الحشد التعبوي

خالد فهمي

عضو جديد
إنضم
13 أغسطس 2018
المشاركات
3
التفاعل
18 0 0
الدولة
United Kingdom
في الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد ١٤ مايو ١٩٦٧ فوجئت القوات المسلحة المصرية بصدور توجيهات نائب القائد الأعلى المشير عبد الحكيم عامر برفع درجة الاستعداد في القوات المسلحة من الاستعداد “الدائم” للاستعداد “الكامل”.
وما هي إلا ساعة واحدة حتى صدرت تعليمات جديدة بتعبئة القوات المقرر حشدها في سيناء، على أن يتم الحشد في مدة تتراوح بين ٤٨ إلى ٧٢ ساعة.
ولم يفهم القادة السبب من وراء هذه التوجيهات المباغتة.
فكان من المفترض أن مثل هذه التوجيهات تأتي من القائد الأعلى، أي الرئيس جمال عبد الناصر، وليس من نائب القائد الأعلى، المشير عامر. كما غاب مجلس الدفاع الوطني عن الصورة ولم يتبين للقادة إن كان هذا المجلس قد شارك في اتخاذ هذا القرار.
ولم تكن هناك أية علامات على أن القوات المسلحة تستعد للتعبئة أو للحرب.


ومن علامات أن الأمور كانت تسير سيرها الطبيعي في الدولة عامة، وفي القوات المسلحة خاصة في تلك الأيام، أن وُجهت الدعوة إلى الفيلد مارشال مونتجمري، القائد السابق للجيش الثامن البريطاني، للحضور لمصر للاحتفال بمرور خمسة وعشرين عاماً على معركة العلمين التي انتصر فيها مونتجمري على غريمه إروين رومل في الحرب العالمية الثانية. وبالفعل حضر المارشال مونتجمري وألقى كلمة يوم ١٣ مايو في أكاديمية ناصر العسكرية.


مونتجمري.jpg


عبد الحكيم عامر، جمال عبد الناصر، المارشال مونتجمري، عبد المحسن مرتجي

وسرعان ما تبين أن السبب من وراء القرار هو وصول معلومات للقاهرة تفيد بأن إسرائيل تقوم بحشد قواتها على الجبهة السورية، وأنها حشدت بالفعل من ١١ إلى ١٣ لواء مقسمين على قسمين، الأول جنوب بحيرة طبرية، والثاني شمال البحيرة.
وكانت الجبهة السورية-الإسرائيلية قد شهدت مناوشات خطيرة على مدار الأسابيع القليلة السابقة، ووصلت تلك المناوشات ذروتها يوم ٧ أبريل عندما اشتبك سلاح الجو السوري مع نظيره الإسرائيلي في سماء دمشق في معركة حامية اشتركت فيها أكثر من ١٣٠ طائرة كان نتيجتها إسقاط ستة طائرات ميج سورية.
وبما أن مصر كانت تجمعها بسوريا اتفاقية دفاع مشترك كانت قد وُقعت في نوفمبر من العام السابق، أي ١٩٦٦، فقد رأت مصر أن عليها أن تتحرك للدفاع عن حليفتها سورية.

أما المعلومات عن الحشود الإسرائيلية، وهي معلومات اكتُشف لاحقا أنها غير صحيحة، فكان مصدرها الاتحاد السوفييتي. ففي اليوم السابق، السبت ١٣ مايو، أي نفس يوم إلقاء مونتجمري لكلمته في أكاديمية ناصر، اجتمع السفير السوفيتي ديميتري بوجيداييف (Dimitri Pojidaev) مع أحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجية وأبلغه أن الإسرائيليين يقومون بحشد قواتهم على الحدود السورية. نفس المعلومات سمعها أنور السادات (الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس مجلس الأمة) في موسكو وهو في طريق عودته من رحلة إلى كوريا الشمالية. ففي مطار موسكو وأثناء توديعه قال له نائب وزير الخارجية فلاديمير سيمينوف (Vladimir Semyenov) في حضور رئيىس البرلمان السوفييتي بودجورني (Nikloai Podgorny) إن الإسرائيليين قد حشدوا عشرة ألوية على الحدود مع سورية. ويضيف محمد حسنين هيكل في كتابه “الانفجار” (ص ٤٤٥) مصدرا ثالثا لتلك المعلومات المغلوطة فيقول إن مندوب المخابرات السوفييتية في القاهرة أبلغ صلاح نصر رئيس المخابرات العامة أن الإسرائيليين حشدوا أحد عشر لواءا على الحدود.

وبناء على هذه المعلومات أمر المشر عامر رئيس الأركان محمد فوزي بالسفر لسورية لاستطلاع الأمر. وبالفعل سافر فوزي في اليوم التالي، الأحد ١٤ مايو، وتبين له أن هذه المعلومات غير صحيحة، فقد طاف بنفسه بطائرة على الحدود ولم يتبين أي وجود لحشود غير معتادة. بل أنه وجد أن السوريين أنفسهم غير عابئين بهذه الأخبار ولا يدرون عنها شيئا.

وبالرغم من تأكده من عدم وجود حشود إسرائيلية وبالرغم من توصيله تلك المعلومات للمشير فور عودته للقاهرة، إلا أن قرار الحشد والتعبئة لم يُراجع، بل جرى الإسراع في تنفيذه.

١١.jpg



وإذا كان السبب من وراء إصدار توجيهات الحشد غير واضح وملتبس (وهناك التي تناولت تلك النقطة تحديدا، أي الدافع من وراء معلومات مغلوطة لمصر) فإن الغرض من الحشد أيضا تحوم حوله الشبهات ويطرح الكثير من الأسئلة.
فما هي الأهداف من وراء هذا الحشد والزج بأكثر من ١٠٠ ألف فرد لسيناء في غضون أيام قلائل؟
بما أن القوات المسلحة المصرية لم يوجد لديها خطة تعرضية (أي هجومية) وإنما كان لديها خطة دفاعية اسمها “قاهر” صُدق عليها في ديسمبر ١٩٦٦، هل كان الغرض من الحشد استدراج إسرائيل لسيناء وتفعيل الخطة قاهر بغرض تدمير القوات الإسرائيلية؟
أم كان الغرض الإبقاء على الحال الجديد وعدم تحريك ساكن بعد الحشد؟
أم القيام بهجوم شامل على النقب؟
أم التمترس داخل سيناء والقيام بحرب استنزاف طويلة الأمد بغرض إهلاك إسرائيل وإضعافها استعدادا للهجوم عليها حينما تتاح الفرصة مستقبلا؟

هذه هي الأسئلة التي نعرف الآن أن المخابرات الحربية الإسرائيلية طرحتها على نفسها في محاولة لتفسير قرار الحشد، وهي أسئلة قد تكون قد لاحت أيضا في خاطر الكثيرين من القادة المصريين وقتها دون أن يجدوا لها أجوبة.
فكل القادة المصريين كانوا على علم بأن القوات المسلحة المصرية لم تكن مستعدة عام ١٩٦٧ لخوض حرب مع إسرائيل، خاصة في ظل وجود ثلثي حجم القوة الضاربة في اليمن.
بل أن هيئة عمليات القوات المسلحة كان لها رأي واضح وقطعي في هذا الأمر. فبعد التصديق على الخطة “قاهر” في ديسمبر ١٩٦٦ بدأت هيئة العمليات في وضع تقرير عام عن هذه الخطة وكيفية تنفيذها، ورفعت تقريرها للقيادة يوم ١٦ ديسمبر بما يفيد أنه في ظل وجود ثلثي القوات في اليمن، وكذا ضعف القدرة القتالية للتشكيلات والوحدات، وكذا نقص الأفراد والمعدات والتجهيزات — في ضوء كل هذه العوامل حذزت هيئة العمليات من القيام بمواجهة عسكرية مع إسرائيل ولفترة زمنية طويلة قادمة قد تدوم لثلاث سنوات.

وبالتالي فإن أهم سؤال يتعلق بقرار الحشد ليس ذلك المُتداول بين المؤرخين والدارسين والمتعلق بأغراض الروس في إشاعة أخبار خاطئة ومضللة، بل “لماذا اتخذت القيادة المصرية قرار التعبئة العامة ورفع درجة الاستعداد وحشد ١٠٠ ألف جندي لسيناء مع ما يحمله ذلك من خطر نشوب قتال حقيقي، هذا مع علمها يقينا بأن القوات المسلحة غير مستعدة من كافة الأوجه لمواجهة العدو الإسرائيلي؟

التفسير التقليدي لهذه السؤال المحوري هو أن هذه كانت “مظاهرة” عسكرية غرضها الردع ولم تؤخد مأخذ الجد.
هذا هو ما ذهب إليه أغلب المؤرخين الذين تناولوا تلك الفترة العصيبة من تاريخنا، وأضافوا أن أيا من القادة المصريين لم يدرك حقا أن الحرب على الأبواب أو أن هذا القرار يعني الحرب. هذا التحول حدث فقط، حسب هؤلاء المؤرخين، بعد سحب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة يوم ١٨ مايو، وطبعا بعد قرار إغلاق مضيف تيران يوم ٢٢ مايو .
في كتابه، الانفجار، الذي يزيد عدد صفحاته عن الألف، يقول هيكل إن عبد الناصر استدعي عامر لبيته مساء يوم السبت ١٣ مايو لدراسة الوضع (ص ٤٤٧). وبالفعل وصل عامر لبيت عبد الناصر في منشية البكري الساعة السابعة والنصف مساء واتفقا على دعوة أركان حرب القوات المسلحة اليوم التالي، يوم الأحد ١٤ مايو، إلي اجتماع طارئ لدراسة ما يمكن اتخاذه من إجراءات.
وفي صباح يوم الأحد وصل عبد الناصر لمكتبه في السابعة والربع بعد ساعات قصيرة من النوم المتقطع وأخذ يحضر لاجتماع هيئة الأركان. ثم يضيف هيكل عدة تفاصيل عن انشغال عبد الناصر بمناقشات مع من يسميهم هيكل “زملائه [أي زملاء عبد الناصر] ومعاونيه” ومنهم زكريا محي الدين، نائب الرئيس، وصدقي سليمان، رئيس الوزراء، و محمود فوزي، نائب رئيس الوزراء للشؤون الخارجية، وعلى صبري، الأمين العام للاتحاد الاشتراكي، وعدد من أعضاء اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي.


هيكل.jpg


محمد حسنين هيكل مع جمال عبد الناصر

وبالرغم من أن هيكل في سرديته لهذه الساعات الحاسمة قال إن هذه المناقشات التي أجراها عبد الناصر قد تمت “بعد ذلك”، الأمر الذي قد يعني أن عبد الناصر قد أجراها بعد اجتماع هيئة الأركان، إلا أنه يوردها في كتابه بعد وصفه للحظة دخول عبد الناصر مكتبه في الساعة السابعة والربع صباح يوم ١٤ مايو انتظارا وتمهيدا لاجتماع هيئة الأركان.
وفي رأيي أن هذه لعبة من لعبات هيكل المعتادة والتي قصد منها تشتيت انتباه القارئ لتسلسل الأحداث. لأن المحطة الهامة والمحورية في أحداث ذلك اليوم هو أن عامر لم يتصل بعبد الناصر للتحضير سويا لاجتماع هيئة الأركان، بل اتصل به قرب نهاية الاجتماع الذي كان قد بدأ بالفعل في غياب عبد الناصر ونقل إليه أنهم في هيئة الأركان قد توصلوا بالفعل إلى إجراءات بتحرك تشكيلات متتالية تتوجه على الفور إلى سيناء وتحتل مراكزها هناك. (هيكل، الانفجار، ص ٤٥١).
ثم يقول هيكل “لا يستطيع أحد أن يقطع بتفاصيل ما دار بين الاثنين في هذا الحديث التليفوني، وربما أن الإشارة الوحيدة التي يمكن بالاستنتاج أن تشير إليه هي عدد من الإضافات كتبها عامر بخط يده على المشروع الأصلي لتوجيهاته إلى القوات المسلحة.”
ومرة أخرى يشتت هيكل قارئه، فيفرد صفحتين لنص تلك التوجيهات والتعديلات التي أحدثها عامر عليها بناء على حديثه مع عبد الناصر.
لماذا أقول أن هذه “لعبة” من لعبات هيكل أراد بها تشتيت انتباه القارئ؟ لأني لا أعتقد أن هذه التعديلات أو المناقشات التي أجراها عبد الناصر مع معاونيه هي لب الموضوع هنا.
بل لب الموضوع هو أن عبد الناصر لم يذهب لاجتماع هيئة الأركان، وأن عبد الحكيم عامر هو الذي ترأس هذا الاجتماع، وأن قرار التعبئة والحشد قد اتُخذ بالفعل في هذا الاجتماع الحاسم دون استشارة عبد الناصر إلا قبيل انتهائه وجرت هذه الاستشارة بالتليفون.

بمعنى آخر، قرار الحشد التعبوي الذي كان بداية الأزمة التي أدت لهزيمتنا في حرب ٦٧ اتخذه عبد الحكيم عامر مع شلته ولم يتخذه جمال عبد الناصر مع معاونيه.

أما كيف ولماذا سمح جمال عبد الناصر لعبد الحكيم عامر أن يأخذ هذه القرار منفردا، فهذا ما ستحاول بقية هذه اليوميات أن تستوضحه.
بقى أن نشير إلى أنه نتيجة لعدم جهازية القوات المسلحة للقتال، ولعدم التدرب على التعبئة العامة، فالطريقة التي جرى بها حشد القوات لسيناء كانت مأساوية. صحيح أن الكثير من أدبيات تلك الكارثة يركز على مشاهد الانسحاب المروعة يومي ٦ و٧ يونيو، إلا أن مشاهد حشد مائة ألف جندي للجبهة دون خطة ولا استعداد كانت هي الأخرى فظيعة، وكانت نذيز شؤم لما سيحل بهذه الآلاف المؤلفة من شباب مصر.
وبما أن سجلات هذه الحرب ما زالت حبيسة المخازن، فربما يسعفنا الأدب للوقوف على حجم الكارثة التي حلت بالجنود أثناء الحشد حتى قبل بدء القتال.

دراز.jpg

الكلمات التالية اقتبسها من رواية “قصة حب من يونيو ٦٧” لعصام دراز، الذى أعتبره من أهم من أدرك معنى هزيمتنا في ٦٧ وأصدق من كتب عنها:
ذهبت مع أحد الضباط لنجدة بعض مركباتنا المعطلة على الطريق. وجدت عدلي أمامي يقف على الطريق حاسر الرأس ويده ملوثة بالشحم والزيت. كان يحاول إصلاح إحدى عرباته المعطلة وهو يسب ويلعن. هتف صائحا عندما رآني، وقال بصوت مبحوح مرهق:
إنها مهزلة
أشعل سيجارة وراح ينفث دخانها في عصبية ثم وقف بجواري. كان المشهد على الطريق غريبا، ضحكنا من قلوبنا عندما مرت سيارة لوري ضخمة تقطر خلفها سيارتين مدرعتين عاطلتين. كان المنظر مضحكا للغاية، فقد كانت السيارات متجهة إلى سيناء. قلت لعدلي:
إن منظر العربات المدرعة العاطلة يوحي بأنها متجهة إلى مخازن الكهنة وليس إلى سيناء حيث الحرب المنتظرة.
ضحك عدلي من قلبه وقال مكررا:
مهزلة يا أخي
قلت وأنا أرفع رأسي للسماء:
أنقذنا يا رب.
مر في هذه اللحظة عدد من الجرارات التي تقطر مدافع ميدان ضخمة . لوّح لنا جنودها بدون سابق معرفة، فلوحنا لهم بالتالي.
استنجد بنا سائق إحدى السيارات المعطلة لكي نساعده في إصلاح عطل في سيارته. فقد تركَته وحدته على الطريق في الليل ومن المحتمل أن تكون وصلت سيناء الآن وهو هنا حائر. اتجه عدلي إلى عرباته بعد أن انتهينا من مساعدة السائق. تعطلت فجأة سيارة إسعاف عسكرية وسط الطريق، نزل سائقها بسرعة وراح يدفعها مع بعض الرجال لتخلي الطريق لآلاف المركبات المتحركة، كانت هناك دبابة في نفس اللحظة في الاتجاه المضاد بجوار الطريق. انحرفت الدبابة عن مسارها لتتجنب إحدى الخيام. فوجئت الدبابة بسيارة الإسعاف تنقلب على الأرض وسط صراخ الجنود. أصبحت السيارة بضربة واحدة كعلبة الكبريت. اجتمع الضباط والجنود الذين كانوا موجودين بالصدفة. وراح الجميع يشارك في استخراج جثث الجنود القتلى من داخل العربة المبططة. وضعت أربع جثث في العراء على جانب الطريق، تم تغطيتهم بالبطانيات لحين حضور عربة لنقلهم.
 

المرفقات

  • هيكل.jpg
    هيكل.jpg
    53.2 KB · المشاهدات: 181
شكرا لك على هذا السرد لهذا الحشد العسكري ولكن للاسف لم ينفعنا هذا الحشد حيث فاجاءتنا إسرائيل وضربت طائراتنا في مطاراتها ابان نكست 67
 
الفيديو التالى يتحدث عن الكمين السوفييتى لمصر وهو ما جعل القيادة المصرية تبدأ الحشد.



الفيديو جزء من سلسلة فيدوهات قصيرة رصينة ومعلوماتية وموضوعية قوية جداً عن حرب أكتوبر ومقدماتها بما فيها نكسة 67 , أنصح بمتابعتها للمزيد.
 
عودة
أعلى