره القصير كُتب له فيها الظفر والنصر، لكن باغته الموت وهو ما يزال شابًا في الرابعة والثلاثين من عمره في 16 صفر سنة (399هـ/ أكتوبر (تشرين الأول) 1008م)، وقد قيل إن أخاه عبد الرحمن هو الذي دسّ له السم حسدًا وغيرة[2].



شنجول يُوقد الفتنة!
كان عبد الرحمن الذي لقّب نفسه الناصرَ قد أطلق عليه أهل قُرطبة "شنجول"؛ ذلك أنه لم يكن أخا شقيقا للمظفر عبد الملك الذي كانت أمهم سلمة حرة، لكن عبد الرحمن كان حفيداً لسانشوغرسية ملك نافار، وكانت أمه الأميرة النافارية حينما تزوجت المنصور قد اعتنقت الإسلام، وتسمّت باسم "عبدة"، وكان ولدها عبد الرحمن "أشبه الناس بجده" النافاري الإسباني. وكان لهذه الأرومة الفرنجية الواضحة، أثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، انحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجرًا كثير الاستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو[3].



"قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض أنصاره الإسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه أنه متى ما ظهر في قرطبة فإن الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه"

لم يكن عبد الرحمن يجاهر بالعصيان، ويستهزئ بالشعارات المتبعة، ويحقر من أصحاب المكانة من الأشراف والأكابر، ويجاهر بالطغيان فقط، بل فوق ذلك أرهب الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- واضطره إلى إعلانه وليا للعهد في سابقة لم تحدث، يريد بذلك نزع الخلافة وانتقالها من بني أمية إلى بني عامر، وقد كان أبوه المنصور أشد منه قوة، وأكثر حنكة وذكاء، قد استمر في حكم الأندلس مع وجود هشام أكثر من ثلاثين عاما، ولم يجرؤ على هذه الخطوة لعواقبها الوخيمة في نفوس الشعب الأندلسي، لكن عبد الرحمن شنجول استصدر الأمر، وأعلنه على عامة الناس في (15 ربيع الأول 399هـ/نوفمبر 1008م)، بُعيد أيام قليلة على ارتقائه للحجابة ووفاة أخيه المظفر[4]!



رأت الأسرة الأموية في قرطبة أن عبد الرحمن بن المنصور العامري قد بلغ من الطيش مداه، فسعت سرًا إلى تأليب الناس، وصنع التحالفات ضده، وانتهزت فرصة خروجه لغزو الممالك المسيحية في الشمال، وكانت غزوة فاشلة بكل المقاييس لخروجها في الشتاء، وعدم الإعداد الجيد لها، وكونها مجرد دعاية لشنجول، حتى أعلن أحدهم وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر تزعّمه لحركة العصيان والانقلاب على الحاجب عبد الرحمن "شنجول"، وبالفعل نجح الأمير الأموي بمساعدة عامة الناس في حركته، فاحتل قصر الإمارة في قرطبة، وأذعن الحرس له، وتمكن من خلع قريبه الخليفة الضعيف -هشام المؤيد- في (17 جمادى الآخرة سنة 399هـ/ 16 فبراير 1009م)، ولُقّب بالمهدي بالله، وعين ابن عم له وليا لعهده هو سليمان بن هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وقد عاث الناس في مدينة الزاهرة التي بناها المنصور العامري حتى استحالت خرابًا[5].



وصل الخبر إلى الحاجب عبد الرحمن العامري، فبادر إلى خلع نفسه من ولاية العهد والاكتفاء بالحجابة، وأرسل إلى أهل قرطبة بذلك بُغية التعاطف معه، لكن أحدًا لم يأبه له، وحاول أن يأخذ العهد على كبار رجال جيشه بنُصرته في المواجهة المرتقبة أمام الأمويين، لكنهم لم يفعلوا، وتخلوا عنه، حتى إن والي طُليطلة أحد أشد الموالين لأبيه المنصور لم يقف بجوار شنجول في هذه المحنة، وبدلاً من الفرار والتخفي، قرر عبد الرحمن التوجه صوب قرطبة مع نفر من بعض أنصاره الإسبان من مقاطعة كريون في جلّيقية، ظنًا منه أنه متى ما ظهر في قرطبة فإن الناس سينصرونه، لكن هذا القرار كان حتفه، فما كاد يقترب من قرطبة حتى تمكن الجند الموالي للمهدي بالله الخليفة الجديد من القبض عليه وقتله[6].



خلافة المهدي الطائش
أحسّ المهدي بالقوة المفرطة بعد القضاء على خصومه، وكان كما يقول أديب الأندلس ومؤرخها، لسان الدين بن الخطيب "جرار جسور، ثائر مخاطر، خليع، مداخل للصقورة والفتاك، لا يدري في أي واد يهلك"[7]، لم يكن المهدي الأموي مثل سابقيه من الأمويين، مثل المستنصر وجده الأكبر الناصر، هؤلاء العظماء الذين حكموا الأندلس بالسياسة الثاقبة، وبالقوة واللين والذكاء، والنظر إلى تقديرات المواقف والعواقب.



[8].



رأى بعض كبار الأسرة الأموية أن ما يفعله المهدي يضعهم جميعًا على المحك، ويُدخلهم في عداوة مباشرة مع طوائف وقبائل قرطبة وبقية الناس في الأندلس كافة، فقرر هشام بن سليمان والد ولي العهد أن يتحالف مع بقايا القادة العسكريين العامريين الصقالبة والبربر، فأرسلوا إلى المهدي بالله طالبين منه خلع نفسه عن العرش، والإفراج عن ولي العهد سليمان بن هشام، لكن محمد المهدي بالله لم يلتفت لهم، وحين وصل الطرفان إلى لحظة الصدام، كانت المواجهة التي لابد منها.



خرج محمد المهدي بالله في جموعه لمواجهة خصومه، ودار القتال بينهم على مدار يومين متواليين في قرطبة، وقد أسفرت المعركة عن هزيمة هشام وجموعه من البربر والعامريين، فأُسر هشام وابنه وأخوه أبو بكر ونفر من الزعماء الآخرين، فأصدر المهدي قراره بقتلهم جميعاً. وانهالت الدهماء على دور البربر، فأعملت فيها التدمير والنهب حتى دخل الليل، وكان ذلك في أواخر (شوال 399هـ/يونيو 1009م). ودافع البربر عن أنفسهم، ثم انسحب معظمهم إلى أرملاط (Guadimellato) ضاحية قرطبة، ووقع القتال بقرطبة بين من تبقى منهم وبين العامة، وحرّض المهدي على قتلهم، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتكَ العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم؛ واختفى كثير من زعمائهم. وتوجس المهدي من العواقب، فأصدر للبربر أمانًا، ونادى بالكف عنهم[9].



في تقريرنا القادم، سنقف مع تطور أحداث الفتنة الأندلسية التي أَسقطت الخلافة الأموية، وصراع البيت الأموي على نفسه، بل صراع الأندلس بطوائفها وشعبها على نفسه، لقد كانت حربًا أهلية فيما يبدو، وإن انحصرت نارها في قرطبة، لكن شررها طال كافة بلاد وقرى الأندلس، وقد كان لهذا الصراع أثره السلبي على وحدة الأندلس، وحضارتها فيما بعد.
 
intellect;ord=6419540361633.838;dc_seg=453467495


















424

معركة الخندق.. الخليفة الناصر الأموي بين النصر والهزيمة!
250


محرر تاريخ







"ثم كانت غزوة الخندق ولم يغزُ الناصر بعدها بنفسه. وكان يُردّد الصوائف، وهابته أمم النصرانية، ووفدت عليه سنة ست وثلاثين [وثلاثمئة] رُسل صاحب القسطنطينيّة وهديّته وهو يومئذ قسطنطين (السابع) بن ليون، واحتفل الناصر للقائهم في يوم مشهود".

(ابن خلدون في إشارته لمعركة الخندق وقوة الناصر الأموي)



يُعدّ الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر أول من تلقّب بالخلافة في الأندلس، وأحد أعظم بني أمية فيها، وأطول ملوك الإسلام عمرًا إذ حكم الأندلس خمسين سنة وستة أشهر كاملة؛ لذا جاء عصره مليئًا بالتفاصيل والحوادث التاريخية على المستويين الداخلي الإصلاحي في الأندلس فضلًا عن الخارجي في مواجهة القوى الصليبية من ليون ونافار في الشمال.


الناصر وحلف الشمال!
b9b411e9-7f55-4110-86c0-9deae983d378



هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي ابن هشام بن عبد الرحمن الداخل. ولد بقرطبة سنة 277هـ وتوفي بها سنة 350هـ. نشأ يتيمًا؛ إذ قُتل أبوه وعمره 21 يومًا فربّاه جدّه، وبويع بعد وفاة جده سنة 300هـ، فكان أول مبايعيه بإمارة الأندلس أعمامه؛ لحبّ جده له[1].

في عصره ظهر له ضعف الخليفة المقتدر العباسي في العراق، فجمع الناس وخطب فيهم، ذاكرًا حق بني أمية بالخلافة، وأنهم أسبق إليها من بني العباس. فبايعوه بها سنة 316هـ وتلقّب الناصر لدين الله فجرى ذلك فيمن بعده. وكان أسلافه يسمون بني الخلائف، ويخطب لهم بالإمارة فقط؛ لذا أثنى المؤرخون عليه، ووصفوه بالقوة واليقظة والحنكة، قال ابن الأبار في وصفه: "أعظم بني أمية بالمغرب سلطانًا، وأفخمهم في القديم والحديث شانًا، وأطولهم في الخلافة بل أطول ملوك الإسلام قبله مدة وزمانًا"[2].


تولى الناصر حكم الأندلس وآثار الفتن والثورات على أجداده بادية في أصقاع الأندلس المختلفة؛ لذا لم يكد يستقر في حكم البلاد حتى بدأ بُعيد ذلك في إخراج الجيوش والحملات للقضاء على المناوئين والخارجين على الدولة في مناطق الأندلس المختلفة مثل قلعة رباح وببشتر وبلنسية وبنبلونة ومناطق الغرب وغيرها.


في مقابل ذلك، وفي تلك الفترة التي اضطرمت فيها الأندلس بالفتن، وشُغلت قرطبة بأمر الثورة في النواحي، كانت إسبانيا النصرانية في الشمال تسير قدمًا صوب القوة والتوطد، وتعمل جاهدة لانتهاز كل فرصة للكيد من الأندلس، وتعضيد الخارجين على قرطبة والناصر، إسبانيا هذه التي كانت تتكون حينذاك من مملكتين هما ليون (جلِّيقية)، ومملكة نافار (بلاد البشكنش)، وكانت ليون -وهي الواقعة في الشمال الغربي بين المحيط ونهر دويرة- أكبر المملكتين وأوفرهما قوة ومنعة، ومن ثم كانت تتولى قيادة إسبانيا في ميدان الكفاح والاسترداد؛ ذلك أن قواعد الأندلس الإسلامية الشمالية التي تُتاخم تلك المملكة مثل أسترقة وسمّورة وشلمنقة وشقّوبية وميراندة قد خلت منذ أواخر القرن الثامن الميلادي من معظم سكانها المسلمين، واستوحش العرب لقلّتهم في تلك الأنحاء، وكثر اعتداء الصليبيين عليهم[3].

300

كان ملك ليون راميرو الثاني قد بدأ في سياسة الصدام والتوسّع، الأمر الذي قابله الناصر بالمجابهة والمقاومة، وقد التقت مصالح راميرو ومصالح التجيبيين معًا في مناوئة الناصر


multi-mapicon.png
مواقع التواصل الإجتماعي

كان من جملة الناقمين على حكم الناصر حاكم سرقسطة القريبة من المعاقل الإسبانية شمالًا؛ محمد بن هاشم التجيبي، وكان يحكم قلعة أيوب قريبه مطرّف بن مندف التجيبي، وكلهم من بني هاشم، كان ملك ليون آنذاك راميرو الثاني قد بدأ في سياسة الصدام والتوسّع، الأمر الذي قابله الناصر بالمجابهة والمقاومة، وقد التقت مصالح راميرو ومصالح التجيبيين معًا في مناوئة الناصر، فتم عقد اتفاق سرّي بين الطرفين على أساس اعتراف حاكم سرقسطة محمد بن هاشم التجيبي بالولاء لحاكم ليون مقابل دعم هذا لاستقلال سرقُسطة، وظهرت آثار هذا التحالف سنة 323هـ/934م حينما كان عبد الرحمن الناصر يزحف بقواته لتدمير مملكة ليون، حيث أعلن التجيبيون تمردهم ضد قرطبة ودعمهم لملك ليون راميروا، ونجح جيش ليون في دعم التجيبيين الذين راحوا يتوسّعون بضم بعض المواقع والحصون إلى سرقسطة، وتطور هذا الحلف عندما انضمت إليه طوطة ملكة نافار البشكنش وهكذا توحد الشمال كله ضد قرطبة وكان تحالفًا قويًا يشكّل خطورة كبرى ضد الخليفة عبد الرحمن الثالث[4]!


لم يقف عبد الرحمن الناصر موقف المتفرج من هذا الحلف الخطير الذي تشكّل في شمال البلاد، فأسرع بجيشه في سنة 326هـ/937م، وبدأ الناصر فور وصوله بمحاصرة قلعة أيوب التي لم تصمد طويلًا، وأنزل عقوبة الإعدام بقائد القلعة مطرف بن مندف التجيبي، كما قتل معه قادة الدعم الليوني الذي أرسلها راميرو الثاني، ثم تابع جيش قرطبة بقيادة الخليفة الناصر تقدُّمه حتى وصل إلى إقليم ألبا "ألفا" فتمكن من ضم مجموعة من القلاع والتحصينات، وأخير وصل الجيش إلى سرقُسطة، وترك الناصر مهمة الحصار وحُكم المدينة لأحد أقربائه القائد أحمد بن إسحاق، بيد أن ابن إسحاق كان متطلعًا للتعاون مع الفاطميين في المغرب من قبل، وكانت ثمة مراسلات بينهم، ثم استغل فرصة قربه من أعداء الأمويين في الشمال فاتصل براميرو وأبدى تراخيًا في حصار سرقُسطة، الأمر الذي وقف على صحّته الناصر، فأنزل من فوره عقوبة الإعدام بالخائن ابن إسحاق.


عقب ذلك تمكن الناصر من إسقاط سرقُسطة بالحصار الخانق، ولم يجد محمد بن هاشم التجيبي رأس الخيانة -وزعيم التجيبيين في الشمال- بدًّا من طلب العفو والصلح، الأمر الذي قبله الناصر ربما لشوكة بني هاشم التجيبيين في تلك المناطق، فضلًا عن شروطه التي وافق عليها ابن هاشم وهي الطاعة التامة، والانقياد الكامل، وتسليم عدد كبير من إخوته وأبنائه رهائن لدى الناصر في قرطبة، "وأن يغزو مع أمير المؤمنين، ويُعادي من عاداه ويحارب كل من حاربه، ويسالم من سالمه من أهل الملوك وغيرهم، ويقطع نصيبه من كل من أخرج يده عن طاعته، وإن كان ابنه أو أخاه، يلتزم كل ما ألزمه أمير المؤمنين من ظاهر القول وباطن الإرادة"[5].


كارثة "الخندق"!
300

ذعنت الملكة "طوطة" ملكة نافار إلى الناصر،إلا مملكة ليون، فقد كان هدفه التالي مواجهة حاسمة وسريعة لتلك المملكة صاحبة القلاقل والأخطار، وملكها"راميرو الثاني"


multi-mapicon.png
مواقع التواصل الإجتماعي

كان من نتائج المعركة إذعان الملكة "طوطة" ملكة نافار إلى الناصر، ومن ثم أذعنت له كافة الجزيرة الإيبيرية إلا مملكة ليون، فقد كان هدفه التالي مواجهة حاسمة وسريعة لتلك المملكة صاحبة القلاقل والأخطار، وملكها صاحب المتاعب المتتالية "راميرو الثاني".

على أن الجبهة الداخلية في قرطبة لم تكن على وفاق وتواؤم تام؛ ذلك أن الناصر قرّب الصقالبة، وهم جنس أُتي بهم أسرى من القارة الأوروبية خاصة ألمانيا وفرنسا فبيعوا في الأندلس، وكانت السلطة الأندلسية تستخدمهم في خدمات القصور أو الجيش، خاصة أنهم كانوا يُؤتى بهم صغارًا فكان من اليسير عليهم اعتناق الإسلام، والإلمام بالعربية، وقد امتازوا بالطاعة التامة للأمويين، وأكثر عبد الرحمن الناصر من شرائه لهذه الطائفة، وتقريبه لها، حتى بلغوا أكثر من عشرة آلاف صقلبي في عصره، عهد إليهم الخليفة الأندلسي شؤون الحرب، وقلّدهم المناصب الدينية المهمة، الأمر الذي أوغر صدور الأشراف من العرب، وقد تزامن ذلك مع إعلان الناصر عن حملته للقضاء على راميرو الثاني، وسحق مملكة ليون، وقد أعدّ لذلك جيشًا بلغ عدده مئة ألف رجل[6]!


لذا؛ سُميت المعركة بـ"غزاة القُدرة"؛ قدرة المسلمين على هزيمة عدوّهم، في حين وصفتها المصادر الفرنجية بموقعة "الخندق"، خرج الناصر إلى الغزو في يوم الجمعة 22 شعبان سنة 327هـ/ يونيو/حزيران 939م، ووصل في قواته إلى طليطلة يوم 23 رمضان، ثم خرج منها إلى أرض العدو ليون في الخامس من شوال، فعاث فيها أيامًا، وألفى العدو قد أخلى معظم بلاد هذه المنطقة، فاستولى المسلمون عليها، ثم تقدموا إلى حصن أشكر، وخربوه وانتسفوا ما حوله. ثم ساروا إلى حصن أطلة، فحصن برتيل، وذلك يوم 13 شوال. وكان محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقُسطة قد تقدّم في قواته، فعبر نهر شنت مانكش (سيمانقا)، فارتد العدو بقواته وراء النهر ونشبت بين الفريقين معركة هُزم فيها النصارى أولًا، ولكنهم عادوا فاجتمعوا وتكاثروا على المسلمين، وسقط محمد بن هاشم عن فرسه خلال القتال فأُسر، وهُزم المسلمون على باب شنت مانكش هزيمة شديدة، وقُتل منهم كثيرون وارتدوا في تراجعهم إلى خندق عميق، وهو الذي تُنسب إليه الموقعة، فتردى فيه منهم خلق كثير، فتقدم الناصر مضطرًا بقواته، وترك محلته، فملكها العدو في الحال، وعاد إلى قرطبة موليًّا على عقبه[7]!

300

لقد كانت موقعة "الخندق" أو "غزاة القُدرة" كارثة كبرى على الجيش الأندلسي إذ تعددت الروايات التي تصف أعداد القتلى التي وصلت إلى أربعين أو خمسين ألف قتيل


multi-mapicon.png
مواقع التواصل الإجتماعي

لقد كانت موقعة "الخندق" أو "غزاة القُدرة" كارثة كبرى على الجيش الأندلسي إذ تعددت الروايات التي تصف أعداد القتلى التي وصلت إلى أربعين أو خمسين ألف قتيل، وبعضها الآخر لم يحدد الأعداد بدقة، ولا شك أن هذه الهزيمة المنكرة كان لها أسبابها في ضعف عمليات الاستطلاع، والتعجل في الهجوم، وعدم الخبرة بمكان المعركة، فضلًا عن عوامل الضعف الداخلية التي تمثّلت في سرعة انسحاب قادة الجيش ممن كانوا ينقمون على الناصر تقريبه للصقالبة، والأخطر من ذلك المعلومات الثمينة التي كان قد تحصّل عليها راميرو الثاني من الثائر الخائن أمية بن إسحاق أخي القائد المقتول أحمد بن إسحاق الذي أعدمه الناصر لتقاعسه أثناء حصار سرقُسطة.


على أية حال، لم يقف عبد الرحمن الناصر في صراعه مع مملكة ليون عند هذه المعركة، فقد ثأر لنفسه وجيشه؛ "وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز عساكر مع عدّة من قوّاده إلى الجلالقة، فكانت لهم بهم عدّة حروب هلك فيها من الجلالقة ضِعْف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى، وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية"[8].
 
بنــو حمود مغــاربة من قبائل مغراوة شمال غرب المغرب ، و قد كانوا قيادا عسكريين في جيش المنصور بن ابي عامـر استجلبهم بعد حملته على الادارسة عام 974 م ، و تولوا حكم شمال المغرب و الجزيرة الخضراء قبل ان ينقلبوا على سليمان بن الحكم عام 1016 م و يعلن الناصر علي بن حمود نفسه خليفة على الاندلس و بعد سنوات سيصير الحكم لاخيه القاسم بن حمود ..
ستتنازع السلالتان الحمودية و الاموية الخلافة في الاندلس الى غاية انشطار الدولة و بزوغ عهد الطوائف .. و ستبقى السلالة الحمودية تحكم في مالقا و الجزيرة الخضراء الى غاية اواسط القرن الحادي عشر ..
بعــدها سياتي مغاربـة آخرون لـيوحدوا العدوتين من جديـد .. الصنهاجيون المرابطون ..
 


لا اريد ان اسمع او ارى شيأً عن سقوط قرطبة او الاندلس
الامر يشعرنى بحزن عميق و حسرة ومرارة
 

رجل ظلمه التاريخ.. «آخر ملوك الأندلس» لم يكن خائنًا كما يتصور الكثيرون
photo6-64x64.jpg


El_rey_Don_Rodrigo_arengando_a_sus_tropas_en_la_batalla_de_Guadalete_Museo_del_Prado-768x583.jpg

في الثاني من يناير (كانون الثاني) 1492م، كان العالم على موعد مع سقوط آخر قلاع المسلمين في الأندلس بعد حكم امتد مئات السنين. تندرج أحداث سقوط الأندلس ضمن سلسلة من الحلقات المتداخلة والمعقدة، ويمكن القول إن تاريخ سقوط الأندلس أكثر تعقيدًا بكثير من مرويات البكائيات والأساطير والحكايا، وأكثر تعقيدًا من تفسيرات الخطاب الوعظي التاريخي السطحية التي تعزو كل هزيمة إلى الفساد الأخلاقي والانصراف للبذخ والترف واللهو والموسيقى. إن إطلالة عميقة على تاريخ الأندلس تؤكد أن كل هذه الخصائص لم توجد فقط في زمن الهزائم العسكرية، وإنما وجدت أيضًا في زمن العزة والقوة والتقدم والمجد.

ecf667818a1f81e0accb659f2cc12130.jpg

كان قدر آخر ملوكها «أبي عبد الله محمد الثاني عشر» أن يكون المفاوض على نهاية الحكم الإسلامي بشبه الجزيرة الأيبيرية، أمام هيبة عسكرية متصاعدة لملوك مسيحيين أدركوا جيدًا أن سقوط غرناطة سيشكل النواة التي سيطوف حولها العالم السياسي الغرب.

يعد «أبو عبد الله محمد الثاني عشر» (1460- 1527م) آخر ملوك غرناطة، وهو آخر ملوك الأندلس المسلمين الملقب بالغالب بالله، وآخر ملوك بني نصر أو بني الأحمر. حكم مملكة غرناطة في الأندلس فترتين بين عامي (1482- 1483م) وعامي (1486 – 1492م). إلى أن استسلم لفرديناند وإيزابيلا يوم الثاني من يناير 1492م. سماه الإسبان «el chico» أي الصغير، و«Boabdil» أبو عبديل؛ بينما سماه أهل غرناطة الزغابي «أي المشؤوم أو التعيس».

دامت «حرب غرناطة» 10 سنوات بين عامي 1482 و1492، شهدت استعمالًا فعّالًا للمدفعيةِ مِن قِبل القوات المسيحية أمام تخلف غرناطي في هذا الجانب. كتب المؤرخ «ويستون كوك. جى آر»: واصفًا المعركة: «إن قوة النار الناتجة عن البارود وعمليات الحصار التي استخدمت فيها المدفعية هى التي أدت إلى الانتصار في حرب غرناطة، أما العوامل الأخرى في النصر الإسبانى فقد كانت عوامل ثانوية».

حاصر الملكان المسيحيان، إيزابيلا ملكة قشتالة وليون وزوجها فرديناند الثاني ملك أراغون، غرناطة في 30 أبريل (نيسان) 1491 حصارًا شديدًا دام ثمانية أشهر، فأتلفا الحقول المجاورة، ووقفا أمام وصول أي مدد خارجي من المغرب الأقصى إلى أن تناول السكان الفئران. سادت حالة من الفوضى بين مسؤولي غرناطة، كما سُجِلَت حالات خيانات ورِشَا لصالح قشتالة. إلى أن انتهى الحكم الإسلامي لغرناطة بتسليم الأمير «أبي عبد الله» إمارةَ غرناطة ومدينتها وقصر الحمراء، وما زال الإسبان يحتفلون كل عام بهذا التاريخ أمام تنديد جمعيات حقوقية بإقليم أندلوسيا التي تعتبر الاحتفال تهميشًا لمرحلة تاريخية مهمة وترسيخًا لنظرة عدائية ضد عنصر ثقافي ليس سوى أحد مكونات الهوية الأندلسية المعاصرة.

لكن، من كان «أبو عبد الله» في الحقيقة؟ هل كان ذلك الملك الضعيف والمحارب المتخاذل والبَكَّاء الكئيب الذي أُقحِم اسمه في التاريخ من أبشع أبوابه؟ هل كان مجرد «زغابي» جبان أمام أم قيادية قوية مُفعمة بالطاقة؟ أم كان رجل إنسانية فضَّلَ المفاوضات على هدر دماء المسلمين في حرب خاسرة لا محالة؟

هل كان أبو عبد الله حامي غرناطة الذي عرف كيف يسلم مملكته والحمراء بسلمية متناهية بتجنب عراك أخير ليس له أي معنى؟ هل أدرك الرجل أنه إنما يمثل نهاية حقبة لا يستطيع المنافسة فيها أمام تقنيات قشتالية عسكرية متفوقة؟ أم لعله كان الشخصيتين في آن؟ أم لعله لم يكن أي واحدة منهما؟.

سقوط غرناطة.. حلقة كتبت بقلم المنتصر
قليلة هي المعطيات التي وصلتنا بقلم عربي عن نهاية أبي عبد الله وسقوط غرناطة، فقد سطّرت كُتِبَ تاريخ نهاية مملكة بني نصر عادة بأقلام مسيحية انطلقت عادةً من فرضية أيديولوجية واضحة ألا وهي: الكتابة نُصرةً لوحدة الأراضي الكاثوليكية وتمجيدًا لنهاية الحملة الصليبية ضد الإسلام. هذا بالإضافة إلى جهل الكثير من كتاب تلك الفترة أصلًا بلغة العربي المهزوم وثقافتها، وهذان سببان رئيسيان يفسران كيف شُوهت بعض التفاصيل، وكيف حيكت الكثير من الأساطير حول أحداث وهمية لم تحدث قط.

انعكس حدث سقوط غرناطة على السكان المسيحيين انعكاسًا إيجابيًا، بعكس العالم الإسلامي الذي استقبل أمرًا مريعًا ومحزنًا خاصة بسبب الوثاق الديني والثقافي واللغوي الذي يربطه بمسلمي الأندلس. فقد العرب والمسلمون حضارة ازدهرت لقرون، سواء على المستوى الاقتصادي، أم السياسي، أم العلمي وغيره.

من هنا يمكن فهم كيف أن أحداثًا صادمة مثل: فقدان مملكة الأندلس التي ازدهرت لقرون، ونفي ملكها وحلفائه،وعدم وفاء المنتصرين بالمعاهدة المتفق عليها بين ملك غرناطة والملكين الكاثوليكيين، وأيضًا عمليات طرد الموريسكيين والتضييق على المدجنين والشتات الموريسكي بشمال إفريقيا؛ كل ذلك أدى إلى عدم الاكتراث بالتدوين. إذ اهتم فقط قلة من المؤرخين العرب البارزين بالتطرق للأمر إذ واجهوا مهمة شاقة وثقيلة بسرد أحداث كارثية مأساوية عنيفة مُريعة مؤلمة صادمة.

من أبرز المؤرخين الذين تناولوا سقوط غرناطة الإمام الفقيه، الأصولي، المحدث والأديب «أحمد المقري» (1578-1631م) وهو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني القرشي المالكي الأشعري الذي جمع أغلب الوثائق المتوفرة حول الأندلس في ذلك الوقت ليكتب رائعتيه في التاريخ والأدب الأندلسي وهما:

الأولى: «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، ويعد أحد أقدم الكتب الأندلسية ظهورًا للنور، وهو موسوعة تاريخية مهمة في دراسة التاريخ والأدب والجغرافيا الخاصة بالأندلس، وقد اعتمد المقري في كتابه على مصادر لم يصلنا منها سوى القليل كالمغرب لابن سعيد، ومطمح الأنفس لابن خاقان، والمطمح الكبير.

الثاني « أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض» موسوعة ضخمة، تقع في خمسة مجلدات. اتبع المقري فيها طريقة القدماء في تقديم مادة متنوعة وشاملة، ورغم أن هدفه كان تقديم معرفة بشخصية «القاضي عياض» فقد ألمّ بكثير من شؤون بلاد الأندلس، وأحوال المسلمين في عصر الجلاء عنها. قيد في كتابه هذا الكثير من مشاهداته، وأخبار تنقلاته في البلاد. وامتاز باحتفاظه بطائفة كبيرة من الأخبار والنصوص المغربية والأندلسية، التي لم ترد في نفح الطيب، ولا غيره من الكتب، وإنما بادت أصولها، أو هي لا تزال سرًا مطويًا في خزائن الكتب.

من خان غرناطة حقًا.. «أبو عبد الله» أم إيزابيلا وفرديناند؟
هناك عدة روايات مسيحية قديمة «قشتالية، فرنسية، إيطالية…» مختلفة ومتناقضة حول كيف وأين ومتى سلم الملك «أبو عبد الله» مفاتيح غرناطة للملكين الكاثوليكيين. تؤكد بعض الروايات -التي تعد على الأرجح غير صحيحة- أن أبا عبد الله لقي الملكين الكاثوليكيين عند نهر شنيل، حيث نزل من فرسه وانحنى لتقبيل يد فرديناند، الذي رفض منح يده من باب الإعراب عن الرضا. ثم سلمه مفاتيح المدينة.

1024px-La_Rendici%C3%B3n_de_Granada_-_Pradilla-768x492.jpg

استسلام غرناطة: لوحة زيتية لپاديا توضح استسلام أبي عبد الله لفرديناند الثاني وإيزابيلا.
كذَّب بعض المؤرخين هذه الرواية وروايات أخرى مشابهة، من بينهم «بيسكادور ديل أُويو» إثر العثور على وثيقة غير منشورة في الأرشيف التاريخي الوطني لمدينة بلد الوليد. الوثيقة عبارة عن رسالة مبعوثة إلى أسقف ليون من شاهد عيان على أحداث تسليم غرناطة، مؤرخة في الثامن من يناير 1492م، يشرح فيها أن تسليم غرناطة تم الليلة التي سبقت التاريخ الرسمي، بشكل مُغلق غير مُعلن، في صالة قمارش بالحمراء إثر استقبال أبي عبد الله بعثة سرية تفاديًا لأي «شغب» محتمل.

أما الروايات الأخرى فربما لا تكون -على الأرجح- سوى حلقات تاريخية زائفة كُتِبَت بقلم المنتصر. إذ إن المنطق يخبرنا أنه من المستبعد أن يكون أبا عبد الله ضعيفًا وهشًا بهذا الشكل. فلو كان كذلك لما استمرت الحرب 10 سنوات كاملة حكم فيها مملكة غرناطة في الأندلس فترتين بين عامي (1482- 1483م) و(1486- 1492م).

من بين الكُتَّاب المسلمين من يرى أن استسلام أبي عبد الله لم يكن حتميًا، وإنما كان خيانة للإسلام ولغرناطة، ولكن، لو تفكّرنا في وجهة النظر الأخرى، فكيف يخون من حارب لسنوات طويلة وإن أدرك أن التفوق القتالي مسيحي وليس إسلاميًا بالمرة؟ كيف يخون من حارب وحيدًا في غياب كل مدد خارجي؟ هل يمكن اعتبار التسليم خيانة حتمًا وقد تعرض رعاياه للجوع في حصار دام ثمانية أشهر؟ ربما تكون تلك النظرة التي تتهم أبا عبد الله بالخيانة وبالتقاعس عن الجهاد ليست سوى نظرة قاصرة فقيرة للمنطق، إذ لربما كان تسليم غرناطة أحفظ لدماء المسلمين؛ إذ جنبهم الدخول في معارك «دونكيشية» خاسرة لا محالة.

ربما فَضَّلَ «أبو عبد الله» إذن إمضاء معاهدة تسليم تحفظ للمسلمين دينهم وأموالهم وأملاكهم، بدلًا من مواصلة مقاومة لن تُجدي نفعًا ولن تُهدِر سوى مزيد من الأرواح. وُقِعت «معاهدة غرناطة» أو «معاهدة تسليم غرناطة» بين مملكة غرناطة ومملكة قشتالة بتاريخ 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 1491م. التزم السلطان وتابعوه من خلالها بالاستسلام للملكين الكاثوليكيين كما التزم الأخيران وأقسما بضمان السلامة الشخصية والمادية لأبي عبد الله ولأسرته ومعاونيه.

كما سمحت المعاهدة لمسلمي غرناطة بممارسة الشعائر الإسلامية والاحتكام إلى الشريعة الإسلامية، وفي حالة أي احتكاك أو خصام ضد المسيحيين، يتمتع الطرفان المتخاصمان بحق الاحتكام لقرار هيئة قضاة من الديانتين، ولتسهيل الحياة العامة بغرناطة، تقيد الملكان بإنشاء مجلس إسلامي للمدينة مكون من 21 عضوًا محليًّا، من بينهم فقهاء، وكُتَّاب عدل، ومترجم وعدد من «الأمناء» الذين يمثلون مختلف المهن المتداولة بالمملكة.

بالرغم من كل هذه البنود، هاجر الكثير من ممثلي نخبة القطاع الاقتصادي للمجتمع الغرناطي. لم يكن المستقبل واضحًا. لا أمان، لا اطمئنان ولا راحة في الوضع الجديد. سهلت قشتالة خروجهم. فقد كانت هجرة الأقلية المُسيِرة أمرًا مستحبًا بالنسبة للمنتصرين، إذ إن رحيلهم ضمن بشكل كبير تفكك المجتمع الغرناطي.

ضمنت المعاهدة السلام لفترة وجيزة، ولكن سرعان ما اخترقت؛ إذ تلاشت روح التسامح والتساهل فتدهور حال المسلمين. تراجعت ساكنة غرناطة تراجعًا واضحًا بسبب الحرب والهجرة، كما اشتدت عمليات الاستيطان المسيحي للمملكة، وبدأت عمليات التنصير الإجباري باتباع طرق قاسية، واتضح أن الخضوع القشتالي للمعاهدة لم يكن سوى حيلة سياسية لاستلام غرناطة بأقصى سرعة وإنهاء حرب أهدرت الكثير من الأموال والدماء. بالنسبة للمنتصر، لا يمكن اعتبار الاحتلال احتلالًا وثيقًا إلا إذا ما تم غرس الوجود القشتالي في المجتمع الغرناطي على كل المستويات.

هل خان أبو عبد الله غرناطة إذن؟ ربما يحق للبعض -بناء على ما تقدم- أن يجيب بـ«لا». الخيانة كانت قشتالية من إيزابيلا وفرديناند.

«زفرة المورو».. حقيقة أم أسطورة؟
يطلق اسم «زفرة المورو» على منطقة بنواحي غرناطة، يُزعم أن أبا عبد الله وقف هناك لتوديع الحمراء وغرناطة لآخر مرة، بكى، فوبخته والدته قائلة: «ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا، لم تحافظ عليه مثل الرجال». تعكس عبارة «زفرة المورو» حكاية مؤثرة خلدت لقرون في إنتاجات أدبية؛ لوحات، ومؤلفات تاريخية وإنتاجات درامية مثل سلسلة «إيزابيل» (2012- 2014).

sddefault.jpg


تنتمي السلسلة إلى الدراما التلفزيونية التاريخية، وقد بنيت أحداث جزئها الثاني على فترة «استرداد» غرناطة، كما ترصد وقائع تاريخية بخصوص بني سراج، وبني الأحمر كأحداث لا تتجزأ عن واقعة سقوط غرناطة، ويسلط الضوء أيضًا على الرحلات الاستكشافية الأولى لكريستوف كولومبس نحو القارة الأمريكية. سمحت السلطات الإسبانية بتصوير المشاهد بالحمراء، ويقول المخرج بهذا الخصوص: «التصوير بالحمراء حلم تحول إلى حقيقة، يمكننا لمس التاريخ، كل شيء اكتسى معنى أفضل».

للدراما التاريخية جمهور خاص يتابعها للتحليل والمقارنة. بينما تقتصر الكتابات التاريخية على فئة معينة، تتسع دائرة المتابعين في الدراما التاريخية لتشمل كل فئات المجتمع. لكن ما أصل حكاية «زفرة المورو» التي لم تهمل السلسة تجسيدها؟ كيف انتقلت عبر الأزمنة؟ هل هي حقيقة تاريخية أم أنها ليست سوى أسطورة سياسية مبتكرة؟

b582ac215132979102d62fc9dcbc445a-768x491.jpg

لوحة زفرة المورو للرسام الإسباني فرانثيسكو براديا
مع سقوط غرناطة سنة 1492م، غادر «أبو عبد الله» الحمراء نحو المنفى، وفي الطريق، وقف ليتأمل الحمراء للمرة الأخيرة من أعلى إحدى المرتفعات. تأثر إلى أن بكى الماضي العريق والذكريات. انتبهت والدته لبكائه فوبخته بجملة دخلت التاريخ: «ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا، لم تحافظ عليه مثل الرجال».

لا أصل للحكاية في المصادر التاريخية العربية، لا وجود للقصة إلا في المصادر القشتالية. كما تختلف هذه الأخيرة فيما بينها عند سرد التفاصيل، حتى إن هناك رواية تؤكد أن مقولة «ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا، لم تحافظ عليه مثل الرجال» لم تصدر عن الحرة لابنها أبي عبد الله في طريق الرحيل بل بقصبة الحمراء، ومن المؤرخين من يطعن في صحة الرواية من الأساس مثل الكاتب الغرناطي «ليوناردو بيينا» مؤلف كتاب «الزفرة الأخيرة للملك أبو عبديل El último suspiro del Rey Boabdil». يعتقد مارمول أن الحدث ليس له أي خلفية تاريخية، بل مجرد قصة من خيال أسقف قادش «أنطونيو دي غيفارا»، رواها في صيف سنة 1526م للإمبراطور كارلوس الخامس لإثارة الانتباه. بل يؤكد أن أبا عبد الله لم يمر من هناك بالأساس.

لم يرغب أبو عبد الله يومًا بالذهاب إلى شمال إفريقيا خاصة أن الأحوال السياسية لم تكن مستقرة بفاس. رُفِضت أُمنيته بالبقاء خوفًا من اندلاع أي ثورة مستقبلية بمساعدة أعوانه وتابعيه بالبشرات. أصر الملكان الكاثوليكيان عن طريق «إيرناندو دي ثافرا» على رفض مقاومته للرحيل وخوفه من ترك أرضه وأرض أجداده إلى الأبد. سافر أبو عبد الله، في محاولة أخيرة للتفاوض على بقائه بالبشرات، إلى برشلونة لمقابلة فرديناند وإيزابيل. كانت رحلة دون جدوى إذ أصرا على بيع ما تبقى من ممتلكاته والرحيل.

قبر «أبي عبد الله» الذي تحول اليوم إلى «مزبلة»
غادر أبو عبد الله الصغير الأندلس. حيث استقر بفاس، وعاش هناك حياة لم يعرف أحد عنها شيئًا حتى مات عن عمر يناهز 75 عامًا متهمًا بالعار والخيانة والتفريط. وقد انتقل بعد تسليم غرناطة لفترة وجيزة إلى البشرات ثم رحل إلى المغرب. حيث نزل في مدينة غساسة الأثرية الموجودة بإقليم الناظور ثم حل بفاس إلى أن توفي سنة 1533.

حاول باحثون أركيولوجون -علم الآثار- إسبان سنة 2013 القيام بعمليات تنقيب في القبر بحثًا عن أي دليل يؤكد أن أبا عبد الله الصغير يرقد فعلًا هناك، أي للتأكد من هوية الدفين، وبالتالي دعم ما جاء في الرواية التاريخية عن مكان الدفن أو نفيه. كان المشروع من تمويل الإماراتي مصطفى عبد الرحمن وتحت إشراف السيناريست خابيير بلاغوير الذي اهتم بمعرفة كل ما يتعلق بشخصية أبي عبد الله في إطار إنجازه لوثائقي عنه تحت عنوان «رجل أساء له التاريخ». يفتقر قبره اليوم لكل عناصر احترام الميت بشكل عام. يشعر زائر القبر أنه أمام مزبلة لا مقبرة. وضعية مزرية ومخجلة في رأي البعض، رائحة عفنة، ونفايات، وفضلات وآثار حريق على سقف القبة التي تُظِلُ القبر.

استعرض الباحثون أهم نتائج البحث الأولي التي توصلوا إليها. أكدت صور تحت أرضية وجود قبور تحت قبة الضريح وبقايا تعود على الأقل لشخصين. ما يرجح أن يكون السلطان بين المدفونين بهذا الموقع. تلقى فريق البحث مساعدات إدارية من طرف جهات مسؤولة بفاس للحصول على ترخيص لنبش القبر، ولكن وفي ظل طبيعة هذه النوعية من الإجراءات وصعوبتها، لا جديد اليوم يذكر عن المشروع ولا عن الترخيص ولا عن فريق البحث الذي ذهب ولم يعد. فهل سيستأنف المشروع لاحقًا؟ هل سنتأكد يومًا ما من هوية الدفين؟ ألا يستحق هذا الموقع توسيعًا، وتعريفًا، واهتمامًا، وصيانة، أو على الأقل شيئًا من النظافة؟ لا إجابة عن تلك الأسئلة حتى الآن.
 
وصف لسان الدين بن الخطيب مشاعره وهو يدخل ، فكتب:
أنست النفوس بعد اغترابها، واكتحلت العيون بإثمد ترابها، أمّ البلاد والقواعد، وملجأ الأقارب والأباعد، تعدّت مقعد الوقار، ونظرت إلى الأرض بعين الاحتقار، نصبت من الجبل منصّة قعدت عليها، وقامت وصائف القرى في ذلك البساط بين يديها.




 
عودة
أعلى