فِقْه ثَورَة البَّعث المَجِيدَة فِي 17-30 تَمُوز 1968م، بَينَ التُراثِ والمُعاصَرَة

المهيب الركن

عضو جديد
إنضم
12 نوفمبر 2017
المشاركات
49
التفاعل
28 0 0
الدكتور عباس العزاوي
في البداية لا نملك الاّ أن نحني الرؤوس لرجال ثورة 17-30 تموز المجيدة، رفاق العقيدة، والمبادئ ودرب النضال، من ذلك الجيل العظيم، على ما قدموه للعراق وشعبهم وأمتهم من تضحيات، باذلين دمائهم وأرواحهم، فداء للوطن الغالي، لترتفع راية العراق العظيم، عالية، خفاقة، شامخة، ولا يزال هذا الجيل وابناءه واحفاده، يقدمون ارواحهم فداء للعراق، لقد كان لكل من هؤلاء الرجال الصيد، سواءاً مَن أستشهد في الحروب التي خاضها العراق دفاعاً عن الوطن أو الأمة العربية، ومَن لم يزل يقاتل الى اليوم، قصة مع هذه السنين الطوال من النضال. فقد كانوا يندفعون كالصاعقة لتحقيق أهداف الأمة العربية المجيدة في الوحدة والحرية والاشتراكية، إنّ تلك البطولات التي قام بها ابناء ذلك الجيل العظيم، من كادر الحزب المتقدم، وقواتنا المسلحة الباسلة، خلال المعارك بصفحتيها، العسكرية في المواجهة مع أعداء العراق من صهاينة وفرس، والداخلية في معارك البناء والتنمية، تُعَد ملاحم تاريخيةعظيمة، يفخر بها كل عراقي شريف وعربي نجيب.فأكد هؤلاء الرجال الأوفياء لقيم ومبادئ رسالة الأمة الخالدة، أنّ حياة العراق تغذيها أرواح أبنائه على مر العصور. وأنّ قدرة العراق على انجاب الأبطال مستمرة عبر الزمان، وأنّ الطريق الى النصر، هو طريق التضحيات بالنفس عندما لا يعلو صوت فوق صوت الدفاع عن تراب العراق الغالي، وشرف العراقيين العزيز
يَجودُ بالنفسِ إن ظنَّ الجَواد بها *** والجُودُ بالنفسِ أقصى غاية الجُودِ

انها معارك كبرى خاضها هذا الجيل المتقدم، الذين كانوا أشَدّ اخلاصاً للعراق والعروبة، هي حربٌ على التخلف والتبعية للأجنبي، ومعركة البناء الكبرى، والحرب على أعداء العراق والعروبة، المتربصين خلف الحدود، كانوا أشد اخلاصاً للعراق والعروبة. تعود بنا آلة الزمن الى عهد قيادة البعث الخالد للعراق، حيث يعمل أولئك الرجال الموجوعين بحب العراق، دون أن يعرفوا سبباً معيناً لهذا الوجع، وهذا الحب، الراسخ في العروق، تعود بنا عقارب الساعة الى تلك الأيام الزاهية، التي كان فيها الثوار، يكدون ليل نهار، من أجل بناء العراق القوي المقتدر، الشامخ بالعز والإباء، يتقدم الصفوف المناضلة، ذلك الرجل العملاق، يقف فقيهاً، متنبهاً، خبرت سنوات عمره النضالية، كيفية قيادة الجماهير، وتجارب السنين تخط تاريخ صبره، وعالجت المحن اسباب بقاءه قائداً لهذا البلد، انَّ القائد الخالد صَدَّام حُسَين رحمه الله، فصار العراق في عهده، وطناً عصياً على أن ينكسر، وكان الرئيس القائد وجيله الذي نشأ في عصر التناقضات بين الشعارات السياسية والواقع، لكنه انحاز لمصلحة الأمة، فتمسك برسالتها الخالدة، ولم يمل للشغب الفكري، الذي كان سائداً حينذاك. انهم ليوث الفعل الثوري، استوعبوا حصيلة كل التغييرات التي حدثت عبر قرنين من الزمان، فإستطاعوا أن يضعوا الحلول البديلة لحالة التردي الوطني والقومي. انَّه الجيل المناضل، الذي وقف متصدياً لهوج الكثيرين من ابناء الأمة، ونزق الآخرين، وتطرف البعض، نجح هذا الجيل الثائر بإمتياز في العبور بالعراق الى حالة جديدة غير مسبوقة، من طراز التغييرات الجذرية الكبرى في التاريخ، انهم بحق رجال البعث الأشاوس. كانت مهام هذا الجيل الثائر، وسياساته، وبرامجه، هو تحقيق سعادة المجتمع ورفاهيته، صحيح أنَّ السعادة والرفاهية، تضرب بجذورها بعيداً في تاريخ البشرية، فقد حاول البشر استجلاب السعادة والطمأنينة لأنفسهم، فلجأوا الى مَن يتوسمون فيهم خيراً وعلماً وحكمةً وطيبةً، يلتمسون لديهم ما يخلصهم من شقائهم، أو كمن يقدم لهم وصفة تريحهم من عذابهم ومعاناتهم. فكان أمام هذا الجيل المتقدم، المناضل، سبيلين أساسيين لتحقيق السعادة والرفاهية الاجتماعية والوطنية، وهما: سبيل يقوم على أساس تغيير الواقع المعيشي، وآخر يقوم على أساس تغيير وتبديل الوعي الإجتماعي بذلك الواقع، والسبيل الأول وهو تغيير الواقع المعيشي للمواطن العراقي، فهو يقوم على مسلمة مؤداها، أنَّ المصدر الأساسي لتعاسة الانسان ومعاناته، انما يكون في واقعه الإجتماعي، وما يتظمنه ذلك الواقع، من ظلم وتعسف وقهر، وأنَّه لاسبيل للتخلص من الضيم والقهر الاّ بتغيير الظروف المسببة للقهر والمعاناة.
إنَّ صفة الثورة لا تنطبق أو تصح، الاَّ على الفعل الإجتماعي العام، الممثل لكل الفئات الإجتماعية، ولا يصح أن نسميها أو نطلق عليها صفة الثورة لفعل يقوم به فريق مخصوص أو فئة معينة، كالجيش، أو حزب سياسي ذا أثر ملموس في المجتمع، فمثل ذلك يسمى انقلاباً وهو ليس بثورة في نهاية الأمر. كيف كانت اذن ثورة 17-30 تموز المجيدة؟
وهكذا وجدنا القائمين بهذه الثورة المباركة، من كل فئات المجتمع العراقي، من المدنيين والعسكريين على حدٍ سواء، ذلك أنَّ الثوار لم تكن تحركهم نوازع شخصية، أو مطالب ذاتية، وهم بالتالي ينفسون عن حالة معينة أو أزمة، لن يلبثوا أن يهدأوا إذا أُستُجيب لهم. انَّ الفعل الثوري يبدأ بفكرة، ترتبط بواقع معين، والثائرون يرون أنَّ الموت أهون من الصبر على الظلم والظالمين، والاستبداد والمستبدين، فلم يجبنوا أو يتخاذلوا عن مواجهة السلطة حتى وإن كان الموت يهددهم.وهذا أصل مهم وخطير من فقه ثورة تموز المباركة، قد لا يهتم البعض بعدد القائمين بالثورة، حتى تصبغها صفة الشمولية والعمومية، لكن الحقيقة كما رأيناها في ثورات عالمية كثيرة، فقد تبدأ محدودة، لكنها تنتهي نهاية مجيدة، وهنا يقاس فعل الثورة، بدرجة وعي القائمين بها، إذ من البديهي أنَّ الجهلاء والمغيبين والهامشيين والمتخلفين وامثالهم، ليس بمقدورهم القيام بفعل ثوري رشيد.
انَّ الثورات كالسيول الجارفة، تبدأ بالرذاذ الذي يتساقط متفرقاً من السماء الملبدة بالغيوم، ثم لا يلبث أن يتكاثف فينهمر كالسيل العارم، كما قيل:أول الغيث قطرة، ثم ينهمر.وهذا هو شأن ثورة 17-30 تموز المجيدة.الفعل الثوري يجب أن يكون رشيداً وهادفاً الى غاية أو غاياتٍ محددة، انَّ فعل الثوار وجيلهم قد اكتسى بالرِفعة والنُبلِ، فالثوار لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً، وانما هم يحلمون بمستقبل زاهر للشعب العراقي، وهم قد عقدوا العزم على الوصول لأهدافهم النبيلة، أو الموت في سبيل ذلك. لم يكن الثائر منهم وضيعاً أو دنئ الهمة، أو رخيص الأفعال، رغم تشويه الأعداء لصورة الثوار، ورغم التشويش ومحاولة تفريق عزم الثائرين، فإننا نقول، أنَّ الثائر ليس نبياً أو يفترض فيه أن يكون نبياً، وإنّه ليس بمعصوم من الخطأ، فقد انطوى زمن الأنبياء، ولا مجال للإدعاء بعصمة البشر مهما كانوا، فقد يخطئ الثائر، ويجانبه الصواب بسبب تغييرات الواقع والظروف المتسارعة، وهنا يجب التماس العذر له، بشرط أن تكون مفردة غير معتادة، وسليمة النيَّة، غير مقصودة، والاّ فالخطأ المتكرر وقصد النية، من شأنه أن يُخرجه من صفة الثورية.
لم يكن خطابهم خطاب اليأس والاحباط، بل كان ايذاناً بولادة مرحلة جديدة، وحياة جديدة قادمة ملآى بالأمل في مستقبل زاهر مجيد. ومع تحديات البقاء والمشاغلة، والصمود والدفاع، ورغم ما يسعى الأعداء من صهاينة وفرس وحكام العرب الخونة، لفرض واقعاً قاسياً عليهم، ورغم أزمات الواقع العربي المتردي، تبقى روح الصمود والتحدي، في صدور أولئك الرجال الأوفياء للعقيدة والمبادئ، تؤذن بميلاد فجر جديد للعراق، مهما يحدق الليل وظلامه، ومهما واجهوا من مؤامرات تهدد بقاءهم وليس قدراتهم حسب. وكان من فقه الثوار، هذا الجيل المتحفز للبذل والعطاء، هو تعميق الوعي بالواقع تبصيراً للفرد بالجذور الإجتماعية، والتاريخية، والإقتصادية، لما يعاني ويكابد، دفعاً به لضرورة تغيير ذلك الواقع، لبلوغ ما يرجوه من رفاهية وسعادة. وهم يعلمون أنَّ هذا لن يأتي برمشة عين، بل يقتضي بلوغها، مزيداً من الجهد والمثابرة والعمل المضني، وهكذا وظفوا كل جهودهم لخلق وعي جمعي يدفع للتغيير الإجتماعي، وفي المسار الآخر لفقه الثورة، تشخيصه لحالة الضعف والتأخر التي تعيشها البلاد، وتشخيص سببها الخارجي، المتضمن علاقة العراق بأشقائه العرب والأصدقاء في العالم، وبالتالي فتح آفاقاً جديدة رحبة مع جميع دول العالم، بما فيها العالم المتقدم، عدا الكيان الصهيوني. وكان من فقه الثورة والثوار أن يجعلوا الفرد العراقي، ينظر الى نفسه والى العالم، بنظرة جديدة، من خلال فهمه لنفسه وللحياة، فهماً واعياً متفائلاً، فالعون النفسي، والعلمي مهم جداً لنهوض المجتمع وتطوره، من خلال تعميق دور المجتمع في المساهمة بتغيير الظروف التاريخية، والاقتصادية والإجتماعية التي تتحكم فيه.
انَّ عملية بناء الدولة على أُسس جديدة، ليست مسألة يسيرة، وتحتاج الى فترة زمنية قد تطول، أو تقصر نسبة الى مستوى وحجم التحديات التي يمكن أن تواجهها الثورة، والمؤامرات التي تُحاك ضدَّها من قبل قوى الشرّ والعدوان. وكان من أولى ضرورات عملية البناء، هي صياغة رؤية واضحة وشاملة ومحددة المعالم، تقوم على وحدة الفكر والممارسة، وتوافق قومي لمنهج البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهكذا تصدى الجيل الثائر لمهمة تأسيس مشروع قومي نهضوي، يهدف الى بناء عراق جديد، قوي، متطور، مقتدر، يقوى على اللحاق بركب التطور العالمي. وبالتأكيد فإنَّ طريق البناء صعب وشاقّ، غير أنَّ ثقة الثائرين في النجاح كبيرة لا تحدها حدود، ما دام الشعب معه، لقد أدرك هذا الجيل المتفاني الغيور، أنَّ تحقيق طموحات وآمال الشعب، يكمن في الإيمان بقدرات ووعي هذا الشعب، لذلك اتخذت قيادة الثورة الحكيمة، قرارات كثيرة أقلّ ما توصف به، بأنّها جريئة واستراتيجية، وهي قرارات لا يُقدِم على اتخاذها سوى القادة العظام، اصحاب المشروعات الكبرى والتاريخية. والتي لا تظهر نتائجها كاملة الاّ بعد سنوات طويلة وقد سجلها التاريخ، في صفحات مضيئة، لقد غامر هؤلاء الثائرين بحياتهم في سبيل انجاز مشروعهم القومي العظيم. وكانت المراهنة على الشعب العراقي وليس غيره، من خلال ثقته بقائده العظيم، كبيرة لا تهتز، ولا تنفصم. انَّ أي منصف متابع لما تم انجازه على أرض العراق، خلال العقود الثلاثة من عمر الثورة، يدرك قيمة هذه الانجازات العظيمة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية والحضارية والعسكرية، فقد غرس هذا الجيل في تربة العراق، اشجاراً مثمرة، ارتوت بعرق ودماء المناضلين من هذا الجيل والذي يليه ثم الذي يليه، ومشاركة ابناء الشعب الغيارى، وبإرادة وتصميم القائد العظيم صَدَّام حُسَين رحمه الله، حتى اينعت هذه الثمار وأُتيَت أُكُلِها، وكان على الشعب أن يرعى هذه البذار الطيبة، بكل عزيمة واصرار، وأن يشارك في هذا الجميع، فلا مجال للتخاذل أو الحياد، الاّ مَن كان يحمل في قلبه ونفسه فيروس الخيانة اللعين، يقول زعيم مناهضة العنصرية مارتن لوثر :(أنَّ أسوأ مكان في الجحيم، محجوز لهؤلاء الذين يقفون على الحياد، في أوقات المعارك الأخلاقية الكبرى). وكان في فقه الثوار، الدعوة الى ضرورة ضبط السلوك العام للأفراد، بنفس القدر ودونما استثناء، لأنَّ القيم والسلوكيات العامة ترتبط وتؤثر في عملية بناء الوطن، فأمَّا تدفعها للأمام وتحفزها، أو تقيدها وتعرقل كل محاولات النهوض والبناء.
كان من فقه الثوار، قدرتهم على احتواء المجتمع، وتنظيمه حول أهداف عامة، وحفظ حقوقهم المشروعة، واتاحة الفرصة للجميع للتعبير عن آرائهم، في اطار من التعددية بأخلاق الوطنية، التي تمنح المواطنين الحرية في الاختلاف، ولكن في ضوء الأهداف العامة للمجتمع والدولة. ومن أولويات عمل هذا الجيل أيضاً، هو بعث وشحذ الهِمَم في نفوس المواطنين، للمشاركة الفعَّالة في ملحمة البناء والتنمية الوطنية والقومية الشاملة. وتضمن فقه الثورة ثلاث مهام اساسية، أولها:اهتمام القيادة في الدولة والحزب بالمجتمع من خلال التعرف على همومه ومشكلاته، وحاجاته الانسانية الملحة، وذلك بالاحتكاك والمعايشة المباشرة بين قيادة الثورة والحزب من جهة والجماهير من جهة أخرى، وأن يكون هناك تدفق هابط من الأعلى، تدفق للعلاقة الحميمة بين القيادة والشعب، وهذا ما برهن عليه الرئيس القائد الخالد صَدَّام حُسَين رحمه الله، في النزول الى الشارع العراقي، والالتقاء وجهاً لوجه مع ابناء شعبه بكل فئاته، حتى يضمن السرعة والدقة في تلبية حاجات الناس، ومن شأن هذه التدفقات والممارسات الثورية الفريدة، أن تُشعِر الناس بدور وأهمية المواطن لدى قيادة الحزب والدولة. اما المهمة الثانية من الممارسات في فقه الثائرين، فهو التدفقات القادمة من الوسط، أو التدفقات الدنيا، والتي تقع على كادر الحزب والقواعد الدنيا في التنظيم الحزبي، وتستهدف ايجاد حلقات للتواصل مع ابناء الشعب، من خلال تحفيز المجتمع على القيام بواجبه الوطني في تطوير ثقافة المشاركة الفعّالة في البناء وقيادة المؤسسات والدوائر الخدمية التي ترتبط مباشرة بالمواطن، ويمكن من خلال هذه العلاقات التأسيس لرقابة شعبية، على الخدمات بما في ذلك حركة البيع والشراء في الأسواق، وكانت مجالس الشعب خير تطبيق لهذا المبدأ.
والمهمة الثالثة في فقه الثورة، هو الاهتمام بمجال التعليم والصحة بالدرجة الأولى ثم يتبعها، الاسكان، والخدمات بكل أنواعها، والزراعة، من خلال تطوير قدرات المزارعين والفلاحين، وتزويدهم بكل المتطلبات التي تلبي حاجة الزراعة. فكان أن دفعت الثورة، وتبنت سياسة تطوير النشاط الاقتصادي، والاجتماعي، ومسايرة عصر التكنولوجيا، وهي تُعَد حقاً من حقوق الموطنة، التي أولتها الثورة رعايتها الكاملة.
انَّ المواطنة استحقاق يسبق كل اكتساب، وما أن يتحقق شرط المواطنة تتهاوى الانتماءات الأخرى، فالوطن يشكل لمواطنيه القيمة التي لا تعادلها قيمة أخرى، وبالتالي فالمواطن يستشعر بالمسؤولية تجاه الوطن وحتمية الولاء له، انطلاقاً من اعتبار المواطنة ارتباط بوحدة الأرض، بوصفهما يمثلان المولد والنشأة، اجتماعياً وثقافياً. انَّ علاقة جيل الثائرين بتراب العراق، ليست علاقة عابرة، فالعراق بالنسبة له أغلى من الحياة، هو زاده وعرضه وشرفه، هو تاج رأسه، ودرة جبينه، وهو أغلى ما يملك. فالوطنية العراقية الخالصة، تغمر مشاعر هذا الجيل المتقدم، هي كالشلال الجارف، ووطنيته هذه هي مصدر الشجاعة التي يتصف بها هؤلاء الرجال الأفذاذ. ولم تأتِ هذه الوطنية صدفة أو في بغتة من الزمن بل هي نضال ومراس طويل ممتد لسنوات من المعاناة والقهر والألم، فالهوية الوطنية انما تُبنى وتتشكل، في عمليات تاريخية معقدة، وأنَّ من الصعوبة بمكان، اتخاذ فاعل واحد كصانع لهوية جماعة ما أو مجتمع، بما فيها الديانة أو المذهب، فهما قاصرتان على تشكيل هوية الوطن، لأنَّ الجماعات تبني هويتها وتشكل وعيها بهذه الهوية، عبر حالات وتشكلات مختلفة، يتداخل فيها الدين باللغة، والعرق، والتاريخ والمصير، وهي ترتبط في الأساس بالتشكل التاريخي للشعب والأمة، هكذا تشكلت الهوية الوطنية لجيل البعث الذي قاد شعب العراق لأكثر من خمس وثلاثين عاماً، ونؤكد هنا أنَّ الهوية الوطنية العراقية، لا تعني نفي التعددية في المكونات الجماعية المكونة للمجتمع العراقي، انما هي هوية الواحد المتعدد المكونات.
وبعد ذلك كان من الطبيعي، أن يقوم جيل الثورة المتفاني، بوقفة مع النفس، وبشكل منتظم ليتأكد فيها من أنَّه يسير على الطريق الصحيح، لتحقيق الأهداف الكبرى التي يناضل لتحقيقها، وهو ما يستلزم منه ترتيب الأولويات، واعادة النظر في كل فترة على ضوء الظروف والمتغيرات التي تحدث. ومن بديهيات الثورة، أنَّ في أهدافها مَن هو مرحلي، وآخر استراتيجي، وبناءاً على الظروف الداخلية والعربية والدولية، يتم ترتيب هذه الأهداف حسب الأولويات، ويتم التأكد من أنَّها تسير بالتجاه الصحيح، انَّها تحديات كثيرة، لكن ارادة الثوار، التي تتجلى دائماً في الشدائد، كفيلة بمواجهتها، فتجعل الشعب يقطف ثمار العمل الشاق والمضني الذي شهده العراق خلال عمر الثورة الزاخر بالانجازات التاريخية العملاقة.
وكان من المهام الأخرى لجيل الثورة، ارساء للقيم الأخلاقية العروبية، والسلوك الاجتماعي والوطني المطلوب. وفي ذات الاتجاه، ورد في فقه الثورة، حق المعاملة المتساوية لكل ابناء الوطن، دون تمييز على أساس الدين أو المذهب، أو العرق، وفي احترام جوهر رسالة الانسان في الحياة، التي تقوم على أساس التوازن بين الحقوق والواجبات، وفي التعادل بين الأخذ والعطاء. لقد استطاعت القيادة، أن تتحرر من القيود المفروضة، والمتشابكة، ولأنَّها قيادة تاريخية من نوع خاص، ولأنَّه العراق العظيم، وشعبه الحيّ، فأنَّ قيادة الثورة سرعان ما تخلصت من المؤامرات بكل قوة، ونفضت غبارها الخانق، فانطلقت تسابق الريح، نحو البناء والرقي، بما يليق بالعراق وشعبه، رفضت الاستسلام، والتبعية، ولم تنحنِ للضغوط، من الحكام العرب والدول الأجنبية الطامعة، وهذا لم يكن ميسراً بالتأكيد، لكنه لم يكن مستحيلاً، وكان العراق قد أوشك أن يغادر ما يسمى بدول العالم الثالث، ليقفز الى مصافِ الدول المتقدمة في العالم، ولأنَّ المؤامرات سمة كل العصور، فهي تستمر، ولا تنقطع، طالما هناك ثائرين يصبون لتحقيق أهداف انسانية مشروعة في الاستقلال والتحرر، والتقدم.
نقول، ما أصعب الحقيقة في زمن الكذب والنفاق، والخداع، والتشويه، فما قدمناه من موجز سريع وفي عجالة، عن فقه الثورة والثوار منذ الأيام الأولى لثورة البعث المباركة في 17-30 تموز 1968م، وحتى الغزو الأمريكي –الفارسي الصفوي لبلاد الرافدين في 2003م، واحتلال عاصمة الرشيد، بغداد العروبة والمجد، هذا لن يُرضي الخونة، ولن يعترفوا بالحقائق التي ذكرناها، ذلك لأنَّهم يعملون بالضِّد من القاعدة التي تقول :أنَّ عدم معرفتك بالشئ، أو عدم محبتك له لا تعني عدم وجوده، لأنَّ كراهية الشئ وعدم وجود شعور ايجابي اتجاهه، لا يعني بأي حال من الأحوال أنَّه غير موجود، فقد يكون موجوداً أمام العينين، لكن مشاعرك لن تنال من وجوده شيئاً، لأنك لا تُريد أن ترى، لكن هذا لا يُلغي وجود الشئ.
وبالتأكيد فهذه القاعدة تفترض وجود مجتمع عقلاني سويّ، يفكر بصورة رشيدة، أو على الأقل بصورة واقعية، أو في الحد الأدنى أن يكون أفراد المجتمع أسوياء، عقلياً ونفسياً، وليس من المتأزمين نفسياً، أو المُغَيّبين عقلياً، كما هم أحزاب الرذيلة والاجرام، من حكومة الاحتلال الخونة، والسبب يعود الى الأُمية الثقافية، والتخلف الفكري والأخلاقي، وتأثير الخطاب المذهبي، الطائفي المنحرف والمشوّه، الذي يسهم في تغييب العقول، والتعلق بالماضي والأوهام والخرافات، ورفض الواقع الذي كنا نتحدث عنه، وقيامهم بصنع واقع آخر على مقاسهم. وحسب أفكارهم المنحرفة، المشوّهة، وهذا الواقع الذي يتخيلونه ويحلمون به، لا علاقة له بالواقع الحقيقي!!
وبالتأكيد ففي مجتمع الخونة والحثالات، إن صحَّ أن نسميه مجتمعاً، يسود فيه عكس القاعدة التي أشرنا اليها آنفاً، فالشئ الذي لا يحبونه، فهو غير موجود، وإن وجِد فهو سئ وفاشل!
ولا يأتي منه خير، ثقافة متخلفة في تاريخ طويل، تنفي وجود كل ما لا يحبون وتنفي قيمته!
يقول الامام الشافعي رضي الله عنه:
وعَينُ الرِّضا عن كلِّ عَيبٍ كَليلةٌ *** ولكنَّ عَينَ السُّخطِ تُبديَ المَساوِيا

هؤلاء الحثالات، ينفون نجاح أي انسان أو جماعة، طالما ليس له مكان في قلوبهم المريضة، وقد جاء النص القرآني الذي يضع حداً لهذه العقلية المتخلفة الساذجة، من خلال الاعتراف بوجود الشئ الذي لا نحبه، بل وأمرَ بتقديره حقَّ قدره، والاعتراف بمميزاته ومزاياه، وليس التركيز فقط على العيوب، إن وجدت فيه عيوب، قال تعالى :(يا أيُّها الذين آمنوا، كونوا قَوَّامين لله شُهداء بالقِسط) المائدة آية 8، هو أمر إلهي أن لا يستسلم الانسان لمشاعر الكراهية، لمن لايحبه، ويمنع هذه المشاعر من العدل معه، واعطائه حقه.
هذه الحالة السيئة، من انكار ما يكرهون، تجلت في السنوات الأخيرة بعد الاحتلال الغاشم، عند الذين يرفعون شعار التشيع لآل بيت النبوة رضي الله عنهم، زوراً وبهتاناً، فقدموا النموذج الأسوأ انسانياً، ويصرون على مخالفة الآية القرآنية بصورة مطلقة، الكراهية عندهم مبرر لنفي كل مزايا مَن يُخالفهم، وانكار حسناته، والانزلاق نحو تكفيره، ومحاربته بالكذب والتلفيق، والتزييف، وتوظيف كل الوسائل غير الأخلاقية، وللأسف يحمل وزرها عدد غفير من مشايخ الشيعة، الذين يضعون عمامة شعار المذهب على رؤوسهم!
يحملون كل مشاعر الكراهية والحقد الأسود، أو تحملهم الكراهية والحقد، هي اذن نفوسهم الوضيعة، المريضة، وعقولهم المغيبة، وعيونهم لا ترى الاّ ما تحب، وكأنّها لا ترى خارج رؤوسهم، بل هي عيون مقلوبة، ترى ما في الرأس وليس ما هو خارجها!، هذا الحال، يؤدي يوماً بعد يوم الى تدمير العراق، وتشتيت المجتمع، وتفكيكه، وغرس حالة اليأس في النفوس، ويدفع الشباب اليائس، الى الادمان وتغييب العقل، أو الهجرة خارج العراق، بسبب الصورة السوداء التي يرسمها هؤلاء المجرمون، من الأحزاب المتأسلمة الحاكمة، بحيث لا يكون بجوارها بارقة أمل، والانسان لا يحيى الاّ بالأمل. وفي قول آخر للامام الشافعي، يتمثل فيهم :
أعرِض عن الجاهِل السَّفيه *** فكُل ما قالَ فهوَ فيه
ما ضَرَّ بحر الفراتِ يوماً *** إن خاضَ بعضُ الكِلابِ فيه

لو عدنا الى سبعينات القرن الماضي، والعقدين اللذين تلاها، فقد كانت هذه السنوات، في عهد البعث، تراثاً خالداً ليس على مستوى القطر العراقي فحسب بل على مستوى الأمة والعالم، حيث شمل التغيير كل نواحي الحياة، بما يضاهي في قيمته ونتائجه ما حققته دول كبرى في العالم، ورغم كل هذا التغيير، ظل الشئ الكثير من تراثنا يحفظ للعراق هويته وتميزه عن حضارات وثقافات الغير، خصوصاً الثقافتين، الفارسية والتركية، وهذا لم يكن ليحصل بشكل عفوي، غير محسوب، انما جاء بفعل ارادي وبتضحيات وجهود مضنية. من المعلوم أنَّ الذي يتصدى للتحديات التاريخية، المهمة والخطيرة، هم المفكرون في البلدان والأمم، لأنَّهم مَن يرسم الطريق لحالة النهوض المقصودة، من خلال أفكارهم، وما يمتلكون من رؤيا في هذا المجال، من هنا تصدى مفكر العرب، وملهم العراقيين وعنوان فخرهم، الرئيس القائد صَدَّام حُسَين رحمه الله، لعملية البناء والتنمية الكبرى، وكانت الخطوة الأولى والمهمة الأمثل، هي تأمين الجانب الاقتصادي، فكان قرار التأميم الناجز، ثم تلتها الخطوة الثانية بالتزامن، من خلال ايجاد حلول دائمية للمشكلات الوطنية وفي مقدمتها، التمرد الكردي في شمال العراق العزيز، فكان بيان الحادي عشر من آذار، ثم تبعه أعلان الحكم الذاتي لمنطقة كردستان العراق، وهي بحق سابقة لم تحصل لا في الدول المجاورة ولا في غيرها رغم أنَّ الأخوة الأكراد يشكلون في هذه الدول كأيران وتركيا، نسبة أعلى بكثير من نسبتهم في العراق. وبهذا تمكنت القيادة الحكيمة من وقف الاستنزاف البشري والمادي للعراقيين، وكيما تتفرغ القيادة والشعب لعملية بناء العراق وتنميته، اقتصادياً وعلمياً وصناعياً وزراعياً.
لقد كانت أفكار القائد الخالد صَدَّام حُسَين، قد غيرت اسلوب رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين، بل أحدثت ثورة في نفوسنا ومجتمعنا، وفي كل الأحوال فأنت حرّ في تكوين رؤيتك لحياتك، أو اعادة وتغيير أسلوبك في الحياة، وأن تتشبث بما أنت عليه من قيم وأفكار، تعتقد أنها تناسبك، فهذا من حقك، إن كنت من عوام الناس، ولكن هذا لا يصح، إن كنت ثائراً ومن جيل الثوار، فهذا يستلزم منك أن تكون مؤثراً ومتأثراً، مبادراً وفعَّالاً، وليس كل ما تسترح له وتؤثره، يناسب الآخرين، اذن فالمطلوب ايجاد صيغ للتوافق والمواءمة بين ما نريد وبين المصلحة العامة للمجتمع، وهنا تبرز التضحية العالية، والإثرة، مقابل النفس والذات.
كان الفكر الحضاري الراقي للثورة، يهدف الى تحرير الطاقة الإبداعية المكبوتة في الفرد العراقي، منذ مئات السنين، منذ أن أنطفأ وهج الحضارة العربية، على أرض بغداد قبيل الغزو المغولي للعراق، واجتياح بغداد الرشيد عام 1258م، وبالتالي خلق مجتمع مبدع، مجتمع خالي من الكسالى والمتقاعسين والمتكلين. ومن هنا نجد الفرق بين الجيل الثائر، وبين حثالات القتلة من أحزاب العمالة والخيانة، جيل مؤمن بالله وبقيم ومبادئ العروبة يريد الحياة للعراقيين، وهؤلاء الحاقدون يريدون الأذى والموت للعراقيين، ولا يهمهم بقاء العراق كدولة أو سحقه، الفرق بين الثوار وبينهم، ان الثوار كانوا في اطار نظام وطني قومي، يكرس كل جهده لبناء العراق، وتطويره، وتحسين معيشة المواطنين، وتقديم أفضل الخدمات لهم، بينما هم عصابة، تريد حرق الوطن، وتدمير البنيان، والنهب والسلب، الفرق بين ليوث البعث وبينهم، أنَّ رجال البعث يمتلكون من اسباب العقل، والمنطق والحكمة في قيادة الجماهير، وهم لا يمتلكون سوى الدجل والخرافة والأكاذيب، الفرق بين جيل الثورة وبينهم، أنَّه كان يحمل السلاح دفاعاً عن تراب العراق وكرامة شعبنا، بينما هم حملوا السلاح، للغدر بالعراقيين وقتلهم، وتحالفوا مع الصهاينة والفرس لغزو العراق وتدميره، رجال العراق يتسلحون بالمبادئ العربية القومية الأصيلة، سلاحهم حب العراق والأمة، وهؤلاء الحثالات يتسلحون بالغدر والخداع والخيانة لإشباع غرائزهم ومطامعهم الدنيئة، على حساب دم العراقيين، الفرق بين جيل الثائرين وبين المنحرفين، أنَّهم يرفعون رايات البناء والتنمية، بما يضمن حياة زاهرة، كريمة، آمنة لشعبنا العراقي، بينما الأوغاد يرفعون رايات الخزي والعار، رايات الطائفية المتخلفة الغبراء. الفرق بين الأبطال وبين هؤلاء الجبناء، أنَّهم كانوا يصنعون الكثير من القليل، والخونة يصنعون القليل من الكثير، وشتان، رجال الحق يبدعون اشياءاً من لاشئ، وهم لا يبدعون شيئاً واحداً، الفرق بين الجيل الثائر وبينهم، أنَّ الثائرين كانوا دُعاة علم ومعرفة وزاد ثقافي متحضر، وهم دعاة تخلف، وجهالة، وخرافات، ومن هذه الخرافات والافكار والممارسات المنحرفة والمتخلفة، التي يدعون الناس اليها، ما جاء في واحدة من رسائل الماجستير في احدى جامعات بغداد والموسومة: "المشي في زيارة الأربعين وأثره على بعض متغيرات الجهاز الدوري التنفسي لمختلف الأعمار من الذكور والاناث"!!!، فهل هناك ثقافة تخلف أكثر من هذا؟، ونقول لهذا الباحث المتهافت، إمشي كما تشاء، وسِر كما تريد وأين تريد، وقم بجولة حول الأرض كما ترغب، لكنك لن تضع لبَنة واحدة، تؤسس فيها للبناء والعمران، وأنَّك حين تمشي، فلن تغرس نخلة يتساقط منها الرطب جنيَّا!، وفي مقابل هذه الرسالة تحضر في ذهني رسالة ماجستير في نفس الاختصاص، أُعِدَّت في سبعينات القرن الماضي، عندما كان الطلبة من الثانويات والمعاهد والجامعات ينخرطون في العمل الشعبي، لبناء قرى للفلاحين، أو تهيئة الأرض للزراعة والحصاد، أو بناء أحياء ومدن صغيرة لذوي الدخل المحدود، وكان عنوان الرسالة: "انخراط الطلبة في مشاريع العمل الشعبي ودوره في التأهيل واللياقة البدنية لمختلف المراحل الدراسية"، شتَّان بين العلم وثقافة المعرفة والتحضر، وبين الجهل وثقافة التخلف، شتَّان بين الانتاج والعجز، بين العطاء والخمول والكسل. هؤلاء الحثالات في وضعية فقر فكري ومنهجي وسلوكي. ويمكن تأشير بعض الملاحظات عن هذه الاحزاب المتأسلمة:
أولاً:
ليس لديها برامج عمل واضحة المعالم، ولا تقدم خطاباً جديداً واضحاً ومختلفاً عما سبقه من خطابات على مر أكثر من أربعة عشر عاماً منذ الأحتلال الامريكي الصفوي للعراق، وكل ما لديها أحاديث فضفاضة عن قضايا لا تمت للوطن بصلة، ولا حتى للفضيلة والقيم التي يدعونها كذباً، وهي تعبير عن العجز في مواجهة الواقع، يعملون على احباط الناس من أي محاولة للتغيير، أو البديل وتغذية المشاعر السلبية لديهم.
ثانياً: تفتقر هذه الجماعات المجرمة وأحزابها، الى المعرفة والثقافة، وليس لديها الوعي الكافي، ولا تمتلك رؤيا لأي مشروعات سياسية محددة، كما أنها تفتقر الى الكوادر الادارية والفنية، والعلمية، لإدارة الدولة وهيكلتها.
ثالثاً: أنَّها لا تقرأ الواقع الشعبي والمتغيرات التي تحدث فيه، وهي إن قامت بقراءته فستكون هذه القراءة وفق شروطها ومزاجها، أو الإحالة الى نماذج في الحكم حدثت قبل مئات السنين، وهي تجد فيها الحل!
رابعاً: لم تقدم جديداً للمجتمع العراقي، منذ أن تحكمت بالبلاد والعباد، ولم تطور نفسها، الى يومنا هذا، ونحن اذْ نصفها بصبغة جمعية، فهذا لا يعني أنَّها متوحدة، رصينة، بل إنَّ الخلافات بينها، عميقة ومتشعبة، وأساسها الاختلاف في توزيع سرقات المال العام ونهب أموال الشعب، وتوزيع الثروات بين هذه الأحزاب خصوصاً النفط.
خامساً: لم تترك هذه الأحزاب ومرجعياتها المذهبية الطائفية، حرية الاختيار لأتباع المذهب الشيعي في توجهاتهم، وأساليب حياتهم، واهتماماتهم الأخرى، بل هي تفرض عليهم نوعاً معيناً من الحياة، الاجتماعية، والأخلاقية، والسلوكية، على اعتبار أنَّ أوامر المرجعية لا رأي فيها أو نقاش، وانما يتوجب على الأتباع الأمر والطاعة، وهذا لا ينسجم مع التبليغ الإلهي، بأنَّ الانسان مخير حتى في موضوع الايمان برب العزة والقدرة، بل أنَّ الخالق سبحانه كان يعاتب رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، بعدم اجبار الناس للدخول في الاسلام، بقوله :(أفَأنتَ تُكرِه الناسَ حتى يكونوا مؤمنينَ؟) يونس آية 99، بل حتى في موضوع الربوبية، فالله تعالى ترك للناس، حرية الاختيار بين الكفر والايمان، فقال عزَّ من قائل: (فمَن شاءَ فليؤمن ومَن شاءَ فليَكفُر) الكهف آية 29. هذا غيض من فيض في الفرق بين حثالات الغدر والجريمة، من الخونة المنحطين، ورجال البعث الصيد، رجال العراق الغرّ الميامين، الذين نقول فيهم:
لَهُمُ عَزمٌ يَهِدُّ الصَــــــخرَ هَدَّا *** ويَلقَونَ الشَدائِدَ ساخِريــــــــــنا
تَراهُمُ في الخُطوبِ أعَزُّ جُندا *** وجُند البَعثِ فَهُم مُؤَيَدونـــــــــا
لَهُمُ شَرَف اليقينِ قَد ابتَنوهـــا *** على صُدقِ العقيدةِ مُخلِصينــــا

ونحن اذْ نعرض هذه القراءة السريعة لماهية الأحزاب المتأسلمة التي تحكم العراق اليوم، فإننا لا نقدم جديداً فيما نقول، لأنَّ كل العراقيين الواعين، يعرفون جيداً ما آلت اليه هذه الأحزاب العميلة، وليس غرضنا أن نحث الوطنيين الشرفاء، على الابتعاد عن هذه الأحزاب، والانصراف عنها، لأنّها بالفعل منصرفة، ولا يوجد لهذه الأحزاب الساقطة والمنحرفة، أي قاعدة جماهيرية، سوى مجاميع المتصيدين والسراق، والمنبوذين، والمرضى، من حثالات المجتمع، وانما، غرضنا أن نُذكِّر الناس بالحقائق لا غير. والمسألة واضحة، فالشعب بحاجة اليوم أكثر من السابق، الى حزب جماهيري، عروبي الأصل والمنشأ، قومي الأهداف، قوي بقيمه ومبادئه، رصين بفكره وعقيدته، قادر على قيادة الجماهير، سياسياً، واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، وهذا لن يكون الاَّ بالبعث، الذي يعتبر ـ ولا أُزَّكي على الله أحداً ـ هو الحزب المُخَلِّص، وهو العلاج الشافي، فكراً ومنهجاً وتطبيقاً.
لقد كان تفسير الثورة لمشكلة الطائفية، وإن كانت استثناءاً وليس ظاهرة وواقعاً، بأنَّ الطائفية، لا تكمن في الدين والمذهب بحد ذاته، ولا في طقوس العبادات، وأنما تكمن في توظيف بعض البشر لهذا المذهب ولهذه الطائفة أو تلك، في مصالحهم الخاصة، وفي صراعهم على السلطة، وتسابقهم في الخيانة والولاء للأجنبي.فالطائفة كما تراها الثورة، هي تتابع تطور تاريخي، طبيعي، ديني واجتماعي وثقافي، بينما الطائفية، هي أفكار مشوّهة، منحرفة، ينتجها بعض البشر، لخدمة مصالحهم الشخصية وطموحاتهم المريضة، دونما صلة بالتدين، بل قد تكون نقيض ذلك، من جهة استغلال الدين والمذهب في لعبة السياسة والمصلحة، كما هو حال الأحزاب الشيعية المتأسلمة. وينبغي الاشارة الى أنَّ نزعات التطرف والعنف الطائفي ليست حكراً على مجتمعات محددة، ولا هي نتاج ثقافات أو أديان بعينها، من دون غيرها، فهذه النزعات عرفتها معظم المجتمعات والبلدان والثقافات والأديان، وما زال بينها حتى الآن مَن يعاني منها، شهدت معظم المجتمعات عبر التاريخ، موجات من التطرف والتعصب الطانفي. ونقصد بذلك التأكيد بأنَّ نزعات العنف الطائفي المقيت التي تشهدها بعض الاقطار العربية خصوصاً العراق وسورية واليمن، فإنَّ هذه المجتماعات لا تتسم بحال التطرف والعنف، فليس هناك ما يجعلها حاملة لتلك النزعات، أو أنّها تمتلك قابلية لها أكثر من غيرها، فالعراق، ومنذ تأسيس دولته الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، وحتى الاحتلال الغاشم، قد تعززت الوحدة الوطنية، والألفة المجتمعية بين أفراد المجتمع العراقي خصوصاً بعد قيام ثورة 17-30 تموز المباركة، وبالتالي فالمسألة الطائفية تفجرت في العراق نتيجة للغزو الأمريكي الغاشم لأرض الرافدين، الذي سهّل قيام نظام سياسي طائفي إجرامي في البلاد.
نقول، أنَّ هناك شروطاً سياسية واجتماعية، هي التي تُشعِل هذه النزعات الطائفية الاجرامية وتغذيها، وأنَّ تغير هذه الشروط أو انحسارها، كفيل بالحد من هذه النزعات وعزلها.
كما ينبغي التمييز كما أسلفنا، بين الطوائف والطائفية، فالطوائف هي ظاهرة تاريخية، اجتماعية ودينية، وهي ليست الفكر السياسي الطائفي، الذي يتضمن مصادرة حرية الأفراد، وخياراتهم الشخصية، ويفرض عليهم الخضوع لنمط مذهبي معين، بدعوى هذا المشترك المذهبي الطائفي المقصود. من هذا التوضيح البسيط، السريع، يتبين لنا أنَّ المشكلة لا تكمن في وجود الطوائف في المجتمعات أو المجتمع الواحد، بوصفها جماعات بشرية تشكلت عبر التاريخ، فهذا أمر طبيعي وأمكن التعايش معه، كما هو الحال في بلاد الرافدين، حتى الاحتلال الهمجي الغاشم، وقد يشكل التمايز والتعدد في الطوائف، عامل تنوع، واثراء حضاري وثقافي، لأي بلد، والمشكلة الحقيقية تكمن في الفكر الطائفي المتخلف، الذي يحول هذه الطوائف الى وحدات اجتماعية، منقسمة ومختلفة، في الولاءات والأهداف، وتوظيف الطائفية لأغراض سياسية دنيئة، غايتها الهيمنة والتسلط، وسرقة المال العام، كما يحصل اليوم في العراق المحتل. والحقيقة الثابتة، أنَّ هناك عدة عوامل ساهمت ودفعت، بل وشجعت على بروز كل هذه النزعات الطائفية، في العراق اليوم، أولها السياسة الايرانية الصفوية، وتأسيسها لأذرع تتبعها، وثانيها أعمال القتل الأعمى والتدمير الممنهج الذي تمارسه الأحزاب الشيعية المجرمة، وما يسمى بالحشد الشيعي المجرم، وثالثها الرغبة الأمريكية الصهيونية، في تشتيت الشعب العراقي ومحاولة محو هويته الوطنية والقومية، بوصفه مجتمعاً متجانساً، يضاف الى ذلك ممارسات حكومة الاحتلال الصفوية، التي تكرس النهج الطائفي المقيت. ومن هنا فالطائفية، تستلب الانسان، حريته وحقه في المساوات مع الآخرين، من خلال اخضاعه للسلطة الطائفية المتعينة مذهبياً، كما هو الحال بمى يسمى "المرجعية". انَّ الخطورة الكبرى في الفكر الطائفي، تكمن في سعي هذا الفكر المنحرف لتفتيت اندماج المجتمع وفق مفهوم الوطنية، الذي يتأسس على الفرد في المجتمع، دون أي تمايزات بينه وبين غيره، والخطورة الثانية هي، الامتدادات الاقليمية لهذه الطائفة ونقصد بها هنا (الطائفية الشيعية)، خارج حدود العراق، ومنها سوريا ولبنان وايران بالدرجة الأولى. ومن هنا نلاحظ أنَّ الأولوية في ولاءاتها وانتمائها ليس الى بلدها، العراق، وانما الى امتدادها الطائفي اينما كان!، وهكذا نجد أنَّ الأحزاب الشيعية المجرمة، مزيفة الوطنية، ضبابية الولاء، منحرفة التوجهات والأهداف، وتوظيفاتها لا تخدم سوى طائفة معينة بذاتها.
من هنا فقد كانت ثورة تموز المجيدة، على يقين بأنَّ حلّ المسألة الطائفية، لا تتمثل بإلغاء المذاهب والطوائف، ولا يمكن تجاهل وجودها، بل على العكس فقد كانت تعي حقيقة وجودها في المجتمع، والاعتراف بمعتقداتها، ولذلك فقد اعطتها الحرية الكاملة في ممارسة طقوسها، ومعتقداتها، رغم أنَّ الكثير من هذه الطقوس، منحرفة، ومتخلفة، وفيها الكثير من التشويه للدين والحقائق، لكنها كانت تمارس هذه الطقوس بكل حرية، بل وكانت القيادة الحكيمة وبتوجيه مباشر من الرئيس القائد صَدَّام حُسَين رحمه الله، تدفع بالكثير من العون والمساهمة في امداد حملات الزيارات النجفية والكربلائية بكل ما تحتاجه من مُؤَن ومعدات لتغذية الزائرين الوافدين من المحافظات وضيافتهم.
لقد عرف العراق على مر العصور، وخاصة بابل مركز حضارة الشرق، وبغداد الرشيد، حاضرة العرب والدنيا، بأنّه الساحة التي تحاورت فيه الألسن، وتعايشت فيه مختلف النحل والملل، خصوصاً في العصر العباسي المزدهر، وفي عصر العراق الحديث، عندما كانت بغداد، حاضرة العرب والشرق. وفي ظل القيادة الوطنية والقومية متمثلة بالقائد الخالد صَدَّام حُسَين رحمه الله ورفاقه الأوفياء، خلال عقود قيادة البعث العظيم للعراق، انزوت المسألة الطائفية بصورة ملموسة، وأوشكت أن تنتهي بلا رجعة، ذلك أنَّ حزب البعث العربي الاشتراكي، يضم كل الطوائف، والنحل دون تفرقة، اساسها الوطنية الخالصة والعروبة أو الانتساب للأمة عبر المواطنة والتاريخ المشترك والمصير الواحد والمصلحة الواحدة، لو لا المؤامرات الفارسية الصفوية، التي أوكلت الى أذرعها الخيانية المجرمة، لإثارة الفتن في أرض الرافدين. لقد تم ايقاظ وتنشيط الطائفية، بعد الاحتلال الامريكي للعراق، تطبيقاً للقاعدة القديمة الحديثة "فرّق تَسد"، وكان قرار المجرم برايمر سئ الصيت، بحل الجيش العراقي الباسل في العام 2003م، يستهدف في الاساس، حرمان العراق من الدعامة الاساسية، والعمود الفقري للدولة العراقية، تسهيلاً لتفكيك العراق، واعادة جمعه من جديد، طبقاً للرؤيا الأمريكية الصهيونية الفارسية، وتأسيس جيش يتكون في تركيبته من مكون مذهبي واحد، ويصب في خدمة اتجاه مذهبي شيعي طائفي. لقد حوَّلوا أيام العراقيين الى سراب، واعمارهم الى أوهام، كل يوم يمر هو الأنكى، والأفدح في أفعالهم المشينة، يبيعون الأوهام للناس، يخدعونهم بخطاب طائفي مشحون بالفتنة والبغض والكذب، خطابات جوفاء، لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى تفشّى الجهل بين الناس، وكأني بالمتنبي يخاطب هؤلاء الناس اللاهثين، اتباع أحزاب الرذيلة والجريمة، بقوله: (يا أُمَّة ضَحكَت مِن جَهلِها الأُمَمُ).
ومن عجائب العراقيين اليوم، ميلهم للحلول الجاهزة، السهلة، والتراخي، ومن ثم التخلي عن بذل الجهد، يمنون انفسهم انَّ المهام المطلوبة للتغيير، سوف يقوم بها من أجلهم فاعلٌ خفيٌّ مُنتَظَر! وأصبح هناك انطباع عام لدى الكثير من شعبنا، بأنَّ الأزمات مهما اشتدت، فسوف تنفرج لا محالة! دونما أن يلتمس بنفسه طريق الحلّ، للخروج من هذه الأزمات، وهي تعكس حالة التخلي عن العمل أو الفعل المطلوب القيام به، وانتظار حلول غير منظورة!
ومن ذلك ما كان عليه حال الفلاح العراقي في بعض المدن والحقول، قبل ثورة تموز يرى أنَّ الخير يأتيه في كل شتاء، فينتظر موسم هطول المطر، عندها يبذرالأرض، ويمَّني نفسه بربيع قادم، حتى ينبت الزرع، وينمو وينضج بأقل مجهود، وظلَّ في أوقات فراغه، الطويلة، يعبد الله ويصلي له شاكراً نعمه عليه، وهذا كان الحال المعهود خلال مئات السنين، منذ أن انطفأ وهج الحضارة العربية في بغداد الرشيد، نعم كان هذا هو الحال قبل ثورة 17-30 تموز المجيدة، حيث يشعر الفلاح بالطبيعة المريحة، والمعبود الأعلى الواهب، وموروث الكسل، هي رؤية عامة كانت تعيش في عقول العراقيين، وتعتمل في صدورهم. لقد بذلت الثورة جهوداً جبارة، لتجفيف هذا الاتجاه الإتكالي، والمتقاعس في تفكير الفرد العراقي، في أي مكان كان، وفي أي ظروف، وقد وصلت الى مراحل متقدمة في هذا المجال، واصبح المواطن العراقي، يعتمد على نفسه في حلّ ما يعترض حياته وأسرته. وغادر حالة التمني، والأفكار الوهمية الخيالية، وأصبح قريباً جداً من الواقع، بعد أن انطبعت في ذهنه وشخصه منذ الصغر، حتى اصبحت مع التكرار، اعتقادات راسخة تؤدي في النهاية الى الايمان بأنَّ هناك فاعل خفيّ سوف ينوب عنه في تدبير الأمور!كما هي حكايات الفانوس السحري والمارد الماكث فيه!. هذا الأمر الغريب، بالتأكيد له آثار سلبية ومدمرة، وهو من اسباب خروج العراق من الحضارة والرقي، لمئات السنين، انقطع فيها العراقيون عن العلوم والمعرفة، في الفترة التي أعقبت العصر العباسي الثالث والأخير. حيث أصاب العراق خمود وخمول حضاري حاد، وخلال هذه السنين كانت أحوال العراقيين متردية، خانقة، أُبتُلِيَ الناس بالفقر والعوز والمرض، ولا أمان يشعر به الناس اينما كانوا، فهناك السلب وقطع الطرقات على المسافرين. وتناقضت الأقوال مع الأفعال، ومن هنا بدأت الأزدواجية في شخصية الفرد العراقي، بين ما يقول وما يفعل، بين ما يؤمن به ويعتقده صحيحاً وبين ما يراه الناس، بين ما يُظهِر وما يُبطِن، وعمّقَت هذه الأزدواجية، ظاهرة التقيَّة، سيئة الصيت، والتي كانت ولا تزال عند أغلبية أتباع المذهب الشيعي، من اتكالية هذا الشعب اليوم، وفي محاولة للخلاص والتملص من مسؤوليته في التصدي لما يحدث في العراق، بتبرير صمته وهوانه في التغيير، بالقول أنَّ الحلّ بيد ولي الأمر من مشايخ المذهب ومراجعهم الدينية، تطبيقاً للمثل الشعبي العقيم: "خليها برقبة عالِم وإطلع منها سالم"! وهي تمثل قمة الضعف والاتكالية، والله سبحانه وتعالى يقول فيهم :(وقالوا ربّنا أطَعنا سادَتَنا وكُبَراءَنا، فأظلونا السَبيلا) الأحزاب آية 67.
لقد كان على جيل الثورة، أن يبذل كل جهده، لإصلاح منظومة القيم لدى العراقيين، التي أصابها الاهتراء والنكوص، منذ مئات السنين، كما هو الحال اليوم في عراق ما بعد الأحتلالين الأمريكي والفارسي الصفوي، ومنظومة القيم هذه، يفترض أن تُمثِّل ارتباطاً عضوياً بين القيم الكبرى، وهي قيم الدِّين القَيِّم، دين الله، وقيم الانسانية المُثلى، قيم الحق والعدل، لكن للأسف فقد اختلت هذه القيم، وبدأت تنحسر وتزول، لكنها لم تكن بهذه الدرجة من الانحطاط والتردي كما هو حالها اليوم، ففي عراق اليوم، لم تَعُد قيم الانتماء للوطن، والعروبة، ماثلة في المشهد اليومي للناس، بل أنَّ قيم الصدق والأمانة، أوشكت أن تغادر تعاملات المجتمع اليومية، فقد ملّت الناس من ادعاءات الصدق، لإبتذال معناها اليوم مع كثرة تداولها في الخطب والأقوال على كل المستويات، وتغيرت الكثير من طبائع الناس وأخلاقهم، بل وفي ممارسة اعمالهم، فما عادَ المعلمُ معلماً، ولا المُهندس مهندساً، ولا الطبيب طبيباً!
واليوم ابليس يتراقص فوق رؤوسهم، حتى انتشر الظلم والجور، ونهب أموال الدولة، فتفوقوا على ابليس نفسه، واصبحوا بيئة خصبة لكل ما يُغضِب الله، وأصبحت الرعونة والحمق من السمات المصاحبة لسلوك الناس اليومي، ورد في الأثر، أنَّه قِيلَ لعيسى عليه السلام: أإنَّكَ تُحيي الموتى؟، قال: نعم بإذن الله، وقيل له: أإنَّكَ تُبرئ الأكمَه؟، قال: نعم بإذن الله، فقيلَ له: وما دواء الأحمق؟، قال: هذا الذي أعياني!!
ما لهذا الشعب اليوم، يأتمر بأوامر الغريب، من خارج الحدود، من فرس وصهاينة، ويقابلون ابناء جلدتهم من العراقيين الشرفاء، من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، بالجفاء والنكران، قال ابن الجوزي:
عَذيري مِن فِتيَةٍ بالعـِــراقِ *** قُلوبُهم بالجَــــــــفا قُلَّبُ
يَرَونَ العَجيبَ كلام الغريبِ *** وقَولُ القَريبِ فلا يُعجِبُ
مَيازيبُهُم ان تَنَدَّت بخيـــــــرٍ *** الى غيرِ جِيرانِهم تُقَلَّبُ

أليس من حق الجيل المتقدم، جيل الانجازات، والملاحم البطولية، أن يعرف له الذين جاؤوا من بعده، جهاده، وتضحياته الجِسام من أجلهم؟ وأن يعترفوا بفضله، وينزلونه المنزلة اللائقة به؟ انَّ معرفة الفضل لأهله، والاعتراف بجميلهم، وشكرهم لما أسدوه من احسان للعراقيين، ودفاعهم البطولي عن العراق العظيم وشعبه الأبي؟ فأُستُشهِدَ مَن أُستُشهِد، دون أرضه وكرامته، وعقيدته؟. لقد أطبقت الأُمم التي اعتدلت فطرتها، ولم تسَّممها وتشوبها الأفكار المنحرفة، وصَلُحَ مزاجها، اعتادت هذه الأُمم على تخليد ذكر مثل هؤلاء الرجال الذين تحدّثنا عنهم، اعترافاً بالجميل لهم، وتشجيعاً لأبناء الأمة على تقليدهم وحذو حذوهم، حتى كان الجندي المجهول موضع عناية الأُمم على وجه الأرض. قال تعالى: (والذينَ جاؤوا مِن بَعدِهم، يقولونَ رَبَّنا اغفِر لَنا ولإخوانِنا الذينَ سَبقونا بالإيمان) الحشر آية 10، أمّا اليوم فهؤلاء من الاحزاب المجرمة، ومن حثالات الناس الذين يقابلون عمل رجال البعث الميامين، رجال القائد الخالد صَدَّام حُسَين، بالنكران والجحود، فقد وصفهم الله تعالى بأنَّهم من أهل النار، والكنود والجحود، وقيامهم بلعن السابق، وكرههم له، والتبرئ منه بقوله جلَّ جلاله: (كُلَّما دَخَلَت أُمَّةٌ لعَنَت أُختَها) الأعراف آية 38.
اليوم، وفي هذه الظروف العصيبة التي يمر بها العراقيون، نجد أنفسنا بحاجة ملحة لإعادة قراءة التراث، ذلك الجانب المشرق من تاريخنا الزاخر بالعطاء والرقي، بما في ذلك التراث الحيّ، بشواهد على الأرض، لثورة 17-30 تموز المباركة، وأجيز لنفسي أن أُسمي، تلك الانجازات العظام، والملاحم البطولية، والشواهد المادية والمعنوية، لهذه الثورة العملاقة، أن أُسميها بتراث الثورة، ليس من باب أنَّها اصبحت جزءاً من الماضي، مسجلة في صفحات التاريخ، فقد اعتاد المؤرخون والباحثون في التاريخ، تسمية التاريخ الماضي العابر لمئات السنين بالتراث، ليس هذا هو التفسير الذي نراه مناسباً، انما نعتبره تراثاً غنياً زاخراً مشرقاً، استثناءاً من العمر الزمني، ذلك لأنَّ الانسان لا يبدأ من لا شئ، انما هو وليد أرض، وشعب، وتراث، وأكبر العوامل المؤثرة فيه، تاريخه، وماضيه، من هنا تكمن أهمية تاريخ الانسان، والتراث الزاهر فيه، ووجوب اعتباره أول مدرسة وأعظمها، وسواءاً شعر الناس بضرورة هذا التراث، وأهميته في حياتهم، أو لم يشعروا فإنَّهم بدونه لا يستطيعون، فهو يتغلغل في أعماق حياتهم، مع الهواء الذي يستنشقونه، والماء الذي يشربونه، والخبز الذي يتغذون عليه، والفكر الذي يتكون فيهم ـ والخلق الذي عليه يجب أن يسيروا.
تراث ثورة تموز المجيدة، مطلوب قراءته، لصياغة ذات الفرد العراقي، وطنياً، واجتماعياً، بشكل متكامل، يتطلب أن يتعرف على الشواهد التاريخية، والمعالم الحضارية لهذه الثورة، وقراءة التراث ترتقي بالمواطن الى الامام والرقي، ومن خلاله يتعرف على الاشراق الذي فيه، والأمل. انَّ ما يجري اليوم يقع في الضِّد من ذلك التاريخ المشهود الخالد، وأنَّ المتغيرات اليوم التي يحاول العملاء والخونة، احداثها في العراق تستهدف أول ما تستهدف ذلك التاريخ الثر، المفعم بالفخر والاعتزاز، طيلة خمس وثلاثون عاماً. وفي كل الأحوال، يظهر الاهتمام بالتراث في ثقافات الشعوب، عندما يشعر الناس، بأنَّهم على أعتاب عصر جديد، لم تَعُد طريقة العيش المعتادة ملائمة له، وبمعنى آخر عندما يُصاب الحال العام، بالإنحطاط التام، في السياسة والاقتصاد والثقافة العامة، والأخلاق والسلوكيات الاجتماعية، كما هو حال المجتمع العراقي اليوم.
نقول، أنَّ قراءة التراث والبحث فيه، ليس سهلاً، ذلك لأنَّ التراث ليس عباءة، أو حُلّة قشيبة تُلبَس، ومن ثم تُخلَع حسب ما يناسب، ثم تُترَك وتُغادَر، لأنَّ التمسك بالتراث، والمحافظة عليه، يتطلبان عملاً وجهداً كبيرين، فالتراث كما نرى، لا يمكن التمسك به بسهولة، ولايمكن التخلي عنه بسهولة أيضاً، وفي الحالتين لا بد من فعل جمعي على مستوى الشعب ككل.
من هنا نجد أنَّ العراقي الذي كان يعيش في العهد الملكي، وقبله في العهد العثماني، لا ينظر الى العهد السلجوقي مثلاً على أنّه تراث، وعليه دراسته أو الحفر فيه، لأنَّه لم يتغير شئ لا في نظم الحكم، ولا القوانين، ولا نمط الحياة. أمّا العراقي اليوم، فإنّه يتولد لديه شعور بأنَّ كل هذه الفترات والعصور قد أصبحت تاريخاً من الماضي، لا يَصلُح أن يكون تراثاً. وينبغي عليه تبني أُسلوب جديد للعيش، وبالتالي العودة الى التراث، ولكن أيّ تراث يقصده في البحث والدراسة؟ أهو ما يخص المغول، أم الفرس الصفويين، أم العثمانيين؟ بالطبع لا، لأنّ كل هذا هو تاريخ طويل، لكنه لا يشكل للعراقيين تراثاً، وليس فيه من التراث شئ.
ليس التراث الذي نبغيه، بمعنى رواسب الماضي، البعيد أو القريب، انما ما نكتسبه من عصارة فكر وزُبدة مُثُل وسموّ قِيَم، مستمدة من ينابيع متعددة، حديثة أو معاصرة، كالينابيع وروافدها المتدفقة من فقه وتراث ثورة البعث المباركة في 17-30 تموز، أو قديمة، تمثل خبرة العراقيين والعرب في الحضارة والرقي، وبقدر ما تكون الينابيع والروافد كثيرة، وفيرة، تكون الاستفادة كبيرة وعميقة. بقدر ذلك تكون الثقافة المرجوة من هذا التراث، عميقة وشاملة، ونقية، ويكون التراث عند ذاك، أثراً ثقيلاً وكنزاً نفيساً، شرط أن نعرف، تمييز الأمور بوضوح، والسير في الدرب الصحيح، بمنهجية، وموضوعية.
انَّ العراق، مهد لحضارات عريقة، متميزة، فيه أقام السومريون أول حضارة راقية، عرفها الناس، وفيه تعاقب الأكديون، والبابليون، والآشوريون، وغيرهم من أقوام، شيَّدوا صرح حضارات خالدة، واستخدموا لُغات أغنَت واغتَنَت، ونشأت ديانات حملت رسالات مجيدة، وأضفت على الفكر والثقافة، روحيّةً وأبعاداً ومذاقاً قَلَّ نظيرها، في بلاد العالم وشعوبها، ندعوها بحق، بلاد النور والعلم. وهي مسؤولية جسيمة، فإنَّ مَن أُعطيَ يُطالَب بالعَطاء، ومَن يملك الكثير يُطالَب بأكثر، والانسان الذي لديه الكثير، ولا يعرف قيمة ما يملك، ليس أهلاً له. ومَن لا يبذل بسخاء، أنانيٌّ وبخيل، هكذا كان العراق حتى الغزو الغاشم، كان يحضى بخصائص متميزة، لأنَّه قد طُعِّمَ بمصل تراثه الأصيل العظيم، فهو التراث الذي نهتدي به ومن خلاله نسير في النور، كان شعبه يهوى الشمس كنفسه، ومَن يسير مرفوع الرأس في الشمس، فهو المنتصر على الدوام.
انَّ حضارة بلاد الرافدين، انما صُنِعَت وبُنِيَت بجهد ونباهة وحكمة كثير من ملوك العراق الراشدين آنذاك، والأتباع المخلصين، والعلماء المرموقين، والصنَّاع المبدعين، في لحظات تاريخية خاصة، لم يشهد فيها العراق، حروباً طاحنة، أو غارات همجية، من جيرانه الفرس (الساسانيين)، أو غيرهم. في تلك الهدأة، أو الهدنة الهانئة، التي امتدت لمئات السنين، وحُكِمَت فيها البلاد من ملوك راشدين، حكماء، مخلصين، فأينعت في زمانهم بذور الحضارة المبكرة لبابل وسومر وأكد والحضر. وهو ما كان من ثورة تموز المجيدة عندما أرست الاستقرار في العراق في سبعينات القرن الماضي، وتفرَّغت لبناء العراق، في نهضة ملحمية شاملة، أتَت أُكُلَها، فنَعم الشعب في مرحلة تاريخية ذهبية بالأمن والأمان والرفاه والرقي. انَّ الناس يصنعون تاريخهم، بحسب اللحظة التاريخية، والجهد المبذول، والارادة الذاتية الوطنية القوية والثقة بالنفس، ولا يُصنَع التاريخ والتراث المشرق بالهِبات والأساطير والخرافات، ونسائل انفسنا الآن، هل العراقيون اليوم، هم شعب الأمس، شعب الذرى والمجد، شعب المنجزات الشواهق الشامخات؟، وهل العراق اليوم كما كان بالأمس عظيماً، عملاقاً؟، وللأسف فاننا سنجيب بالنفي، فنقول، نعم كان العراق عظيماً، عندما كان موحداً، أرضاً وشعباً، عندما كان شعبه يأكل مما يزرع وينتج، عندما كان العراقيون يحرسون بلدهم بأرواحهم وعيونهم، قبل سيوفهم، كان العراق عظيماً عندما كان في شغاف القلوب، ولم يُدَّنَس ترابه بأقدام الخونة والمجرمين من الصفويين والصهاينة، وكان العراقيون شعب الذرى، عندما كانت قلوبهم موحدة، متآلفة، وعقولهم متفتحة لكل خير ومحبة لهذا البلد، ابصارهم ترصد من بعيد كل مَن يحاول التسلل خلسة الى بلدهم، فيقبرونه في عقر داره، عيونهم تحرس أرض الرافدين وسماءه، ولم تكن تغشوها غشاوة تحجب البصر والأبصار، وهم أماجد، عندما كانوا أخوة، متحابين، متآلفين، لا أعداء، متفرقين، متشرذمين، كانوا، عندما لم ينمُ الشقاق والكره والبغض بينهم.
وبعد هذا الاستعراض لبعض المفاهيم، نقول، أنَّ قراءتنا لتراث ثورة تموز المباركة، بكل معانيه العلمية والحضارية، والثقافية، والأخلاقية يُعيدنا الى أيام بغداد الرشيد، الى مجالس العلماء والحكماء، والأدباء، والفلاسفة والشعراء، في صورة راقية من التآخي والألفة، والتعاون، رغم انتماءات الشعب الدينية، والاجتماعية واللغوية، يوحدها انتماء أساسي هو، الأرض، الوطن، العروبة، لا فرق بين مسلم ومسيحي، أو عربي وكردي، أو تركماني، ولا بين مَن وِلد في بغداد أو نينوى، أو البصرة، أو بين مَن يسكن الأرياف، والصحراء، والجبال، والأهوار، لم يتلون الشعب بألوان التفرقة التي تحصل اليوم. وما كان يُقال عن خلفاء الدولة العباسية الأوائل، من تشويه وتحريف للحقائق، تبناه الفرس، والحاقدون على العروبة، يُقال اليوم عن النظام الوطني والقومي، عن قيادة العراق العظيمة، وفي مقدمتها الشهيد الخالد صَدَّام حُسَين ورفاقه في القيادة، وجيل الثائرين والذي يليه ثم الذي يليه، في حين كانت أفعالهم أشبه بأخلاق، وأخلاقاً أشبه بأعراق، اجتمعت المؤهلات السياسية والثقافية والأخلاقية والأدبية، لجيل البعث حتى حازوا على جليل المناقب، وعظيم المآثر، وكان عملهم جدير بالثناء والرفعة والفضيلة، ولهم المناقب الحميدة والرتب الرفيعة، لذلك ينبغي اعادة قراءة تراث ثورة 17-30 تموز المجيدة، وتراث العراق الغائر في القدم، عندما علّمَ الدنيا الكتابة وسنَّ القوانين لأول مرة في التاريخ، ونرى ضرورته اليوم أكثر من أي وقت مضى.
وفي الختام نقول، هنيئاً لمن كان النضال من أجل العراق العظيم والأمة العربية المجيدة ديدنه، والنصر حليفه.
14/3/2018م
 
عودة
أعلى